جمال عبد الناصر في الحج

جمال عبد الناصر و الإسلام

هل كان جمال عبد الناصر متدينا أم علمانيا؟؟
و إذا كان متدينا فلماذا حارب الإخوان المسلمين و قتلهم و سجنهم عبر محاكم عسكرية قاسية و ضيق على العديد من الدعاة الإسلاميين و لماذا ألغى المحاكم الشرعية؟؟
و إذا كان علمانيا فلماذا سجن و عذب الشيوعيين و الليبراليين و لماذا قام بدعم أنشطة إسلامية من قبيل تأسيس إذاعة القرآن الكريم و إنشاء جامعة الأزهر و دعم دور الأزهر الخارجي بل و لماذا استخدم الإسلام كثيرا في خطابه السياسي؟؟
و إذا كان لنا أن نناقش موقف جمال عبدالناصر من الإسلام فلابد أن نتعرض لموقفه إزاء عدد من المؤسسات و القضايا.
و أول هذه المؤسسات هي جماعة الإخوان المسلمين الذين وثق جمال عبد الناصر علاقاته و تحالفاته معهم عشية الثورة ثم سرعان ما دخل معهم في صراع على الحكم و النفوذ, و بدأ هذا الصراع في الظهور عندما طلب الإخوان المسلمون من جمال عبدالناصر تطبيق استحقاقات هذا التحالف و المتمثلة في تطبيق الشريعة و إقامة الحكم الإسلامي, و رفض جمال عبدالناصر و تنكر لأي إتفاقات مع الإخوان تلزمه بذلك, و بدلا من ذلك طلب منهم أن يرشحوا له اثنين ليشاركو في الوزارة واحد للتعليم و آخر للأوقاف, لكن الإخوان قرروا عدم التعاون مطلقا مع عبدالناصر, كما قرروا مقاطعته من منطلق أنهم يرون أنه خانهم بإعتبار أنه تنكر لهم, و عندما خالف أحد قادة الجماعة قرار الجماعة في هذا المجال و هو الشيخ الباقوري ووافق على تولي وزارة الأوقاف قامت الجماعة بفصله من عضويتها.
و منذ ذلك الحين اشتعل الصراع بين الإخوان و عبدالناصر.
لكن على ماذا كان الصراع؟؟
من جانب عبدالناصر كان الصراع مع الإخوان المسلمين جزءا من صراع واسع على السلطة خاضه جمال عبدالناصر على عدة أصعدة مع حلفاء و زملاء الأمس مثل الشيوعيين و عدد من قادة تنظيم الضباط الأحرار مثل محمد نجيب و خالد محي الدين و يوسف صديق و عبدالمنعم عبدالرؤف و غيرهم من قادة الجيش وتنظيم الضباط الأحرار, و في هذا الإطار أحبط العديد من محاولات الإنقلاب التي قام بها ضباط في الجيش يميلون للإخوان أو الشيوعيين أو الليبرالية, و في هذا الإطار أيضا جاء صراع عبدالناصر مع الإخوان كي يستحوذ على السلطة وحده على النحو الذي آل إليه الأمر فيما بعد عندما أمكنه التخلص من أخر زملائه الأقوياء و هو عبدالحكيم عامر غداة هزيمة 1967م بعد أن كان قد تخلص من الإخوان و الشيوعيين و الليبرالين و سائر قادة الضباط الأحرار.
و هكذا كان عبدالناصر واضحا في أهدافه كما حدد وسائله بدقة و دون تردد.

الإخوان المسلمون و عبد الناصر

أما الإخوان المسلمون فقد ترددوا ما بين داعيين للرضى بما يعرضه عليهم عبدالناصر و الإستمرار في التحالف معه, و ما بين معارضين له داعيين لمقاطعته و ممارسة النضال ضده حتى إسقاطه.
و هؤلاء المعارضون لعبد الناصر من الإخوان المسلمين انقسموا أيضا إلى قسمين قسم رأى أنه يمكن معارضته و إسقاطه عبر العمل السياسي السلمي كالإضرابات و المظاهرات و نحو ذلك, بينما رأى القسم الثاني أن الأفضل هو عمل إنقلاب عسكري على عبدالناصر.
كما رأى فريق أخر من الإخوان المسلمين أن على الإخوان ترك العمل السياسي إلى حين بما في ذلك عدم اتخاذ أي مواقف مؤيدة أو معارضة تجاه جمال عبدالناصر, و ذلك بهدف التفرغ لإصلاح جماعة الإخوان المسلمين و ترتيب أوضاعها الداخلية التي كانت تعصف بها الخلافات و التناحرات لاسيما و أن عبدالناصر قد بدأ يؤجج هذه الصراعات الداخلية و يشجع فريق على حساب أخر.
و على كل حال فقد أدى تردد الإخوان و اختلافهم حول ماهية و طبيعة علاقتهم بكل من جمال عبدالناصر و الثورة, و حول الوسائل و الأساليب الواجب اتباعها في إدارة هذه العلاقة إلى ضعف و تفكك أصابا أجهزة جماعة الإخوان المسلمين مما مكن عبدالناصر من هزيمة تنظيم الإخوان المسلمين الضخم و تفكيكه ووضعه في السجن عام 1954م, و ذلك لأن جمال عبدالناصر حدد ما يريده بدقة و حزم, و نفذه عبر أجهزة الدولة السياسية و الإعلامية و الأمنية التي أجاد السيطرة عليها و تطويرها لا سيما و أنه حرص على أن يحتفظ لنفسه بمنصب وزير الداخلية بجانب منصبه الأساسي كرئيس وزراء في بداية سنوات حكم الثورة, بجانب سيطرته على الجيش و المخابرات عبر صديقه الحميم في ذلك الحين عبدالحكيم عامر.
لكن هل وجه جمال عبد الناصر ضربته للأجهزة السياسية و الأمنية للإخوان المسلمين فقط وترك الأجهزة الإعلامية و الدعوية؟؟!
في الواقع فإن جمال عبدالناصر قد وجه للإخوان ضربة شاملة ساحقة و قاسية شملت حتى الذين لم يكونوا يميلون لخوض أي مواجهة سياسية أو عسكرية مع جمال عبدالناصر و الثورة, بل إن الذين كانوا على صلة بعبدالناصر و استغلهم لتأجيج الصراع داخل أجهزة وتنظيمات الإخوان المسلمين قبيل هذه الضربة لم يسمح لهم جمال عبدالناصر بعد الضربة بأي نشاط دعوي اللهم إلا دور الشيخ الباقوري الذي كان في إطار الحكم الناصري و لصالحه.

