أردوغان في شبابه بجانب أستاذه نجم الدين أربكان

تجربة ” أردوغان “.. إسلامية أم علمانية ؟ و ما علاقتها بـ”الإخوان”؟ (2)

قبل أن نتابع معا ما فعله أردوغان عبر تجربته في تركيا فإننا محتاجون لتذكر السياسة الخارجية لنجم الدين أربكان كزعيم سياسي إسلامي، و خاصة أثناء توليه الحكم عندما كان رئيسا للوزراء في منتصف التسعينات، قبل إطاحة الجيش به في انقلاب 1997 ..

كان نجم الدين أربكان غير مهتم بل ربما رافض لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، و كان يسعى ليبتعد بتركيا عن الولايات المتحدة و إسرائيل، كما سعى لتوثيق علاقة تركيا بالعالم الإسلامي، و أقام منظمة “الدول الإسلامية السبع الكبرى”، لتضم أكبر سبع دول إسلامية من حيث عدد السكان، بهدف تكوين تكتل اقتصادي إسلامي قوي يواجه تكتل الدول السبع الكبرى الذي تقوده الولايات المتحدة، و يضم أكبر سبع اقتصاديات في العالم و كلها أوروبية، بجانب الولايات المتحدة و اليابان و كندا..

(وطبعا منظمة أربكان هذه تدهورت بعد تركه الحكم فسموها أولا مجموعة الدول السبع فحذفوا لفظ “إسلامية” و لفظ “كبرى” لئلا يغضبوا الغرب، و بعدها لم يعودوا يجتمعون أو يتعاونون لأن حكام هذه الدول هم بالطبع أذناب للغرب).

 عندما أسس أردوغان حزبه أعلن أنه حزب تركي، و ابتعد به قليلا عن القوالب التي اتسمت بها كل أحزاب أربكان التي كان مصيرها جميعا الحل، و قال إن الالتزام الإسلامي لحزبه لا يعني مخالفة التقاليد العلمانية للدولة التركية، كما أعلن أن تركيا دولة أوروبية و مستقبلها أوروبي، و يجب أن تنضم للاتحاد الأوروبي كدولة كاملة العضوية، و أكد أن هذا الهدف سيكون أولويته الخارجية الأولى و الأهم لو فاز حزبه في الانتخابات، بجانب هدفه الداخلي و هو النهوض بالاقتصاد التركي الذي كان وصل عشية انتخابات نوفمبر 2002 إلى حالة تردي خطيرة، إذ بلغت نسبة التضخم 65% كما بلغ الدين الخارجي 23.5 مليار دولار.

عندما فاز حزب أردوغان بالانتخابات (38%) شكل الحكومة برئاسة عبد الله جول، لحين إصدار البرلمان قانون يتيح إسقاط عقوبة أردوغان، ليتمكن من خوض الانتخابات التكميلية ليتولى رئاسة الوزراء و قد كان، و تولى رئاسة الوزراء ، بينما تولى جول فيما بعد رئاسة الجمهورية.

أردوغان والسعي للانضمام للاتحاد الأوروبي

بجانب اهتمام أردوغان بالاقتصاد (و سنرى بعد سطور نتيجة هذا الاهتمام) فإنه كثف مباحثاته مع القادة الأوروبيين كي تنضم تركيا للاتحاد الأوروبي ، و طبعا أوروبا لم و لن تكون في يوم من الأيام راغبة في ضم 100 مليون مسلم تركي إلى الاتحاد الأوروبي ، و في الوقت الذي تسارعت وتيرة ضم دول أوروبا الشرقية للاتحاد فإن محاولات أردوغان للانضمام باءت بالفشل فشن عليهم حربا دبلوماسية بأنكم بهذا الرفض تعلنون أن الاتحاد الأوروبي هو نادي مسيحي ..الخ كما أعطى أردوغان إشارات خلف الكواليس إلى الولايات المتحدة حليفة تركيا الكبرى بأن تركيا لو انضمت إلى الاتحاد الأوروبي فإنها ستكون رجل أمريكا في الاتحاد …صحيح أن بريطانيا هي ذيل أمريكا في قلب الاتحاد.. لكن أمريكا التي تخشى أن يتطور الاتحاد و يصبح منافسا دوليا لها تحتاج مزيدا من الأوراق لتقييد هذا الاتحاد و وضعه تحت سيطرتها.. و من هنا جاءت ضغوطها المعلنة و السرية على الاتحاد لقبول تركيا ..

