الإسلاميون والحياة السياسية في مصر

الإسلاميون و الحياة السياسية في مصر

ما هو موقع وتأثير الإسلاميين في الحياة السياسية في مصر ؟ ، وفي الواقع فإن كثيرا من الناس يظنون أن كل الإسلاميين أو أغلبهم هم من الإخوان المسلمين, بينما الحقيقة أن هناك مئات الألوف من الإسلاميين لا ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين لا فكرا و لا منهجا و لا تنظيما, و هناك قوى إسلامية عديدة منظمة أو شبه منظمة تتحرك وتعمل في الشارع المصري بجدية و حيوية لا بأس بها, إلا إن صورة الإخوان المسلمين هي الماثلة أكثر في الأذهان بسبب ممارستهم لأشكال من العمل السياسي , والعمل السياسي لا تحتاجه الحركات الإسلامية من أجل الشهرة إنما تحتاجه من أجل تحصيل قدر من القوة و القدرة في مواجهة القمع الحكومي مما سوف يتيح لها مزيدا من العمل والنشاط الإسلامي الفعال والواسع في الواقع المصري, هناك جماعات تظن أن العمل السياسي سوف يعوق عملها عبر استثارة النظام الحاكم عليها الأمر الذي سيدفع أجهزة الأمن لمنع هذه الجماعات من النشاط, و أغلب جماعات الحركة الإسلامية تؤيد هذه الرؤية خاصة عدد من المجموعات السلفية و جماعة التبليغ و الدعوة و الجمعية الشرعية و جماعة أنصار السنة وغيرها, كما أن العديد من مشايخ جماعة الدعوة السلفية خاصة المشايخ ياسر برهامي و سعيد عبد العظيم و عبد المنعم الشحات يرون أن الدخول في مجال العمل السياسي سيدفع جماعتهم لتقديم تنازلات عقائدية وسياسية لا يرغبون في تقديمها, و ربط هذا الفريق بين تحريمهم للترشح للانتخابات النيابية و كذلك كراهتهم التحريمية للمظاهرات و بين اعتزالهم ومقاطعتهم للعمل السياسي.

والواقع أن الذين قاطعوا العمل السياسي خشية استثارة التضييق الأمني ضدهم لم يدركوا حقيقة النظام الحاكم جيدا فالنظام الحاكم لا يعطي للقوى المنافسة التي تهادنه سوى الفتات… هذا إذا كانت قوة سياسية علمانية أما إذا كانت هذه القوة السياسية إسلامية فإنه لا يعطيها سوى فتات الفتات, و لننظر إلى طريقة صناعة القرار في البلاد, و لنتأمل ما هي درجة مشاركة القوى المعارضة العلمانية المهادنة للنظام في صناعة هذا القرار سنجد أن النتيجة صفر.

حتى العلمانيين الذين اندمجوا في نظام الحكم لم يكن حظهم أحسن كثيرا في مجال صنع القرار, إذ القرار هو للقيادة العليا المطلقة فقط, إذن فالمهادنة لا توسع مساحة العمل الإسلامي للمدى المأمول بل تجعله دائما يسير في الإطار المرسوم له من قبل الحكومة و هذا الإطار مناقض لحقيقة و أهداف العمل الإسلامي الذي يسعى أصلا لمنع التخريب العقائدي و التحلل الأخلاقي و الاجتماعي الذي تروج له الحكومة, بينما الحكومة تحافظ بخطوطها المرسومة للحركة الإسلامية على منع فاعلية الإسلاميين في هذا المجال وعلى استمرار التدهور والتخريب العقائدي و الاجتماعي و الاقتصادي, فكما يقال دائما بأن الحرية لا توهب وإنما تنتزع انتزاعا فأيضا الدور الإصلاحي لا يوهب من قبل حكومة مخربة وإنما ينتزع منها انتزاعا.

أما الفريق الذي يتعلل بأن ممارسة السياسة تستدعي تقديم تنازلات لا يرغبون في تقديمها فلابد أن يلاحظوا أن السياسي المحنك لا يمكن لأحد أن يرغمه على تقديم تنازلات لا يريد هو أن يقدمها و من ناحية أخرى فإنه ينبغي تحديد الحكم الشرعي لهذه التنازلات فإذا كانت هذه التنازلات لا يجوز تقديمها فقطعا لا ينبغي تقديمها لكن لابد من ملاحظة أن فقه السياسة الشرعية يتيح تقديم بعض التنازلات السياسية في حالات محددة وفق قواعد شرعية محددة.

هذا فيما يتعلق بتبريرهم اعتزال العمل السياسي بحجة البعد عن الوقوع في شرك تقديم تنازلات مخالفة لرسالتهم و دعوتهم.

أما ما يتعلق بمسألة تحريم الاشتراك في المجالس التشريعية و المظاهرات و الاحتجاج بذلك على أنه ينبغي عدم مزاولة العمل السياسي فهذا اختزال للعمل السياسي في شئ واحد هو انتخابات مجلس الشعب بينما العمل السياسي أكبر و أوسع من هذا بكثير, فإقامة مؤتمرات جماهيرية كبيرة يتم تناول الأحوال السياسية فيها بالنقد والتقييم والمناقشة عمل سياسي هام, و إقامة تواصل سياسي مع قوى و أحزاب معارضة و جماعات حقوق إنسان في الداخل و الخارج هو عمل سياسي هام سيعود بفائدة كبيرة على الحركات الإسلامية التي ستقوم به, و إنشاء وإدارة بث إذاعي و قنوات فضائية سياسية و صحافة مطبوعة كلها أعمال سياسية هامة ومفيدة لكل الحركات الإسلامية, بل النضال السياسي السلمي من أجل توسيع حرية العمل الإسلامي الدعوي بكل مفرداته هو أيضا عمل سياسي مهم وممكن بل يجب استخدام كل الأساليب المذكورة من علاقات مع قوى معارضة ومنظمات حقوقية و إعلام فضائي و غيره و مؤتمرات جماهيرية احتجاجية من أجل تحقيق هذه الغاية, فاليوم لا يمكن للكثيرين مجرد الاعتكاف في المساجد في العشر الأخيرة من رمضان ناهيك عن المنع من إلقاء الخطب و الدروس في المساجد و التجمعات و ذلك كله بسبب القمع المستمر من الحكومة ضد الحركات الإسلامية فضلا عن وجود المئات من المعتقلين الإسلاميين السلفيين في السجون تتراوح مدد اعتقالهم حتى الآن بين عشرة شهور وعدة سنوات, و لا توجد ثمة أداة سياسية للتصدي لكل هذه المشكلات بيد الحركات الإسلامية (عدا الإخوان المسلمين) و لا حل سوى تحصيل أدوات العمل السياسي التي ضربنا أمثلة عليها في السطور السابقة, و إلا فإن ما تفعله هذه الحركات الإسلامية سيحسبه عليهم التاريخ أنه تهرب من ساحة العمل الإسلامي الجاد في زمن لا مناص فيه عن الجدية, صحيح أن لهذا العمل ثمن و ضريبة لكن هل يوجد شئ بلا ثمن؟… حتى الجنة ذكر النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن لها ثمنا فقال: “ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة” وقال تعالى: “أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ” آل عمران142, و قال أيضا: “وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ” محمد38.

حسن البنا

حسن البنا في فكر و مواقف الحركات الإسلامية غير الإخوانية

“لولا حسن البنا ما كنتم أمامي الآن” هكذا قال شيخ مشايخ سلفية العصر الحديث محمد ناصر الدين الألباني عندما سأله أحد تلامذته عن رأيه في حسن البنا.

فالإمام حسن البنا لا ينكر فضله أحد من كافة الحركات الإسلامية لذلك فإننا نجد أحد الباحثين السلفيين وهو الشيخ عبد المنعم الشحات يقول عن الشيخ حسن البنا: “الأستاذ “حسن البنا” شخصية حادَّة الذكاء، متوقدة العاطفة، تملك قدرة عالية على التأثير فيمن حوله، بدأ حياته صوفيًّا في الطريقة الحصافية؛ فطوَّر من شأنها من حركة انعزالية رافضة إلى حركة اجتماعية نشطة عن طريق تأسيسه لجمعية “الإخوان الحصافية”، ثم التحق بكلية “دار العلوم” عن طريق مسابقة أهـَّلته للانضمام إليها رغم حداثة سنه، فانتقل من قرية “المحمودية” إلى “القاهرة”، حيث تأثر بالأستاذين: “محمد رشيد رضا” و”محب الدين الخطيب”، وعرفه الجمهور عندما قدمه “محب الدين الخطيب” كاتبًا في “مجلة الفتح”، واتسعت مدارك الأستاذ “البنا”، وبدا وكأنه يعيش حالة من الصراع بين مورثه الصوفي القديم وبين الثقافة السلفية التي وجد نفسه جزءًا منها.