جمال عبد الناصر و الأزهر الشريف

أما الأزهر الشريف الذي يعد أهم مؤسسة إسلامية على الإطلاق في مصر و العالم الإسلامي، فقد كان لجمال عبدالناصر معه شأن أخر ممكن أن نعتبره إستمرارا للنهج الثابت الذي بدأ الحكام في مصر ينهجونه منذ نابليون بونابرت و حتى الآن و هو نهج الإحتواء و السيطرة تحت ستار التطوير و التجديد, و في هذا الإطار نتذكر ما فعله محمد علي و من بعده خلفائه مع الأزهر الشريف و ذلك النهج تلخصه كلمة الخديو عباس حلمي التي قال فيها محددا دور الأزهر: “أول شئ أطلبه أنا و حكومتي أن يكون الهدوء سائدا في الأزهر و الشغب بعيدا عنه فلا يشتغل علماؤه وطلبته إلا بتلقي العلوم الدينية النافعة البعيدة عن زيغ العقائد و شغب الأفكار لأنه مدرسة دينية قبل كل شئ.إن كل ما يهم الحكومة من الأزهر استتباب الأمن فيه. و أطلب منكم أيها العلماء أن تكونوا دائما بعيدين عن الشغب و أن تحثوا إخوانكم العلماء و كذلك الطلبة على ذلك.و من يحاول بث الشغب بالأقوال أو بواسطة الجرائد و الأخذ و الرد فيها فيكون بعيدا عن الأزهر” (يقصد أن من يفعل ذلك عليه أن يبتعد عن الإنتماء للأزهر)
فالحكام منذ نابليون حتى الآن حرصوا على منع الأزهر من العمل السياسي, كما حرصوا في نفس الوقت على توظيف الإسلام و علماء الإسلام لتحقيق أهداف الحاكم السياسية كلما أمكن ذلك.
ولم يشذ جمال عبد الناصرعن ذلك النهج فاتخذ العديد من الخطوات للسيطرة على الأزهر و توظيفه لصالح أهداف نظام ثورة يوليو1952م.
و نجد عبدالناصر يحدد دور العلماء في “ارشاد المواطنين إلى حقيقة و أهداف الثورة” و “تعبئة الرأي العام في كل البلاد الإسلامية و كافة دول العالم على اعتبار أن الجهد الذي يبذله علماء المسلمين في العالم الإسلامي أو الأمة العربية في مجال مواجهة إسرائيل مازال جهدا متواضعا”.
و قد دعى جمال عبد الناصر في اطار ذلك إلى “عمل لجان في كل بلد اسلامي من أجل متابعة العمل لنصرة القضايا العربية و ذلك في إطار مواجهة إسرائيل و الإستعمار العالمي الذي يقف خلفها”.
ولكن كيف وظف جمال عبدالناصر الأزهر لتحقيق أهدافه هذه؟؟
تضمن المرسوم بقانون رقم 180 لعام 1952م أي في أول خمس شهور من حكم الثورة إلغاء الوقف الأهلي، كما كانت هناك اجراءات صحبت ذلك كله و أخرى تتابعت في السنوات التالية، أدت فيما أدت إلى وضع الدولة يدها بشكل كامل على الأوقاف، وذلك عبر وزارة الأوقاف التي سلمت هذه الأوقاف بشكل أو بأخر إلى الهيئة العامة للإصلاح الزراعي, حتى أن الهيئة تسلمت 137 ألف فدان من أراضي الأوقاف بسعر 17.5 مثلا لضريبة الأطيان المربوطة عليها أي أن قيمة الفدان بلغت خمسين جنيها في حين زادت قيمته الحقيقية بسعر السوق في ذلك الحين على ألف جنيه, و لذلك عجزت وزارة الأوقاف عن تأدية رسالتها لأن هذه الأراضي كانت تدر على الأزهر في السنة الواحدة 8 ملايين جنيه، و بتطبيق هذه القوانين إنخفضت الإيرادات إلى 800 ألف جنيه إذ أن الريع تم تحديده بـ3% و 4% من قيمة سندات سلمت لها كبديل للأرض، فضلا عن امتناع الهيئة العامة للإصلاح الزراعي عن سداد الريع المستحق، الأمر الذي جعلها مدينة لوزارة الأوقاف بمبالغ مالية هائلة.

هذا فضلا عن تبديد الهيئة لأغلب هذه الأوقاف لا سيما أوقاف الخيرات الموقوفة على المساجد, و بهذا ضربت ثورة 23 يوليو الركيزة الإقتصادية لعلماء الأزهر الشريف، تلك الركيزة التي كانت تجعلهم في غنى عن أموال الحكومة، الأمر الذي كان يكفل لهم الإستقلال عن الحكومة، و يتيح لهم معارضتها دون الخوف من قطع مرتباتهم أو تشريد أسرهم من بعدهم. وعلى حين عوملت اوقاف المسلمين هذه المعاملة استثنيت أوقاف غير المسلمين من أحكام هذه القوانين، حيث وضعت لها قوانين خاصة و تركت لكل كنيسة أوقافها في حدود مائتي فدان، و ما زاد عن هذا كانت الدولة تأخذه و تدفع ثمنه بسعر السوق، و هو ما ادى في أواخر السبعينات إلى مناداة عدد من الأصوات في مجلس الشعب بمساواة أوقاف المسلمين بأوقاف المسيحيين.

