تفتيت العرب

تفتيت العرب … هل من فرصة ؟

إن مخطط تفتيت العرب و الدول العـربية هو مخطط قديم، وسبق أن كتبنا (نحن وغيرنا) عنه وعن آفاقه، وأشرنا إلى أنه مخطط صهيوني أصبحت الولايات المتحدة تدعمه بشكل أو بآخر.

لكن هل هو قَدَر حتمي؟

طبعاً لا يمكن أن نعتبره قدراً حتمياً، لكنه مجرد خطط إستراتيجية ترعاها إسرائيل وحلفاؤها في الغرب وقد تنجح في حالات وتُخفِق في حالات أخرى؛ لكن الواقع المشاهَد يشير إلى نجاحها وسيرها قُدُماً بخطى ثابتةٍ في كثير من الأحوال؛ وإن كانت بطيئة لحدٍّ مَّا .

وكحال أي واقع أو أحداث جديدة نجد أن واقع التفتيت كما أن فيه ما فيه من مخاطر؛ فإنه يحمل في طياته أيضاً كثيراً من الفرص.

الدولة الوطنية و الاحتلال الغربي

لقد كانت وظيفة الدولة الوطنية التي تسلَّمت الحكم في دول العالم الإسلامي من الاحتلال الغربي، هي المحافظةُ على الإرث الغربي المتمثل في الواقع المتغرب للنخب (السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية) في عالمنا الإسلامي، وذلك – طبعاً – جزء من الإرث الذي كرسه الاحتلال الغربي في عالمنا الإسلامي، وكانت المحافظة عليه بل تنميته هي المهمة الأولى للدولة الوطنية الحديثة في عالمنا الإسلامي، والجزء الآخر من الإرث هو المحافظة على تخلُّفنا العلمي والتقني مع تبعيتنا الفكرية والعلمية والتقنية للغرب، وقد حافظت دولتنا الوطنية على ذلك الإرث كله بامتياز.

أما وظيفة الدويلات العرقية والوثنية والطائفية التي يريد الغرب أن يؤول إليها العالم الإسلامي والعربي، فهي تكريس حالة من العجز والضعف على كل المستويات (السياسية، والإستراتيجية، والعلمية، والتقنية، والثقافية، والدينية، والأخلاقية) عبر وسائل متعددة، منها: التحلل الأخلاقي، والتفكيك الاجتماعي، والتغريب، و (الأوربة والأمركة) الفكرية والثقافية والدينية. ولكن لا ننسى أن هذه الدويلات الطائفية والعرقية لن تقوم إلا على أساس من الصراع والتناحر مع محيطها الإقليمي؛ ومن هنا فإن الصراع والتناحر وسياسة المحاور الإقليمية والحرب الباردة الإقليمية؛ كل هذا سيظل جوهر الموقف السياسي الإقليمي؛ فضلاً عن أن هذا التناحر الإقليمي لا شك أنه هو الأداة الأبرز للحفاظ على ضعف الدويلات الناشئة.

الخطر الإقليمي والدولي

إن الخطر الإقليمي والدولي الأهم في هذه الحالة هو: أن المنطقة سوف تتحول إلى لُقْمة سائغة لإسرائيل والغرب، بل لكل قوة دولية أو إقليمية بوسعها الانقضاض على القصعة الممتلئة بالطعـام ألا وهي منطقتنا العربيـة؛ فالهند والصين وروسيا واليابان كلها قوى صاعدة طامحة طامعة لا ينبغي أن تغيب عن حساباتنا الإستراتيجية.

وكما أن المشهد الجديد المرتقب لعالمنا العربي هو مشهد قاتم بمخاطره وأدوائه، فإنه لا يخلو من شعاع ضوء يلوح من ثنايا هذه الأدواء – أدواء الفرقـة والضعف – ينبهنـا لقدر من الفرص التي لا يخلوا منها أي واقع مهما بلغت درجة قتامته؛ إذ إن الفُرقة والتناحر في هذه الحالة بالذات سوف يدفعان لمزيد من تحقيق سُنة التدافع التي تعلَّمنا أهميتها من القرآن الكريم عندما قال الله – عز وجل -: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]، وقال – تعالى – أيضاً: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، وربما يبدو هذا الأمر مبهماً؛ ولكننا نشير هنا لعدد من الأمثلة مما يقرب الفكرة للأذهان؛ فاستعلاء النصارى في مصر في الشهور الأخيرة واستقواؤهم بالغرب دفع الحكومة المصرية (في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك) إلى إفساح هامش من الحرية لعدد من القوى الإسلامية للقيام بمظاهرات، وعَقْد المؤتمرات، وشَنِّ هجوم إعلامي مركَّز على النشاط السياسي المتزايد للكنيسة المصرية، كما أن المد الشيعي والتهديد بنشأة دويلات طائفية في كلٍّ من اليمن والعراق وغيرها دفع عدداً من الحكومات العربية لإفساح المجال للنشاط الدعوي السُّني بعد قَدْرٍ سابق من التضييق، وهكذا قد نرى حكومات كثيرة تغض الطرف عن نشاط إسلامي مَّا هنا أو هناك لأغراض سياسية مُلحَّة. صحيح أننا شاهدنا وما زلنا نشاهد في أغلب الأحوال أن الحركة الإسلامية في هذا المجال مؤثَّرٌ فيها لا مؤثِّرة، لكن ليس من حقنا نحن الإسلاميين أن نطلب الربح السياسي والإستراتيجي دون عناء التفكير والحساب السياسي والإستراتيجي الدقيق، والعمل وَفْقَ ذلك؛ فيجب أن نطوِّر أنفسنا فكراً وأداءً كي نستطيع مواجهة متطلبات المرحلة والارتفاع لمستوى التحديات المفروضة علينا كمّاً ونوعاً حتى نتحول لفاعل سياسي وإستراتيجي في المنطقة، بل في العالم؛ بدل حالة التأثُّر التي نعيشها رغم أننا الأجدر بالتطور ومن ثَمَّ يكون الفعل الإيجابي الفعَّال.

التفكير والأداء الإسلامي

ومن التطوير المطلوب أن يشمل التفكير والأداء الإسلامي المجالات والمستويات الإقليمية والدولية؛ فكما أن المؤامرة ضد العمل الإسلامي مؤامرة دولية وإقليمية فلا بد من مواجهتها بالأسلوب نفسه، وكما تتكاتف قوى دولية وإقليمية ضد المسلمين فإن المسلمين لا بد أن تشمل حساباتهم السياسية والإستراتيجية كل هذه القوى بلا تهاون أو إهمال، كما ينبغي أن تتكاتف جهود الإسلاميين الإقليمية والدولية، وأن يبحثوا عن صيغ للتعاون في الشؤون المتفق عليها مع بذل جهود فكرية وفقهية ودعوية مضنية لتوسيع مساحات الاتفاق وتضييق مساحات الاختلاف.

والتفكير الإستراتيجي من أبرز سماته الشمول والعمومية؛ وبناءً على ذلك فليس من العقلانية أو الصدق مع النفس أن نزعم أننا نعمل عملاً إستراتيجياً مَّا وهو لا يراعي المتغيرات الإقليمية والدولية، هذا مع أن لكل ذلك أصول في فقه السياسة الشرعية الدقيقة الرصينة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم اهتم منذ بداية الدعوة بالآفاق الإقليمية (قبائل الجزيرة العربية) والدولية (كالحبشة مثلاً) على الرغم من أنه كان في حالة استضعاف مريرة، وكان عدد أتباعه وأنصاره لم يصل بَعدُ ألف شخص.

وأيضاً تشير أحكام السياسة الشرعية إلى الآفاق الواسعة التي غالباً ما يتيحها الاعتماد على المتغيرات الإقليمية والدولية؛ إذ يقول – تعالى -: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْـمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 100]. إن الآية وإن كانت تتكلم بشكل مباشر وصريح عن فعل محدد من أفعال العمل السياسي الإسلامي وهو الهجرة في سبيل الله؛ إلا أنها تومئ وتشير إلى السعة والخيارات الكثيرة التي تتيحها الدوائر الإقليمية والدولية.

وانطلاقاً من هذا كله فإن عالم ما بعد التفتيت العربي قد يتيح فُرَصاً جديدة من منطلق أنه عالَم جديد له متغيراته الجديدة بما فيها من فرص جديدة؛ لكن هذه المتغيـرات وما تحملـه من فرص لن تعمـل بمفـردها؛ بـل لا بد أن نقوم باستغلالها، وقد كان العالم الإسلامي وقت الهجمة الصليبية على الشام في العصور الوسطى مفتَّتاً وظل مفتَّتاً ومهزوماً حتى قام قادة إسلاميون: مثل عماد الدين زنكي، و نور الدين محمود، و صلاح الدين الأيوبي، وخلفاؤهم بالتعامل إستراتيجياً مع الواقع ووحَّدوا المسلمين وحرروا الشام من الصليبيين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا الموضوع تم نشره في مجلة البيان عدد 286 .

الثورات العربية

الرؤية الاستراتيجية ضرورة لحصد ثمار الثورات العربية.. 4 محاور استراتيجية

نجحت الثورات العربية في تونس ومصر، وهي في طريقها للنجاح في بلدان عربيَّة أخرى, ومن الممكن أن تكون الحركة الإسلاميَّة هي القوة السياسيَّة الأولى المستفيدة من هذه الثورات، ومن الممكن أيضًا أن تكون الحركة الإسلاميَّة هي الخاسر الأول والأكبر, ويأتي الخوف من الخسارة بسبب التفكير المتسرِّع لدى البعض منا والذي بدأ يثير مشاكل عديدة.

العمل الإسلامي

لدينا العديد من القادة الذين أصبحوا يمتلكون رؤية وتفكيرًا استراتيجيًّا جيدًا بفعل خبرتهم الطويلة في العمل الإسلامي، حيث مرّوا في مراحل متعددة من عمرهم بكل الحالات من قبل، بما فيها حالات الحماس والتسرع، واكتسبوا خبرات استراتيجية جرَّاء اشتغالهم بالعمل السياسي الإسلامي جنبًا إلى جنب مع متابعتهم للأحداث السياسيَّة بشكلٍ معمَّق لعشرات السنين دون انقطاع, كما لدينا العديد من الباحثين السياسيين الذين اكتسبوا ملكات التفكير الاستراتيجي بفعل دراستهم للسياسة والتاريخ، مما أكسبهم وعيًا تاريخيًّا واستراتيجيًّا عميقًا, لكن مع ذلك يصر عدد من المتحمسين على التسرع النزق في حصد ما يظنون أنه ثمار الثورة.. تلك الثورة التي عارضها كثيرٌ منهم لسنوات طويلة وظلوا على موقفهم منها حتى معظم ساعاتها الأخيرة, وهو أمرٌ يشير بوضوح إلى أن نجاح الثورة هو أوضح دليل على الخلل في رؤيتهم السياسيَّة والقصور في تفكيرهم الاستراتيجي, ورغم هذا فإن الثقة الزائدة في النفس بشكل كبير جدًّا تميز المتسرعين، وذلك بنفس درجة انعدام ملكة التفكير الاستراتيجي لديهم وبنفس درجة رغبتهم الشديدة في العمل المنعزل عن التيارات والشخصيات الأخرى الأخبر منهم بطبيعة المعترك السياسي والاستراتيجي الراهن.