ويضيف عبد المنعم الشحات: تخرج “الأستاذ البنا” وتم نقله إلى “الإسماعيلية” ليبتعد عن أستاذه في “القاهرة”، ولكنه كان قد التقط من الأستاذ “رشيد رضا” قاعدته التي سماها بقاعدة المنار الذهبية: “نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه”.

ويرى عبد المنعم الشحات أنها “قاعدة كان الأستاذ “رشيد رضا” يطرحها في محاوراته مع الشيعة كتكتيك لجرِّ عقلاء الشيعة، وما يلبث أن يوضح أن المتفق عليه هو الكتاب والسنة كما وردت في كتب السنة هو تعظيم القرون الثلاثة الخيرية، مما دفع الشيعة إلى رفض دعوته، بل إلى تكفيره كما ذكر ذلك في أكثر من عدد من مجلته “المنار”.”

و يشرح عبد المنعم الشحات موقف البنا من هذه القاعدة فيقول “الأستاذ حسن البنا وجد فيها الملاذ الذي يحل به النزاع الداخلي في نفسه بين السلفية والصوفية، كما أنه وجد به السبيل الذي يحل به الصراع الذي كان على أشده بين السلفية والأشاعرة ممثلة في معظم شيوخ “الأزهر” وفي “الجمعية الشرعية”، ثم استعمله لاحقـًا مع الشيعة أنفسهم وبصورة جادة وفاعلة وقابلة لتجاوز كل نقاط الخلاف مع الشيعة فعلاً، مما دفع الشيعة إلى قبول مبادرته على خلاف مبادرة أستاذه “رشيد رضا”.

وحسب عبد المنعم الشحات “فقد صاغ الأستاذ “البنا” “الأصول العشرين” منطلقـًا من هذه القاعدة كما يدرك ذلك كل من طالعها”.

و اعتبر عبد المنعم الشحات أنه “كان لهذه الروح التجمُّعية أثرٌ لرواج دعوة الأستاذ “البنا”؛ لأنها خرجت في وقت يأس وإحباط، وكان الجميع يريد تجاوز مرحلة الكلام إلى مرحلة العمل. وكان لشخصية “البنا” الآسرة دور كبير في انطلاق العجلة على هذا النحو”.

أما الباحث الجهادي د.طارق الزمر فيضع الإمام حسن البنا كأول وأهم قائد إسلامي لأول مرحلة من مراحل تطور الحركة الإسلامية الحديثة و ذلك في بحثه “الحركة الإسلامية بين الماضي و الحاضر والمستقبل”, كما نجد أن الجماعة الإسلامية المصرية بقيادة كرم زهدي كانت قد اعتمدت دراسة تجربة حسن البنا في تأسيس جماعة الإخوان المسلمين كأحد التجارب الإسلامية الهامة و كانت كتب تاريخ جماعة الإخوان المسلمين و بعض كتابات حسن البنا مراجع تثقيفية هامة لدى كل من جماعة الجهاد (مجموعة عبود الزمر) و الجماعة الإسلامية و لا شك أن الدارس المتفحص لتجربة الجماعة الإسلامية يلاحظ تأثرها البالغ بتجربة جماعة الإخوان المسلمين خاصة في مجال الممارسة التنظيمية.

و رغم ذلك كله فإن كلا من السلفيين و تنظيم الجهاد و الجماعة الإسلامية قد سلكوا طرقهم في العمل الإسلامي بعيدا عن جماعة الإخوان المسلمين, فلماذا تم ذلك؟

مما لا شك فيه أن هذه الحركات قد خالفت مواقف و أفكار الإخوان المسلمين في العديد من القضايا الإسلامية, و لنبدأ القصة من بدايتها.

نشأت المجموعات السلفية في مصر في أواخر الستينات و أوائل السبعينات متأثرة بالخط السلفي الذي كانت تدعو له و ترسخه جماعة أنصار السنة المحمدية أثناء غياب الإخوان المسلمين في سجون عبد الناصر, و من ثم تمايز منهجهم الفكري و الشرعي عن منهج الإخوان المسلمين كما لم يكن للإخوان المسلمين فضل في التزامهم الإسلامي أو توجهاتهم الفكرية و السياسية الأمر الذي حرر السلفيين من أي نفوذ فكري أو روحي للإخوان المسلمين عليهم عندما خرج الأخيرون من السجن فوجدوا المساجد و الجامعات مكتظة بالشباب السلفي, حاول الإخوان استقطاب الشباب المتدين و الذي كان أغلبه سلفي إلا أنهم فشلوا مع عدد غير قليل من الشباب بسبب التمايز الفكري بين الفكر السلفي و الفكر الإخواني, و عندما نجح الإخوان في استقطاب عدد غير قليل من الشباب المتدين من جامعات مصر فإن المعركة الفكرية بين السلفية و الإخوان قد استعرت نارها, و انطلقت الفتاوى السلفية في توصيف موقفهم من فكر ومنهج جماعة الإخوان المسلمين لنجد فيها على سبيل المثال ما يلي:

“جماعة الإخوان المسلمين تجمع إلى الخير كثيراً من الدَخَن (أي الشر و الخطأ), والبعد عن السنة والتعصب الممقوت والفتاوى الباطلة والتقليد الأعمى والمداهنات السياسية (أي النفاق السياسي) والإقرار بالبدع (أي الخارجة عن الدين)” و يضيف الكاتب فيقول: “ولا أعنى أن كل شخص منهم فيه ذلك ولكن هذا في جملة الجماعة”

لذلك تنصح هذه الفتوى المسلم بأن “يبحث عن أهل السنة وأتباع سلف الأمة فيكون معهم” أي لا ينضم للإخوان المسلمين و إنما ينضم للسلفيين.

و مما ينتقده السلفيون على الإخوان المسلمين ما تسميه الأدبيات السلفية

بإلغاء الإخوان المسلمين عقيدة الولاء والبراء أي البراءة من الكافرين و مصاحبة و حب المسلمين و كذلك تبني الفكر العلماني, لكن مشايخ السلفية يعتبرون أنه لا يجوز أن يقال عن الإخوان المسلمين ككل مثل هذا الكلام وإنما الحق أن يقال صدر كلام باطل عن أفراد كثيرين من دعاتهم وقادتهم لكن لا يعمم هذا الحكم على الجميع.

و يضيفون: والصحيح أنه يعامل كل فرد فيهم بما يستحقه فمن كان على عقيدة فاسدة وبدعة عومل بناء على ذلك ويلزم تعليمه ودعوته إلى الله, ومن أظهر عقيدة أهل السنة ومنهجهم عومل على ذلك.

و لذلك يقر السلفيون أن في داخل جماعة الإخوان المسلمين تيارا سلفيا مهما و يذكرون من هذا التيار الدكتور الأشقر والدكتور مصطفى حلمي والدكتور عبد الكريم زيدان.

و مما انتقده السلفيون على الإخوان المسلمين أيضا ما يعتبرونه أنه ميل لدى الإخوان المسلمين لما يسمونه بتمييع القضايا مع أهل البدع كالشيعة والصوفية وغيرهم، ولا يهتمون بقضايا العقيدة الإسلامية والالتزام التام بسنة النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم. كما انتقد السلفيون طريقة الإخوان المسلمين في تربية أعضاء الجماعة لأنها تعتمد على طريقة الطرق الصوفية رغم ابتداع الأخيرة، كما رأى السلفيون أن من عيوب الإخوان المسلمين أنهم يتوسعون كل مسائل الخلاف الفقهي حتى غير السائغ منه ليجوزا أراء ساقطة في الفقه الإسلامي على أنها أراء معتبرة، فضلا عن أنهم يشغلون أتباعهم بالانتخابات والمظاهرات وغيرها على حساب العلم والتعلم والتدين، و من هنا يمكن فهم أن السلفيين يعتبرون الإخوان المسلمين جماعة متساهلة عقائديا.

كما انتقد السلفيون قضية البيعة عند الإخوان المسلمين و قالوا هذا أمر حصل فيه نوع من الخلل في الفهم لأن البيعة التي رآها بعض العلماء جائزة على الطاعات أو مشروعة، ظنها الناس أنها بالمعنى السياسي، وتحولت على يد الإخوان من بيعة تشبه البيعة الصوفية إلى البيعة السياسية، وأصبح المرشد بمنزلة الإمام والحاكم على أفراد الجماعة.

و انطلاقا من ذلك كله فقد أفتى العديد من علماء السلفيين بأن الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين على ما هي عليه لا يجوز لأنه يعني السكوت على ما أسموه بـ”كثير من المنكرات”.