إلغاء المحاكم الشرعية في مصر

ثم كان إلغاء المحاكم الشرعية في مصر خطوة بارزة قامت بها ثورة يوليو لتقليص دور الأزهر الشريف في الحياة العملية للمصريين خارج توجيه الحكومة إذ أن ممارستها لنشاطها كانت تتمتع بقدر كبير من الإستقلالية عن الحكومة خاصة في مجال المنطلقات الأيدولوجية, و عبدالناصر و ثورة يوليو كانا يهدفان لتأميم الدين لصالح نظام الحكم فكان لزاما القضاء على هذه المحاكم التي كان يستحيل تأميمها لصالح النظام الحاكم, و كانت ثورة يوليو واعية بذلك منذ البداية إذ ألغيت هذه المحاكم بقانون رقم 462 لعام 1955م, وبذا بدأت هيمنة ثورة 23 يوليو على القوة الإسلامية الأكبر في مصر و في العالم الإسلامي و هي الأزهر الشريف و علماؤه, حيث شكل إلغاء المحاكم الشرعية تحديا لنظام الشريعة الإسلامية نفسه في دولة اسلامية يعلن دستورها أن دينها الرسمي هو الإسلام.
وبإلغاء المحاكم الشرعية و بالهيمنة على إدارة الأوقاف نجح الرئيس جمال عبد الناصر فيما فشل فيه الإحتلال الغربي من الهيمنة على أبرز مؤسسة لعلماء الإسلام في العالم كله.
و قد شنت أجهزة إعلام الدولة-الثورة حملة إعلامية صاحبت ذلك كله, ووصفته بأنه ثورة جديدة تجري داخل الأزهر و تقودها الدولة من أجل التجديد و التقدم لخدمة الأزهر و الإسلام, و بلغ الأمر أن هاجم د. محمد البهي في جلسات مجلس الشعب (1961م) ما وصفه بأنه جو العداوة و الجمود الذي يسود الأزهر وقال: “إن الثورة أعطت الإصلاح للأزهر لأن الشيوخ لم يريدوه”, و كان محمد البهي أحد المواليين لعبد الناصر داخل الأزهر.
و بعد أن هيمن عبدالناصر على الأزهر و موارده الإقتصادية كان عليه ان يكرس هذه الهيمنة بقانون رسمي محدد المعالم فتم اصدار قانون تنظيم الأزهر (103 لسنة 1961م). و كي يتضح المدى الذي كبلت به الحكومة مؤسسة الأزهر قبل هذا القانون لابد أن نعود لأحداث جلسة مجلس الأمة (البرلمان) التي أقرت قانون تنظيم الأزهر, يقول فتحي رضوان: “لإجبار المجلس على الموافقة حضر رجال الثورة و جلسوا أمامنا على المنصة, و تحديدا كان على المنصة أنور السادات و كمال حسين و كمال رفعت, و هدد أنور السادات المجلس عندما علت أصوات تعارض مشروع القانون قائلا: كانت ثورة في 23 يوليو 1952م و الذين حاولوا الوقوف أمامها ديسوا بالأقدام و اليوم ثورة جديدة و سيصاب الذين يقفون أمامها بنفس المصير”.
و وفقا للوثائق الرسمية فإنه تغيب عن جلسة إقرار القانون بمجلس الأمة 179 عضوا أي ما يعادل 49% من إجمالي أعضاء المجلس, ووفقا لنفس الوثائق الرسمية فإنه لم يعترض من الأعضاء الحاضرين سوى النائب صلاح سعده, بينما ذكر فتحي رضوان أن أكثر من نصف الحاضرين عارضوا القانون.
وهذا القانون و إن كان أعاد تنظيم الأزهر فعلا و قسمه إلى هيكل تنظيمي جديد لكنه ربط هذا التنظيم كله بجهاز الدولة و خاصة رئاسة الجمهورية بشكل مباشر, فشيخ الأزهر ووكيل الأزهر و رئيس جامعة الأزهر يعينهم رئيس الجمهورية, كما أن كافة أجهزة الأزهر الرئيسية كالمجلس الأعلى للأزهر و جامعة الأزهر و مجمع البحوث الإسلامية ينفرد رئيس الجمهورية بتعيين القيادات العليا فيها, فمجمع البحوث يرأسه شيخ الأزهر وأعضاء المجمع يعينهم رئيس الجمهورية, أما جامعة الأزهر فبالإضافة لإنفراد رئيس الجمهورية بتعيين رئيس جامعة الأزهر فعمداء الكليات يعينهم أيضا رئيس الجمهورية, و بصفة عامة فالهيكل العام الإداري و المالي للأزهر أصبح وفقا لقانون تنظيم الأزهر جزءا من الهيكل المالي و الإداري للحكومة (أي السلطة التنفيذية).

مواقف الأزهر الشريف بعد هيمنة جمال عبد الناصر عليه

و بعد كل هذا فكيف للأزهر الشريف أن يعصي لرئيس الجمهورية أمرا فضلا عن أن يعارضه؟؟
و لكن ما النتيجة العملية لهيمنة نظام ثورة يوليو على الأزهر؟؟

النتيجة أن الأزهر الشريف لم تصدر من داخله أي مواقف أو تصريحات تعارض النظام الحاكم لا من قريب ولا بعيد, بل بالعكس وقف إلى جانب جمال عبد الناصر في كل مواقفه، و من ذلك على سبيل المثال لا الحصر الفتوى التي أصدرها شيخ الأزهر يساند بها جمال عبدالناصر في صراعه مع محمد نجيب (الأهرام 17 فبراير 1954م), و أيضا التأييد الذي قدمه الأزهر لنظام حكم جمال عبدالناصر فيما يتعلق باتفاقية الجلاء (الأهرام 26 فبراير 1954م), و كذلك المساندة التي قدمها الأزهر لنظام حكم جمال عبد الناصر إثر الأزمة مع اسرائيل التي سبقت هزيمة يونيو1967م بإعلان تأييده لجمال عبدالناصر و مباركته لخطواته في صد عدوان الصهيونية و الإستعمار(الأهرام 25 مايو 1967م).