وإزاء هذه الحالة فإنه من المهمّ تنوير الرأي العام بالرؤية الاستراتيجية المناسبة التي من شأنها أن تمكن الحركة الإسلاميَّة من حصد ثمار الثورات العربيَّة.

الاتجاهات الاستراتيجية

ونظرًا لمحدودية المساحة المتاحة هنا فسوف نقتصر على رسم الاتجاهات الاستراتيجيَّة اللازمة لتحقيق ذلك؛ كي يناقشها ويطورها ويتتبع خطواتها المقتنعون بالتفكير الاستراتيجي والمهتمون بالاستماع لرؤى غيرهم؛ لأن الأمر عندهم كما قال الإمام علي (رضي الله عنه): “من شاور الرجال شاركهم عقولهم”, أما المتحمسون بغير رويَّة والمتسرعون بغير رصانة الرؤية والمستغنون عن آراء غيرهم وعن خبرات من سواهم فلهم حديثٌ آخر في مناسبات أخرى إن شاء الله تعالى.

إن أول وأهم محور استراتيجي ينبغي ترسيخه الآن هو إدراك أن أفضل حالة للحركة الإسلاميَّة الآن هي استقرار الأوضاع العامَّة في الدولة بشرط سيرها حثيثًا في اتجاه ترسيخ الحريات العامة والخاصة وإجراء انتخابات حرَّة ونزيهة يُسمح فيها للجميع بالمشاركة لتأتي بنوَّاب الشعب ومن سيتولَّوْن صياغة الدستور الجديد وتحديد شكلِ النظام السياسي القادم, ليس فقط لأن الحركة الإسلاميَّة من المنتظر لها أن تحصد حصةً كبيرة في أي انتخابات قادمة، ولكن لأن درس التاريخ يشير إلى أن حالة الحرية العامَّة هي أفضل حالة تتحرَّك فيها الحركة الإسلاميَّة للدعوة والتثقيف والتربية والتعبئة والتجنيد والعمل العام السياسي والاجتماعي والثقافي, ومن هنا فمصلحتنا الاستقرار على هذه الحالة لئلا تتحوَّل لحالة أخرى غير مناسبة لنا, علمًا بأن كثيرًا من القوى السياسيَّة المحلية والإقليميَّة والدوليَّة المنافسة والمعادية قد تدفع لحالة تتضمَّن نوعًا ما من الديكتاتورية التي يضمنها العسكر بهدف إبعاد الإسلاميين عن الحكم والتأثير السياسي العام.

وهناك حزمة من الخطوات تتفرع عن هذا الاتجاه الاستراتيجي وهي:

-عدم اللجوء للعنف بأي شكل من الأشكال.

-عدم اللجوء لتغيير المنكرات بالقوَّة.

-عدم اللجوء لفرض حكم الإسلام بالإرغام.

وثاني المحاور الاستراتيجيَّة للعمل الإسلامي الحالي هو تقديم خطاب إسلامي ملتزم ومنضبط بالشرْع الحنيف، بشرط أن يكون بلغة معاصرة, واللغة المعاصرة تعني أن يكون الخطاب سهلا دون ابتذال ومرتبطًا بهموم ومتطلبات وتطلُّعات الناس، وأن يكون أسلوب هذا الخطاب جاذبًا ومشوقًا ويسير بالأسلوب والسياق الذي يفهمه ويتقبَّله المخاطبون في زمان ومكان الخطاب.

ويتفرَّع عن هذا المحور خطوتان مهمتان هما:

-امتلاك وسائل إعلاميَّة حديثة كثيفة, ففي مصر الآن (على سبيل المثال) عشرات المطبوعات اليوميَّة والأسبوعيَّة كلها تقريبًا توجِّه سهام النقد لتعاليم إسلامية بشكل أو بآخر في معظم الأوقات، كما أنها لا تكاد تخلو من مادة أو أكثر تحرِّض على أحد فصائل الحركة الإسلاميَّة, والمطلوب أن نمتلك على الأقل 50% من وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة كي نتمكَّن من القيام برسالتنا بنجاح.

-وسائل الاتصال التي نستعملها هي وسائل الإعلام الحديثة مضافًا لها وسائل الاتصال التقليدية مثل خطبة الجمعة ودروس المسجد, والمطلوب في كل هذا أن نستخدم وسائل الاتصال هذه بشكلٍ ناضج ومتطور, وذلك بأن نستهدف عامة الجماهير, لأن هناك فرقًا بين النشرة الداخليَّة ووسيلة الاتصال العامَّة, فالنشرة الداخلية خطابها موجه للأتباع والمتعاطفين، ولا يصلح أن يوجَّه لغيرهم لأنه لن يفهمه غيرهم, أما وسيلة الاتصال العامة فهي موجَّهة لقطاع واسع من الجماهير بهدف التأثير في اتجاهاتهم, والواقع أنه حتى وسائل الاتصال القليلة التي نمتلكها كلها تعمل كأنها نشرة داخليَّة لا تجتذب غير الأتباع والمتعاطفين، ومن ثم فهي لا تحدث اختراقًا في الواقع العام, فضلا عن التخلف التكنيكي في أداءها, وبالتالي فمن المؤسف جدًّا أن قطاعًا كبيرًا من الشعب يعتبر بعيدًا عن الإيمان بالطرح الإسلامي، فضلا عن قسم كبير من النخبة والقلة الناشطة رغم النجاح التنظيمي النسبي للإسلاميين.

ويأتي المحور الاستراتيجي الثالث ذا صلة بالمحور السابق، حيث يلزمنا العمل على كسب قطاع لا بأس به من نُشطاء النخب العلمانيَّة وأيضًا من غير المسلمين الوطنيين بشكلٍ ما, فإما أن يصيروا في خندق المدافعين عن الحركة الإسلاميَّة وأطروحاتها أو على الأقل يقفون على الحياد ويكفون عن صبّ أذاهم على الحركة الإسلاميَّة وأطروحاتها, وذلك يحقق مزيدًا من التأثير الإعلامي والسياسي الإسلامي؛ لأن هذه النخب ذات صوت عالٍ ورأيها مسموع في الداخل والخارج كما أنها تمثل قطاعًا من قطاعات المجتمع الذي نعمل فيه.

أما آخر المحاور الاستراتيجيَّة المطروحة بإلحاح في هذه المرحلة فهو إدارة حوار مفتوح مع القوى الكبرى على المستويين الإقليمي والدولي لتحقيق قدرٍ من الفهم المتبادل بيننا وبينهم، وكذلك لإقناعهم بأن وجود الحركة على رأس الحكم لن يؤديَ لحدوث أي عدوان على الحقوق المشروعة لهذه القوى، بل قد توجد مساحاتٌ لا بأس بها من الممكن التعاون من خلالها, وهذا الحوار لا بدَّ أن يشمل القوى الحكوميَّة وغير الحكوميَّة على حدٍّ سواء, والهدف منه أن يؤدي إلى تخفيف الفيتو الإقليمي والدولي ضدّ الحركة الإسلاميَّة, ونقول تخفيف لأن إلغاءَه بالكليَّة هو أمرٌ مستحيل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

تم نشر هذا الموضوع في موقع الإسلام اليوم.

المساندة الشعبية صورة تعبيرية

الإسلاميون بين الهيمنة الأمريكية والمساندة الشعبية

الإسلاميون بين الهيمنة الأمريكية والمساندة الشعبية هي قضية جديرة بالدراسة والتأمل، إذ ظلَّت الدولة الإسلاميَّة قوَّة دوليَّة فاعلة في عالم السياسة الدوليَّة منذ أن راسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكبر القوى الدوليَّة في عصره (هرقل وكسرى والمقوقس والنجاشي وغيرهم) وعرض عليهم الإسلام ، ثم تلا ذلك بغزو الروم (غزوة تبوك ومؤتة ثم بعث أسامة), وظلت الدولة الإسلاميَّة فاعلة دوليًّا ومرهوبة الجانب في أغلب الأوقات بشكلٍ مستمر منذئذ وحتى ضعْف الدولة العثمانية ومن ثم انهيارها ونهاية وجودها وإلغاء أي وجود لنظام حكم يسمَّى باسم الخلافة الإسلاميَّة, لقد خاضت قوى دوليَّة عديدة الحرب ضد الإسلام ودولته منذ عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى نجحت في نهايات القرن الـ 19م في إضعاف الدولة الإسلاميَّة (العثمانية) تمهيدًا لاجتثاثها كليًّا من الوجود، والذي تم بشكله النهائي على يد كمال الدين أتاتورك بعد ذلك بعشرات السنين, ومنذئذ والنظام الدولي مرتكز على تحكم وسيطرة قوى الغرب والشرق غير الإسلاميَّة، تلك القوى التي اختلفت فيما بينها في أحيانٍ كثيرة لكنها لم تختلف أبدًا بشأن رفض السماح بعودة دولة المسلمين الجامعة أيًّا كان الثمن أو الشكل.

وهذه هي العقبة الرئيسيَّة التي واجهت وتواجه الحركة الإسلاميَّة في كل أقطار العالم, بدءًا من التضييق على الدعوة الإسلامية ووصولا إلى اضطهاد الدعاة وحبسهم وتشريدهم أو حتى قتلهم, فكل هذه الإجراءات هدفها واحد هو عدم اتحاد كل أقطار المسلمين في دولة واحدة, وطبعًا عدم عودة الخلافة الإسلاميَّة لأنها ستوحِّد المسلمين, وعدم تقدُّم المسلمين علميًّا وتكنولوجيًّا لأن هذا سيمكِّنهم من تحقيق آمالهم في الوحدة والقوَّة والمناعة دون خوف من حصار الغرب ومعاقبته لهم أو حربه عليهم.

صحيح أن الثورات العربيَّة التي اندلعت في الأشهر الأخيرة غيَّرت وسوف تغيِّر العديد من المعادلات لصالح الدعاة إلى الله، لكن الفيتو الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكيَّة ضد الدولة الإسلاميَّة ما زال وسيظلُّ كما هو.