و إذا كان هذا هو الموقف السلفي الذي دعا أصحابه لعدم الانضمام لجماعة الإخوان المسلمين رغم تقديرهم البالغ للشيخ حسن البنا رحمه الله, فإن موقف الجهاديين من الإخوان المسلمين له قصة أخرى بدأت عندما تأسست أولى خلايا الجهاد في مصر عام 1966 وقتما كان الإخوان المسلمين في السجن و غداة إعدام سيد قطب, و رأى الجهاديون وقتها أن خطأ الإخوان الأكبر كان في ما اعتبروه ليونة في التعامل مع نظام الحكم إذ لم يكن الجهاديون يؤمنون بغير الانقلاب المسلح كمنهج وحيد للتغيير السياسي و الاجتماعي, و لم يقتصر موقف الجهاديين على ذلك بل لقد خطوا خطوة أبعد من هذا في موقفهم من الإخوان المسلمين عندما بادر د.صالح سرية (الزعيم الجهادي البارز) بمحاولة الاتصال بالإخوان المسلمين بعيد خروجهم من السجن في أوائل السبعينات محاولا إقناعهم بفكرته في الانقلاب المسلح و فعلا نجح في مقابلة الأستاذ المرشد حسن الهضيبي (عبر السيدة زينب الغزالي) و قدم له كراسا مدونا به تصوره الجهادي, و قد تسلم الأستاذ حسن الهضيبي الكراس واعدا د. صالح سرية بالرد لكنه لم يرد على سرية و لم يقابله بعد ذلك أبدا, و إن قيل أن الأستاذ المرشد رحمه الله عندما قابل د.صالح سرية قال له إن بيننا و بين السادات عهود و لن نخل بها.

كان صالح سرية يرى أن الإخوان المسلمين لم يكونوا حاسمين و لا حازمين في موقفهم السياسي بشأن الحكم, و كان يضرب مثالا بكل من حزبي البعث في سوريا و العراق و حركة الضباط الأحرار في مصر حيث كانوا جميعا حاسمين في سعيهم للحصول على السلطة والحكم و من ثم أقام كل تنظيم من هذه التنظيمات دولته و نظام حكمه في الدول الثلاث, أما الإخوان المسلمون بحسب رأي د.صالح سرية فقد اتسم سلوكهم إزاء السعي للحصول على الحكم بالتردد, و من هنا كان سعيه لإقناعهم بتبني المنهج الثوري الذي تبنته المجموعات الجهادية التي كانت موجودة وقتها, و عندما فشل في إقناعهم بادر للقيام بتجربته الانقلابية المعروفة, و التي انتهت بالفشل و إعدام صالح سرية نفسه مع أقرب معاونيه.

فشل تنظيم و انقلاب صالح سرية لم يقنع الجهاديين بالتراجع عن منهجهم بل أصروا عليه حتى اليوم, و صاحب ذلك مزيد من النقمة و شدة الانتقاد لجماعة الإخوان المسلمين, ربما سببها إحساسهم بأن عدم مشاركة الإخوان لهم في منهجهم الانقلابي كان سببا في فشلهم الذي دام منذ صالح سرية سنة 1974 و حتى اليوم, و لكن أيضا لابد من ملاحظة أن زيادة تأثر كتاب و مفكري الجهاديين بالمنهج السلفي زادت من تفاصيل النقد الجهادي للإخوان المسلمين فصار النقد الجهادي في جوانبه الشرعية أشبه ما يكون بالنقد السلفي من حيث الاقتراب الإخواني من العلمانية و من حيث المداهنة السياسية و عدم تبني قضية البراءة من غير المسلمين و عدم الترابط معهم و الدخول في البرلمانات التي ترتكز وظيفتها على التشريع المخالف للشريعة الاسلامية, و كذلك تمييع القضايا الشرعية لتوسيع دوائر المباحات بلا مستند شرعي بل و بعكس السند الشرعي (و لقد وصف كثير منهم أبرز مشايخ الإخوان المعاصرين بمفتي الحلال و الحلال و كأنه لا يحرم شيئا) و ذلك كله حسب الرأي الجهادي و هم في ذلك كله متطابقون مع الآراء السلفية في هذا المجال.

أما في المجال السياسي فنجد أن الجهاديين ركزوا على تاريخ و حاضر الإخوان بشأن مواقفهم المهادنة لكل من الملك فاروق و أحزاب الأقلية الموالية للملك كالسعديين و حزب الأحرار الدستوريين و غيرهما فضلا عن حكومات هذه الأحزاب خاصة حكومة النقراشي و كذلك موقفهم من كل هذه القوى بعد مقتل الإمام حسن البنا و تولي المرشد الثاني الأستاذ المستشار حسن الهضيبي بما في ذلك مهادنته لإبراهيم عبد الهادي الذي سام الإخوان سوء العذاب في السجن وتسجيل المرشد الثاني و عدد من قادة الإخوان المسلمين اسمائهم في دفتر التشريفات بالقصر الملكي بل و زيارة المرشد الثاني و مقابلته للملك فاروق, و القارئ لكتابات الجهاديين في هذا المجال يشعر أنه تكرار للنقد الذي وجهه د.رفعت السعيد للإخوان المسلمين بعامة و لحسن البنا بخاصة في كتابه “حسن البنا كيف و متى و لماذا” إلا أنه صيغ صياغة إسلامية بحيث استند النقد على أساس مخالفة هذه الأفعال السياسية للأحكام الشرعية الإسلامية من قبيل عدم المداهنة و عدم الرضا عن الحكم بغير ما أنزل الله و البراءة من الحاكمين بغير الشريعة و مناصبتهم العداء و النضال ضدهم و الصدع بالحق في وجوههم, كما انطلق النقد الجهادي من هذه الوقائع إلى الربط بينها و بين ما يعتبره الجهاديون ليونة و تساهل في مواقف الإخوان المسلمين من الحكومة المصرية و الأحزاب العلمانية و البابا شنودة في الأربعين سنة الأخيرة.

بعض الجهاديين شن حرب النقد هذه ضد الإخوان المسلمين بلا هوادة و بلا التماس لأي عذر مثل د.أيمن الظواهري في كتابته و تصريحاته العديدة, و كذلك د.هاني السباعي المفكر الجهادي المشهور المقيم في لندن, لكن أبرز ما قيل في هذا الصدد على الإطلاق هو كتاب “الحصاد المر..الإخوان المسلمون في ستين عاما” و هو من تأليف د.أيمن الظواهري و صدرت منه طبعتان كانت أولاهما عام 1990, كما أنه موجود و منتشر جدا على شبكة الانترنت حتى على غير المواقع الجهادية و تم تحميله آلاف المرات.

و على عكس د.أيمن الظواهري فإن د.طارق الزمر في تقييمه لدور الإمام حسن البنا يلتمس له الأعذار إذ اعتبر أن الأخطاء التي وقع فيها الإمام الشهيد ترجع إلى أن حسن البنا اضطر للقيام بكل الخطوات و الأعمال التكتيكية و الإستراتيجية معا على حد سواء مما أظهر العديد من مظاهر التناقض في مواقفه رغما عنه.

محمد البرادعي

تصريحات البرادعي حول التغيير السياسي في مصر مليئة بالأوهام

التغيير السياسي في مصر يشغل أغلب القوى السياسية المصرية ومن هنا جاء الاهتمام بتصريحات الدكتور محمد البرادعي المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية و أبرز المعارضين الآن لنظام الرئيس حسني مبارك، حيث دعا جميع قوى المعارضة والأحزاب السياسية المصرية لمقاطعة الانتخابات البرلمانية و الانتخابات الرئاسية المقبلة و أسمى هذه الانتخابات بالديكورية, و أكد الدكتور البرادعي أنه في حالة نجاح الدعوة لمقاطعة الانتخابات لن يستطيع النظام أن يبقي يومًا واحدًا، و أضاف: هذا متوقف علي مدي نجاحنا في إقناع جميع الأحزاب المؤثرة والقوي السياسية المختلفة بمقاطعة الانتخابات الديكورية وتقديم المصالح الوطنية علي المصالح الشخصية الضيقة.

و قال البرادعي: إننا مطالبون حاليًا بتحكيم عقولنا وليست عواطفنا وأن نفكر في أساليب غير تقليدية من بينها اللجوء للشعب مباشرة، ففي ظل عدم وجود انتخابات نزيهة باعتراف النظام نفسه وفي ظل غياب الأحزاب الحقيقية والنقابات ليس من المطلوب أن نبدأ معركة التغيير بثورة الجياع والعنف ولكن علينا أن نبدأ بالأساليب السلمية للوصول إلي انتخابات نزيهة.

