اسياس أفورقي رئيس إريتريا

أريتريا واللعب مع الكبار في الشرق الأوسط

الكلام عن أريتريا ودورها الإقليمي سيَجُرُّنا للكلام عن أطراف عديدة، مثل إسرائيل وإيران وأثيوبيا والغرب، والعديد من الدول العربية، والعديد من المنظمات الدولية، كالأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي، وكثرة هذا الأطراف رغم صغر مساحة وموارد أريتريا تقودُنَا لحقيقة واضحة، هي أن أريتريا تريد أن تلعب دورًا أكبر من إمكاناتها الجيوسياسية، وهي بذلك تريد أن تلعب مع الكبار في جزء من العالم الإسلامي، تَمَّتْ تسميته دوليًّا بمنطقة الشرق الأوسط، وخاصة في شرق إفريقيا أو القرن الإفريقي.

جوانب من تاريخ تحرير أريتريا وأثرها في التحليل السياسي

استقلت أريتريا عن أثيوبيا في 23 من مايو 1993م ولن نقف كثيرًا عند التفاصيل التاريخية، لكنّ هناك أربعَ جوانب من تاريخ تحرير أريتريا لها دلالة مهمة في مجال التحليل السياسي، لا بد لنا في البداية من الإشارة إليها:

الجانب الأول: أن حركة التحرير هذه نشأتْ أوَّلَ أمرها في السودان عام 1961م، ولم تكن تملك مقاتلين داخل أريتريا سوى 13 مقاتلًا، ولم تملك كوادِرَ خارج السودان سوى أقل من عشرةٍ، أكثر من ثلثهم هم من السودانيين. وأعطى هذا الجانب الثوار الأريتريين ثقةً كبيرة في أنفسهم ومكانتهم، حتى بعد وصولهم للحكم، بسبب تحقيقهم إنجازَ التحريرِ من العدم- إن جاز التعبير- على الأقلِّ حسب رأْيِهِم هم!

كما أن تجربتهم الثورية هذه منحتهم خبرةَ ممارسةِ السياسة بأسلوبها الكفاحي, ومن ثَمَّ نرى لجوءَهُم المتكرِّرَ للأساليب العسكرية في علاقاتهم مع الأطراف الأخرى، كما حدث مع اليمن وأثيوبيا السودان.

الجانب الثاني- أن المساندة الأهَمَّ لحركة التحرير هذه منذ البداية وحتى بعد إقامة الدولة الأريترية المستقلةِ كانتْ من الدول العربية، خاصةً سوريا ولبنان والسودان والسعودية، لاسيما أن أثيوبيا التي اعتُبِرَتْ دولة محتلة لأريتريا، هي دولةٌ حليفة بشكل أساسي لإسرائيل، كما كانت بجانب ذلك حليفةً للاتحاد السوفيتي السابق.

ويعكس هذا الجانب أهميةَ منطقة القرن الإفريقي، وكذلك السواحل الإفريقية للبحر الأحمر بالنسبة للدول العربية, كما يعكس قلقَ العرب من الوجود الإسرائيلي، سواء في أثيوبيا (مُهَدِّدًا بذلك مصر، والسودان، والصومال، واليمن، وغرب وجنوب السعودية) أم في الساحل الشرقي لإفريقيا؛ حيث يُطِلُّ على بحرٍ، كُلُّ المطلين عليه من العرب، عدا هذا الجزء من ساحل البحر الأحمر الذي أصبح الآن أريتريا.

الجانب الثالث- أنه قد تحالَفَ الثوار الأريتريون مع ثوار التجراي الأثيوبين، ابتداءً من عام 1975م, وكان الأخيرون يَسْعَوْن لاستقلال إقليم التجراي عن أثيوبيا (يمثل التجراي 7 % من سكان أثيوبيا) لكنهم تحت ضغط ثوار أريتريا غيَّرُوا وُجْهَتَهم لحكم كُلِّ أثيوبيا.. وقد وصل هذا الضغط الأريتري ذِرْوَتَهُ بحصار عسكري، وتصفياتٍ دمويَّةٍ قادها أسياس أفورقي ضدهم عام 1985م, كما دعم هذا التوجُّهَ ضغطٌ سياسي أمريكي في نفس الاتجاه، بهدف إسقاط نظام “منجستو هيلامريام” المتحالفِ مع السوفيت في ذلك الوقت.