جمال عبد الناصر و الطرق الصوفية

أما الطرق الصوفية التي كانت تمثل وقتها نحو 3 ملايين منتسب ينتظمون في 60 طريقة فكان لها شأن أخر مع جمال عبد الناصر, إذ أيدته بوضوح في القضايا السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية الداخلية و الخارجية من البداية فعلى سبيل المثال وقفت مشيخة الطرق الصوفية مع عبدالناصر في صراعه ضد الإخوان و أصدر شيخ مشايخ الطرق الصوفية محمد علوان بيانا في مولد الرفاعي عام 1965م أبرز فيه هذا الموقف, كما أصدر المجلس الأعلى للطرق الصوفية بيانا استنكر فيه ما أسماه المؤامرات الرجعية التي يدبرها الملك فيصل (ملك السعودية) و شاه إيران و الملك حسين (ملك الأردن) و رئيس تونس الحبيب بورقيبة (الأهرام 12ابريل 1967م), وكذلك أصدر شيخ مشايخ الطرق الصوفية بيانا يبرر فيه و يؤيد قرارات عبدالناصر بسحب قوات الطوارئ الدولية من سيناء في مايو 1967م (الأهرام 27مايو 1967م), و في ديسمبر 1967م سار أكبر موكب صوفي رسمي في مصر تأييدا لعبدالناصر في أعقاب هزيمة يونيو.

جمال عبد الناصر و أنصار السنة و الجمعية الشرعية و غيرها

أما الجمعيات الإسلامية المستقلة كأنصار السنة و الجمعية الشرعية و غيرها من الجمعيات المسجلة وفقا لقانون الجمعيات فقد وضعها جمال عبدالناصر تحت وصاية الدولة و عين أحد ضباط الجيش للإشراف عليها جميعا, و تندر الكثيرون من أن ضابط جيش ليس متخصصا في الدين أصبح يشرف على الجمعيات الدينية, كما كانت بعض هذه الجمعيات متعارضة في أهدافها و مناهجها مثل أنصار السنة و الجمعية الشرعية من جهة و الجمعيات الصوفية من جهة أخرى و مع ذلك أشرف هذا الضابط على هذه الجمعيات المتعارضة في آن واحد, و قد شغل هذا المنصب لبعض الوقت كمال الدين رفعت أحد الضباط الأحرار.
و هكذا نجد أن جمال عبد الناصر كما أمم الإقتصاد لصالح رأسمالية الدولة (أو ما أسماه بالإشتراكية العربية) أمم علماء الإسلام لصالح نظام حكمه, و كما أدارت ديكتاتورية دولة جمال عبدالناصر الإقتصاد و السياسة أدارت مؤسسات علماء الإسلام, و العجيب أنه منذ عصر الإنفتاح و حتى الآن تراجع الرئيسان السادات و حسني مبارك عن أغلب إجراءات الحقبة الناصرية إلا أنهما استمرا في ترسيخ تأميم الإسلام و علماء الإسلام و مساجد و جمعيات الإسلام.
و لكن ماذا عن الأنشطة و الجهود التي بذلها جمال عبدالناصر في المجال الإسلامي مثل إنشاء إذاعة القرآن الكريم (1964م) و جامعة الأزهر (1961م) و توسع المعاهد الأزهرية و إنشاء المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بوزارة الأوقاف (1960م) و في الخارج إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي (1954م)؟؟
 لقد فعل الرئيس جمال عبد الناصر ذلك كله في إطار استثماره للرأسمال الديني الذي امتلكه بالتأميم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا الموضوع نشرته في جريدة الدستور الورقية بعددها الأسبوعى، و أيضا في مدونتي القديمة

مبارك و السادات و جمال عبد الناصر

ثورة 23 يوليو و سيطرة رأس المال على الحكم

كان ضمن الأهداف الستة المشهورة التي أعلنتها ثورة 23 يوليو 1952م منذ اللحظة الأولى من إندلاع شرارتها “القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم”, فكيف حققت الثورة هذا الهدف و ما الذي بقي منه بعد مرور 56 عاما على بدء الثورة؟؟

تقليص نفوذ كبار ملاك الأراضي الزراعية

لجأت حكومة الثورة إلى تقليص نفوذ كبار ملاك الأراضي الزراعية في مصر عبر قانون الإصلاح الزراعي الأول في سبتمبر 1952م, و التي قلصت بمقتضاه الحد الأقصى للملكية الزراعية إلى 200 فدان للفرد تقلصت إلى 100 فدان للفرد في قانون الإصلاح الزراعي الثاني عام 1961م.

و في الفترة من 1952م و حتى 1956م سعت حكومات الثورة إلى إشراك رأس المال المصري و الأجنبي في خطط و جهود التنمية الكبرى التي سعت الثورة لتنفيذها و كان معظمها صناعيا بالإضافة لمشروع السد العالي, و لا حظت الثورة تقاعس الرأسماليين الأجانب عن ضخ إستثمارات حقيقية في خطط التنمية الوطنية, و عندئذ بدأت الدولة في تمصير الإقتصاد المصري عبر التأميم و جاء ذلك في إطار خياراتها السياسية المعادية نسبيا للغرب بعيد فشل العدوان الثلاثي على مصر.