اضطر الاتحاد للتذرع بأن تركيا لا يمكن ضمها لأنها لا تتوفر فيها شروط الديمقراطية و احترام حقوق الإنسان بحسب المعايير الأوروبية و بدأ الاتحاد منذئذ تكتيكا جديدا للرفض و هو : يجب على تركيا أن تتحول للنمط الأوروبي في الديمقراطية و حقوق الإنسان .. و هذا ما كان يريده أردوغان..

التعديلات الدستورية لتلبية شروط الاتحاد الأوربي

أعلن أردوغان أنه سيفعل أي شئ لضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، و توجه لإجراء التعديلات الدستورية التي تحول تركيا للنمط الأوروبي في الديمقراطية و حقوق الإنسان و كان أول و أصعب شئ في ذلك هو تقليص الدور السياسي للجيش في الدستور.. عبر عدة تعديلات دستورية متتالية بحجة تحويل تركيا إلى النمط الديمقراطي الأوروبي كي يقبل الاتحاد ضمها له ، و بهذه التعديلات قلص دور مجلس الأمن القومي التركي (الذي كان يهيمن عليه العسكريون) و يسيطر على كل شئ في السياسة و الإدارة التركية حتى صار دوره مجرد مستشار للحكومة يشير عليها و يأتمر بأمرها كما جعل أمين المجلس شخصا مدنيا لأول مرة و جعل عدد العسكريين فيه أقل من نصف المدنيين ، و حرم على العسكريين التحدث للإعلام إلا في القضايا العسكرية و الأمنية على أن يكون ذلك تحت إشراف القيادة المدنية و منع محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية و بسط الرقابة المحاسبية على العسكريين بحيث يمكن محاسبتهم و محاكمتهم على أي سلوك من سلوكيات الفساد المالي بعد أن كانوا لا يخضعون لأي رقابة مدنية، و في نفس الوقت أجرى عدة محاكمات لعدد من قيادات الجيش و منهم رئيس أركان سابق  و نائب قائد الجيش و قادة جيوش و فرق و العديد من الجنرالات بجانب قادة سياسيين حزبيين و إعلاميين بتهمة محاولة قلب نظام الحكم و تم ذلك في أوقات مختلفة منذ 2003 و حتى 2013 و كان ذلك في عدة قضايا أشهرها القضية المعروفة بـ “أرغينيكون” و كذلك قضية عرفت بـ”المطرقة” و غيرهما… و عند بداية هذه المسيرة تحدثت تقارير عدة أن قائد الجيش يفكر في القيام بانقلاب لمنع التعديلات الدستورية إلا انه سافر لواشنطن لأخذ الإذن بالانقلاب و ردت عليه واشنطن بأنه يجب عليه دعم أردوغان كي ينجح في ضم تركيا للاتحاد الأوروبي … و طبعا تمت التعديلات و تعززت سيطرة أردوغان و حزبه على الحكم في مواجهة الجيش الذي قلمت أظافره بينما لم تنضم تركيا للاتحاد الأوروبي لأن أوروبا لا تريد تركيا.  

نهضة تركيا اقتصاديا على يد أردوغان

أما في المجال الاقتصادي فقد رفع أردوغان الدخل الوطني لتركيا من 230 مليار دولار عشية حكمه إلى 820 هذا العام بينما رفع إجمالي الصادرات من 36 مليار إلى 153، وخفض فائدة الدين من 63 في المئة إلى 9.3 فقط ، كما سدد الدين الخارجي بالكامل و الذي كان 23.5 مليار دولار عشية توليه الحكم كما ارتفع احتياطي البنك المركزي التركي من العملة الصعبة من 27.5 مليار دولار في 2002  الى 136 مليار دولار الآن، و إرتفع متوسط دخل الفرد التركي من 3.492 دولار إلى أكثر من 10.744 دولار سنويا، و تم إنشاء 17 ألف كيلومتر من الطرق، كما ارتفع عدد المطارات في عموم البلاد خلال هذه الفترة من 26 إلى 52 مطارا، و بذلك كله و غيره انتقل الاقتصاد التركي من المرتبة 26 إلى المرتبة 16 عالميا، كما احتلت تركيا المرتبة السادسة على المستوى الأوروبي في المجال الاقتصادي.