وفي هذا الجانب نضع يَدَنَا على العُقْدَةِ التي ربما تكون نفسيَّةً بين كُلٍّ من “ملس زيناوي” (أحد قادة التيجراي وقتها، ورئيس وزراء أثيوبيا الآن)، و”أسياس أفورقي” (الأمين العام المساعد لجبهة تحرير أريتريا وقتها، والرئيس الحالي لأريتريا)؛ حيث كانت جبهة أفورقي لها اليَدُ العليا والفضل على التيجراي الإثيوبيين في دَفْعِهِم لحُكْمِ كُلِّ أثيوبيا، كما كانت جبهة أفورقي بمثابة السيد على منظمة زيناوي (جبهة تجراي أثيوبيا)، بما لها من خِبْرَاتٍ وعلاقات وموارِدَ، وقوةٍ عسكريةٍ، بينما كانت منظمة زيناوي أشبهَ بالتابع لها بدرجةٍ ما, لكن بعد حكم زيناوي لأثيوبيا بكامل مواردها الاقتصادية والبشرية (تعداد أثيوبيا نحو 70 مليون نسمة، وجيشها نحو نصف مليون).. تغَيَّرَ الوضع، وتغيَّرَت موازين القوى إزاء دولة أريتريا التي لا تملك أيّ موارد اقتصادية ذات بال، كما أن تعدادها لا يزيد عن 4 مليون نسمة، ولا تملك جيشًا بحجمِ ولا تسليح الجيش الأثيوبي, ومن هنا ثارت المشاكل بين الدولَتَيْنِ، تُغَلِّفُها مشاكل ومنازعات الحدود؛ حيث بدا أنّ كُلًّا من الدولتين يسعى لاستِتْبَاع الأخرى، والاستئثار بالدور الإقليمي الأكبر في شرق إفريقيا، وفي القرن الإفريقي ذي الأهمية الاستراتيجية البالغة.

الرابع- تحالُفُ ثوار أريتريا مع أوروبا والولايات المتحدة وإسرائيل قَبْلَ التحرير, ومن الطبيعي أنّ تَحَالُفَ نظام “منجستو هيلامريام” مع السوفيت سَهَّلَ على معارضيه الحصولَ على الدعم الغربي, ومصادر جبهة التحرير الأريترية تزعم أنهم لم يستطيعوا الحصولَ على الدعم الغربي، لولا الدخولُ من البوابة الإسرائيلية, وهذا هو تبريرهُم الدائِمُ لعلاقاتهم الوثيقة مع الكيان الصهيوني منذئذ, ومن هنا نرى التناقُضَ بين علاقات الأريتريين بإسرائيل وعلاقاتهم بالعرب.

نعم، قد تغيَّرَ موقف العرب من مسألة العلاقة مع الكيان الصهيوني، نظرًا لوجود علاقاتٍ لعدد من الدول العربية والإسلامية مع الكيان الغاصب، لكنْ لا شك أن أريتريا وأثيوبيا حتى الآن تتنافسان في الحصول على رضا إسرائيل, وفي واقع الأمر فإن إسرائيل لا يمكنها الاستغناءُ عن أريتريا بموقعها على البحر الأحمر، من حيث إنها الدولةُ الوحيدة التي لا تنتمي للجامعة العربية، وتُطِلُّ على البحر الأحمر؛ إذ كل الدول المطلة عليه عربية, وفي نفس الوقت لا يمكن لإسرائيل الاستغناءُ عن أحد أكبر دول إفريقيا من حيث القوة الشاملة، كأثيوبيا، ولاسيما أن لها حدودًا لصيقةً مع العالم العربي, وهكذا تعتبر علاقة أريتريا مع الغرب بعامةٍ، وإسرائيل بخاصةٍ أمرًا جوهريًّا وأساسيًّا حتى الآن, ومن هنا ليس مستغربًا أن الغواصاتِ الإسرائيليةَ التي أعدَّتْهَا إسرائيل لتوجيه ضربة نووية ثانية للعرب، ترتكز في جزءٍ أساسي من إمداداتها على موانئ أريتريا، إن لم تكن أريتريا هي قاعدتها الوحيدة في المنطقة.