كما لاحظت حكومات الثورة تردد الرأسمالية المصرية الكبيرة في الدخول كمنفردين أو كشركاء للدولة في مشاريع إقتصادية ضخمة تتسم بقلة الربح و تأخره مما دفعها لحركة تأميمات واسعة في الستينيات فيما عرف بقرارات يوليو الإشتراكية عام 1961م, بهدف توفير رأس المال اللازم للتنمية الوطنية المخططة مركزيا على نمط الإقتصاد الإشتراكي.كانت هذه هي الدوافع التي أعلنتها الثورة لإجراءات التمصير و التأميم حينئذ, عندما لم يكن هناك صوت يعلو على صوت الثورة, و لكن عند تحليل هذه الأحداث بتأني بعيدا عن صخب الثورة و الثوار نجد أن الثورة لم تفهم طبيعة النظام الإقتصادي و السياسي الدولي الذي يرتب نتائج إقتصادية كبيرة وواضحة على أي خيار سياسي أو إقتصادي تتخذه أي وحدة من الوحدات المكونة للنظالم الدولي, و بالتالي كانت ردود أفعال نظام الثورة في مصر على السلوك الغربي إزائها تظهر حقيقة أنهم فوجئوا بها ولم يكن مرتبا لها في إطار إستراتيجية محددة طويلة الأمد قد توقعت الأحداث مسبقا.

هذا بشأن تفسير مواقف الرأسمالية الأجنبية.

الرأسمالية المصرية

أما بشأن الرأسمالية المصرية فإن الثورة لم تفهم البناء الإقتصادي الإجتماعي للمجتمع المصري, حيث أن الرأسمالية المصرية كان لها قدمان اليمنى في الزراعة و الأخرى في الصناعة و التجارة و المصارف, فعندما قطعت الثورة القدم اليمنى للرأسمالية المصرية بقوانين الإصلاح الزراعي خافت تلك الرأسمالية على قدمها الأخرى و هرولت بها تؤمنها خشية أن ينالها الثوار بالقطع هي الأخرى, هذا إذا أحسنا الظن بالثورة و الثوار, و صدقنا مقولة أن الثورة أممت الرأسماليين المصريين بسبب عزوفهم عن المشاركة في خطط التنمية الوطنية. أما إذا أسأنا الظن بالثورة و الثوار لإن بعض الظن إثم و بعضه الأخر ليس إثما و إنما كما قال الحكماء “سوء الظن من حسن الفطن” فإن التحليل الموضوعي لما حدث عشية قرارات يوليو الإشتراكية يرى أن الرأسمالية المصرية إستفادت من حركة تمصير الإقتصاد (التي شنتها الثورة في منتصف الخمسينات) كما حصدت الكثير من أرباح عملية التنمية الوطنية عبر القيام بعمليات المقاولات و توريد المعدات و قطع الغيار و الصيانة فعظمت من أرباحها و ثروتها, و جعلها ذلك في موقف قوي أعطاها القدرة و الرغبة في السعي إلى المشاركة في صنع القرار بناء على ميزان القوة الإقتصادية القائم فعلا على الأرض مما دفع جمال عبدالناصر لتوجيه هذه الضربة الإشتراكية للرأسمالية المصرية بهدف تقليص نفوذها و إضعاف قوتها لتكف عن السعي للمشاركة في صنع القرار الوطني.

و أيا كانت دوافع جمال عبد الناصر هل هذا أم ذاك أم كليهما معا، فإن التخطيط الاقتصادي المركزي أسهم في تنمية الاقتصاد المصري و تنويع مجال النشاط الإقتصادي ما بين الزراعة و الصناعة و الخدمات بعكس ما كان عليه الحال قبل الثورة, كما أنه أسهم في ضرب القوى الرأسمالية القديمة و تقليص نفوذها, و إن كانت قوى أخرى قد بدأت تظهر بالتدريج من التكنوقراط و السياسيين و العسكريين السابقين الذين أصبحوا قادة القطاع العام الذي ورث الرأسمالية المصرية و الأجنبية في مصر على حد سواء, و سنرى بعد ذلك أن أبناء و أسر هؤلاء و المتحالفين معهم من الرأسمالية القديمة أو من الحرافيش ذوي الطموح هم الذين تسيدوا الموقف بدءا من عام 1977م تاريخ بدء الإنفتاح الإقتصادي الذي أطلقه الرئيس الراحل أنور السادات.

ور غم كل التنمية التي قام بها جمال عبد الناصر فقد استلم جمال عبدالناصر الدولة المصرية و هي دائنة لبريطانيا بثلاثة ملايين جنيه استرليني و تركها و هي مدينة بثلاثة مليارات, كما استلمها و هي تشمل أقاليم مصر و السودان و غزة و تركها و قد انفصلت عنها السودان و احتلت اسرائيل غزة و سيناء كاملة (أكثر من ثلث مساحة مصر) و تحطم الجيش المصري بالكامل مرتين مرة في عام 1956م و أخرى في 1967م فضلا عن خسائر و هزائم حرب اليمن.