فما هو العمل إزاء ذلك كله؟

إن أمضى سلاح في صراعنا مع أعداء المنهج الإسلامي هو الاعتماد على مساندة شعبية واسعة, وهذه الشعبية لن تتحقق بغير تعبئة شعبيَّة واسعة ناجحة وفعَّالة تقوم بها الحركة الإسلاميَّة, وهذه التعبئة الشعبيَّة تحتاج ضمن ما تحتاج له جمع أكبر قدر من الناس على شعار يعبر عن هدف محدَّد ومعناه واضح سهل الفهم ويسهل الإقناع والاقتناع به، على أن يكون لهذا الهدف بريق ووجاهة وجاذبيَّة, حتى يجتمع عليه الناس بمختلف مشاربهم الفكريَّة والعقائديَّة وطبقاتهم الاجتماعيَّة وطوائفهم الفئويَّة, هذا الشعار لن يكون مجرد شعار، بل هو عنوان يعبِّر عن منهج كامل ومتكامل ومقنع ويلبي حاجات القطاع الأكبر من الشعب ويحقِّق مصالحهم المشروعة, هذا النوع من التعبئة الشعبيَّة ما زالت الحركة الإسلاميَّة في أغلب أقطار العالم عاجزةً عنه؛ بسبب تحديدها لطبيعة المناصر بأنه من يحوز درجة من التدين ذات سقف عالٍ نسبيًّا, والمطلوب الآن من الحركة أن تفسِحَ المجالَ بل وتسعى لكسبِ ولاء المؤيِّدين وتنظيمهم على أساس الولاء للهدف العام للحركة الإسلاميَّة ومنهجها بغضّ النظر عن مدى الالتزام السلوكي بذلك بناءً على هذا الشعار وما يعبِّر عنه من برنامج عمل, لا سيما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “يَا بِلَالُ قُمْ فَأَذِّنْ إِنَّه لَا يَدْخُلُ الْجَنَّة إِلَّا رَجُلٌ مُؤْمِنٌ، وَاَللَّه يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ” رواه البخاري ومسلم وغيرهما, ولابن تيمية وغيره من العلماء كلام كثير نرى أنه يؤيِّد هذه الفكرة، لكننا لن نطيل هنا بنقل هذه الأقوال لضيق المجال عن هذا, وطبعًا ليس معنى هذا أن تتخلَّى الحركة الإسلاميَّة عن منهجها أو ضوابطه السلوكيَّة، لكن معنى هذا أن تستمرَّ الحركة في عملِها بالأسلوب الحالي من الاهتمام بالتربية العقدية والسلوكية ويكون هذا أحد مستويات العمل بينما تنشِئ مستوًى آخر من العمل قائمًا على التعبئة السياسيَّة العامَّة التي تعتمد الولاء للمنهج وأهدافه العليا والتضحية في سبيل ذلك حتى لو ضعف صاحبه عن الالتزام بذلك على مستوى بعض مفردات السلوك الشخصي.

وبالتالي فالحركة الإسلاميَّة لا ينبغي أن تلغي من حساباتها السياسيَّة من انخفض سقف التزامِه السلوكي ما دام ملتزمًا باستراتيجيتها السياسيَّة .

وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد استخدم في عمله السياسي مشركين كالمطعم بن عدي ومشركي خزاعة وغيرهم أفلا نستخدم في التعبئة السياسيَّة الإسلاميَّة (بشكلٍ أو بآخر) مسلمين ذوي تدين ضعيف؟

والذي نقصدُه هنا ليس مجرد الاستخدام العابر، بل نقصد وجود منظومة إسلاميَّة متكاملة تستهدف تعبئة وتجنيد هذا النوع من الناس عبر هذا الشعار الجامع الذي نقترحُه .

وإذا كان الأمر هكذا فما هو الشعار الذي يمكن أن يمثل عنوانًا جامعًا للمنهج السياسي الإسلامي في هذه المرحلة لنجمع عليه الناس؟

هناك أربعة عناوين من الممكن أن نطرحها للمناقشة كي تتبنَّى الحركة الإسلاميَّة منها واحدًا أو أكثر لجمع وتعبئة الناس عليه.

تحرير فلسطين

أول هذه الشعارات المجمعة هو تحرير فلسطين، ورغم أن هذا الشعار مهم بالنسبة للعرب والمسلمين قاطبة إلا أن في تجميع الناس عليه عوائق في عدد من الدول العربيَّة لأسباب متنوعة, إذ نجحت الدعاية العلمانيَّة والليبراليَّة والرأسماليَّة في عددٍ من دول العالم العربي في الترويج لفكرة أن الحرب مع إسرائيل مضرَّة بالمصالح الوطنيَّة والاقتصاديَّة للدولة, ومن ثَم فإن إطلاق وتبنِّي هذا الشعار قد لا يؤتي بثماره المرجوَّة بالقدر الكافي في بعض الدول العربيَّة وعلى رأسها مصر للأسف, وسوف يثير كثيرًا من الجدل والخلاف، في حين أن الشعار المرجوّ يحبِّذ أن يكون مجمعًا لا يمكن لأي أحد أن يجد منفذًا للجدال حوله, يُضاف لذلك أن رفع الحركة الإسلاميَّة لهذا الشعار سيكون له رد فعل أوروبي وأمريكي متمثل في أنهم سيرفضون الحركة الإسلاميَّة التي ستتبنَّاه وهو رفض غير مفيد للحركة الإسلاميَّة في هذه المرحلة التي ما زالت مرحلة ضعف واستضعاف.

لكن على كل حال فحتى الآن هناك عدد من الدول العربيَّة والإسلاميَّة ما زال الحس الإسلامي أو الثوري نابضًا فيها بما يتيح للحركة الإسلاميَّة فيها أن تتبنَّى هذا الشعار لهذا البرنامج الإسلامي فيها بينما على دول أخرى أن تبحث عن شعار آخر مناسب.

مواجهة الهيمنة الغربية

وهذا الشعار يرد عليه ما يرد على سابقه من محاذير بسبب النجاح الليبرالي والرأسمالي والعلماني في غسيل أدمغة الجماهير الإسلاميَّة والعربيَّة عبر منابرهم الإعلاميَّة والتعليميَّة المسيطرة بغشم على المجال العام في عالمنا العربي والإسلامي, وسوف توجّه سهام النقد للحركة الإسلاميَّة في هذه الحالة بأنهم يريدون الصدام مع الغرب لجرّ الخراب على الدولة عبر مقاطعة الغرب وحصارهم لنا، بل ربما الحرب العسكريَّة المباشرة علينا, ومثل شعار فلسطين فأيضًا سوف يجرّ هذا الشعار علينا فيتو أوروبي وأمريكي نحن في حاجة إلى تخفيفه في هذه المرحلة, ونقول إلى تخفيفه لأنه من الصعب جدًّا- إن لم يكن مستحيلا- إلغاؤه.

إصلاح الدين والدنيا

شعار إصلاح الدين والدنيا هو عنوان جامع ويبرز الروح الإسلامية ولا يصطدم بشيء اللهم إلا لو اتَّكأ عليه العلمانيون لإعمال قوانين تتعلَّق بحظر العمل السياسي على مرجعيَّة دينيَّة كما في قوانين بعض الدول العربيَّة, كما أنه لن يكون جاذبًا لغير المسلمين, وهؤلاء نحن نحتاج لجذبهم وإقناعهم بالمشروع الحضاري الإسلامي.

العدالة والتنمية

العدالة هي القيمة العليا في السياسة الإسلاميَّة قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيه بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّه مَن يَنصُرُه وَرُسُلَه بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّه قَوِي عَزِيزٌ } (الحديد25) فالله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب وشرع الجهاد لتسير أمور الناس في الأرض بالعدل.

أما التنمية فالنصوص الشرعيَّة التي تدلُّ على وجوب التنمية أو الندب إليها كثيرة منها على سبيل المثال قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “الْيَدُ الْعليا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وَخَيْرُ الصَّدَقَة عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّه اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ” رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وقال صلى الله عليه وآله وسلم أيضًا: “إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَة يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً، تَبْتَغِي بِهَا وَجْه اللهِ، إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ” رواه البخاري وأحمد وغيرهما.

والنصوص الشرعيَّة في هذا المجال كثيرة, ومفهوم التنمية في الإسلام محكوم بقوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّه الدَّارَ الْآخِرَة وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّه إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّه لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } (القصص77).

ومن هنا فهذا الشعار سوف يكون عنوانًا على عدالة الإسلام واهتمامه بالتنمية الاقتصاديَّة والعلميَّة, وهذه القضايا لا تسمح بفتح مجالات للتفرُّق أو الجدل.

لكن تبنِّي هذا الشعار لا يمنع من تبني القضايا الأخرى المذكورة قبله بالصيغة المناسبة حسب ظروف كل قطر إسلامي.

وعلى كل حال فالمنهج الإسلامي متكامل ومعروف، لكن القضية التي ناقشناها هنا هي شعار للتعبئة السياسيَّة الإسلاميَّة يكون عنوانًا للبرنامج السياسي الإسلامي المطروح على الجماهير مسلمين وغير مسلمين ملتزمين وغير ملتزمين.

وبتحقيق هذه التعبئة السياسية الإسلامية سيمكننا تحقيق مساندة شعبيَّة كبيرة تمكِّننا من الحدّ من الهيمنة الأمريكية والغربيَّة المعرقلة للعمل الإسلامي في كل الأقطار.

ـــــــــــــــــــــــ

تشر هذا الموضوع في موقع اسلام تودي.

الثورة المصرية

الإسلاميون و 3 فرص سانحة في مصر

عَانَى الإسلاميون في مصر من القمع وعانت الدعوة الإسلامية من التضييق البالغ في العديد من أقطار العالم العربي فترة طويلة إلى أن منَّ الله علينا بنجاح ثورتي مصر وتونس في الإطاحة بنظامي مبارك وبن على، وهما من أكثر نظم العالم الإسلامي قمعًا للإسلاميين وتضييقًا على الدعوة الإسلاميَّة والعمل الإسلامي, والآن وبعد تغيير الوضع في كلٍّ من مصر وتونس هناك فرصة سانحة للإسلاميين في ظلّ أجواء الحرية التي سادت بعد الثورة.. فما هي ملامح العمل الإسلامي الذي يمكن اعتبار أنه يستجيب لمتطلبات هذه المرحلة ويستغلُّ أغلب الفرص المتاحة من أجل النهوض بالحركة الإسلاميَّة وتقوية موقعها في الخريطة السياسيَّة محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا؟

العمل الجماهيري

أول معالم العمل الإسلامي الفعَّال في الفترة المقبلة هي العمل الجماهيري العام بدعوة عامة الناس إلى تفهم تعاليم الإسلام والالتزام بها، وذلك سيتمُّ عبر مستويين:

المستوى الأول- عمل جماهيري عام: وذلك عبر وسائل الإعلام الحديثة المتعددة مثل الصحف والمجلات المطبوعة والفضائيَّات والإنترنت، وكذلك التحرك الدعوي في الجامعات والقرى والمدن والنوادي عبر التواصل الشخصي والأعمال الدعوية الجماعيَّة من ندوات وخطب ودروس ومحاضرات وأنشطة دينيَّة واجتماعيَّة ورياضيَّة وترفيهيَّة.

