حلب تحت القصف

بعد حرق حلب.. إلى أى مدى يمكن أن يعتمد المسلمون على النظام الدولى؟؟

يثير حرق حلب وقبلها إدلب وكافة سوريا وقبلهم فلسطين وأفغناستان والعراق، سؤالا مهما وهو إلى أى مدى يمكن أن يعتمد المسلمون على النظام الدولى؟؟ إجابة هذا السؤال مهمة لأنها سيترتب عليها الجزء الأكبر لطبيعة الاستراتيجية الاسلامية لاستعادة عزة وكرامة واستقلال العرب والأمة الاسلامية (لأنه لا عز للعرب بدون الإسلام).

حقيقة النظام الدولي وتطوراته

النظام الدولى ما هو إلا النظام الأوروبى للتحكم والهيمنة على العالم وهذا النظام ترجع نشأته الحالية إلى صلح وستفاليا 1648م وما تلاه من معاهدات بالسنوات التالية لأنه هو الذى أرسى دعائم نظام “ما” ينظم طبيعة وآليات العلاقة بين الدول الأوروبية بما فيها بابا الكنيسة الكاثولوكية (وما يتبعه من أملاك) وهذا النظام الأوروبى (بما حمله من تعاون وصراع وفق آليات ارتضوها) هو الذى أدار تاليا عملية تصفية الوجود السياسى الاسلامى كقوة دولية عظمى ممثلا فى الدولة العثمانية، واحتل كل العالم الاسلامى بدوله وممالكه وإماراته المتفرقة بأشكال مختلفة، هذا النظام شهد اختلالات متعددة بسبب احتدام التنافس بينهم ليخرج عن المستوى المسموح به بينهم فى ثلاثة حروب هى العالمية الأولى والثانية ثم الحرب الباردة، لكنه ظل إزاء المسلمين موحد الأهداف.

وهذا النظام الدولى تغيرت رؤوسه على مر التاريخ من دول أوروبية لأخرى إلى أن استقرت أخيرا منذ 1990 فى الولايات المتحدة الأمريكية (وهى وإن كانت خارج اوروبا إلا أنها ابنة أوروبا ثقافة وحضارة ودينا وشعبا) وحتى الآن.

البعد الشعبي في النظام الدولي

هذا النظام هو النظام الرسمى النظامى الذى يملك صنع الحدث فى العالم، ولكن لتكتمل الصورة لابد أن نعى أن هناك نظاما شعبيا يظهر وكأنه موازى لهذه النظام لأنه له مزاجه المختلف أحيانا ولأن صوته عالى جدا.

 هذا النظام الشعبى يتمثل فى حركات شعبية غير حكومية تدافع عن حقوق الانسان أو الحيوان أو البيئة أو عن قيم إنسانية أو الضعفاء والمظلومين، وهؤلاء صوتهم عالى لحد كبير فى أوروبا والولايات المتحدة بسبب طبيعة الحريات المتاحة هناك لكن تأثيرهم بشأن تعديل أو تحسين (فضلا عن تغيير) ثوابت النظام الدولى منعدمة، فقد رأينا عشرات الملايين منهم يتظاهرون فى أوروبا وأمريكا ضد غزو العراق ومع هذا تم احتلال العراق واستمروا بالتظاهر لوقف الاحتلال ولكن الاحتلال استمر حتى حققت أمريكا وأوروبا ما أردا هناك، ورأينا الملايين يتظاهرون ويحتجون ضد ممارسات الصهاينة فى فلسطين منذ عشرات السنين ومع هذا استمرت هذه الممارسات حتى اليوم بل تصاعدت وتعمقت.

كما أن هذه الحركات الشعبية كثيرا ما يتم اختراقها وتوجيهها بشكل أوبآخر من قبل النظام الرسمى (الحكومى) ولكن هذا له حديث آخر إن شاء الله.