انور السادات يتحول إلى نظام اقتصاد السوق

و في عام 1977م قرر الرئيس أنور السادات التحول إلى نظام إقتصاد السوق فيما سمي وقتها بسياسة الإنفتاح الإقتصادي, و كما برر النظام الناصري سلوك النهج الإقتصادي الإشتراكي في رغبته لإحداث تنمية شاملة تقضي على الفقر و البطالة و التخلف و أن النظام الرأسمالي له مساؤه و لن يفي بالغرض, فإن النظام الساداتي رفع نفس الشعارات و لكنه عكسها بأن النظام الإشتراكي هو السئ الذي لا يفي بالغرض بينما النظام الرأسمالي هو الحل.و بكل سهولة و دون أي معارضة جدية تحول نظام حكم ثورة يوليو الساداتي إلى إقتصاد السوق و بقيادة نفس رجال النظام الناصري, بل لعل هؤلاء القادة هم الذين دفعوا لهذا الإتجاه بعدما أصبحوا هم الرأسماليين الجدد, فالرأسمالية المصرية الجديدة تكونت من التكنوقراط و السياسيين و العسكريين السابقين الذين أصبحوا قادة القطاع العام وأبناءهم و أسرهم و المتحالفين معهم من الرأسمالية القديمة أو من الحرافيش ذوي الطموح الذين دفعهم طموحهم للإلتصاق بهؤلاء أو هؤلاء.

الصورة الإقتصادية في مصر منذ 1977م و حتى 2008م

و أصبحت ملامح الصورة الإقتصادية منذ 1977م و حتى 2008م على النحو التالي:

تشير توجهات البنوك وسياسات الإقراض أنه فى 1979 كان كل ما حصل عليه رجال المال من قروض البنوك لا يزيد عن 800 مليون جنيه أى 15% من إجمالى القروض من البنوك التجارية الأربعة المملوكة للحكومة فى ذلك الوقت، بينما في 2001 يقفز حجم القروض الى 213 مليار جنيه ربعها تقريبا بالعملات الصعبة خرقا لكل الأعراف المصرفية وأصبح ما حصل عليه هؤلاء يمثل 80% من إجمالى القروض والتسهيلات الائتمانية التى منحتها جميع البنوك العاملة فى مصر, و تكشفت عام 2000 فضيحة هروب كبار رجال المال والأعمال بأكثر من 40 مليار جنيه، فسمعنا شعارات من قبيل تعويم العملاء و مساندة المتعثرين و التصالح مع الهاربين.

كما ظهر أن 333 رجل أعمال فقط حصلوا وحدهم على نحو 80 مليار جنيه فى صورة قروض وتسهيلات ائتمانية أى حوالى 45% من إجمالى القروض والتسهيلات التى قدمتها البنوك لرجال المال بدعم من ذوي النفوذ.كما تشير المؤشرات الإقتصادية إلى تآكل قطاع الإنتاج السلعى للدولة والمجتمع مثل الصناعة والزراعة، بل واتجهت الدولة الى التخلص من شركات القطاع العام فى أكبر عملية بيع اتهمت بالنهب وأحيطت بالشكوك والفساد الذى لم تشهد مصر مثيلا له ولا فى عهد الخديوى إسماعيل, إذ تشيرالأرقام الرسمية إلى أنه عند الشروع فى تقييم أصول شركات القطاع العام الثلاثمائة والثمانين فى عام 1991 وبمعرفة مكاتب وشركات تقييم أمريكية وغربية قدروا أصولها بنحو 100 مليار جنيه، وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على تطبيق برنامج الخصخصة، باعوا نصف هذه الشركات (194 شركة) بمبلغ لا يزيد على 16.6 مليار جنية، أى أن إجمالى عمليات البيع بعد اكتمالها لن تتجاوز 35 مليار جنية.. فأين ذهب الباقى؟ ولمصلحة من؟ وما علاقتهم برجال الحكم وأبنائهم؟

واستمرارا لسياسات السادات، جرى منح المزايا الضرائبية والجمركية للمستثمرين والمستوردين، وعدلت قوانين الضرائب أكثر من خمس مرات من أجل تخفيض العبء الضريبى على أرباحهم، وألغيت ضرائب تمس دخول الأغنياء مثل ضريبتى التركات ورسم الأيلولة، كما أن الدارس المتعمق فى هيكل النظام الضريبى المصرى طوال عقد التسعينات يكتشف أن الضرائب المتحصلة من الأغنياء فى مصر لم تزد فى أفضل الأحوال على 15% من جملة الحصيلة الضريبية سنويا، وتحملت شركات القطاع العام والفقراء والحرفيين نسبة 85% من العبء الضريبي.

أما الإعفاءات الجمركية فقد قدرتها بعض الدراسات الجادة منذ عام 1974 وحتى عام 2004 بأكثر من 80 مليار جنيه استفاد بها أصحاب المشروعات ولم تنعكس بدورها إيجابيا على هيكل الأسعار فى الداخل.

و أخيرا جاء تزعم الرأسماليين الجدد للحزب الوطني و لجنة السياسات ووزارة الدكتور أحمد نظيف ليلقي الضوء على إجابة السؤال الذي بدأنا به المقال و هو ماذا تبقى من أهداف ثورة يوليو؟؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الموضوع نشر في جريدة الدستور الورقية بعددها الأسبوعى، و أيضا في مدونتي القديمة.

جمال عبد الناصر

ثورة 23 يوليو و الديمقراطية

“إقامة حياة ديمقراطية سليمة” كانت هدفا من الأهداف الستة التي أعلنت ثورة 23 يوليو1952م أنها قامت من أجل تحقيقها, فهل حققت الثورة هذا الهدف؟؟ و إن كانت حققته فلأي مدى حققته؟؟ و إن كانت لم تحققه فلماذا لم تحققه؟؟

قد يحلو للبعض في هذا السياق أن يحلل الأفكار النظرية لثورة يوليو و يبحث عن موضع الديمقراطية فيها, و قد يستشهد البعض بأقوال جمال عبد الناصر في أوائل الستينات التي أشار فيها إلى أن الثورة لم يكن عندها نظرية, وقوله ” انا بأقول إني ماكنتش مطلوب مني ابدأ في يوم 23 يوليو اني اطلع يوم 23 يوليو معايا كتاب مطبوع واقول ان هذا الكتاب هو النظرية. مستحيل. لو كنا قعدنا نعمل الكتاب ده قبل 23 يوليو ماكناش عملنا 23 يوليو لأن ماكناش نقدر نعمل العمليتين مع بعض”.