الأداء الإسلامي على النت الآن لا بأس به, أما الفضائيات فهي بعيدة كثيرًا عن المهنيَّة الإعلاميَّة وفق أُسُسها الحديثة، وتعمل على فرض أسلوب الخطابة على حساب العمل الإعلامي الحقيقي بكل مفاهيمه وأساليبه وتكنيكاته, أما مجال الصحافة المطبوعة فلا نكاد نلمح وجودًا إسلاميًّا حقيقيًّا فيها, إذ لا توجد ثَمَّ مطبوعة أسبوعيَّة أو يوميَّة ذات توجه إسلامي حقيقي.

التحرك الدعوي عبر الدعوة الفردية والجماعية كانت عليه قيود أيام حكم القمع, لكن الآن قد ارتفعت هذه القيود وينبغي انتهاز هذه الفرصة لتوسيع الأرضيَّة الجماهيريَّة للعمل الإسلامي, ليس الهدف فقط هو كسب تأييد الناس في انتخابات أو استفتاء… إنما هناك هدفان يجب العمل لتحقيقهما هما:

1- توسيع دائرة الملتزمين بالإسلام عقيدة وشريعة, فكرًا وسلوكًا, بحيث تشمل هذه الدائرة أغلبيَّة المسلمين.

2- توسيع دائرة المؤيدين للمنهج السياسي والاقتصادي والنموذج الحضاري الإسلامي بين الذين استعصى عليهم الالتزام بالإسلام عقيدة أو سلوكًا أيًّا كان اتجاههم الفكري أو العقيدي.

المستوى الثاني- العمل الجماهيري الخاص: وذلك عبر المساجد ويهدف إلى تدعيم عمليَّة الالتزام الحقيقي بالإسلام عقيدةً وشريعة عبر التربية على السلوكيات الإسلاميَّة وعبر تزكية النفوس بالتعبد والتعلم في المسجد, وبجعل المسجد ركيزةً لإدارة شئون المسلمين الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة بشكلٍ يبعدها عن الانحرافات السائدة في المجتمع المعاصر ويدعم وجود وصمود الواقع الاجتماعي الإسلامي في وجه هجمات العلمانيَّة وغيرها من العقائد المنحرفة ويدحضُ ما تورِده من شبهات.

التثقيف والتجنيد السياسي الإسلامي

أما ثاني معالم العمل الإسلامي في ظلّ المتغيرات التي طرأت على الواقع العربي بعد الثورات العربية الناجحة فهو عمليَّة التثقيف والتجنيد السياسي الإسلامي, إذ يلزمنا الاهتمام بعمليَّة التثقيف السياسي وفق هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السياسة, وهو أمرٌ ليس هينًا لعدم وجود الأدبيات النظريَّة الكافية, لكنه أمر لا بدَّ منه في ظلّ الحتميَّة الراهنة لعمليَّة خوض غمار العمل والصراع السياسي، وهو أمرٌ يستلزم وعيًا كافيًا بمتطلبات هذه العمليَّة لدى صفوف الحركة الإسلاميَّة قادة وقواعد على حدٍّ سواء, والأمر لا يقتصر على حاجتنا للتثقيف السياسي، بل نحن محتاجون أيضًا لعمل واسع جدًّا في مجال التنظيم السياسي في أطُر وجماعات سياسيَّة تتناسب في صيغتها مع الأوضاع السياسيَّة والقانونية الموجودة في كل دولة, هذه الأطر والجماعات مهمتها القيام بعمليات التعبئة السياسيَّة وممارسة العمل السياسي وفق أهداف وخطط وأولويات العمل الإسلامي.

العمل السياسي الإسلامي

العمل السياسي الإسلامي هو ثالث معالم العمل الإسلامي في هذه المرحلة, ولا بدَّ أن يشمل مجالَيْن مهمَّيْن:

المجال الأول- الفكر السياسي الإسلامي: وهذا المجال الهدف منه حلّ العديد من إشكاليات الفكر السياسي الإسلامي المعاصر لأن حلّ هذه الإشكاليَّات من شأنه حلّ العديد من المشكلات والعوائق التي تعترض طريق نجاح وتقدم وتطوير العمل السياسي الإسلامى، ويمكن هنا الإشارة لعدد من هذه الإشكاليات على سبيل المثال لا الحصر مثل:

1- طريقة اختيار الحاكم أو القائد الإسلامي والرقابة على قراراته وأداءه ومحاسبته إذا أخطأ أو أخفق.

2- آليَّات صناعة القرار في الدولة أو في الجماعة السياسيَّة الإسلاميَّة.

3- آليَّات ممارسة الشورى وعملية تمثيل القاعدة الشعبية في الحكم وصناعة القرار.

4- أنواع السلطات والفصل بينها.

5- مفهوم الحريات العامة والخاصة وأبعادها في الإسلام.

6- النظم والآليات العمليَّة لتطبيق تعاليم الإسلام في مجال حقوق الإنسان.

7- آليات حسم الخلافات السياسيَّة بين مختلف القوى السياسيَّة الإسلاميَّة وغير الإسلاميَّة.

8- مفهوم المواطنة في الدولة ومفهوم العضو أو المناصر للجماعة السياسيَّة.

9- أهداف وآليَّات وتكتيكات العمل السياسي الإسلامي المعاصر في البيئات والدول المختلفة.

10- أنساق ونظم وآليات التحالف والتعاون مع القوى السياسيَّة المختلفة.

وغير ذلك من القضايا التي تتوقف عليها عملية تقدم ونجاح العمل السياسي الإسلامي.

المجال الثاني- العمل السياسي الإسلامي: وذلك عبر الأحزاب والجماعات السياسيَّة الإسلاميَّة ويراعي فيها:

– التعاون والتنسيق بين القوى الإسلاميَّة المتعددة بدل الصراع والتنافس والتناحر.

– ترتيب الأوليات بدقَّة, ونقترح أن تكون بالترتيب التالي:

1- العمل على استمرار ضمان الحريات العامَّة وتصفية كل سياسات القمع والتضييق السابق.

2- إفساح المجال للعمل الإسلامي بكلِّ أنواعه والتصدي لأي محاولة لعرقلته.

3- محاصرة بُؤَر الفساد السياسي والأخلاقي والعقائدي والعمل على تصفيتها أو على الأقل التضييق عليها تمهيدًا لخنقها.

4- التواصل مع النخب غير الإسلاميَّة بحيث يتم جذبها فكريًّا وعقائديًّا فإن لم ننجح في ذلك فلنكسب تعاطفها وتأييدها أو على الأقل وفي أسوأ الأحوال نحصل على حيادها بدلا من عداوتها.

5- فتح خطوط حوار مع كافة القوى الإقليميَّة والدوليَّة في إطار إدارة رشيدة للعمل السياسي الإسلامي.

وهذه الأطروحات كلها مجرَّد مقترحات عامة تنتظر تعليق وتطوير ذوي الشأن والاهتمام بمجال العمل الإسلامي بعامة والسياسي منه بخاصة.

لكن لا ينبغي أن يظنَّ إخواننا في البلاد المختلفة أن هذا الأمر يخص مصر وتونس فقط؛ لأن سائر دول المنطقة قد تأثرت الأمور فيها بثورتي مصر وتونس، وجرى توسيع مجال الحريات فيها بدرجات متفاوتة وهي ما زالت قابلة للتطوير.

ولا بدَّ من التأكيد على أن سنوات القمع في مصر وتونس قد خلفت جهلا واسعًا بتعاليم الإسلام وشبهات واسعة حول العقيدة والشريعة على حد سواء, وهذا الأمر متوقع في كل قطر يمارس القمع ضد الدعوة الإسلاميَّة الصحيحة, ومن هنا فمن الخطر أن يُغفل العمل الإسلامي في هذه الأقطار العمل الدعوى والتعليمي ولا يعطيهما حقهما, وإذا كنا نريد عملا سياسيًّا، فهو لا بدَّ أن يكون شاملًا على النحو الذي ذكرناه حتى يخدم في إطارِه العام العمل الدعوي والتعليمي وتصحيح المفاهيم ودحض الشبهات وكسب الأنصار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تم نشر هذا الموضوع في موقع الإسلام اليوم.

ثورة مصر صورة ارشيفية

دور الولايات المتحدة وأوروبا والإسلامي في ثورة مصر و تونس

ما هو دور الولايات المتحدة وأوروبا والإسلاميين في ثورة مصر و تونس، لقد اندلعت الهَبَّة الشعبية التونسية خلال هذا الشهر بشكلٍ صنع ثورةً ممتدَّة مازالت تتفاعل وتَسِير ربَّما نحو هدفها الشعبي المأمول, ولم يقتصر تأثير الثورة التونسية على هذه الآثار الداخلية بل امتدَّ أثرها ليشمل أجزاءً مختلفةً من العالم العربي لنشهد احتجاجاتٍ شعبيةً واسعةً في عدد من الدول كالأردن والجزائر ومصر واليمن في محاولة منها جميعًا لاستلهام نجاح التجربة التونسية, ولكن أحداث الثورة الشعبية المصرية التي بدأت فعالياتها الثلاثاء (25يناير) قد استحوذت على الاهتمام العام بسبب كثافتها العددية بشكلٍ لم تشهده مصر منذ أكثر من ثلاثين عامًا وأيضًا بسبب قوتها وعنف المواجهة الأمنية لها, وكذلك بسبب الأثر العميق الذي خلفته, وقد أدَّى ذلك كله إلى ردود أفعال عديدة في الداخل والخارج, ومن المهم الآن التركيز على قضيتين إحداهما خارجية والأخرى داخلية.