وهذا يطرح سؤالين هما:

ما هى ثوابت النظام الدولى بشأننا؟

ما هى آليات عمل النظام الدولى تجاهنا؟

ثوابت النظام الدولي تجاه أمة الإسلام 

وبالنسبة للسؤال الأول فلا يمكن أن نفصل كل ثوابت النظام الدولى فى مقال واحد كهذا ولكن يمكننا أن نذكر ما يخصنا وهو ثوابت النظام الدولى تجاه المسلمين ومنطقتهم، ولئلا يطول الكلام نذكر التصريحات التالية التى توضح الصورة باختصار ولا تدع مجالا للشك لدى القارئ:

يقول “دزرائيلى” رئيس وزراء بريطانيا فى خطاب له فى عام 1872: “إن من الواجب على من صنعوا المدنية أن ينقلوها إلى الآخرين على شروطهم الغربية”

ويقول “هنرى كيسنجر” عقب إعلانه توقيع الانفراج مع الاتحاد السوفيتى فى 1972: “إن السياسة الخارجية  الأمريكية فى القرن القادم سوف تقوم على تهيئة نظام عالمى مستقر تحيا فيه القيم الأمريكية وتزدهر”.. وقد تم وضع هذا النص كما هو كهدف قومى فى عهد “ريجان” فجاء كما يلى: “رابعا- إقامة والحفاظ على نظام عالمى مناسب لا يحقق بقاء القيم الأمريكية فحسب بل وازدهارها”.

وتقول “مارجريت تاتشر” رئيسة وزراء بريطانيا 1988: “إن الامبريالية الأوروبية -نعم ولا أعتذر عن هذا- هى التى نقلت الحضارة إلى كثير من شعوب العالم، لقد كانت هذه هى حكاية مواهبهم وفروسيتهم”.

ويقول “فرانسوا ميتران” رئيس فرنسا فى 1990: “إن وحدة الأيديولوجية فى دول العالم بأن تسود قيم الديمقراطية الغربية هى الطريق الوحيد للتفاهم والتعاون الدولى ولأن يسود الاستقرار والسلام فى العالم”

وقال بيل كلينتون يوم تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية 1993: “إن أمريكا تؤمن أن قيمها صالحة لكل الجنس البشرى وإننا نستشعر أن علينا إلتزاما مقدسا لتحويل العالم إلى صورتنا”.

(راجع: فوزى محمد طايل، كيف نفكر استراتيجيا ، ص 298)

وخلال حملته الانتخابية ألقى رونارد ريغان خطابا بسبتمبر 1980 قال فيه: “إن إسرائيل ليست أمة فقط بل هي رمز ففي دفاعنا عن حق إسرائيل في الوجود إنما ندافع عن ذات القيم التي بنيت على أساسها أمتنا”.

ولاحظوا كلمة القيم المتكررة فى كل الأقوال الآنفة.

ويقول اللواء أ.ح – فوزى محمد طايل: “بنيت الاستراتيجية الأمريكية منذ عهد جيمى كارتر على ثلاث ركائز : نزع إرادة الجهاد من المسلمين، من خلال فرض السلام بينهم وبين إسرائيل، والحيلولة دون تحول الصحوة الاسلامية إلى نهضة حقيقية، وإحداث تشوه ثقافى واجتماعى يحول دون استعادة المسلمين لمنظومة قيمهم،وتبنت الولايات المتحدة خيار استخدام القوة فى منطقة الخليج لهذا الغرض” أ.هـ من كتابه كيف نفكر استراتيجا ص 273.

ويشير فوزى طايل إلى المبدأ الخامس والسادس من الأهداف القومية الأمريكية التى أعلنت بعهد ريجان والتى تنص على:

“- الحفاظ على النظم العلمانية الحاكمة فى المنطقة من المغرب حتى باكستانن ومنع انتقال الحماس الثورى لها والاطاحة بها.

–  إيقاف خطر الارهاب.” أ.هـ من كتاب كيف نفكر استراتيجيا ص 280.

ومن هنا فمسألة فرض القيم الغربية على العالم بعامة والاسلامى منه بخاصة وفرض حكومات ترعى هذا الأمر هو من أبرز ثوابت هذا “الغرب”، لكن قد يميل بعضهم بتلبيس الأمر على عوام الأمة الإسلامية باسم الإسلام كما فعل نيكسون فى كتابه “الفرصة السانحة” عندما دعا إلى “تعريف المسلمين بماهية الإسلام وأنه إسلام متعايش مع الغرب وقيمه الديمقراطية ويطبقها”، وكما دعى تقرير راند لتعزيز ما أسماه الاسلام  الديمقراطى، وهذا هو ما انتقده كثير من الدعاة الإسلاميين وسموه بالاسلام الأمريكى، لأنه يبرر كل قيم الغرب من رأسمالية وإباحية وتأليه الإنسان بدعواى وشعارات إسلامية (باطلة شرعا طبعا).