إنجازات أردوغان السياسية

و بجانب الانجازات الاقتصادية لأردوغان فقد قام بعدة انجازات سياسية لعل ابرزها حله لجزء كبير من المشكلة الكردية التي تؤرق تركيا منذ عشرات السنين فضلا عن انجازاته السياسية التي حققها في مجال العلاقات الخارجية خاصة فيما يتعلق بالدول الإسلامية و العربية.. و لكن مما يهمنا جدا في تجربته هو ممارسته السياسية باحترافية عالية.. و قصدنا بمفهوم الاحترافية في السياسة كتبنا عنه سابقا.. لكن لدينا مثالين عن تطبيق أردوغان لهذا المفهوم :

المثال الأول – في الغزو الأمريكي على العراق عام 2004 حيث طلبت الولايات المتحدة من أردوغان أن يسمح للقوات الأمريكية لاستخدام قاعدة أمريكية ضخمة موجودة في تركيا (تابعة للناتو) لتكون منطلقا لغزو شمال العراق و ذكرت أمريكا أردوغان بأن ذلك من مقتضيات التحالف التركي الأمريكي و من مقتضيات عضوية و شراكة تركيا في حلف الناتو، لكن أردوغان رد قائلا : نحن دولة ديمقراطية و لدينا برلمان و لا يمكنني اتخاذ هذا القرار قبل عرضه على البرلمان لأخذ موافقته ، و عرض الأمر على البرلمان التركي الذي يتمتع فيه حزب العدالة و التنمية بالأكثرية ، و لكن البرلمان التركي اتخذ قرارا برفض استخدام الأراضي التركية لغزو العراق.. و قد كان .. و عندما عبرت أمريكا عن غضبها رد أردوغان: ألم تطالبونا بالديمقراطية ؟ هذه هي الديمقراطية .. ممثلو الشعب التركي رفضوا طلبكم.

و كانت دعوات بوش لتطبيق الديمقراطية في العالم الاسلامي و العربي و لو بالقوة على أشدها في ذلك الوقت .. و انبرى صحفيون و كتاب أمريكيون و أوروبيون وقتها للدفاع عن موقف أردوغان مستنكرين أن يغضب الغرب من نتيجة الديمقراطية اذا خالفت هوى الغرب..

و بذا لم ينطلق غزو العراق من أراضي تركيا بينما انطلق من أراضي و أجواء عربية و إيرانية و دول إسلامية في أسيا الوسطى.     

المثال الثاني – ابان حرب غزة عام 2008 كان أردوغان يشارك في مؤتمر دافوس في مناظرة مع شيمون بيريز الزعيم الإسرائيلي و وجه أردوغان نقدا لاذعا لإسرائيل و بيريز ثم افتعل مشكلة معه على الهواء معتبرا أنه يهين تركيا (باعتبار أردوغان يمثل تركيا) و متهما مدير المناظرة انه منحاز لبيريز و قام منسحبا من المناظرة قائلا لن أحضر دافوس مرة أخرى .. و روجت وسائل الإعلام الموالية لأردوغان أنه انما فعل ذلك حفاظا على كرامة تركيا و الشعب التركي و رجع أردوغان ليجد آلاف الأتراك ينتظرونه في المطار يحيونه على موقفه و خطب فيهم قائلا: أنا لن أسمح أبدا أن تهان تركيا أو الشعب التركي و لذلك انسحبت .. فهتفت الجماهير له ..

و هنا نجده أذل إسرائيل و بيريز على مرأى من العالم كله و انتصر لغزة و الفلسطينيين و في نفس الوقت صور الأمر للشعب التركي على أنه انتصار للقومية التركية و كرامتها.

هذا التحليل لا يهدف لسرد تفاصيل تجربة أردوغان السياسية و الاقتصادية و إلا لاحتجنا لكتاب و ليس مقالا و إنما يهدف هذا التحليل لفهم الخطوط العامة المهمة لهذه التجربة فالتحليل يهتم بما وراء ما حدث لا بتفاصيل ما حدث و من شاء التفاصيل فيمكنه البحث عنها على الويب و سيجدها.