لكن في حقيقة الأمر أن السير في تناول موضوع ثورة يوليو و الديمقراطية على هذا المنوال هو سير في طريق رسمه جمال عبد الناصر ليخفي به حقيقة أهدافه و تصوراته, و هو ما ينافي الموضوعية في تناول الموضوع.لقد إدعى الثوار في كل أحاديثهم و تصريحاتهم العمل من أجل الديمقراطية غير أن هدف “إقامة حياة ديمقراطية سليمة” الذي أعلنوه انطوى في حد ذاته على نقد مبطن للديمقراطية التي كانت قائمة قبل الثورة, كما انطوى طرح الهدف بهذه الصيغة على الإشارة أن للديمقراطية مفهوما محددا لدى الثوار مختلفا عن المفهوم السائد عبرت عنه الأهداف الستة بجملة “حياة ديمقراطية سليمة”.

مفهوم الخاص بالديمقراطية

إذن ما هو المفهوم الخاص بالديمقراطية الذي كانو يتبنونه؟؟؟

بداية لابد أن نلاحظ أن ثوار يوليو لم يكن لهم مفهوم محدد للديمقراطية أو أي تصور نظري محدد و مفصل لأي من القضايا السياسية أو الإقتصادية أو الإجتماعية سواء منها ما انتظمته الأهداف الستة أو غيرها, و قد عبر عن ذلك عبدالناصر في أكثر من مناسبة بما في ذلك مقولته المذكورة في بداية المقال, إذن فعن ماذا كانت تعبر ثورة يوليو؟؟لقد عبرت ثورة يوليو عن رد فعل مضاد على الأوضاع البائسة و الفاسدة التي كانت سائدة في حياة مصر السياسية و الإقتصادية قبل 23 يوليو 1952م, لقد كره الجيش الوفد بسبب حادثة 22 فبراير 1942م و بسبب الفساد الذي ساد دوائر الوفد العليا, كما كره الجيش و الشعب الأحزاب و الحياة الحزبية بسبب الفساد و التزوير و المحسوبية التي سادت في ذلك الوقت, كما أمل الجيش و الشعب في أن تدخل مصر في مرحلة جديدة من تاريخها بعد ثورة 23 يوليو 1952م, و بذا بدا لدى الأغلبية من الجيش و الشعب و القوى السياسية العقائدية الصاعدة (الإخوان المسلمون و الشيوعيون و مصر الفتاة) أن أي إجراءات جديدة تتخذها الثورة كبديل عن الأوضاع السابقة ستكون أفضل من الأوضاع السابقة كما إتفق الجميع على حتمية عدم الرجوع للأوضاع السابقة قبل 23يوليو 1952م.

و من هنا كان يمكن لقادة الثورة فعل أي شئ جديد دون معارضة تذكر.

خالد محي الدين كان الوحيد الذي طالب بالديمقراطية

كان هناك خالد محي الدين الوحيد من مجلس قيادة الثورة الذي دعا لإقامة حياة ديمقراطية و نيابية سليمة لكنه لم يسانده أحد و سرعان ما أجبر على الإستقالة من المجلس و الإنتقال للمنفى الإختياري في سويسرا, كانت حجة عبدالناصر و من على رأيه في رفض إقامة نظام حكم مدني ديمقراطي سليم هو أن ذلك سيعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 23 يوليو, و هكذا إندلعت أزمة مارس المشهورة و حرك عبدالناصر مظاهرات مأجورة تدعو بسقوط الديمقراطية.

و مع ذلك ظلت الديمقراطية هي قميص عثمان لدى الثوار, فعندما اختلف محمد نجيب مع عبدالناصر والثورة رفع نجيب شعار الديمقراطية لكن نجيب تمت إزاحته و حبسه (نوفمبر 1954م), و عندما إختلف البغدادي مع عبدالناصر رفع أيضا شعار الديمقراطية و أزيح أيضا (1964م), و عندما إختلف عبدالحكيم عامر مع عبدالناصر إثر هزيمة يونيو 1967م رفع شعار الديمقراطية, لكنه أزيح أيضا.

و هكذا و رغم كل شيئ فقد تمكن عبدالناصر من التخلص من كل زملائه (بعدما تخلص من الإخوان و الشيوعيين) و الإستئثار بالحكم حتى يوم وفاته فكيف تم هذا و ما علاقة هذا بالديمقراطية؟؟

كيف انفرد جمال عبد الناصر بالحكم؟

في البداية لم يكن جمال عبد الناصر منفردا بالقرار و ذلك بحكم وجود معارضة و منافسة لدوره داخل مجلس قيادة الثورة و لكن دور عبدالناصر ما لبث ان تبلور تدريجيا بعد خروج العناصر المناؤة له من المجلس و رسوخ سلطته السياسية و بالذات بعد أن جمع بين منصبي رئيس مجلس قيادة الثورة و رئيس مجلس الوزراء في ابريل 1954م و من ثم بدأ عبدالناصر يلعب دورا رئيسيا في إتخاذ القرارات السياسية تصل إلى حد الإنفراد بالقرار, فعلى سبيل المثال قرر بمفرده الإتصال بالإتحاد السوفيتي عن طريق الصين الشعبية لطلب شراء أسلحة في ابريل 1955م دون ابلاغ مجلس قيادة الثورة و اكتفى بإبلاغ المجلس و الحصول على تأييده بعد أن تمت الإتصالات بالفعل.