وقد نقلت الاقتباسات الآنفة بطولها لأقنع من لم يطلعوا على المراجع المهمة المطولة من مثل “الاتجاهات الوطنية” و”الاسلام والحضارة الغربية” لمحمد محمد حسين، و”أساليب الغزو الفكرى” و”مذاهب فكرية” لعلى جريشة، و”واقعنا المعاصر” لمحمد قطب، و”دخلت الخيل الأزهر” لجلال كشك، وغيرها.

آليات عمل النظام الدولى تجاه أمة الإسلام

ثم نأتى لإجابة السؤال الثانى وهو: ما هى آليات عمل النظام الدولى تجاهنا؟

وإجابة هذا السؤال تحتاج كتابا كاملا (وبالمثل كان سابقه) ولكننا سنوجز الأمر، فالهدف القومى الأمريكى المعلن عنه بعصر ريجان كما ذكرناه فى السطور السابقة جاء صريحا ” الحفاظ على النظم العلمانية الحاكمة فى المنطقة من المغرب حتى باكستان ومنع انتقال الحماس الثورى لها والاطاحة بها”، ولنا فى الانقلاب الأمريكى ضد مصدق فى ايران لتثبيت الشاه (عملية أجاكس 1953) عبرة لآلية قديمة، كما لنا فى الانقلاب على الربيع العربى (2011) فى تونس بأسلوب ناعم عبرة بآلية ثانية، وفى مصر بأسلوب خشن بديكور ناعم كانت آلية ثالثة، أما احتلال أفغانستان وحصار عراق صدام ثم احتلاله وتقسيم السودان وإحراق سوريا الآن فكلها آليات أخرى تمتلأ بها جعبة الغرب لاستعمالها ضدنا.

وكى نلقى الضوء على أسلوب عملهم الداخلى فى أوطاننا والشرائح الاجتماعية التى يستندون عليها نختم الموضوع بالاقتباس التالى من مذكرات مايلز كوبلاند ضابط الـCIA الذى نفذ عملية أجاكس عام 1953 التى بموجبها أطيح بحكومة مصدق بإيران وتم إعادة الشاه بموجبها، ولكنه فى الاقتباس التالى يتكلم عن حدث جرى معه أثناء إعداده لعملية مشابهة فى إيران عام 1979 لاجهاض ثورة الخمينى قبل اندلاعها بشهور: “لم أر بغايا ولكن صفوة مجتمع الجريمة الإيرانى أو يمكن القول المافيا الايرانية، لقد أدخلت إلى منزلها فرادى وجماعات من اثنين أو ثلاثة من زمر السفاحين واللصوص والمهربين ومشعلى النيران والفتن ولك أن تسمى ما شئت، وكزملائهم من المجرمين المنتعشين ماليا فى أمريكا وبريطانيا، فهم يتمتعون بعقلية الرأسمالى اليمينى لهذا كانوا يؤيدون الشاه دون تحفظ. قالت كاثى: إذا كنت تخطط لشئ ما فإن هؤلاء الرجال هم مدافعك الثقيلة” أ.هـ. من “حياة مايلز كوبلاند”، ص 360.

لكن التحليل الاجتماعى والاقتصادى المفصل للقوى الاجتماعية التى تنفذ مرامى الغرب بأرضنا له حديث آخر إن شاء الله.

خالد مشعل

خالد مشعل وعبد الفتاح مورو.. من يخاطبان ومع من يريدان أن يتشاركا؟؟

شاهدت منذ قليل فيديو  لكلمة عبد الفتاح مورو القيادى والشيخ البارز بحركة النهضة التونسية ذات الجذور الإخوانية ووجدت إشادات جماهيرية إسلامية كثيرة بها ورأيته يدعو للشراكة مع ما أسماه بالنخب الإعلامية والثقافية الموجودة فى إشارة إلى النخب العلمانية الموجودة كما أخذ يشرح أن شرعية الحكم ليست بالصندوق والانتخابات فقط بل بالسيطرة على مفاصل الحكم والتى لا تأتى إلا بشراكة هذه النخب ورضاها معتبرا أن رضا هذه النخب الثقافية والاعلامية هو رضا للشعب زاعما أنها هي التى تمثل الشعب، كما زعم عيوبا فى الاسلاميين فصدق فى بعضها لكنه بالغ فيها وأخطأ فى بعضها، وكان مما أخطأ فيه ما عبر عنه بعدم تبنى الإسلاميين ما أسماه بالقيم الانسانية العالمية التى جاءت بها كل الأديان.