و تبدو هذه التصريحات للدكتور البرادعي منطقية و متوازنة لأول وهلة لكن التعمق في تحليل محتواها يظهر احتوائها على عدة ألغام, فأول هذه الألغام و أوضحها هو قوله إذا نجحنا في إقناع جميع الأحزاب المؤثرة …الخ و اللغم هنا هو ماذا لو لم تنجح يا دكتور البرادعي في إقناعهم و خاض كثير منهم الانتخابات؟ ما هو خيارك السياسي في هذه الحالة؟ لا سيما و قد صرحت سابقا أنت و العديد من قادة حركتك التغيرية أن العصيان المدني هي ورقتكم الأخيرة, و في حالة فشل البرادعي في حمل أغلبية الشعب و قواه السياسية على مقاطعة الانتخابات فإن ذلك معناه أن حركة التغيير التي يقودها ستكون أعجز عن إقناع الأغلبية بالقيام بعملية العصيان المدني.

أما اللغم الثاني فقوله علينا اللجوء للأساليب السلمية للوصول لانتخابات نزيهة, فهذا الكلام رغم أنه صحيح فإنه متناقض مع دعوته لمقاطعة الانتخابات, إذ أن مقاطعة الانتخابات حتى لو نجحت فهي لن تهز شعرة في جسد النظام الديكتاتوري الحاكم, فمقاطعة الانتخابات لا تجدي في الدول التي تحكمها نظم استبدادية تزور الانتخابات لأنها ستزورها و ستزعم أن الإقبال على الانتخابات كان كبيرا بشكل غير مسبوق, كما إن نظم الحكم المستبدة جلدها سميك فلا تحس بأي وخز ضمير و لا بأي حرج سياسي حتى ولو لم يذهب للانتخابات أحد فنحن لسنا هنا في انجلترا أو السويد نحن في الشرق الأوسط حيث العراقة في الديكتاتورية و الاستبداد, و بالتالي فإن الأساليب السلمية للوصول إلى انتخابات نزيهة تقتضي دخول الانتخابات ليس لأنها لن يتم تزويرها و لكن لتعبئة الشعب و تدريبه على العمل الجماعي المنظم السياسي و السلمي تمهيدا لمزيد من الأعمال الجماعية السياسية الأخرى في مناسبات تالية.

و إذا كنا مطالبين حاليًا بتحكيم عقولنا وليست عواطفنا كما يقول البرادعي (و هنا لغم آخر) فإن ذلك يقتضي أن نفهم أن الأغلبية العظمى من الشعب المصري تتسم بقدر كبير من السلبية السياسية إما خوفا من القمع الحكومي و إما يأسا من حدوث أي نتيجة ايجابية للنضال من اجل التغيير و إما إعراضا عن العمل العام لحساب الشأن الخاص في ظل الضغوط الاقتصادية التي يعاني منها أغلبية الشعب حيث يناضل الواحد منهم نضالا مريرا بشكل يومي لمجرد الحفاظ على اقل من الحد الأدنى لمتطلبات العيش له و لأسرته, و إذا فهمنا ذلك فعلينا أن نصوغ الحلول المناسبة لهذه المشكلات بشكل عقلاني و منطقي أي نقنع كل هؤلاء بحتمية المشاركة في النضال من أجل التغيير السياسي, و هذا يقتضي أعمالا جماهيرية لتثقيف و تعبئة الجماهير بشكل سلمى لا الانغماس في الأحلام الوردية التي عاشها قادة المعارضة المصرية منذ السبعينات و حتى الآن من انه يكفي الدعوة لمظاهرة أو مقاطعة الانتخابات أو مقاطعة جهة ما حتى يتغير الكون , فهذا كله حرق للمراحل و قفز فوق درجات السلم للوصول لأخره قبل المرور بأوله و هيهات أن ينجح أحد في ذلك حتى لو كان من الأنبياء.

الفتنة الطائفية في مصر صورة أرشيفية

الفتنة الطائفية بين التاريخ و الجغرافيا في مصر

عزز حوار الأنبا بيشوي يوم الأربعاء 15 سبتمبر مع المصري اليوم العديد من الهواجس بين العديد من المراقبين حول إمكانية اندلاع الفتنة الطائفية في مصر, و كانت تطورات أحداث قضية كاميليا شحاتة منذ شهرين و ما صحبها من ردود أفعال متنوعة قد أثارت مثل هذه المخاوف, و لكن لا شك أن مصر عصية على الفتنة الطائفية بين المسلمين و الأقباط منذ دخل الإسلام مصر, فتاريخ مصر و جغرافيتها تشهد على وحدة و تجانس الشعب المصري مع تنوع دياناته و عقائده, فالمسيحية لم تشهد حرية اعتقاد و عبادة إلا في ظل الحكم الإسلامي الذي حررها من نير الاستعباد و الاضطهاد الروماني الذي كان يتدخل في أدق شئون العقيدة لدى المسيحيين المصريين و يسعى لإكراههم و إرغامهم على الاعتقاد بمذهب الدولة البيزنطية في مجال الاعتقاد المسيحي, و عندما دخل عمرو بن العاص مصر كان قادة رجال الدين المسيحي المصريون هاربين من حكام مصر الرومان و متخفين في صحراء مصر خوفا من البطش و القمع الروماني لهم, و ما إن حكم المسلمون مصر حتى أطلقوا حريات المسيحيين الأمر الذي أدى إلى تحول أغلب المسيحيين المصريين إلى اعتناق الإسلام بعد عقود من الفتح الإسلامي لمصر, و من هنا صار أغلب المصريين مسلمين بسبب سماحة الإسلام و احترامه لغير المسلمين و عدله مع جميع مواطنيه بغض النظر عن اللون أو الجنس أو العرق أو الدين, لا يمكن لأحد أن يزعم أن أغلبية مواطني مصر المسلمين هم من العرب, لأن الجيش العربي الذي فتح مصر لم يتجاوز عدده الأربعة آلاف مقاتل.

و حتى لو حدثت هجرات عربية بعد ذلك فمستحيل أن تكون بعدد يفوق عدد سكان مصر بكل هذه النسبة لا سيما إذا قارناه بعدد العرب من سكان الجزيرة العربية اليوم الذي لا يصل مجموعهم لأربعين مليون بينما عدد سكان مصر الآن نحو 85 مليون نسمة, فالقول بأنمسلمي مصر هم العرب الفاتحون و إنكار أن أغلب المصريين الذين كانوا مسيحيين قد دخلوا في الإسلام كل هذا استكبار و مكابرة تجافي التاريخ و الجغرافيا و المنطق العلمي السليم.

و من ناحية تاريخية أخرى فإن مواطني مصر المسيحيين ظلوا في ترابط مع مسلميها حتى في أحلك الظروف فحتى أيام الحروب الصليبية لم يحاول أغلب مسيحي مصر الانشقاق و التعاون مع الغزاة بل ظلوا يدعمون المجهود الحربي الإسلامي ضد الصليبيين, و نفس الشئ تكرر في حملة لويس التاسع الصليبية على دمياط ثم في العصر الحديث في الحملة الفرنسية و بعدها أيام الاحتلال الانجليزي في كل هذه المراحل وقفت أغلبية المسيحيين المصريين مع مواطنيهم المسلمين يدعمون نضال المسلمين ضد الغزاة, هذا كله من حيث التاريخ, فتاريخ علاقة المسيحيين و المسلمين المصريين هو تاريخ من التعايش و التجانس الدائم و لا يشوش على ذلك القليل من التوترات التي افتعلها أو يفتعلها جهال أو متطرفي أي طرف لأن ذلك من القليل النادر الذي لا ينبني عليه حكم عام.

أما من حيث الجغرافيا فإن بيوت و مواطن بل و حتى مقابر المسلمين و المسيحيين المصريين متجاورة و متداخلة بحيث لو شاء أحد الأعداء الخارجيين أو المتطرفين الداخليين أن يقسم البلاد إلى دولة مسيحية و أخرى مسلمة فإنه لن يجد أي سبيل إلى ذلك بسبب تداخل و ترابط مواطن كلا الفريقين من المصريين, فلا يوجد في مصر حي يخلو من مسلمين و مسيحيين معا, و لا توجد منطقة في مصر أو محافظة يمكن القول بأنها منطقة أو محافظة مسيحية فقط بعكس دول أخرى حدث فيها فتن طائفية على خلفيات دينية أو عرقية و ساعد على ذلك فيها التحيزات المناطقية.

و هكذا فإن تاريخ و جغرافية مصر تقفان ضد الفتنة الطائفية بين المصريين مسلمين و مسيحيين, و أي شخص يعمل على بذر بذور الفتنة الطائفية فهو يعمل ضد التاريخ و الجغرافيا… ترى هل يمكن لأحد أن يغلب التاريخ و الجغرافيا؟!