انحياز الغرب وإسرائيل لأثيوبيا

انحاز الغرب وإسرائيل بشكلٍ كبيرٍ لأثيوبيا في نِزَاعِها ضد أريتريا، منذ الحرب التي دارت بينهما عام 1998م, وهذا أضْفَى شيئًا من التوتُّرِ على علاقة أريتريا مع الغرب، والمفترض أن يسري هذا الأمر على إسرائيل أيضًا، لكنّ كل الدلائل تشير إلى أن العلاقاتِ بينهما ما زالت استراتيجيةً لحاجة كُلٍّ منهما للآخر, وإن كانت إسرائيل تميل أكثرَ لأثيوبيا، بسبب قيمتها من ناحية الجغرافيا السياسية والعسكرية, هذا إذا تعارضتْ علاقتها بإثيوبيا مع علاقتها بأريتريا.

وأريتريا دولةٌ فقيرةٌ جِدًّا، سواء من حيث مواردها الاقتصادية، أم من حيث اقتصادُهَا الكلي, كما أنها لا تتمتَّعُ بتاريخ خاص عريقٍ، لا في الماضي القريب، ولا البعيد, ورُغْمَ ذلك فلدى قادَتِها طُمُوح ضَخْمٌ في لَعِبِ دور كبير في شرق إفريقيا، وفي الشرق الأوسط على حَدٍّ سواء، يفوق كثيرًا من أدوار القوى الإقليمية الكبرى في المنطقة.

وقد استغل قادة أريتريا أهمية موقعها على البحر الأحمر بالنسبة للاستراتيجية الإسرائيلية؛ كي يقيموا علاقاتٍ قويَّةً مع إسرائيل، ويحصلوا منها على دعم اقتصادي وعسكريٍّ هام, كما استغلوا موقعهم الجغرافي كمَنْفَذٍ شِبْهِ وحيدٍ لأثيوبيا على البحر؛ كي يضغطوا عليها، ويحوزوا قُدْرَةَ توجيه السياسة الخارجية الأثيوبية كما يشاءون، لكن أثيوبيا لم تَرْضَخْ لهم، ودخلتْ معهم حربين ساخنتين عامي 1998 و2000 , والحرب الباردة مندلعةٌ بينهما منذئذ وحتى الآن، خاصةً عبر الساحة الصومالية؛ إذْ تدعم أثيوبيا الحكومة الانتقالية، بينما تدعم أريتريا معارضي الحكومة.

وفي نفس الوقت استخدمت أريتريا قُوَّةَ التحالف الأثيوبي مع إسرائيل لِتُسَوِّقَ نفسها لدى الدول العربية، خاصةً الغنية منها على أن أريتريا هي حليفٌ للعرب، لاسيما أن العديد من أعراق أريتريا يَرْجِع إلى العرب، أو على الأقل اختلطَ بالعرب، كما أن أغلب الأريترين هم من المسلمين (أكثر من 75%), وتحتاج أريتريا للدول العربية النفطية لانقاذ اقتصادها المتداعي, ورُغْمَ حُسْنِ علاقات عددٍ من الدول العربية بأريتريا، إلا أنها ليست بالقوة، ولا الفوائد التي كانت تأملها أريتريا.

ضغط أريتريا على مصر والسودان

ومن ناحيةٍ أخرى مارست أريتريا ضغْطًا عسكريًّا غير مباشر على كلٍّ من السودان ومصر, فبالنسبة لمصر دأبتْ على احتجازِ سفن الصيد المصرية لفترات طويلة، أو مَنْعِهَا من الصيد أمام سواحلها، رُغْمَ وجود فائضٍ لديها من الأسماك، وعدم وجود سُفُنِ صيد أريترية قادرةٍ على صيد هذا الفائض, وكان الغرض من هذا الضغط تحصيلَ ضريبةٍ باهظةٍ من الصيادين المصريين.

أما بالنسبة للسودان، فقد دعمتْ أريتريا سياسيًّا وعسكريًّا منظماتِ التمرُّدِ في جنوب السودان وشَرْقِهِ وغَرْبِهِ (دارفور)، وما زالت حتى الآن, وهدفها في ذلك المساهمةُ في المخطط الغربي والصهيوني لإضعاف السودان وتفتيته، والتقَرُّب بذلك لإسرائيل والغربِ بعامة.