ردّ الفعل الأوروبي والأمريكي

القضية الخارجية تمثَّلت في طبيعة ردّ الفعل الأوروبي والأمريكي على هذه الاحتجاجات؛ إذ اتَّسَم بالسرعة والوضوح النسبِيِّ بعكس ما حدث في الحالة التونسية فدَعَت الولايات المتحدة السلطات المصرية إلى التعامل بشكل سلميٍّ مع الاحتجاجات وقالت: إنَّ واشنطن تأمل أن ترَى إصلاحات في مصر وأماكن أخرى لخلق مزيدٍ من الفرص السياسية والاقتصادية, ولم يقتصر الموقف الأمريكي على هذا بل سرعان ما تتابعت التصريحات مع استمرار المظاهرات في الأيام التالية؛ إذ قال البيت الأبيض: إنه يتابع الوضع في مصر عن كثبٍ، ويؤيِّد حق المصريين في حرية التجمع والتعبير, ثُمّ تتابعت البيانات الأمريكية المتعددة من الرئيس أوباما والمتحدث باسم البيت الأبيض ووزيرة الخارجية والمتحدث باسم الخارجية الأمريكية وصولاً لإرسال مبعوث أمريكي لمصر ولكن أهمَّ تصريح هو تصريح لأوباما قال فيه (الأربعاء 2 فبراير): إنه نصح حسني مبارك بنقل السلطة الآن.

ودخلت كلٌّ من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي على خطّ ردود الأفعال فرددوا تصريحات عديدة متشابهة مع التصريحات الأمريكية لكنها كانت أسرع في انحيازها للمطالبة بالتغيير وتحقيق مطالب الشعب, وقد وصلت لذروتها الأربعاء أيضًا وطالبت- مثلها مثل أوباما- بأنّ يبادر الرئيس لنقل السلطة فورًا والدخول في المرحلة الانتقالية التي تطالب بها قوى المعارضة.

ولا شكَّ أن ردود الأفعال هذه لن تقتصر على التصريحات العلنية فقط بل سوف تترجم لأشكال من الضغط السياسي الأوروبي والأمريكي ستتم ممارسته بدرجات متفاوتة تجاه النظام الحاكم في مصر؛ إذ أشارت مصادر أوروبية في بروكسل أنّ وزراء خارجية الدول الأعضاء في التكتُّل الموحد سيَقُومون بمناقشة للوضع في مصر خلال اجتماعهم يوم الاثنين القادم في بروكسل «مع أنَّ الموضوع لم يُدْرَج على جدول الأعمال، لكن الوزراء سوف يتطرقون إليه في معرض مناقشاتهم» على حدّ قول هذه المصادر.

والسؤال الآن ما هو الأثر المتوقَّع للموقف الأمريكي والأوروبي على النظام الحاكم في مصر؟

في الواقع فإنَّ خبرة التاريخ تقول: إنه من الممكن أن تذهب الضغوط الغربية (الأمريكية والأوروبية) على النظام الحاكم في مصر إلى أبعد مدَى, من حيث إجباره على التحوُّل نحو درجةٍ عاليةٍ من الحياة الديمقراطية ومكافحة الفساد وحلّ مشكلات غالبية الشعب إذا تواصلت وتصاعدت الضغوط الشعبية, بشرط أن تكون هذه الديمقراطية في إطارٍ من رعاية المصالح والأولويات السياسية والإستراتيجية الغربية, ولنزيد الأمر إيضاحًا لابدّ من تذكُّر نموذج ثورة 1919 في مصر فقد أدَّى الضغط الشعبي القوى على الاحتلال الانجليزي إلى صدور دستور 1923 وهو أكثر الدساتير المصرية ليبرالية في تاريخها الحديث والمعاصر, وظلّ الوضع في مصر في أكثر الأحيان يتمتع بقدرٍ كبيرٍ من الحرية والليبرالية مع الأخذ في الاعتبار مصالح وأولويات الإنجليز السياسية والإستراتيجية فرغم الحرية النسبية تَمّ سنّ قانون يحظر الماركسية وتنظيماتها كما تَمّ حصر التيار الإسلامي في إطار مُعيّن أراده الاحتلال، فضلاً عن توفير الدعم المصري للإنجليز في الحرب العالمية الثانية, وفي السنوات الأخيرة تَمّت تجربة مشابهة مع تركيا في ظلّ حزب العدالة فقد ضغطت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على عسكر تركيا كي يسمحوا لحزب العدالة بتغيير الدستور بما يدعم مزيدًا من التوجُّه الليبرالي في نظام الحكم التركي ويقلص من ديكتاتورية العسكر رغم علمانية العسكر وإسلامية حزب العدالة الحاكم, لكن في نفس الوقت فإنَّه كلما اقترب الأمر من تحقيق مكاسب إسلامية فعَّالة فإنّ الغرب نفسه يتدخل لمنع ذلك (لاحظ قانون حظر البغاء), نعم مسموح لحزب العدالة ببعض التحركات والرتوش الإسلامية لكن في الإطار الذي لا يهدِّد المصالح والأولويات السياسية والإستراتيجية الغربية بما في ذلك مصالح إسرائيل, ومن هنا يمكن فهم المدى الذي يمكن أن يصل إليه الضغط الغربي على نظام الحكم في مصر أو في غيرها من بلدان العالم الإسلامي… ديمقراطية أو حرية أو شفافية و مكافحة للفساد… كلُّ هذا قد يدعمه الغرب لاحتواء الغضب الشعبي والابتعاد بأغلبية الشعب عن الانْجِذاب للتيارات الإسلامية الحقيقية لكن بشرط أن لا تؤدِّي هذه الديمقراطية للإخلال بأيِّ من المصالح والأولويات السياسية والإستراتيجية الغربية (وفي قلبها مصالح إسرائيل).

موقف فصائل الحركة الإسلامية من الحراك

أمَّا القضية الداخلية التي ينبغِي تأمُّلها فهي غياب بعض فصائل الحركة الإسلامية عن المشاركة في فعاليات الغضب بالشارع المصري منذ البداية أو على الأقل ضعف هذه المشاركة من قِبَل بعض التيارات وعزوف تيارات أخرى عن المشاركة فيها بالكلية, طبعًا لكل تيار حساباته الخاصة التي نحترمها ولكن لابدّ أن لا يغيب عن حساباتنا ثلاثة أمور:

الأول- أنَّ الحسابات ينبغي أن تكون دقيقة وعميقة وموضوعية؛ لأننا أمام لحظات تاريخية حاسمة ومن الخطورة بمكان أن يقع فيها أي خطأ في الحسابات؛ لأنَّ كل خطأ الآن سيكون له تكلفةٌ ضخمةٌ ليس علينا الآن فقط بل على الأجيال المقبلة أيضًا.

الثاني- أنَّه مهما كانت الحسابات دقيقة وموضوعية وعميقة فإنَّها ينبغي أن تضع في حسبانِهَا المواقف الاستثنائية والاحتمالات الطارئة, والفرص التي قد تتاح أو تقدم لنا على طبقٍ من ذهب فجأة, ولا يعقل أن يكون لدينا- كحركة إسلامية- آمال عريضة بأن نكوَن منقذي الإنسانية الحديثة من تِيهِ الشهوات والشبهات ومن ظلام الظلم والعدوان ولا يكون لدينا خطط وبرامج وقدرات لمواجهة المواقف الطارئة والحالات الاستثنائية والمفاجئات المختلفة.

الثالث- أنَّ الحركة الإسلامية خسرت كثيرًا في عصرها الحديث بسبب عدم انتهازها للفرص الكثيرة التي سنحت لها, وعلينا الحذر من تكرار هذا الخطأ… خطأ إضاعة الفرص التي عادةً ما يَضنّ بها التاريخ و قلَّمَا تتكرَّر.

ـــــــــــــــــــــــ

تم نشر هذا المقال في موقع الإسلام اليوم.

القرآن الكريم عماد الدعوة الاسلامية

المشهد الدعوي في العالم الاسلامي .. تحليل تطبيقي على مصر

كي نحلل المشهد الدعوي في العالم الاسلامي بالتطبيق على حالة مصر فإننا سنتخذ لنا مدخلا من الانتخابات النيابيَّة المصرية التي تجري خلال ساعات وما تشهده من تجاذبات سياسية ودينيَّة، لا سيما وأن اشتراك حركة إسلامية كبرى (وهي حركة الإخوان المسلمين) في هذه العمليَّة يثير العديد من التساؤلات حول المشهد الدعوي والإعلامي للحركة الإسلاميَّة في العالم الإسلامي, ولئلا ندخلَ في تفصيلاتٍ كثيرة لا تحتملها مساحة هذا المقال فإننا سنتخذ من الحالة المصريَّة مثالًا لما هو عليه واقع الدعوة والإعلام الإسلامي في العالم الإسلامي كله.

لقد نجحت النظم السياسية القائمة في مصر منذ الاحتلال البريطاني 1882م في ترسيخ توازن قُوَى مجتمعي قائم على وجود نسبة محدودة من المتديِّنين (الذين بات يُطلق على نُشطائهم اسم “الإسلاميون” لا تملك القيام بتأثير فعَّال في مُجريات الأمور العامَّة مهما كان نشاطها وارتفاع صوتها, مع وجود نخبة محدودة من العلمانيين لكنهم يملكون مقاليد السلطة والقوة، بينما بقية المجتمع هم كتلة صامتة وسلبيَّة إزاء الشئون العامة، خاصة شئون الحكم والسياسة, وكلما لاح في الأفق نذير اختلال لهذا التوازن فإن القوى العلمانيَّة الداخليَّة والخارجيَّة الساهرة عليه تقوم بإعادة التوازن إلى سابق عهده بالحيلة حينًا وبالقوة والقمع في أغلب الأحيان, مع ملاحظة أن هذا القَمْع قد يتستَّر بغطاء من القوانين والقرارات الرسميَّة.

فالدعوة الإسلامية الصحيحة أو الدعوة التي يحتاجها الإسلاميون هي التي تحقق اختراقًا حقيقيًّا لحالة الانحراف الاجتماعي العامة الموجودة في واقعنافالدعوة الإسلاميَّة التي لا تخلُّ بالتوازن المجتمعي والسياسي الحالي ولا تحوِّله لصالح الإسلام هي دعوة ضعيفة وعاجزة.

الدعوة الإسلاميَّة التي قامت بها الحركة الإسلاميَّة في مصر بمختلف فصائلها طوال القرن الأخير تحركت في أغلب الأوقات في إطار لم يهددْ هذا التوازن القائمفالدعوة لم تنجح في اختراق المنظومة المسيطرة على مقدرات القوة السياسية في البلاد اللهم إلا في حالات نادرة، وحتى في الحالات النادرة التي نجحت في ذلك فإن المدعو عادةً ما نجده قد زهد في مكانته الاجتماعيَّة أو السياسيَّة، وتخلَّى عنها ظنًّا منه أن هذا من مقتضيات الالتزام الإسلامي، فتخلى بذلك عما كان يملكه من قوَّة.