و لنعد معا ما سبق ببطء و نفهم معا أبعاده… 

لقد تأمل أردوغان واقعه السياسي فوجد أن خصمه هم العلمانيون و وجد أن قوتهم في أمور هي

1-الشريحة الشعبية الكبيرة: التي تؤيدهم لأنها تلوثت فكريا أو سلوكبا ( أو كلاهما) بالعلمانية أو ارتبطت مصالحها بها و بمؤسساتها و هؤلاء تترجم قدراتهم إلى أصوات في الانتخابات .. و هؤلاء واجههم بالعمل الجماهيري الناجح و تحقيق الانجازات الاقتصادية لكسب أعداد أكبر من الشعب التركي لصفه و صف حزبه.

2-مؤسسات القضاء و الإعلام و أساتذة الجامعات: و هؤلاء وجد أنهم لا يمكنهم فعل شئ إلا في إطار الظهير الشعبي المذكور في (1) كما أدراك أن رأس حربتهم و أداتهم في التنفيذ هي الجيش .. لكنه مع ذلك عالج المؤسسة القضائية بالعديد من الإصلاحات الدستورية كي تستقيم بدرجة ما و إلا لما استطاع القبض على العديد من قادة الجيش و محاكمتهم و إحباط العديد من مؤامرات الانقلاب العسكري

3-مؤسسة الجيش: و هذه لم يكن يمكنه مواجهتها بالتعديلات الدستورية فقط و إلا لانقلبت عليه و منعته من إتمام التعديلات و لألغت البرلمان و الحزب نفسه بمساندة القوى المذكورة في (1-2) لكنه ألزمها تقبل التغيير عبر عمل سياسي مهم و هو حيلة الانضمام للاتحاد الأوروبي و وعد أمريكا بأن يكون حصان طروادة بالنسبة لأمريكا في الاتحاد و من ثم ضغطت أمريكا على الجيش ليتقبل التغيرات الديمقراطية و استمرار الحياة الديمقراطية في تركيا.

متغيرات دولية واقليمية ساهمت في نجاح أردوغان

هناك عوامل مساعدة كثيرة ساعدت أردوغان منها ارتفاع الأصوات التي دعت الغرب بالسماح بإسلام معتدل ليحكم، كي يكون بديلا لإسلام طالبان و القاعدة عشية هجمات 11 سبتمبر، و كذلك ذيوع القول بخطأ اعتماد الأمريكان على ديكتاتوريات الشرق الوسط على حساب الديمقراطية مما أفرز الإرهاب و التشدد و نحو ذلك من دعوات مراكز الأبحاث الغربية .. و في الواقع فإن أردوغان استفاد من ذلك و كله و استغله حتى إذا مالت التوجهات الغربية لشئ من التغير بفعل انقلاب السيسي و توجه التحالف العربي المساند للسيسي (الذي اتخذ من السيسي رأس حربة له لضرب عصفوري الربيع العربي و الحركة الإسلامية في المنطقة)، فإن أردوغان كان قد وصل لأرض صلبة يرتكز عليها ليصير أقل تأثرا بالتقلبات الإقليمية و الدولية .. حيث استقرت الأوضاع الدستورية في حالة أقل خطرا على وجود حزبه، كما أن انجازاته الاقتصادية الضخمة لا تسانده اقتصاديا فقط و لكنها حققت له تمكنا سياسيا فبينما فاز الحزب عام 2002 بـ 38% فإن الحزب منذ شهرين فاز في المحليات بـ42% ثم فاز أردوغان منذ أسبوع بـ56% من أول جولة .. و هكذا تشير الأرقام لتصاعد في شعبية الحزب بشكل منتظم..

هذا ما فعله أردوغان في تجربته و انا أرى أن ما فعله هذا حتى الآن تنطبق عليه مقولة كيسنجر : “ما هو الشخص الثوري؟
 إذا كان الجواب عن هذا السؤال ليس غامضا لما كان الثوريون الناجحون قلة ، لأن الثوريين دائما ما يبدأون من موقف أدنى ، و ينتصرون لأن النظام القائم لا يكون في مقدوره أن يدرك مدى وهنه ، و يصبح هذا بصفة خاصة عندما يظهر التحدي الثوري ليس بمسيرة على الباستيل، بل مرتديا زى المحافظين ، إن قلة من المؤسسات هي التي تستطيع أن تدافع عن نفسها ضد أولئك الذين يدعون أنهم سيحافظون على تلك المؤسسات” (الدبلوماسية جـ1 ص 133 ط روز اليوسف ، القاهرة 2001م).