الدولة الاسلامية صورة تعبيرية

كيف بني النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم الدولة الإسلامية ؟

كيف بني النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم الدولة الاسلامية ؟ ، لم يبن النبي صلى الله عليه و آله و سلم دولة و مجد الإسلام إلا بتوفيق و تسديد من الله تعالى، ولكننا هنا لن نعرض للمظاهر الغيبية لهذا التوفيق والسداد إنما نعرض للمظاهر و الأسباب المادية التي وفق الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم لصناعة دولة و مجد الإسلام عبرها.

في البداية كانت مكة, وفي البداية كانت دعوته صلى الله عليه وآله و سلم سرية لمدة ثلاث سنوات حتى كون نواة الإسلام الأولى بعدها سارت الدعوة العلنية مسارها عشر سنوات في مكة, خلالها لم يستخدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيا من مظاهر استعمال القوة في التعامل مع مخالفيه و استخدم الصبر و أمر المسلمين باستخدام الصبر كدرع ضد الاضطهاد والتعذيب الذي تعرضوا له.

وفي مكة كانت العمليات الأساسية ذات التأثير السياسي التي قام النبي صلى الله عليه وآله و سلم بها منحصرة في ثلاث:

العملية الأولى- البناء الداخلي لمجتمع المسلمين: و ذلك عبر وسائل و أدوات عدة, قائمة كلها على تعاليم الإسلام في ذلك الوقت وكانت ذات طبيعة روحية مثل قيام الليل بالصلاة و تلاوة القرآن و كان دائما هناك تذكير بأحوال الأمم السابقة و عاقبة كل من الظالمين و المسلمين في كل أمة, و قبل ذلك و معه كان ترسيخ مفاهيم العقيدة الإسلامية الصحيحة بصفائها و نقائها و تمايزها عن العقائد الباطلة, مع تبشير المسلمين بمستقبل مملوء بالنصر و التمكين والمجد.

و قد حققت هذه الأدوات و الوسائل نجاحا منقطع النظير ممكن إدراك مداه من إدراك حجم النجاح الذي تحقق في بناء الشخصية المسلمة لدى كل صحابي أو صحابية ممن تربوا في العصر المكي وحجم الانجاز الذي حققوه لأمة الإسلام سواء في عصر النبي صلى الله عليه وآله و سلم أو بعده, وتصفح سير و انجازات أمثال أبي بكر الصديق أو عمر بن الخطاب أو حمزة بن عبد المطلب أو مصعب بن عمير أو أبي عبيدة بن الجراح أو عثمان أو على أو غيرهم يظهر ذلك بجلاء فكلهم أبناء العصر المكي للدعوة الإسلامية.

العملية الثانية- تحقيق أكبر قدر متاح من الحماية للمسلمين: داخل المجتمع المكي الوثني المعادي للإسلام و المسلمين وفق الأعراف و الفرص التي كانت سائدة آنذاك في هذا المجتمع, مثل كتمان الإيمان و الإسرار بالعبادات الإسلامية بالنسبة للبعض , ومثل القبول أو طلب حماية بعض سادة قريش الوثنيين ممن تعاطفوا مع بعض المسلمين بسبب أواصر الدم و النسب أو الصداقة أو بدوافع أخلاقية ذاتية ومن أبرز الأمثلة على الحماية التي تمت بدافع النسب و الدم حماية أبي طالب للنبي صلى الله عليه وآله و سلم و حماية عشيرة أبي بكر الصديق له و كذا عشيرة عثمان ابن عفان له و غيرهم, ومن أبرز عمليات الحماية بدوافع أخلاقية حماية المطعم بن عدي للنبي صلى الله عليه وآله و سلم بعد عودته من الطائف و كذلك إجارة ابن الدُغنة (سيد القارة) لأبي بكر الصديق عندما همَّ الأخير بالهجرة إلى الحبشة.

و في إطار الرغبة في تحقيق هذه الحماية أيضا تم استعمال أسلوب آخر هو أسلوب الهجرة و في هذا الإطار تمت عمليتا الهجرة للحبشة, الهجرة الأولى و الهجرة الثانية, وهما في التحليل الأخير دخول في حماية ملك أجنبي عن مكة هو ملك الحبشة الذي كان معروفا عنه في ذلك الوقت أنه ملك عادل لا يظلم أحدا.

و قد حققت هذه الأدوات كلها نجاحا ملحوظا و إن تفاوتت درجاته, و رغم هذا ففي هذه المرحلة تم حبس النبي صلى الله عليه وآله و سلم و عشيرته من بني عبد المطلب و بني هاشم (سواء مسلميهم أو كافريهم المساندين للنبي) في شعب أبي طالب ثلاث سنوات لا يصلهم الطعام إلا تهريبا, كما تعرض الكثير من المسلمين للتعذيب طوال العشر السنوات التي دارت فيها الدعوة الإسلامية في مكة في شقها العلني, بل مات بعض المسلمين تحت التعذيب كما تعرض الكثيرون منهم لإصابات بالغة و خطيرة, و ذلك لحكمة أرادها الله تعالى, و أوجه حكمة الله في ذلك عديدة لكن أبرزها أمران:

1- أنه لو كان الدخول في الإسلام سهلا هينا لدخل فيه كثيرون من غير الصادقين من الانتهازيين و الوصوليين و المنافقين الأمر الذي كان سيضعف قدرة الجسد الإسلامي منذ بداية نشأته و هو أمر ضار جدا في البداية وبالعكس إذ لما حدث هذا بعد ذلك في المدينة بعدما قوى الجسد الإسلامي أمكنه تجنب الآثار الضارة لهذه الظاهرة.

2- لما كان مقدرا أن يدخل الإسلام في نضال مسلح ضد الظلم و الطغيان في مراحل تالية من تاريخه فإن مروره بهذه المرحلة من الاضطهاد كانت كفيلة بأن تدفع عنه فرية القول بأنه انتشر بالسيف إذ لو كان انتشر بالسيف فكيف كان السيف مسلولا على أتباعه قتلا وتعذيبا و تشريدا طوال عشر سنوات في مكة و مع ذلك ظلوا يزدادون عددا و لا يقلون ولم يرفع واحد منهم سيفا, و لم يكن المسلمون يملكون سيفا و مع ذلك أسلم الجسم الرئيس من قبيلتي المدينة المنورة الأوس و الخزرج في هذه المرحلة.

العملية الثالثة- سعي النبي صلى الله عليه و آله وسلم لإقامة دولة الإسلام في بلد غير مكة: وذلك عبر دعوة كبار ورؤساء العديد من قبائل الجزيرة العربية للإسلام والتعاهد على النضال من أجل حماية دعوة الإسلام, كانت دعوة النبي صلى الله عليه و آله وسلم لزعماء القبائل تتم في موسم الحج من كل عام بمكة كما أنه ذهب بنفسه الشريفة للطائف حيث عرض دعوته علي زعمائها فرفضوا الإسلام, و في هذا الإطار دعا النبي صلى الله عليه و آله وسلم العديد من القبائل و رفض البعض بينما تردد آخرون و في النهاية قبل الأوس و الخزرج الإسلام وهما القبيلتان العربيتان اللتان كانتا تسكنا يثرب.

و بعد قبول أهل يثرب للدين الإسلامي انتقل المسلمون ليثرب التي أصبحت اسمها المدينة المنورة بانتقال النبي صلى الله عليه و آله وسلم لها لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ الإسلام.

بدأ النبي صلى الله عليه و آله وسلم إقامة الدولة في المدينة المنورة بإقامة المسجد النبوي الشريف الذي بإنشائه صار مقر الحكم ورمز الدولة الإسلامية كما قام صلى الله عليه و آله وسلم بوضع أسس العلاقة بين المسلمين الذين جاءوا معه من مكة (والذين جرى تسميتهم بالمهاجرين) وبين مسلمي الأوس والخزرج سكان المدينة الأصليين (والذين تم تسميتهم بالأنصار أو أنصار رسول الله) وكانت الأُخُوة بين هذين الفريقين هي أساس هذه العلاقة فيما سمى بالمؤاخاة بين المهاجرين و الأنصار, فقد جعل النبي صلى الله عليه و آله وسلم كل واحد من المهاجرين أخا لواحد من الأنصار و جرى الشرع حينئذ على أنهما كالشقيقين يتوارثان بعضهما البعض (إلى أن تم إلغاء هذا التوارث في نهايات البعثة النبوية مع استقرار تشريعات الميراث في شكلها النهائي), فكان من ذلك أن آخى بين أبي بكر و خارجة بن زيد, و آخى بين الزبير و كعب بن مالك, و آخى بين عثمان بن عفان وبين رجل من بني زريق بن سعد الزرقي رضى الله عنهم أجمعين.