وكذلك فالحركة الإسلاميَّة لم تنجح في تحقيق اختراق واسع وفعَّال للكتلة الصامتة من أغلبيَّة الشعب, وربما كاد هذا الاختراق أن يحدث مرةً واحدةً في تاريخنا المعاصر في نهاية السبعينيَّات من القرن الميلادي الماضي، بفعل الحركة الدعوية التي قامت بها كل من “جماعة التبليغ والدعوة” ومجموعات إسلاميَّة عديدة استخدمت التكتيكات الدعوية لـ “جماعة التبليغ والدعوة” مع إدخال بعض التعديلات الفقهيَّة لتلافي أخطائهم في هذا المجال, لكن سرعان ما أدت أحداث الصدام مع النظام الحاكم بجانب عوامل عديدة إلى ترسيخ سياسات حكوميَّة تقيد حركة الدعوة بصفة عامة وتمنع هذه التكتيكات بصفة خاصَّةوذلك كله في إطار استراتيجيَّة حكوميَّة ضد الحركة الإسلاميَّة مستمرَّة بشكلٍ واضح منذ عام 1986 وحتى الآن، وهي أشبه ما تكون بمزيج من استراتيجيتَي “الاحتواء” و”الردع المرن” المعروفتَيْن في استراتيجيَّات الصراع الدولي.

وقد يظن البعض أن الإنترنت والفضائيات أتاحا فرص تحقيق اختراق دعوي لكل من الأغلبيَّة الصامتة والنخبة العلمانيَّة ذات القوة السياسيَّة, لكن حقيقة الأمر أن هذا مرهون بتطوير هاتين الوسيلتين لأنهما على الوضع الحالي سيوصلان الدعوة لهذه الفئات لكنهما لن يحققا عمليَّة التحوُّل السلوكي الحقيقي؛ لأن هذا التحول يحتاج خطوات وتكتيكات أخرى عديدة مكملة تقوم على أساس خطوات وأنشطة عمليَّة وواقعيَّة.

ولا بدَّ في العمل الإعلامي الإسلامي من ملاحظة أن الإعلام هو في حد ذاته أحد أهم أدوات العمل السياسي, فعبره يتمُّ الضغط على الخصوم والدفاع عن الأنصار والمستضعفين وتحقيق العديد من الأهداف السياسيَّة.

والفضائيَّات الإسلاميَّة على كثرتها النسبيَّة مقتصرةٌ على الجوانب الدعويَّة والتعليميَّة ولا تقوم بدور سياسي إيجابي كافٍ، بل بالعكس فهي في بعض الحالات تقوم بدور سلبي سياسيًّا عندما تحاول سحب الناس من عالم الأسباب السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة إلى عالم التواكل (الضار سياسيًّا بلا شك) تحت دعوى الصبر والاعتماد على الطاعة (التي من قبيل العباداتوالدعاء فقط لرفع البلاء السياسي والاجتماعي والاقتصادي, وذلك بالمخالفة لصحيح الفقه الذي يشير إلى أنه لا تنافٍ بين الأخذ بالأسباب السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة وبين الصبر والدعاء وتحصيل الطاعات التي من قبيل العبادات, بل بالعكس فأحكام الفقه الإسلامي توجب الأخذ بالأسباب, هذا فضلًا عن ترديد بعض مشايخ الفضائيات من حين لآخر لأفكار ضارة سياسيًّا بشكلٍ مباشر مثل إعلان بعضهم تحريم عدد من أساليب العمل السياسي تحديدًا كالمظاهرات, أو إعلانهم مواقف سلبيَّة من بعض التحركات السياسيَّة الإسلاميَّة, ومن أمثلة ذلك إعلان أحدهم موقفًا رافضًا لمقاومة حماس وسلوك المسلمين المناصرين لها في العالم العربي، مع دفاعه عن موقف الحكام العرب أيَّام حرب إسرائيل على غزة في يناير 2009م.

ومن هنا فالحركة الإسلامية في مصر ربما منذ 1954م وهي تفتقر لامتلاك وسائل وأدوات إعلاميَّة كافية من حيث الكمّ والنوع والفعاليَّة السياسيَّة كي تتكئ عليها في تحقيق أهدافها السياسيَّة أو حتى الدفاع عن نفسها ضدّ الهجمات الشرسة التي تنصب عليها ليل نهار, ورغم أن الكثيرين يتذرَّعون بالعوائق القانونيَّة التي تضعها الحكومة العلمانيَّة القمعيَّة أمام التصريح بمطبوعة أو فضائيَّة سياسيَّة إسلاميَّة إلا أن العائق الحقيقي في رأينا هو عدم وجود إرادة حقيقيَّة لدى المتنفِّذين وأصحاب الأموال من أبناء الحركة الإسلاميَّة في إنشاء وإدارة مطبوعات وفضائيَّات سياسيَّة إسلاميَّة، وهو ما نعتبره بمثابة حياة أو موت سياسي بالنسبة للحركة الإسلاميَّة المعاصرة في العالم بعامة وفي مصر بخاصَّة.

ومن هنا نفهم تجاذبات وشراسة المعركة بين الدعاة ورموز الحكم في كل العالم الإسلامي حول جوهر وفاعليَّة العمل الدعوي والإعلامي الإسلامي, وهو ما تبرزه في صورة مصغرة بشكلٍ أو بآخر صراعات الإخوان المسلمين مع خصومهم في الانتخابات النيابيَّة المصريَّة الراهنة أيًّا كانت نتائجها النهائيَّة وآثارها وعواقبها المختلفة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تم نشر هذا المقال في موقع الاسلام اليوم.

سعد زغلول و خليفته مصطفى النحاس زعيما حزب الوفد

الليبراليون و الإسلاميون بالواقع السياسي في مصر

الليبراليون و الإسلاميون بالواقع السياسي في مصر تحكم علاقاتهم قصة العلمانية في مصر بشكل عام وكونها خيار سلطة أكثر منه خيار شعب، فالشعب و إن أيد سعد زغلول كزعيم فإنه أيده لموقفه من الاحتلال الانجليزي و استبداد الملك صنيعة الانجليز، فلم يعرض سعد زغلول على الشعب الاختيار بين الحكم بأحكام الشريعة الإسلامية و بين الحكم العلماني بوجهه الليبرالي، و إنما تم تخيير الشعب بين العلمانية الليبرالية المناضلة ضد الاحتلال و بين الحكم الملكي المستبد الموالي للاحتلال.

و نفس الشئ حدث مع جمال عبد الناصر الذي فرض العلمانية (و إن بوجهها الديكتاتوري) بقرار فوقي مثله مثل سعد زغلول, و أيضا أيد الشعب ناصر حيث كان الخيار أمام الشعب هو إما ثورة يوليو و زعيمها و إما الملك الفاسد و الأحزاب المفسدة , و حتى عندما اختلف ناصر مع الإخوان المسلمين فقد كانت حركة الإخوان حركة مرهقة من الضربات الأمنية المتلاحقة و النزاعات الداخلية كما أن الصراع لم يحسمه استفتاء من الشعب بل حسمته الآلة الأمنية الناصرية بجبروتها المعروف, المهم أن الشعب لم يختر بين ناصر و الإخوان, و لم يطلب منه الاختيار بين العلمانية الناصرية و الإسلامية الإخوانية, إنما كان على الشعب أن يختار إما علمانية ناصر الديكتاتورية المناضلة ضد الامبريالية الدولية و الاستعمار الغربي و إما حكومة عميلة للغرب مفروضة بأسنة الحراب الأوروبوأمريكية.

و هكذا استقرت قواعد اللعبة السياسية في مصر على استبعاد الحركة الإسلامية و مشروعها للحكم بأحكام الشريعة الإسلامية من اللعبة السياسية و الحيلولة بين الشعب و بين اختيار نظام الحكم الذي يسيطر على مقاليد البلاد, و لذلك سعي النظام الحاكم دائما للحيلولة بين أي جماعة أو حركة إسلامية و بين أن تتحول لحركة شعبية منتشرة بين شتى قطاعات الشعب و فئاته المختلفة, حتى لو كانت هذه الجماعة جماعة دعوية لا تحمل أي مشروع سياسي كالجمعية الشرعية أو جماعة التبليغ و الدعوة ما دامت تدعو إلى أو تؤيد تطبيق الشريعة الإسلامية, كذلك دأبت الحكومة على التضييق على المشاريع التي تطبق ما عرفه العالم كله الآن باسم الاقتصاد الإسلامي, لنفي صفة أن الإسلام به تشريعات عملية يمكنها حل أزماتنا المعاصرة و في قلبها الأزمة الاقتصادية, و حتى في ظل توجه العالم كله (بما في ذلك دول غير إسلامية) الآن لإفساح المجال للاقتصاد الإسلامي و الصيرفة الإسلامية بما فيها دول الاتحاد الأوروبي و روسيا الاتحادية و غيرها فإن مصر مازالت تضيق الخناق على الأنشطة الاقتصادية الإسلامية و الصيرفة الإسلامية لأنها لا يهمها مصلحة البلاد الاقتصادية و لا يهمها جذب الاستثمارات العاملة في هذا المجال و التي تقدر بمئات المليارات إنما يهمها الحفاظ على قواعد اللعبة السياسية في مصر و هي إبعاد الإسلاميين بكافة تياراتهم عن الشعب و عن الانخراط في اللعبة السياسية الجارية حتى و لو كان ذلك عبر حل مشاكل الناس الاقتصادية.

كما دأبت الحكومة في إطار تنفيذ نفس الأهداف على إبعاد الإسلاميين عن العملية التعليمية و التربوية و الدعوية عبر منعهم من التسرب لكليات جامعة الأزهر التي تخرج الدعاة و الخطباء و المدرسين بل حتى لو تسرب أحدهم و حصل على هذه الإجازات العلمية من هذه الكليات فإنه سرعان ما يتم إبعاده بقرار أمني عن التعليم و عن الإمامة في المساجد, كما يتم إبعاد الإسلاميين بصفة عامة عن التدريس في المدارس الحكومية كما يتم تضييق الخناق على المدارس الخاصة التي يديرها إسلاميون و ينتهي الأمر بأكثرها للتأميم لصالح وزارة التربية و التعليم.

أما على المستوى الإعلامي فقد تم تكثيف الهجوم على جماعة الإخوان المسلمين فكريا حتى سلموا ببعض الشعارات التي بدا ظاهرها أنه تراجع عن مطلب الحكم بالشريعة الإسلامية و إن كان جوهره لا يحمل أي تراجع, حيث نحت الإخوان شعار دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية, و هو و إن بدا للرأي العام انه تراجع (أو تطوير) إخواني لكنه في حقيقته ليس فيه أي تراجع لأن الإسلام ليس فيه دولة دينية بل فيه دولة تحكم بالإسلام أي إسلامية أو مرجعيتها إسلامية, و لكن على كل حال فقد بدا الموقف الإخواني و كأنه يتراجع أمام القصف الفكري العلماني و هذا في حد ذاته يحسب سلبا ضد الإخوان المسلمين.