و إذا كان هذا هو ما فعله أردوغان سياسيا فما هو حكمه الشرعي في فقه السياسة الشرعية في الإسلام؟؟ و إجابة هذا السؤال هي موضوع الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

رجب طيب أردوغان

تجربة ” أردوغان “.. إسلامية أم علمانية ؟ و ما علاقتها بـ”الإخوان”؟ (1)

ما هو التقييم الصحيح لتجربة أردوغان في تركيا ؟

لا شك أن التقييم ليكون صحيحا يجب أن يرتكز على عدة محاور هي ..

الأول –هو واقع تركيا قبل تولي أردوغان و حزبه الحكم.

الثاني –فهم ما حدث فعلا في الواقع العملي لتجربة أردوغان في الحكم.

الثالث –تقييم هذا الواقع وفقا لفقه و قواعد السياسة الشرعية.

هذا إذا كنا نريد أن نقول عن تقيمنا أنه وجهة نظر إسلامية.. إذ لا يعقل أن نقول أننا نتكلم وفقا للإسلام و نحن نتكلم كلاما لم يراع فقه السياسة الشرعية و قواعدها أو دون أن ندرك الواقع الحقيقي للتجربة.

و كثير من الأخوة كلما ذكروا تجربة رجب طيب أردوغان في تركيا يستدعون ما يعتبرونه علاقة هذه التجربة أو تبعيتها لجماعة الإخوان المسلمون و لذلك فإننا مضطرون لتناول هذه النقطة بالتحليل في محور رابع.

و سوف ننشر هذه المحاور الأربعة عبر عدة مقالات (ان شاء الله) ليسهل قراءتها و لئلا نطيل على القارئ فيشعر بالملل.

عندما ألغى أتاتورك الخلافة الإسلامية أقام دولة علمانية شديدة العداء للإسلام و منع كافة المظاهر الإسلامية و حول مسجد أيا صوفيا الى متحف و فرض العلمنة و الإنسلاخ من الاسلام بالحديد و النار و في سبيل ذلك حاصر و ضيق على أي مظاهر أو شعائر اسلامية و منع أي أنشطة اسلامية حتى لو كانت لا تمت للعمل السياسي بأي صلة .. و دور و أفاعيل كمال أتاتورك في إزالة ليس الجانب السياسي للاسلام في تركيا فقط بل و كل ما يمت للاسلام بصلة أمر مشهور و يطول وصفه و يمكن لمن شاء التوسع في قراءتها أن يرجع الى عدد من المراجع الموثوقة (مثل: محمد قطب ، واقعنا المعاصر. محمد محمد حسين ، الاتجاهات الوطنية في الأدب العربي المعاصر. عبد الله عبد الرحمن “مترجم” ، الرجل الصنم .. و غيرها) لكننا هنا نود أن ننظر الى ما آلت اليه الأوضاع في تركيا عشية تولي أردوغان للحكم..

دولة أتاتورك

 تحولت دولة الخلافة الى دولة علمانية متعصبة تحظر أي نشاط إسلامي سياسي، و تضيق و تحاصر أي نشاط إسلامي أخلاقي حتى لو كان بعيدا عن السياسة، و أصبح منتشرا فيها الانحلال الفكري و الأخلاقي و باتت تعادي المسلمين و قضاياهم، و توالي اليهود و الأمريكيين و الأوروبيين على الساحة الدولية و الاقليمة..

و أمسى فيها ممنوع رفع الآذان بغير اللغة التركية، و أحيانا كان يمنع إعلان الآذان أصلا ،و منعت الدولة اللحية و الحجاب في مؤسسات الدولة، بما في ذلك الجامعات فلا يدخلها ملتحي و لا محجبة، حتى لو كان داخلا لمرة واحدة لقضاء شئ عابر، كما يجري منع أي شخص لديه ميول إسلامية من دخول أجهزة الدولة المؤثرة كالجيش و الأجهزة الأمنية و القضائية و نحوها، و كل من يظهر عليه أي ميول إسلامي في هذه الأجهزة يتم فصله منها ، و كان كل ذلك مقنن بالقانون و الدستور و لا يمكن لأحد تغييره، و في نفس الوقت فإن أشكال الفسق و الفجور و الانحلال و الانحرافات الخلقية و الفكرية مباحة بالقانون و الدستور، وفوق ذلك كله فإن الدستور يوجب وضع مؤسسة الجيش فوق كل مؤسسات الدولة، بما في ذلك فوق رئيس الجمهورية، و رئيس الوزراء المنتخب، بدعوى حماية تراث أتاتورك و تقاليد و أسس الدولة العلمانية، فيمكن لقائد الجيش أن يوجه انذارا علنيا الى رئيس الجمهورية، أو إلى رئيس الوزراء المنتخب في أي وقت لدفعه للتراجع عن قرار ما أو توجه ما، و استعمل العلمانيون أيضا مؤسسة القضاء لضرب أي أحزاب إسلامية عبر أحكام قضائية تصدر بحلها، كلما قامت و حاولت العمل في ظل النظام الحزبي الذي يدعي الليبرالية.