وقد ضرب الأنصار أروع ألوان الإيثار في هذه الأخوة حيث صار كل أنصاري يقسم بيته وكل مزارعه أو أمواله مع أخيه المهاجر حتى زوجاته فقد كان يسعى ليطلق نصفهن ليزوجها لأخيه المهاجر, وافق بعض المهاجرين على عرض الأنصار بشأن تقاسم الدور ولكنهم رفضوا تقاسم النخل بل قبلوا العمل معا على أن يصيروا شركاء في ما ينتج من ثمر, بينما رفض بعض المهاجرين أخذ شئ من الأنصار كعبد الرحمن بن عوف الذي قال لأخيه الأنصاري جزاك الله خيرا و بارك الله لك في مالك وزوجك أريد فقط أن تدلني على السوق و انطلق إلى السوق فباع و اشترى حتى صار من كبار تجار المسلمين الأثرياء.

وفيما فعله المهاجرون والأنصار نزلت العديد من الآيات تثني على سلوكهم هذا كقوله تعالى: “وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ” التوبة100, وقال سبحانه بشأن المهاجرين فقط “للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ” الحشر8, ثم قال سبحانه بشأن الأنصار: “وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” الحشر9, وفي المهاجرين والأنصار من كبار الصحابة ورد َعنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ: “قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ، وَلاَ نَصِيفَهُ.” رواه البخاري.

ولم تقتصر خطوات تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة على بناء المسجد والإخاء بين المهاجرين و الأنصار فقط بل كانت هناك خطوات أخرى لصهر بقية سكان المدينة من يهود و وثنيين في إطار مواطنة الدولة الإسلامية, ومن هنا تأتي أهمية الوثيقة المشهورة باسم وثيقة المدينة بينما أطلق عليها بعض الكتاب المعاصرين اسم “دستور المدينة” و ذلك لأنها بحق بمثابة نص دستوري هام جدا وفي منتهى الأهمية والتحضر والتقدم الدستوري, وكان من أهم بنود هذه الوثيقة المعروفة في كتب التراث باسم الصحيفة أو صحيفة المدينة ما يلي:

1- المسلمون من قريش و يثرب ومن تبعهم و لحق بهم وجاهد معهم, أمة واحدة من دون الناس.

2- هؤلاء المسلمون جميعا على اختلاف قبائلهم يتعاقلون بينهم و يفيدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

3- إن المؤمنين لا يتركون مفرحا (أي المثقل بالديون) بينهم أن يعطوه في فداء أو عقل.

4- أن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم (أي ظلم كبير) أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين, و إن أيديهم عليه جميعا و لو كان ولد أحدهم.

5- لا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ولا ينصر كافر على مؤمن.

6- ذمة الله واحدة, يجير عليهم أدناهم, والمؤمنون بعضهم موالي بعض دون الناس.

7- لا يحل لمؤمن أقر بما في الصحيفة وآمن بالله و اليوم و الآخر أن ينصر محدثا أو يؤويه, و إن من نصره أو أواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة, لا يؤخذ منه صرف و لا عدل.

8- اليهود ينفقون مع اليهود ما داموا محاربين.

9- يهود بني عوف أمة مع المؤمنين, لليهود دينهم و للمسلمين دينهم إلا من ظلم و أثم فإنه لا يوتغ (أي لا يهلك) إلا نفسه و أهل بيته.

10- إن على اليهود نفقاتهم وعلى المسلمين نفقاتهم وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.

11- كل ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله.

12- من خرج من المدينة آمن , ومن قعد آمن, إلا من ظلم و أثم.

13- إن الله على أصدق ما في الصحيفة وأبره, وإنه جار لمن بر و اتقى.” انتهت أهم بنود هذه الوثيقة الدستورية.

وكفى بها ترسيخا وتأسيسا لأصول الحكم وحقوق و واجبات المواطنة وحرية الاعتقاد في دولة الإسلام الوليدة التي بدأت لتوها تشق طريقها في غابة الوثنية في الجزيرة العربية بل و في العالم.

وهكذا وضع النبي صلى الله عليه وآله و سلم أسسا ثلاثة للدولة الناشئة:

– المسجد: كمقر للحكم و مركز للقيادة و الإرشاد والتوجيه والتعليم و التثقيف.

– الإخاء بين المهاجرين و الأنصار.

– كتابة الصحيفة التي تنظم العلاقة بين كل مواطني المدينة بمختلف دياناتهم و قبائلهم وأعراقهم و التي أيضا ترسخ لسلطة الشريعة الإسلامية مجسدة في سلطة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

و لكن هل هذه الأسس الثلاث كافية لبناء دولة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشكل يكفل لها تحقيق كل أهدافها؟

طبعا كان هناك أساس رابع باقي هو بناء الجيش, ورغم أن أتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان معظمهم قد مارسوا القتال في جاهليتهم وعرفوا كيف يحملون السلاح و يستخدمونه في ظروف “لا يبقى فيها من لا يحمل سلاحا” , و رغم أن الأنصار الذين قامت دولة الإسلام في المدينة على أكتافهم قد أعلنوا للرسول يوم بيعتهم في العقبة عن قدراتهم في القتال و بأسهم في الحروب, إلا أن الظروف الجديدة التي بدأ الإسلام يجتازها و تصاعد الموقف الحربي بينه و بين القوى الوثنية و خاصة في أعقاب الهجرة إلى المدينة, و نزول الآيات القرآنية تؤذن ببدء القتال المسلح كل ذلك حتم على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن ينمي هذه القدرات و أن يدفع أتباعه إلى مزيد من التدريب والمهارة العسكرية في مواجهة الأعداء الذين يحيطون بالدولة الجديدة إحاطة السوار بالمعصم, و راح الرسول القائد صلى الله عليه وآله وسلم طيلة العصر المدني يعمل دونما تهاون على تعليم أتباعه فنون القتال وتدريبهم على استعمال السلاح رافعا شعارا واضحا لا غموض فيه وهو قوله تعالى: “وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ”الأنفال60.

ـــــــــــــــــــــــــــ

نشرت في جريدة اليوم السابع.

حسني مبارك صورة أرشيفية

أزمة الكهرباء في مصر والفتنة الطائفية

لو كتبت عن الأزمة التى أثارتها قضية إسلام كامليا شحاتة زوجة كاهن دير مواس، فأنا متأكد أن بعض القراء سوف يعلق بما معناه إحنا فى إيه ولا إيه كفاية علينا أزمة الكهرباء في مصر وأزمة الماء وغيرهما، والأحسن أن تكتب بشأنهما بدلا من قضية إسلام كاميليا شحاتة.

والواقع أن القضيتين مترابطتان من جانب مهم جدا وهو طبيعة نظام الحكم الذى يحكم البلاد، فأى نظام حكم وظيفته الأهم والأبرز هى إدارة الموارد (تنميتها وتنظيمها وتوزيعها) وهذه الموارد لا تشمل الموارد الاقتصادية فقط ولكن تشمل أيضا الموارد السياسية، ومن هنا فإن ما يجرى من سوء فى إدارة الموارد وعدم عدالة توزيعها لا يقتصر فقط على الموارد الاقتصادية بل هو يشمل أيضا الموارد السياسية من مشاركة فى صنع القرار الوطنى و حريات عامة سياسية وشخصية ودينية وعدالة وغير ذلك.

فنظام حكم الحزب الوطنى الحاكم حول البلاد لمجموعة دويلات لها تميزها فى الحصول على ما تشاء من موارد اقتصادية وسياسية بينما هناك دويلات الفقراء الذين لا يحصلون على شىء من هذه الموارد لا الاقتصادية ولا السياسية.

فمثلا هل يمكن لفقراء مصر أن يؤثروا فى صنع القرار العام فى مصر بنفس درجة تأثير البابا شنودة أو أى رجل أعمال بارز من الحجم الثقيل؟ وهل يمكن لأى مزارع أو بدوى مصرى أن يحصل على مساحة واسعة من أراضى الصحراء بنفس السهولة والحرية والمميزات التى يحصِّلها أى دير قبطى أو أى رجل أعمال من الوزن الثقيل؟

وفى هذا الإطار يمكننا فهم قضية كامليا شحاتة ووفاء قسطنطين وكافة القبطيات اللاتى تحولن للإسلام وقامت الدولة بالقبض عليهن وتسليمهن قسرا للكنيسة القبطية التى اعتقلتهن بحجج مختلفة فى كنائس وأديرة لا تخضع للقانون المصرى ولا للقضاء المصرى كما هو واضح من تصرفات الكنيسة القبطية بصفة عامة فى السنوات الأخيرة.