إريتريا تضغط على اليمن

كما مارست أريتريا ضَغْطًا عسكريًّا على اليمن عبر استيلائها بالقوةِ على جزيرة أبو حنيش الاستراتيجية في البحر الأحمر، وادِّعَاءِ امتلاكها, وأرادتْ من ذلك تعزيزَ مكانتها الاستراتيجية في البحر الأحمر بهدف المساومة بهذه المكانة مع قوة كبرى إقليمية (كإسرائيل مثلًا) أو دولية (كفرنسا والولايات المتحدة مثلًا) كي تُقَدِّمَ هي التسهيلات الاستراتيجيةَ في البحر الأحمر لهذه القوة، في مُقَابِلِ تقديم هذه القوة الْمُقَابِلَ في شكلِ دَعْمٍ سياسِيٍّ واقتصادي لأريتريا.

إريتريا وإيران

و ربما يمكننا في هذا الإطار فَهْمُ ما يُقَالُ عن وجود تسهيلاتٍ عسكرية لإيران في موانئ أريتريا، سواءٌ صَحَّتْ هذه المعلومات أم لا.

ومن ذلك كُلِّهِ يمكننا أن نفهم كيف تلعب أريتريا مع الكبار في الشرق الأوسط ،وفي شرق إفريقيا، وفي القرن الإفريقي.

أسس استراتيجية في تجربة اريتريا

ورُغْمَ خلافنا مع عقيدة أريتريا وأهدافها السياسية، فإنه لا بُدَّ من التأمل في الكيفية التي تمكَّنَتْ بها أريتريا من اكتساب مكانةٍ ودورٍ إقليميٍّ، واللعب مع الكبار في الشرق الأوسط، والقرن الإفريقي، بل والتفوق عليهم في هذا اللعب في بعض الأوقات، وتتلخَّصُ هذه الكيفية في عدةِ أُسُسٍ، نوجزها على النحو التالي:

أولا- الإدراك الكامل لمكامن القوة الذاتية أو المميزات الذاتية التي يملكها الكيان السياسي، واستخدامها لتحقيق أهدافه العليا, وهذا ما فعلته أريتريا، فهي- رُغْمَ فَقْرِهَا في الموارد الاقتصادية والبشرية- قد أدركت أنّ موقعها الجغرافي له مميزاتٌ من الممكن استغلالها في علاقاتها مع العديد من القوى الكبرى، سواءٌ سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو استراتيجيًّا, وللأسف فالعديد من القوى العربية والإسلامية لها العديدُ من المميزات، ولكنها لا تُدْرِكُها أو لا تستخدمها.

ثانيا- التصميم على تحقيق الأهداف، وسلوكُ أسلوب السياسة الكفاحِيَّةِ لتحقيق هذا الغرض، وتَحَمُّل مخاطِرِ هذا السلوك، والتعامُل مع هذه المخاطِرِ بثبات.

ثالثا- ابتكارُ الوسائل والأساليب المناسبة لتحقيقِ ذلك كُلِّه، مهما كانت هذه الأساليب جديدةً وغيرَ معتادةٍ، فأريتريا- رُغْمَ صِغَرِ جيشِهَا وضَعْفِ تسليحِه، وضَعْفِهَا الاقتصادي- تمكَنَتْ من التَصَدِّي عسكريًّا بشكل أو بآخر للعديد من القوى الأكبر منها في المنطقة، عبر حروبٍ مباشرة حِينًا، وعبر حروبٍ بالوَكَالَةِ في أحيان أخرى.

وهكذا تَمَكَّنَتْ أريتريا من اللَّعِبِ مع الكبار.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

نشر في موقع الاسلام اليوم و كذلك في مدونتي القديمة وعدد من مواقع الانترنت و أثار جدلا واسعا و تعليقات كثيرة وقتها.

الأزمة المالية العالمية

المسلمون و الأزمة المالية العالمية

عصفت الأزمة المالية العالمية بالنظام المالي الدولي الراهن و لن يخرج العالم من الأزمة الا و قد تغيرت الخريطة المالية الدولية بما يسستتبعه ذلك من تغيير خريطة النظام السياسي الدولي بدرجة ما.