إذن فنحن أمام وضع علماني متطرف جدا في معاداته للإسلام و متحالف مع الولايات المتحدة و إسرائيل و عضو بحلف الناتو (لاحظ كانت سماء تركيا هي ساحة تدريب دائمة للقوات الجوية الإسرائيلية بسبب ضيق مساحة الكيان الصهيويني و حاجتها لمساحة اوسع للتدريب)، و في النظام التركي يسهر على حفظ استمرار الحكم العلماني كل من الجيش و القضاء و أغلب وسائل الإعلام ، و لم يكن هذا الوضع يتم الحفاظ عليه ضد رغبة ذوي التوجه الإسلامي فقط، بل كان يتم الحفاظ عليه ضد ارادة الشعب في الكثير من المواقف التي لا يقبلها عامة الشعب لمصادمتها لبعض توجهاته الإسلامية، او لمصادمتها للحرية الحقيقية ، كان الوضع مفروضا بالحديد و النار ، فانقلب الجيش على رئيس علماني ليبرالي هو عدنان مندريس عام 1960 بسبب أنه خاض حملته الانتخابية على أساس وعود بإلغاء الإجراءات العلمانية الصارمة بالبلاد، و كان من بين هذه الاجراءات التى تعهد بالغائها : الأذان بالتركية و منع قراءة القرآن وإغلاق المدارس الدينية، وحينما فاز قام مندريس بإلغاء هذه الإجراءات حيث أعاد الآذان إلى العربية، وأدخل الدروس الدينية إلى المدارس العامة، وفتح أول معهد ديني عال إلى جانب افتتاحه مراكز تعليم القرآن الكريم، و لكن الجيش اطاح به و أعدمه هو و اثنين من وزراءه و سجن آخرين.

 نجم الدين أربكان وقوة الإسلاميين في تركيا

و في عام 1980 استعرض نجم الدين أربكان قوة الاسلاميين بحشد مظاهرة مليونية في قلب استانبول ضد اسرائيل، و كان قبلها قد حصل على نسبة لا بأس بها من مقاعد البرلمان التركي، مما أرعب عسكر تركيا العلمانيين فقاموا بانقلاب بقيادة الجنرال كنعان إيفرين، و حلوا حزب أربكان و اعتقلوا العديد من الزعماء السياسيين، وحلوا البرلمان والأحزاب السياسية والنقابات العمالية، وفرضوا دستورا منح قادة الجيش سلطات غير محدودة.

و بعد ذلك شكل أربكان حزبه باسم آخر ليتحايل على قرار حل حزبه الأول، و حصد نسبة كبيرة من مقاعد البرلمان أهلته لتولي رئاسة الحكومة، لكن الجيش التركي تدخل مرة أخرى عام 1997 ليطيح بحكومة نجم الدين أربكان و يحل حزبه “حزب الفضيلة”..

و من هنا بدأ رجب طيب أردوغان و عبد الله جول (و هما من أبرز القادة الصاعدين وقتها الذين تربوا في أحزاب أربكان منذ 1972) يفكران تفكيرا آخر لمواجهة الوضع، فشكلا حزب العدالة و التنمية عام 2001 ، و خاضا به أول انتخابات قابلتهم بعد تشكله و هي انتخابات نوفمبر 2002، حيث اكتسح الحزب الانتخابات بنسبة أهلته لتولي الحكم و هنا بدأ العمل الضخم الذي قام به أردوغان و حزبه…

و هو ما سنتناوله في الحلقة التالية ان شاء الله.