طبعا تصريحات كثيرة صدرت عن مصادر كنسية بأن كامليا شحاتة أو وفاء قسطنطين أو غيرهما لم يسلمن ويستدل بها المغفلون والمتغافلون على أن هؤلاء النسوة لم يسلمن وتتناسى هذه المصادر الكنسية بل قل الكنيسة القبطية أنهم هم وكنيستهم جميعا متهمون بقهر وقمع عدد من النسوة لمنعهن من ممارسة حق مهم من حقوقهن هو حق حرية الاعتقاد وهو حق كفله الدستور والقانون المصرى، فضلا عن جميع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان فكيف سيصدقهم أحد، ثم كيف يصدقهم عاقل بينما هم مستمرون فى هذا القمع لحرية الاعتقاد ومستمرون فى حبس كل من تختار ترك المسيحية لأى سبب من الأسباب، فلماذا يعلنون هم أن كامليا شحاتة أو وفاء قسطنطين غير مسلمة وهم مستمرون فى اعتقالها (بل هناك إشاعات أن وفاء قسطنطين قد قتلت تحت التعذيب بأحد الأديرة) لماذا لا يتركونها تعيش بحرية كمصرية حرة وتقرر هى ما تريد أن تعتقده وتعلن هى حقيقة هذا القرار؟ أليس كل هذا دليل على أنهن أسلمن ومحتجزات لدى الكنيسة لهذا السبب.

وعندما وجدوا أن الوضع بات أشد ضغطا عليهم بشأن إسلام كامليا شحاتة دخل الأزهر على الخط ووجدنا المسئول عن إشهار الإسلام بالأزهر يزعم أن كامليا لم تتقدم بطلب لإشهار إسلامها ويتناسى هذا الشيخ أن الإسلام لا ينعقد فقط بالتسجيل فى الكشوف التى لديه، فالمسلمون دأبوا على الإسلام قبل اختراع هذه الكشوف وقبل وجود الأزهر نفسه ولم يطعن أحد فى هذا الإسلام كما أن هذا الشيخ وموظفيه متهمون بأنهم عرقلوا إسلام كامليا فهم خصوم لكامليا فكيف نصدق كلام خصم لها من شأنه أن يضرها بلا دليل.

نرجع للكهرباء، كما شاب الفساد طريقة إدارة الموارد السياسية للبلاد فميزت فئات على فئات فى السياسة فهى فعلت الشئ نفسه بشأن الاقتصاد فميزت رجال الأعمال الموالين لها وللحزب الحاكم على سائر الشعب فانهارت شبكة الكهرباء على دماغ الفقراء لصالح المقاولين والشركات التى نفذت هذه الشبكة بنقود الشعب فنفذوها دون المواصفات، كما ميزت الحكومة إسرائيل على الشعب فأمدتها بالغاز المصرى بدلا من أن تمد محطات الكهرباء المصرية به، وأيضا ميزت رجال الأعمال وإسرائيل أيضا الذين ظلوا يعرقلون المشروع النووى المصرى فاستجابت لهم الدولة إذعانا للامتيازات التى تتمتع بها إسرائيل ورجال الأعمال فى مصر.

وهكذا تعيش مصر أزهى عصور الامتيازات التى يختص بها المحظوظون دون أغلبية أبناء مصر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر هذا الموضوع في موقع جريدة اليوم السابع.

صلى الله عليه و آله و سلم

الكيفية التي هيأ الله بها النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم لتلقي الوحي

لم ينزل الوحي على النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم الا بعد تهيئة من قدر الله تعالى, فعلى المستوى العام كان العالم محتاجا للنبي الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم كي ينقذه من الهاوية التي سقط فيها, و على مستوى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقد كان صلى الله عليه و آله و سلم قد مر بالعديد من التجارب الانسانية و الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية هيئته بتقدير الله تعالى لتحمل أعباء الدعوة و قد تعرضنا لذلك تفصيلا في الاسبوع الماضي, و يأتي الآن الدور لعرض التهيئة الروحية و الأخلاقية التي قدر الله تعالي لنبيه أن يمر بها قبل البعثة و أثر ذلك بعد البعثة.

و لا شك أن البعد الأخلاقي في حياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم يبرز واضحا نقيا في انسلاخه الحاسم عن كل ممارسات الجاهليين الغير أخلاقية التي كانت تعج بها الحياة العربية في المدن و الصحراء.. شربا للخمر و استمراء للزنا و لعبا للميسر و تصعيدا للربا و تهافتا على مال اليتيم ووأدا للبنات و ظلما للذين لا يقدرون على رد الظلم و استعبادا محزنا للذين لا يعرفون طعم الحرية .. ممارسات شتى لا يحصيها العد, كانت تجرى على مسرح الجزيرة العربية و مدينتها الكبرى “مكة” ليل نهار, و نظرا لتعاقبها و تكرراها فقد صارت كل هذه الأخلاق الذميمة عادات راسخة و تقاليد مستقرة, ثم تجاوزت هذا لكي تصبح مفاخر و مكرمات يتبارى العرب في الاتيان بالمزيد منها, و محمد صلى الله عليه و آله و سلم بعيدا عن هذا كله منسلخ منه .. و لقد منحه موقفه النبيل هذا نظافة و طهرا لم يعرفهما انسان قط, و علمه في الوقت نفسه كيف يكون الرفض و التمرد على الوضع الديني, الوضع الغير انساني مهما حمل هذا الوضع من تبريرات انتقلت به من كونه فسقا و اثما و فجورا إلى مرتبة العادات و القيم و المفاخر و المعتقدات الراسخة.

ويري عماد الدين خليل محقا أن البعد الروحي هو أشد الأبعاد ثقلا و خطرا في حياة الانسان, و الروايات القليلة التي تحدثنا عن عزلة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بعيدا عن صخب مكة و ضجيجها حينا بعد حين و عن انقطاعه إلى الصحراء و حيدا متأملا باحثا منقبا مقلبا وجهه في آفاق السموات و الأرض هذه الروايات تكفي لالتقاط الاشارة الأخيرة الحاسمة المتممة للصورة التي علينا أن نعرفها عن حياة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم قبل مبعثه, فكما علمه الانشقاق الأخلاقي عن الوضع المكي القدرة على الرفض و التمرد فقد جاء تغربه و عزلته و انقطاعه امتدادا نفسيا باتجاه آخر لكنه متمم, و بدونه لا يمكن لانسان ما أن يلعب دوره الحاسم الكبير.. انه امتداد باتجاه التهيؤ للاندماج و الاتصال بالوحي و مواجهة رفض الجاهلية و التمرد على قيادتها و اعرافها و سلطانها مع اندماج بالكون على انفساحه داعيا البشرية لهجرة مواضعها المنحرفة الخاطئة التي ساقتها إليها زعامات ظالمة و سلطات مستبدة و الوهيات زائفة, و أعراف و بيئات مليئة بالدنس و الوحل و الخطيئة, إنه تمهيد للاتصال بالسلطة الواحدة التي تشرف على الكون و تحرك الانسان و الخلائق في ساحاته .. سلطة السماء.

و في نفس الاطار (و إن بأسلوب مختلف) تأتي حادثة شق الصدر فقد بقي النبي صلى الله عليه و آله و سلم عند مرضعته حليمة في بني سعد حتى بلغ الرابعة أو الخامسة من عمره و عندئذ حدثت واقعة شق الصدر إذ آتاه جبريل و هو يلعب مع الغلمان فأخذه فألقاه على الأرض, فشق صدره و استخرج قلبه و استخرج منه علقة, فقال: هذا حظ الشيطان منك, ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم, ثم أعاد صدره كما كان ثم أعاد النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى مكانه, بينما كان الغلمان قد سعوا إلى حليمة فقالوا إن محمدا قد قتل, فلما جاءته وجدته صلى الله عليه و آله و سلم ممتقع اللون, و هذه الحادثة هي بلا ريب من المعجزات التي تعجز عقولنا و علمنا البشري عن ادراك حقيقتها في ميداني النفس و التشريح لأنها (كأي تجربة أو حدث روحي) لا تخضع لمقاييس العقل و الحس المحدود, يكفينا أن نلتقط منها رمزا او دلالة تغطي مساحة ما في صورة الأربعين سنة من حياة محمد صلى الله عليه و آله و سلم, يقول محمد الغزالي: “شئ واحد هو الذي نستطيع استنتاجه من هذه الأثار, ان بشرا ممتازا كمحمد صلى الله عليه و آله و سلم لا تدعه العناية عرضا للوساوس الصغيرة التي تتناوش غيره من سائر الناس, فإذا كانت هناك موجات تملأ الأفاق, و كانت هناك قلوب تسرع إلى التقاطها و التأثر بها, فقلوب النبين بتولى الله لها لا تستقبل هذه التيارات الخبيثة و لا تهتز لها, و بذلك يكون جهد المرسلين في متابعة الترقي لا في مقاومة التدني, و في تطهير العامة من المنكر لا في التطهر منه, فقد عافاهم الله من لوثاته”.