وتأتى رؤيتى لهذا الفيديو على الفيس بوك اليوم بعد أيام قليلة من قراءتى لتصريحات خالد مشعل فى مؤتمر بالدوحة، والتى انتقد بها ذاته وحركته (وربما الحركات الاسلامية بعامة) فى عدم الشراكة مع الآخر فى الحكم بما فى ذلك حكم غزة.

إن الغرب يوصف بالإمبريالى فى رؤية اليسار العربى واليسار العالمى وبالإمبريالى الصليبى الصهيونى فى الرؤية الكلاسيكية للإسلاميين، ورغم هذا فإن الخطاب التصالحى مع العلمانية ومع الغرب ليس غريبا على تيار الإخوان المسلمين ولكن الغريب أن يصروا على نفس مسلكهم بعد ان كاد د.محمد مرسى رئيس مصر الأسبق (القيادى الاخوانى) أن يقبل أقدام النخب العلمانية والثقافية والإعلامية بمصر كى تتعاون معه للخروج بالبلد من أزمتها، لكنهم أبوا إلا مناوئته بالحق وبالباطل، وتحالفوا مع قائد الجيش ليطيح به حتى أطاح به، وسجنه بدعم ورضا عالمى وإقليمى،  فهذا الغرب وهذه النخب التى يغازلها خالد مشعل وعبد الفتاح مورو هى التى شردت وسجنت مرسى وبديع والشاطر والإخوان بمصر، بعدما توسلوا لها بكل وسائل التزلف كى يشاركوهم الحكم، ومع هذا لم يفهم مشعل ومورو اللعبة الدولية والإقليمية حتى الآن، أو يفهمونها ويريدون أن يلعبوا نفس دور مرسى وبديع فى مصر من يناير 2011 وحتى 3 يوليو 2013.

التبسيط والتسطيح الذي سار عليه خطاب مشعل ومورو يدعوانى لأن أرد عليه بوضوح شديد، وهو أن الغرب يحكم العالم والذى يتحكم فى الغرب نظاميا حاليا هو الولايات المتحدة الأمريكية، والقيم التى تحكم الغرب وأمريكا وتحكم سياستهم نحونا نحن العرب والمسلمون هى القيم الصليبية الصهيونية فى مجال السياسة والأخلاق والدين، أما فى مجال الاقتصاد فتحكمه قيم الرأسمالية التى أسسها وادارها ومازال يديرها اليهود الصهاينة، هذا فى التحليل التفصيلى للنظام الدولى الظاهرى والأولى، أما التحليل التفصيلى الباطنى والنهائى فهناك عدة عائلات صهيونية تسيطر على أغلب ثروات العالم، عبر امتلاكها لشركات كبرى تملك أغلب انشطة الاقتصاد بالعالم، وهذه العائلات بسيطرتها على إقتصاد العالم فهى تسيطرعلى سياسة العالم وإعلامه وجيوشه.

فمن يخاطب مشعل ومورو ومع من يريدا أن يتشاركا؟؟

وهناك أمر آخر هو: إذا كنت تريد المشاركة مع هؤلاء فهل تعلم ما الذي يريدونه منك مقابل أن يقبلوا الشراكة معك؟

فإن كنت لا تعلم فاقرأ كتاب الفرصة السانحة لنيكسون فيما كتبه عن العالم الاسلامى والمسلمين، واقرأ تقارير راند عن الاسلام الذي يجب أن تشجعه أمريكا، ثم أعلن لنا هل توافق على هذا أم ماذا؟

وملاحظة أخيرة أود توضيحها بكل صراحة وهى أن نخب اليمين واليسار فى العالم العربى أغلبيتها الغالبة ليست وطنية، وإنما هى رهينة لأجهزة محلية وإقليمية ودولية تحركها فى إطار أهداف النظم الاقليمية والدولية، ولا يستثنى من هذا إلا قلة قليلة، وهذه القلة لا حول لها ولا قوة، فهى مستضعفة بأوطانها ولا شعبية لها ولا إمكانات ذاتية لها إلا ما لا يغنى ولا يسمن من جوع.