و من أثار ذلك أن لم يعد أحد الآن يطالب بتحكيم الشريعة الإسلامية كمصدر وحيد للتشريع وصارت مثل هذه الدعوة أمرا مستغربا بعدما كان المطالبون بها منذ أربعين عاما يصمون بمطالبهم الآذان و يزلزلون الأركان.

و لا شك أن أغلب القوى المعارضة غير الإسلامية تتوافق مع سياسة الحزب الحاكم و أجهزته الإعلامية و القمعية في سياسات الإبعاد و الاستئصال التي تتخذها ضد الحركة الإسلامية و من ذلك إبعاد الحركة الإسلامية عن الشعب و إبعاد الشعب عنها و عدم إتاحة الخيار الإسلامي للشعب بين الخيارات السياسية المطروحة و لذلك نجد شبه إجماع بين الحكومة و المعارضة على عدم السماح للحركة الإسلامية بتكوين حزب أو النجاح في أي انتخابات مؤثرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر هذا المقال في الدستور المصرية.

الفتنة الطائفية في مصر صورة أرشيفية

بيشوي و العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر

التصريحات الأخيرة عن القرآن الكريم والتي صدرت عن الأنبا بيشوي أثارت الكثير من ردود الأفعال وربما تركزت معظم ردود الأفعال هذه علي دحض الشبهات التي أثارتها هذه التصريحات من الناحية الموضوعية. ولكن هناك بعداً نريد أن نركز عليه في هذه التصريحات يتمثل في مدي ضرر هذه التصريحات علي العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر.

قد يظن البعض أنه لا ينبغي أن يعتقد الأنبا بيشوي أو غيره من المسيحيين أن القرآن مزيف، وأن عليه أن يعتقد أن القرآن منزل من عند الله حقا وصدقا، و في الواقع أنه لو اعتقد أي مسيحي ذلك فإنه سوف يسلم، وسيترك مسيحيته، ومن هنا فنحن المسلمين لا شأن لنا بما يعتقده المسيحيون ويتعلمونه داخل جدران الكنائس وداخل تجمعاتهم، فكل عقيدة دينية لا شك أنها تري بطلان ما سواها من عقائد وإلا لو نظر اليهود إلي المسيحية علي أنها حق لتنصروا ولو نظر المسيحيون إلي اليهودية علي أنها غير ملغية برسالة السيد المسيح عليه السلام لتحولوا لليهودية (إن كان ذلك ممكنا)، أما الإسلام فهو وإن صدَّق وآمن بجميع الرسل السابقين بمن فيهم موسي وعيسي عليهما السلام إلا أن الإسلام يري أن رسالة الإسلام التي جاء بها النبي محمد صلي الله عليه وآله وسلم هي خاتمة الرسالات السماوية وأن النبي محمد صلي الله عليه وآله وسلم هو خاتم الرسل فلا نبي بعده ولا رسالة بعده كما أن الدين الإسلامي ناسخ لكل الأديان التي قبله، وهذا كله شيء ثابت، فليس من حرية العقيدة التي أقرها الإسلام بقوله تعالي «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي» البقرة 256 أن نجبر المسيحيين علي أن يقروا بصحة الإسلام في كنائسهم ومجامعهم الخاصة، بالضبط كما ينبغي أن يتمتع المسلمون بحرية الدين والعقيدة فيذكرون في أدبياتهم وجوامعهم ومجامعهم أن الإسلام هو وحده الدين الحق قال تعالي «ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين» آل عمران 85، وأنكر الإسلام صلب المسيح عليه السلام فقال تعالي «وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما» النساء 156-157. كما أنكر القرآن الكريم ألوهية المسيح عليه السلام وأنكر بنوته لله قال تعالي «لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار، لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم» المائدة 72-73.

القضية المهمة هي كيف يمكن أن يحدث التعايش وحوار الأديان والحالة هكذا؟!

لا شك أن التعايش سهل إذا صدقت النيات لأن الإسلام يحض ليس فقط علي التعايش مع الآخر الديني ولكن علي البر به والعدل معه قال تعالي «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين أو يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين » الممتحنة 8، أما الحوار مع الآخر الديني بأسلوب حسن فقد ذكره القرآن قال تعالي « ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون» العنكبوت 46، و الحوار سينصب لا شك علي تحسين حالة التعايش بين المسلمين وغير المسلمين تعايشا يسوده البر والعدل دون أن يفتش كل شخص في عقيدة الآخر ويحاكمه عليها ويوجه سهام النقد العلني للعقيدة الراسخة للآخر، علما أن علي الأغلبية واجبات أكبر بسبب ثقلها فالثقل والكبر يزيد من حجم المسئوليات الملقاة علي عاتق ذلك الكبير.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرت هذه المقالة في جريدة الدستور المصرية.

الانتخابات المصرية بين العلمانية والإسلام

الانتخابات المصرية القادمة بين العلمانية والإسلام

الانتخابات المصرية القادمة تأتي في ظل احتدام الصراع العقيدي والفكري وهو صراع يدور بين الفكر العلماني والعقيدة الإسلامية في مصر بشكلٍ دائم بأشكال وأساليب مختلفة، ولعل موقف التيارات الإسلامية المختلفة من انتخابات مجلس الشعب القادمة أبرز مثال على ذلك؛ حيث هناك موقف ثابت بتحريم خوض أي انتخابات برلمانيَّة ترشحًا أو تصويتًا تتبنَّاه التيارات السلفية وغيرها، كما أن هناك موقفًا يتبناه الإخوان المسلمون، قائم على المشاركة في هذه الانتخابات كلما كانت الأحوال مواتية.

أبعاد الصراع الإسلامي العلماني في مصر

ولفهْم أبعاد الصراع الإسلامي العلماني في مصر لا بدَّ من تأمُّل الفصول المختلفة لقصة هذا الصراع منذ بدايتِه, فقد اندلع جدل واسع في بدايات القرن العشرين في مصر حول الطريق الذي ينبغي أن يسلكه المصريون من أجل النهضة، وانقسم المصريون إلى فريقين, فريق يقول أنه لا سبيل للنهضة والتطوُّر إلا بتبني أطروحاتِ الفكر والحضارة الغربية المعاصرة حلوها وشرها, بينما دعا الفريق الآخر إلى حتميَّة تبنِّي المنهج الإسلامي في الدين والدنيا لإصلاح شئوننا والنهوض من كبوتِنا, الفريق الذي دعا لتبني الحضارة الغربية دعا للعلمانيَّة فيما يتعلق بمجال السياسة، ولم يستبعدْ أن يكون المواطن متدينًا فيما بينه وبين ربه، أي داخل جدران بيته ومسجده أو كنيستِه, بينما الفريق الذي تبنَّى الفكر الإسلامي رفع شعار “الإسلام دين ودولة”, كما لم يستبعد أن نستفيد من الحضارة الغربية إيجابياتها ونتجنب سلبياتها.

الفريق العلماني

الفريق العلماني رأى بشكلٍ ضمني حينًا وبشكل مباشر في معظم الأحيان أن حضارتنا العربية أو الإسلامية هي سبب تخلُّفنا عن ركب التقدم التكنولوجي الذي شهدتْه أوروبا في العصر الحديث, ولا يمكن التقدم إلا عبر التخلي عنها والتبني الكامل للحضارة الغربيَّة الحديثة في كلِّ المجالات, كما رأى كثير من أقطاب هذا الفريق أن مصر تنتمي للفراعنة ولا تنتمي للعرب، ومن ثَمَّ فتوجهُها للغرب ليس لأنه من مصلحتها فقط ولكن أيضًا لأنها لا تمتُّ للحضارة العربيَّة (حاملة رسالة الإسلام) بصلة.

الفريقُ الإسلامي

الفريقُ الإسلامي أعلن أن التخلُّف الحضاري الذي شهدته وتشهده المنطقة هو بسبب تخلِّي الأمة عن المنهج الإسلامي الأصيل وانحرافها عن تعاليم الإسلام الحقيقي, وأن الأمَّة الإسلاميَّة والعرب عندما تمسَّكوا بالإسلام كمنهج حياة دِينًا ودولة فإنهم أبدعوا حضارة زاهرة يشهد لها العالم بالتفوق، وذلك منذ عهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحتى نهاية عهود الازدهار الإسلامي, بل وحتى عهود الجمود في التاريخ الإسلامي لم تخلُ من جوانب الازدهار في بعض جوانب الفكْر والفن والعلوم.

باستمرار النقاش وبمرور الوقت نقَّح كل من الفريقين أطروحاتِه، فلم يعدْ هناك مكان للجمود على الأُطروحات التراثيَّة فقط لدى الفريق الإسلامي، ومن ثَمَّ ضعف الفصيل المنتمي لمدرسة الجمود هذه بين الفريق الإسلامي, كما لم يعدْ هناك عداءٌ لكل ما هو قديم أو تراثي عربي أو إسلامي لدى الفريق العلماني وانزوى ذوو مثل هذه الميول في زوايا هذا الفريق العلماني (باستثناء الحالة الماركسيَّة).

أغلبيَّة الشعب مطحونةً

كلُّ هذه المناقشات كانت بين النخبة الفكريَّة والثقافيَّة، بينما ظلَّت أغلبيَّة الشعب مطحونةً في البحث عن لقمة عيشها بعيدًا عن أي أفكار لا إسلاميَّة ولا علمانيَّة, ولكن تلامذة الشيخ محمد عبده أعطوا زخمًا فكريًّا وعمليًّا للفريق العلماني عندما قاد قاسم أمين (تلميذ الشيخ) ما سمَّى بحركة تحرير المرأة، وأصدر كتابيه على التتابع “تحرير المرأة” و”المرأة الجديدة”, كما أعطى تلميذًا آخر للشيخ محمد عبده دفعة عمليَّة للتوجه العلماني في مجال الاقتصاد وهو طلعت حرب باشا، الذي أسَّس بنك مصر وشركاته على أُسُس رأسماليَّة بحتة لم تتأثر لا بالمنهج ولا بالحضارة الإسلامية في شيء، اللهم إلا في التصميمات المعماريَّة والديكورات الخاصة بمقارّ البنك, ثم أعطى سعد زغلول باشا دفعة عمليَّة أخرى للحركة العلمانيَّة (وسعد تلميذ للشيخ محمد عبده أيضًا) في المجالَيْن السياسي والاجتماعي عبر ثورة 1919 التي اعتمدت شعارات وأُطروحات علمانيَّة ليبراليَّة، وترجمت ذلك في دستور 1923 العريق, وهذه الحركة وإن أعطت دفعة للمشروع العلماني سياسيًّا في صورته الليبراليَّة، إلا أن ذلك كان مفيدًا للحركة الإسلاميَّة، لأن أجواء الحرية التي تتيحها الليبراليَّة مفيدة جدًّا لحركة التيار الإسلامي, إلا أن خطورة ما فعله سعد بالنسبة للحركة الإسلاميَّة تكمُن في أنه استغلَّ إنجازاتِه السياسيَّة بنجاحٍ من أجل تغيير المجتمع نحو مزيدٍ من القرب من القِيَم الاجتماعيَّة الغربيَّة، ونجح في ذلك هو وخلفاؤه، سواء من أحزاب الأقليَّة أو حزب الوفد الذي قاده من بعده مصطفى النحاس عبر مناهج التعليم وسياسات التوظيف التي كان أسَّس لها الإنجليز على يد اللورد كرومر، واستمرُّوا في متابعتها حتى خروج الاحتلال من مصر.