النظام الدولي الجديد

و تشير ملامح الأزمة المالية الحالية و متغيرات الواقع السياسي الدولي إلى أن النظام الدولي الجديد سيكون متعدد الأقطاب حيث ستتوزع القوة الدولية بين عدة أقطاب بعدما كانت مركزة في قطب واحد هو الولايات المتحدة الأمريكية, صحيح أن التغيرات الاقتصادية و التطورات في عالم الاتصال لن تجعل الصراع او التنافس الدولي بالشكل الذي ألفه العالم على مر تاريخه, بسبب تداخل و تشابك المصالح الاقتصادية و المالية و بسبب ثورة وسائل الاتصال التي يصعب على أي أحد أن يوقفها, و لكن لا شك أن عناصر القوة و التأثير لن تظل رهنا لارادة الولايات المتحدة الأمريكية وحدها بل ستتوزع فيه بين عواصم دول عدة كروسيا و الصين و الهند و اليابان و الاتحاد الأوروبي بجانب الولايات المتحدة, و من الطبيعي أن تزداد استقلالية حكومات العالم الاسلامي في صنع القرار خاصة فيما يخص سياستها مع شعوبها بعدما يترسخ النظام الدولي الجديد, و تعطي هذه الاستقلاالية لهذه الحكومات قدرات أكبر في البطش بمعارضيها.

و ان كان هناك عامل أخر مضاد و لكنه أقل تأثيرا و هو انتعاش الاتجاهات الدولية المدافعة عن الحريات و حقوق الانسان.و هذه الاستقلالية سوف تؤدي إلى مزيد من الضغط على الحركات الاسلامية عبر التدابير الحكومية القمعية و السياسية على حد سواء, لكن ستظل هذه الحكومات معرضة لضغوط المنظمات غير الحكومية المدافعة عن حقوق الانسان مما يخفف قليلا من قمعها و لكنها قد تقل حساسيتها لهذه الضغوط بسبب أنه لا توجد حكومات من الأقطاب الدولية ممكن أن تدعم هذه المنظمات سوى الاتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة, بينما يمكن لحكومات الدول الاسلامية أن تلجأ لأقطاب دولية أخرى لا يهمها منظمات حقوق الانسان من قريب و لا من بعيد مثل الصين و روسيا و الهند أو حتى ايران أو اسرائيل (فكلتاهما قوة اقليمية عظمى) كى تستند إليها في مواجهة الغرب المساند (و لو شكليا) لقضايا الديمقراطية و حقوق الانسان.

قدرة الحكومات على القمع و الاستبداد

و رغم ذلك كله فلابد من رصد العديد من المتغيرات السياسية و الاقتصادية و تأثيرها على النحو التالي:

كما أن التعددية القطبية في النظام الدولي ستتيح لحكومات العالم الاسلامي منفذا تقاوم به الضغوط الغربية بشأن تقليل القمع و الاستبداد تجاه شعوبها, فإن الأزمة المالية و ما يتبعها من خلل اقتصادي مؤثر سيضعف قدرة هذه الحكومات على القمع و الاستبداد كل بقدر درجة أزمته لأنه من المتفق عليه أن ضعف حكومة ما اقتصاديا يتبعه ضعفها سياسيا, كما أنه كلما قلت انجازات حكومة ما الاقتصادية و السياسية كلما تآكلت شرعيتها السياسية أمام شعبها, و هذا الضعف طبعا إذا أصاب المستبدين فإنه يخدم قضية الحريات و تخفيف قبضة الاستبداد و تقليل القمع.

سيخف الضغط الدولي بدرجة ما عن الحركات الاسلامية بصفة عامة و السلمية منها بصفة خاصة كجزء من نتائج الهزائم الأمريكية و الغربية و هزائم حلفائهم في أفغانستان و العراق و الصومال, و كذلك بسبب نتائج الأزمة المالية العالمية و ما يتبعها من مشاكل اقتصادية, و هذا سيصب في مصلحة حركة هذه التيارات سياسيا كل في محيطه, كما أن هزائم الغرب و حلفائهم ستستخدم دعويا اسلاميا لضم مزيد من الأنصار للحركات الاسلامية بكافة اتجاهاتها.