ثورة 25 يناير

الغضب الشعبى فى مصر .. إلى أين؟

يتوقع كثيرون اندلاع احتجاجات عارمة تفضى لثورة شعبية فى مصر إثر الارتفاع الجنونى فى أسعار السلع والخدمات مع التدهور المتسارع للقوة الشرائية للجنيه المصرى، ويتوقع هؤلاء أن يكون موعد مثل هذه الاحتجاجات الأيام التالية لرفع الدعم عن سلع أساسية كوقود السيارات وما سيتبعه من إرتفاع بأسعار كافة السلع والخدمات لارتباطها جميعها بخدمة النقل بالسيارات، معارضو النظام الذين يحلمون بثورة تطيح به يأملون بوقوع هذا الحدث قريبا، بينما لم تقدم الحكومة خطة مقنعة لكبح جماح الأسعار وتأمين المواطنين اقتصاديا واجتماعيا ضد مخاطر التضخم الذى وصل لمعدلات غير مسبوقة، فهل معنى هذا أن النظام الحاكم لم يتحسب لمثل هذه الاحتجاجات ولم يضع خططا لمواجهتها؟؟ ثم ما هى خطط المعارضة لتفجير هذه الاحتجاجات أو إدارتها فور اندلاعها؟؟

سيناريوهات اندلاع احتجاجات في مصر

ليس هناك أى شك بأن أجهزة الدولة المعنية قد وضعت سيناريوهات متعددة لاندلاع احتجاجات كهذه ووضعت خططا “ما” للتعامل معها، لأنها تعمل بأسلوب علمى وموضوعى ومؤسسى فى مثل هذه المجالات، ويمكننا تخمين معالم رئيسة لهذه الخطط فى السطور التالية.

أى احتجاجات لابد أن يكون لها قوى اجتماعية تدعمها ومن المنتظر فى احتجاجات سببها ارتفاع الأسعار أن تكون الشرائح الاجتماعية الفقيرة هى عمادها ومن هنا نرى أن الحكومة بادرت منذ شهور طويلة بتخدير وتقليل غضب هذه الفئة عبر نشر منافذ توزيع السلع الرخيصة بالأماكن الفقيرة والريفية بجانب التخدير الاعلامى، ويضاف إلى ذلك النشاط الواسع فى إبعاد أذرع هذه الفئة (ممثلة فى الباعة الجائلين ونحوهم) عن الميادين الكبرى فى المدن بدءا من القاهرة الكبرى ثم نزولا للعديد من المحافظات، وإحكام السيطرة الأمنية على هذه الميدان.

مارست الحكومة سياسة قمعية ضد أى احتجاجات قامت بها المعارضة منذ 2013 وحتى الآن، وقد نجحت هذه السياسة رغم دمويتها فى تثبيت أركان النظام الحاكم حتى الآن، ولم تتمكن أى قوة معارضة من الإفلات من الأثر السلبى لهذه السياسة القمعية حتى الآن، فلم تعد جماعة الاخوان المسلمين وأنصارها من الإسلاميين قادرة على حشد احتجاجات كبيرة فى شوارع أو ميادين رئيسة وبات أغلب كوادرها المهمين إما مطارد وإما مقتول أو محبوس، كما أن القوى العلمانية واليسارية التى فجرت فاعليات احتجاجية أيام اتفاقية تيران وصنافير لم تكن لتصمد أكثر من شهر أو شهرين على الأكثر أمام صولة الآلة القمعية للنظام، وبعدها أصبحت هذه القوى شبه مشلولة عن أى حركة، أما شباب الاسلاميين الذين ظنوا أن حملهم السلاح يمكن أن يهزم النظام أو على الأقل يوقف دوران آلته الأمنية الباطشة فإنه أيضا لم يصمد كثيرا و بعد عام من تتابع أعمال مسلحة متناثرة بالقاهرة وما حولها تمكنت اليد الأمنية للحكومة من تقليم أظافر هؤلاء الشباب ولم يعد يسمع صوت قعقعة سلاحهم إلا كل عام مرة أو مرتين، وأدى هذا كله لأن يثق النظام بقدرته على السيطرة على الأوضاع أيا كانت سياساته الاقتصادية والاجتماعية فضلا عن سياساته السياسية، كما وثق به داعموه وحلفاؤه بالداخل والخارج وأيقنوا أنه لا خطر عليه من أى قوى معارضة.