و قد حدد الإعلان الدستوري الصادر في 10فبراير 1953م فترة انتقالية قوامها 3 سنوات لإنتخاب رئيس الجمهورية و إصدار دستور دائم و ناقش مجلس قيادة الثورة شكل النظام السياسي الجديد منذ أغسطس 1955م و إتجه أعضاء المجلس لإعطاء عبدالناصر دورا قياديا نهائيا في النظام الجديد, و كان الإتجاه الغالب في المجلس هو أن تنتقل السلطة إلى عبدالناصر و في هذا الصدد عارض عبدالناصر الرأي الذي طرحه عبداللطيف البغدادي بتحويل مجلس قيادة الثورة إلى مجلس جمهوري و أن تتشكل السلطة التنفيذية من وزارة مدنية اللهم إلا إذا كانت سلطة المجلس الجمهوري ذات طابع رمزي و قد طالب أيضا بإنشاء سلطة تنفيذية قوية من بعض اعضاء المجلس, و قد أيد معظم الأعضاء تفويض عبدالناصر في وضع أسس النظام الجديد, و بذا اجمع المجلس على أن عبد الناصر هو الذي يعلن النظام الجديد و يعتبر مسئولا عنه مسئولية كاملة.

جمال عبد الناصر ينهي السلطة الجماعية لمجلس قيادة الثورة

و قدم جمال عبد الناصر مشروع الدستور إلى مجلس قيادة الثورة في يناير 1956م وتم قبوله, و انتخب عبدالناصر رئيسا للجمهورية في يوليو 1956م, و بذا تغير هيكل القيادة تغيرا كاملا فقد انتهى عهد السلطة الجماعية لمجلس قيادة الثورة و أصبح كل عضو من اعضائه الذين إختارهم عبدالناصر للعمل معه مسئولين أمامه مسئولية فردية عن العمل المنوط بكل منهم, و أصبح عبد الناصر الزعيم المطلق فقد أعطاه الدستور الجديد الصادر عام 1956م سلطات سياسية خيالية.

فالمادة 131 من الدستور تقرر أن رئيس الجمهورية يضع بالإشتراك مع الوزارة السياسة العامة للحكومة في جميع النواحي السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية و الإدارية و يشرف على تنفيذها أي أن الرئيس يضع و ينفذ السياسات العامة. كما أعطته المادة 132 حق إقتراح القوانين و الإعتراض عليها و إصدارها. و أعطته المادة 135 سلطة لإصدار قرارات تكون لها قوة القانون فيما بين أدوار انعقاد مجلس الأمة أو في فترة حله.

و أجازت المادة136 لرئيس الجمهورية في الأحوال الإستثنائية بناء على تفويض من مجلس الأمة أن يصدر قرارات لها قوة القانون.

كما أعطته المادة 137 سلطة إصدار القرارات اللازمة لترتيب المصالح العامة و الإشراف على إدارتها.

هذا بالإضافة إلى سلطة إصدار لوائح الضبط و اللوائح اللازمة لتنفيذ القوانين و ذلك ما تضمنته المادة 138.أما المادة 143 فقد أعطته سلطة إبرام المعاهدات.

و أعطته المادة 144 سلطة إعلان حالة الطوارئ. و أعطته مادة 146 سلطة تعيين الوزراء و إعفائهم من مناصبهم.

كما أن الدستور قرر اجتماع الرئيس مع الوزراء في هيئة مجلس وزراء لتبادل الرأي في الشئون للحكومة و تصريف شئونها حسب المادة 147, و هذا يعني أنهم ليس لهم اختصاص نهائي في تلك المسائل لأن ذلك معقود لرئيس الجمهورية فالرئيس يتبادل الرأي مع مجلس الوزراء و يمارس الإختصاصات التنفيذية بنفسه و هو في ذلك لا يحتاج إلى توقيع الوزراء على القرارات التنفيذية كى تكون نافذة.

جمال عبد الناصر له حق حل مجلس الأمة 

و من ناحية أخرى أعطى الدستور الرئيس حق دعوة مجلس الأمة إلى الإنعقاد و فض دورة انعقاده كما أعطاه حق حل المجلس و في المقابل لم يعط للمجلس إلا حق إبداء رغبات أو إقتراحات للحكومة في المسائل العامة حسب المادة 92 من الدستور, أو طرح موضوع عام للمناقشة لإستيضاح سياسة الحكومة في شأنه أو تبادل الرأي فيه حسب المادة 91.

و فضلا عن كل هذه الصلاحيات الدستورية الواسعة جدا فإن مسائل السياسة الخارجية و الأمن القومي كانت مستثناة فعليا من اعمال المجلس حسبما ذكر عبدالناصر في محادثات الوحدة مع سوريا و العراق عام 1963م.

و في إطار مجلس الوزراء كان العسكريون من أعضاء مجلس قيادة الثورة الذين إختارهم عبدالناصر للعمل معه كوزراء في المجلس الذي تشكل برئاسته يشكلون الحركة المركزية لإتخاذ القرار حول عبدالناصر، فبحكم صلتهم السابقة بعبد الناصر كان لهؤلاء العسكريين السابقين علاقات أوثق بعبد الناصر، كما شغلوا الوزارات الرئيسة و أشرفوا على أعمال الوزراء المدنيين حسبما ذكر سيد مرعي, بيد أن دور هؤلاء العسكريين في مجلس الوزراء و في عملية إتخاذ القرار لم يكن يعني بالضرورة مشاركتهم الفعالة لجمال عبدالناصر في اتخاذ القرارات, فلم يكن لأي منهم مكانة تمكنه أن يكون مشاركا بشكل حقيقي في صنع القرارات.

و على سبيل المثال لا الحصر فإن رفاق عبد الناصر لم يعرفوا بقرار تأميم قناة السويس إلا لحظة الإعلان عنه يوم 26 يوليو 1956م.

و هكذا انفرد عبدالناصر بالحكم و تخلص من كل زملائه حتى مماته, فما علاقة هذا كله بالديمقراطية؟؟؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الموضوع نشر في جريدة الدستور الورقية بالعدد الأسبوعى، و أيضا في مدونتي القديمة.