بعد الهزائم و الأزمات التي مني بها الغرب و حلفاؤه ستتعلم “اسرائيل” أنها يجب أن تتعامل مع الحركات الاسلامية و بالتالي ستفضل التعامل مع التيارات ذات الطبيعة السلمية, كما أنها ستتعامل مع التيارات المسلحة التي لن تجد بدا من التعامل معها كـ”حماس”, كما أنها لن تمانع من التفاهم و التعاون مع جهات لديها نمط من البرجماتية يدفعها للتفاهم مع اسرائيل و أبرز مثال على ذلك هو ايران و حزب الله و القوى الشيعية العراقية و نحوها, و لن تتفاهم اسرائيل (و لا الغرب بطبيعة الحال) مع القاعدة أو الجهاد المصري أو السلفية الجهادية في أي مكان لأنها غير مضطرة لذلك لا الآن و لا في المدى المنظور, لكنها (هي و الغرب) قد تضطر للتفاهم مع طالبان في أفغانستان و شباب المجاهدين في الصومال إذا انتصرتا و سيطرتا على البلد, لاسيما و أن طالبان و شباب المجاهدين أكثر عقلانية و رغبة في التفاهم من القاعدة و من السلفية الجهادية.

الحركات الجهادية السنية

ستستمر ايران في غض الطرف عن الحركات الجهادية السنية ما دامت تستنزف الغرب و حلفائهم في المنطقة بما لا يهدد مصالح ايران و لا أتباعها و لا مناطق نفوذها, كما ستستمر ايران بنجاح في السعي لتقسيم المصالح و مناطق النفوذ في المنطقة بينها و بين الولايات المتحدة و الغرب , و عندما تستقر مناطق النفوذ الايرانية و تتراضى عليها مع الغرب و يتم ترسيم حدود نفوذ كل منهم بدقة فإن ايران ستحاول منع الحركات الاسلامية السنية من الحركة في مناطق نفوذها و حينئذ إما تتحول حراب الحركة الاسلامية السنية إلى ضرب ايران بدل الغرب داخل هذه المناطق أو تنسحب الحركة الاسلامية السنية من هذه المناطق تاركة لمتشددي الشيعة حرية تحويل جماهير السنة في هذه المناطق إلى التشيع كما حدث في العصر الصفوي, كما ستتعاون ايران (في حالة ترسيم خطوط مناطق النفوذ هكذا) مع الغرب لضرب الحركة الاسلامية السنية المسلحة.

هل يتغير جوهر الرأسمالية؟

سيضع العالم بقيادة الغرب تدابيرا مالية جديدة للتقليل من مخاطر تكرار الأزمات المالية المماثلة, و ستمثل هذه التعديلات تغييرا هيكليا في جوهر الرأسمالية, و رغم أنهم سيضعونها تحت مسمى “تطوير النظام الرأسمالي المعاصر” إلا أن بعضا من هذه التدابير ستقترب كثيرا من تعاليم و أحكام اقتصادية اسلامية موجودة في نص السنة النبوية المطهرة, و رغم أنهم وصلوا لها بالتجربة و الخطأ إلا أنه سيمكن للدعاة الاسلاميين الاستدلال بذلك على صلاحية أحكام الاسلام لكل زمان و مكان, و على كون الاسلام قد جاء بما فيه تحقيق مصالح البشر الدنيوية بجانب الأخروية على حد سواء, و انتهاز هذه الفرصة سيمكن دعاة الحركة الاسلامية من التوغل في فئات مجتمعية و مناطق جغرافية لم يكونوا متمكنين من الانتشار فيها من قبل, مما سيعطي الحركة الاسلامية مزيدا من القوة الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية.

سيؤدي تعدد أقطاب النظام الدولي الجديد إلى اتاحة الخيارات أمام الحركة الاسلامية سواء على المستوى الدعوي (الفضائيات و النت و نحوهما) أو على مستوى الحركة الإقتصادية و السياسية, مما يقلل (و لا يزيل) مخاطر الحصار الدولي على الأقل تجاه الحركات الاسلامية السلمية.

ستتضرر شعوب العالم الاسلامي (و أغلبها من الفقراء) من الأزمة المالية الدولية في بعض الميادين, و لكنها قد تكون أقل تضررا من الغرب, و كما أنها قد تعودت على شظف العيش, مما يعني أن انتفاع الشعوب الاسلامية من فوائد الأزمة المالية العالمية أكبر من ضررها و معظم الانتفاع سيكون سياسيا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كتبت هذا الموضوع لمجلة البيان الشهرية الصادرة في لندن و نشر بعدد جمادى الآخرة 1430هـ ، كما نشرته في مدونتى القديمة.