ولكن هل هذا الاطمئنان فى محله وكيف ستسير الأوضاع فى الشهور القادمة؟؟

الانتفاضة الشعبية

وفى الواقع فإن إنفجار انتفاضة شعبية عارمة تخرج عن السيطرة الحكومية وتعجز أجهزتها الأمنية والسياسية أمر لا يمكن توقع توقيته وإلا لما خرجت مثل هذه الانتفاضة عن السيطرة، وهو أمر حدث فى مصر مرات عديدة كما فى مظاهرات الطلبة والعمال 1968 ردا على محاكمات قادة طيران هزيمة يونيو، ثم انتفاضة الأسعار يناير 1977 وانتفاضة جنود الأمن المركزى 1986 وأخيرا ثورة 25 يناير 2011، فكل هذه الأحداث لم يتحسبها أحد قبلها واندلعت فجأة دون توقع من أى جهاز حكومى أو قوة معارضة، ومن هنا فمن الوارد انفجار الغضب الشعبى فجأة دون موعد محدد.

وفى هذه الحالة فالدوافع والمطالب ستكون اقتصادية واجتماعية وأى مطلب سياسى سيكون مرتبطا بهذه المطالب الاقتصادية الاجتماعية، وطبعا ستحاول قوى سياسية معارضة ركوب موجة الغضب هذه بعد اندلاعها وتصاعدها ولكن حجم نجاحها فى ركوب هذه الموجة واستجابة الجماهير الغاضبة لها سيكون مرتبطا بمدى فهم هذه القوة السياسية لمطالب الجماهير وتبنيها لها وتبنى شعارات تمس عقل ووجدان الجماهير الثائرة.

الغضب الثورى

ستنفجر شرارة الغضب الثورى من الشرائح الاجتماعية الدنيا وستلحق بها كثير من الشرائح الاجتماعية والفئات السياسية المعارضة الأخرى، ولكن طبيعة الجنوح للعنف التى باتت سمة سائدة بالمجتمع المصرى مع الدرجة العالية من القمع التى باتت تتعامل بها أجهزة حكومية مع المعارضة كل هذا سوف يصبغ انفجار الغضب الشعبى القادم بمصر بقدر غير مسبوق من الممارسات الشعبية العنيفة وإذا أضيف له طبيعة عبثية بسبب طبيعة الشرائح الاجتماعية البادئة بالغضب فإن هذا كله قد يفقد هذه الانتفاضة تعاطف كثير من أبناء الطبقة الوسطى التى هى عماد أى ثورة بمصر، لكن من الوارد أيضا أن يقتصر هذا العنف على التوجه لرموز الدولة وهنا فستأخذ الانتفاضة شكل آخر فإما أن تخضع لها الدولة فينتصر الغضب الشعبى ويحدث تغيير “ما” وإما أن تصمد الحكومة وهنا يحدث صراع طويل يشبه ما فى دول أخرى كسوريا وليبيا والعراق ونحوها، وإن كانت خبرات تاريخ مصر تقول أن الانتفاضات الشعبية العارمة عادة ما تخضع لها الحكومة بدرجات مختلفة.

خطط الحكومة.. و استشراف مستقبل مصر

ومن المؤكد أن الحكومة أعدت لكل هذه الاحتمالات ووضعت خطط مناسبة لاحتواءها عبر التراجع قليلا أمام الضغط الشعبى بغرض احتوائه وتبريده ثم عودة السيطرة على الأوضاع، كما حدث إثر تنحى مبارك فى 11 فبراير 2011، ويشمل هذا تشكيل حكومة تشارك فيها قوى معارضة والتصالح مع كل قوى المعارضة بما فى ذلك الإخوان.. الخ، فهى خطط احتواء وتبريد دون الإطاحة بالركائز الاجتماعية والاقتصادية وركائز السيطرة الأمنية لنظام الحكم الذى تأسس منذ يوليو 1952 والذى قام باعادة بناءه وتغيير شكله نظام “السادات/مبارك” فى الأربعين سنة 1971-2011 (وهو نفس النظام المستمر حتى الآن).

هذا هو استشراف لمستقبل الأحداث بمصر بضوء معطيات الواقع ومتغيراته وبضوء تاريخ مصر المعاصر، وهو أمر يبين أن دفة الأحداث باتت بمهب الريح نظرا لضعف قوى المعارضة وافلاس فكرها السياسى وقدراتها العملية والتراجع البالغ لتأثيرها بالأحداث.