الاتجاه “القومي العربي”

جاءتْ ثورة يوليو باتجاه بدا أنه جديد على مصر ومختلف عن الاتجاهَيْن السابقين، وهو الاتجاه “القومي العربي”, فلا هو وطنيَّة مصريَّة كما دعا الفريق العلماني منذ مطلع القرن، ولا هو “أمميَّة إسلاميَّة” كما دعت لها الحركة الإسلامية.

كان عددٌ من قادة ثورة يوليو، وعلى رأسهم عبد الناصر والسادات وخالد محيي الدين، تلامذة لبعض الوقت لدى الإمام حسن البنا، كما استمعوا وأُعجبوا بأحمد حسين (زعيم مصر الفتاة ذي الاتجاه العروبي في آخر أيامِه) ومن ثَمَّ قد نشعر بشيء من الميول -أو بتعبير أدق المظاهر الإسلاميَّة- لدى هذا الاتجاه, ولأن هذا الاتجاه كان عروبيًّا فلم يدعُ لقطيعة مع تاريخنا وتراثنا العربي الذي هو أيضًا إسلامي, لكن أيضًا هذا الاتجاه كان علمانيًّا؛ فعبد الناصر وخالد محيي الدين وغيرهما تتلمذوا كثيرًا على رموز التيَّار الماركسي في مصر، ثم هم اختاروا العلمانيَّة في الحكم وناصبوا الإخوان المسلمين وأطروحاتِهم الإسلاميَّة العداء, ولذلك فرض عبد الناصر العلمانية في الحكم لكن هذه المرة (وبعكس سعد في ثورة 19) دون الليبراليَّة, واستمرَّ نهج نظام حكم يوليو علمانيًّا وبلا ليبراليَّة حتى اليوم.

الجدل الإسلامي العلماني

وبذلك نرى أن الجدل الإسلامي العلماني ظلَّ بين النخبة فقط حتى اليوم, أما الأخذ بالخيار العلماني في الحكم فقد فرضَه قطاعٌ من النخبة دون اختيار من الشعب عبر ثورتي 1919 و1952.

وفي هذا الإطار العام يمكن فهم لماذا ترفض أحزاب الوفد والتجمع والجبهة الوطنيَّة مسألة التحالف في الانتخابات مع الإخوان المسلمين، ولماذا ترفض العديد من القوى السياسيَّة أن يكون للإخوان المسلمين (ومن باب أولى أيّ تيَّار إسلامي آخر) حزبًا سياسيًّا أو مشاركة في الحياة السياسيَّة الحاليَّة, فكلهم يخشَوْن أن تصلَ الأمورُ إلى تخيير الشعب بين العلمانيَّة والعقيدة الإسلاميَّة, فضلًا عن الخشيَة من وصول أي تيَّار إسلامي للحكم فيقوم بعكس ما قام به العلمانيُّون حتى الآن طوال أكثر من مائة عام من تغريب المجتمع ومحاولة علمنتِه، حيث سيكون الفعْل الإسلامي بعكس ذلك كله طبعًا كما يخشى العلمانيُّون من أي قدر مناسب من التعبئة الشعبيَّة في اتجاه الفعل السياسي والاجتماعي والاقتصادي الإسلامي في مصر.

ــــــــــــــــــــــــــــ

نشرهذا الموضوع بموقع الإسلام اليوم.

الإسلاميون و النظام الحاكم في مصر

الإسلاميون والنظام الحاكم في مصر

الإسلاميون والنظام الحاكم في مصر تحكمهما علاقة جديرة بالتأمل، إذ من الملاحظ أن قطاعا واسعا من الإسلاميين إما مؤيدون للنظام الحاكم أو يسلكون سلوكا مؤيدا لهذا النظام, و هذا القطاع الواسع يمكن رصد سلوكه المؤيد للنظام الحاكم في عدة قضايا على النحو التالي:

 تكاد تعتبر هذه التيارات الإسلامية أن هذا النظام الحاكم هو نظام و إن لم يكن مثاليا فهو نظام مقبول بالمعايير الإسلامية حسب رأيهم و فقههم هم , ذلك الفقه الذي يعتبرونه هو المرجعية الإسلامية الثابتة و الصحيحة دون سواها.

دائما ما تتخذ هذه التيارات مواقف حادة بشكل مجاني من قوى المعارضة الإسلامية و العلمانية على حد سواء, و ربما كانت عينهم على سماح النظام لهم بالوجود مقابل هذه المواقف المعارضة لكل من يعارض النظام, و لكن لاشك أن هذا ثمن بخس لسبب بسيط هو أن وجود هذه التيارات حتمي لكل من المجتمع و الدولة و نظام الحكم فالنظام الحاكم لا يسمح لهم بالوجود كمجرد إحسان منه إنما هي ضرورة سياسية و مجتمعية بل و أمنية أيضا هو مضطر لها و محتاج إليها.

كثيرا ما تقوم هذه التيارات بانتقاد أساليب قوى المعارضة المختلفة تلك الأساليب التي تكون بالطبع موجهة للنظام الحاكم و أحيانا نلاحظ أن أشد هذه الأساليب تأثيرا ضد الحكومة هي الأكثر تعرضا للانتقاد من قبل هذه التيارات أو بعضها, و كأن هذه التيارات لم تقرأ قولة أبي سفيان بن حرب (قبل إسلامه) في غزوة أحد عندما قال للنبي صلى الله عليه و آله و سلم ” …… وتجدون مُثلة لم آمر بها ولم تسؤني”رواه البخاري, فهكذا يتبرأ أبو سفيان من سلوكيات فعلها ناس من جيشه أو من فريقه تختلف مع قيمه و مبادئه لكنه يعلن أنها لم تسوؤه لأنها ضد عدوه فما يضيره إن تضرر عدوه, و على كل حال فربما لا يروق للبعض تفهم هذه القضية من خلال مثال لسلوك أبي سفيان أيام كفره لكننا نسوق هنا مثالا أمرنا الله بتأسيه و هو سلوك النبي صلى الله عليه و آله و سلم في واقعة أبي بصير, إذ لما جاء أبو بصير مسلما للنبي صلى الله عليه و آله و سلم و هاربا من تعذيب قريش له بعد صلح الحديبية و رده النبي صلى الله عليه و آله و سلم لقريش حسب معاهدة الحديبية و قتل أبو بصير القريشي الذي تسلمه من النبي صلى الله عليه و آله و سلم و رجع أبو بصير للنبي صلى الله عليه و آله و سلم فجاءه فقال: يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم.فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” ويل أمه ! مسعر حرب لو كان له أحد !” فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر, وانفلت من قريش أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة، فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم”أ.هـ (من سيرة ابن كثير), و كان العهد حينئذ بين النبي صلى الله عليه و آله و سلم و قريش وفق صلح الحديبية بألا يتعرض النبي لقريش بحرب و لا تتعرض قريش للنبي بحرب.

فماذا يضير هؤلاء الإسلاميون أن تنال معارضة إسلامية أو غير إسلامية من النظام الحاكم نيلا بضغط أو إحراج سياسي أو نحو ذلك؟! أليس معارض خصمي هو بالضرورة مجتمعا معي على هدف واحد؟!

كما من الملاحظ أن هؤلاء الإسلاميون الذين نتكلم عنهم لا يثقفون أتباعهم على أساسيات حقيقة الصراع بين الحق و الباطل و لذلك فكثير منهم يرتعدون من مجرد فكرة معارضة النظام معارضة جدية و حاسمة كما أن كثيرا منهم لا يمكن أن يصمدوا في حالة تعرضهم لضغط جدي من النظام الحاكم, و المحصلة النهائية لذلك كله ضعف سياسي عام يعاني منه هذا التيار, الأمر الذي يحدد مدى سقف معارضة هذا التيار للنظام الحاكم ما لو قرر قادة هذا التيار في يوم من الأيام أن يقولوا “لا” قاطعة لهذا النظام.

و السؤال الذي يطرح نفسه بشدة الآن هو ما هو سبب هذا السلوك المؤيد للنظام الحاكم الذي يسلكه هؤلاء الإسلاميون؟

في الواقع هناك أسباب كثيرة اجتماعية و نفسية و سياسية ودينية و طبعا أمنية لكننا سنركز هنا على سببين:

الأول- أن هؤلاء الإسلاميون في غمرة معارضتهم الحادة و التامة للفكر الجهادي الذي يطعن في شرعية النظام الحاكم بشكل كامل و تام قاموا بإسباغ شرعية شبه كاملة على النظام متناسين أن هناك درجات مختلفة من الشرعية و متناسين أنه قد توجد مطاعن شتى على أي نظام حكم بعيدا عن الجدل الجهادي/ السلفي, أو الجدل السلفي / الإخواني, فمستحيل أن يكون النظام الحاكم مرفوض و مكروه و موصوم بكل العيوب و النقائص في كافة المجالات و من كافة قوى الشعب و رموزه الواعية و العليمة ثم يظل هؤلاء الإسلاميون أسرى الفكر التقليدي الذي يرى أن الحاكم دائما على حق مهما فعل, و يعتبرونه و كأنه أمير المؤمنين رغم أننا في دولة علمانية لا تعترف بهذه الأطروحات أصلا و فصلا, و رغم معارضة ذلك للعديد من الأحاديث النبوية الشريفة مثل قوله صلى الله عليه و آله و سلم “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق” و قوله صلى الله عليه و آله و سلم “إنما الطاعة في المعروف” و قوله صلى الله عليه و آله و سلم “أن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا” إلى غير ذلك من الأحاديث و الآيات القرآنية الكثيرة التي تعري هذا النظام تماما.

الثاني- أن هؤلاء الإسلاميون عزلوا أنفسهم عن الواقع السياسي بشكل كامل الأمر الذي جعل صورة هذا الواقع الكاملة بما فيها من تفصيلات هامة مشوشة جدا أمامهم الأمر الذي أخفى عليهم فرص و مخاطر هذا الواقع.