و ما دمنا بصدد تحليل المؤثرات البيئية و الوراثية و الغيبية في تكوين الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وتهيئته للرسالة, فإن حادثة شق الصدر تقف في القمة من المؤثرات جميعا, صياغة روحية مادية لشخصية النبي الانسان, و تهيئته من لدن العليم بأسرار النفوس الخبير بتعقيدات الشخصية البشرية .. لكي يكون محمد صلى الله عليه و آله و سلم بالذات ووفق تكوينه الموجه قادرا على التقاط اشارة السماء و مقابلة الوحي و تحمل المسؤولية رسولا للناس جميعا ليصعد بهم إلى القمم الشامخة التي تنقطع دونها أنفاس الرجال.

و من هنا أجمع جميع المؤرخين على أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان متميزا بحسن الخلق كصدق الحديث و الأمانة حتى سموه بالصادق الأمين, و كانوا يودعون عنده ودائعهم و أماناتهم, كما كان صلى الله عليه و آله و سلم لا يشرب الخمر و لا يأكل ما مما ذبح على النصب و لا يحضر للأوثان عيدا و لا احتفالا بل كان من بداية نشأته نافرا من هذه المعبودات الباطلة.

كما كان صلى الله عليه و آله و سلم يأكل من نتيجة عمله لأن أباه لم يترك له ثروة , و كانت التجارة هي عمله حين شب , و لما تزوج خديجة كان يعمل بمالها و يشركها في الربح و كان يشارك غيرها أحيانا.

و رغم ذلك كله فعندما بعث الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه و آله و سلم و أمره ان ينذر قومه و يدعوهم للاسلام و نزل قوله تعالى “و أنذر عشيرتك الأقربين” الشعراء 214, خرج رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم حتى صعد الصفا, فهتف بهم فاجتمعوا له , فقال “أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا, قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.

فقال: أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟

ثم انصرف و تبعه القوم, فنزلت سورة “تبت يدا أبي لهب”.

و هكذا نجد ان الكفار لم تجد معهم أخلاق النبي صلى الله عليه و آله و سلم التي اشتهر بها بينهم من الصدق و الأمانة و حسن الخلق بل كذبوه و عاندوه الا قليلا ممن كتب الله لهم نعمة الاسلام.

و اشتدت قريش في عدائها للنبي صلى الله عليه و آله و سلم و أصحابه, أما رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فقد لاقى من ايذائهم أنواعا كثيرة من ذلك ما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما: بينا النبي صلى الله عليه و آله و سلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه و دفعه عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله”

كما روى عبدالله بن عمر رضى الله عنهما قال: بينا النبي صلى الله عليه و آله و سلم ساجد و حوله ناس من قريش جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزور فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه و آله و سلم فلم يرفع رأسه فجاءت فاطمة رضى الله عنها فأخذته من على ظهره و دعت على من صنع ذلك”.

و منه ما كانوا يواجهونه به من فنون الاستهزاء والسخرية و الغمز و اللمز كلما مشي بينهم أو مر بهم في طرقاتهم او نواديهم.

و من ذلك ماورد من أن بعضهم عمد إلى قبضة من تراب فنثرها على رأسه و هو يسير في بعض طرق مكة, و عاد إلى بيته و التراب على رأسه, فقامت إليه إحدى بناته تغسل عنه التراب و هي تبكي و رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يقول لها: يا بني لا تبكي, فإن الله مانع أباك.

و أما أصحابه رضوان الله عليهم فقد تجرع كل منهم ألوانا من العذاب حتى مات منهم من مات تحت العذاب و عمي من عمي, و لم يثنهم ذلك عن دين الله شيئا و لا تتسع المساحة لسرد الوان العذاب التي لاقاها كل منهم و ما قصص تعذيب بلال بن رباح و آل ياسر و غيرهم عنا ببعيد.

و قد يكفينا ما ذكره الخباب بن الأرت رضى الله عنه قال أتيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هو متوسد ببردة و هو في ظل الكعبة, و لقد لقينا من المشركين شدة فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟ فقعد و هو محمر الوجه, فقال: لقد كان من كان من قبلكم يمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه, و ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف الا الله و لكنكم قوم تستعجلون”.

و بالاضافة لحسن خلقه صلى الله عليه و آله و سلم فقد كان حليما صبورا فصبر على أذى قومه له في سبيل دعوته و لم يتعجل بالدعاء بهلاك قومه مثلا, و من ذلك ما ذكرته عائشة رضى الله عنها من أنها قالت للنبي صلى الله عليه و آله و سلم هل أتي عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: “لقد لقيت من قومك و كان أشد ما لقيته منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت و أنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا و أنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي و إذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك و ما ردوا عليك, و قد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد إن قد سمع قول قومك لك, و أنا ملك الجبال, و قد بعثني ربي إليك لتأمرني فيما شئت, و إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين (أي الجبلين المحيطين بمكة), فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا”.

و عائشة رضى الله عنها هي نفسها التي قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم شيئا قط بيده و لا امرأة و لا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله, و ما نِيلَ منه شيئا قط فينتقم من صاحبه إلا أن يُنْتَهَكَ شئٌ من محارم الله تعالى, فينتقم لله تعالى”.

كما كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ذا حلم و صبر واسع بل لا نهاية له في تعامله مع جهلة المسلمين و من أمثلة ذلك ما ذكره أنس رضى الله عنه عندما قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و عليه برد نجراني غليظ الحاشية فادركه أعرابي فجذبه بردائه جذبة شديدة فنظرت إلى صفحة عنق النبي صلى الله عليه و آله و سلم و قد أثرت فيها حاشية البردة من شدة الجذبه ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك, فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء”.

و لعله رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم كان يقصد نفسه في ما ذكره ابن مسعود رضى الله عنه في قوله: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يحكي نبيا من الأنبياء صلوات الله و سلامه عليه ضربه قومه فأدموه و يمسح الدم عن وجهه و يقول: اللهم اغفر لقومي فانهم لا يعلمون”.

و مع ذلك فقد ظل النبي صلى الله عليه و آله و سلم يتمتع بالعديد من الصفات و السمات السلوكية المتميزة بعد البعثة و ظل يسير بها بين الناس, فمنها حسن خلقه صلى الله عليه و آله و سلم قال تعالى: “وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ” القلم 4, و عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: “لقد خدمت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عشر سنين فما قال لي قط: أف , و لا قال لشئ فعلته لِمَ فعلته؟ و لا لشئ لم افعله ألا فعلت كذا”.

و عن الصعب بن جثامة رضى الله عنه قال: أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم حمارا وحشيا فرده على, فلما رأى ما في وجهي قال: “إنا لم نرده عليك إلا أنا حُرُمْ”.

و عن عبدالله بن عمرو رضى الله عنهما قال: لم يكن رسول الله فاحشا و متفحشا, و كان يقول: إن من خياركم أحسنكم خلقا”

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرت في جريدة اليوم السابع الأسبوعية

كاميليا شحاتة و أبو يحي

الفتنة الطائفية على الأبواب في مصر

في الأسبوع الماضي كثر النقاش في عدد من الصحف، خاصة الصحف الإلكترونية الإسلامية والمنتديات وموقع الفيسبوك، حول تزايد نفوذ الكنيسة القبطية المصرية السياسي والأمني بشكل فاق نفوذ الدولة المصرية نفسها واعتبر البعض أنها أصبحت دولة داخل الدولة، وجاء ذلك كله علي خلفية تسليم جهاز الأمن للسيدة كاميليا شحاتة زوجة الكاهن (التي كانت هربت من زوجها) للكنيسة المصرية حيث قررت الأخيرة حبس كاميليا في مكان مجهول تابع للكنيسة وعمل غسيل مخ لها بدعوي أنها تعرضت لغسيل مخ من مسلمين، كما صرحت مصادر كنسية في مناسبة تالية بأنها تتعرض لجلسات كهرباء (بيكهربوها في دماغها يعني) لأنها تعبانة نفسيا، وكل هذه المعلومات متداولة وموثقة علي الإنترنت وبعضها فيديو علي موقع يوتيوب وغيره.

القضية ليست قضية إسلام مسيحية (حتي لو كانت زوجة كاهن أو قس) إنما القضية هي حرية الاعتقاد وتنازل الدولة عن العديد من وظائفها بل أكثر من وظائفها للكنيسة القبطية .. كيف؟

الدولة وحدها لها حق الحبس والاحتجاز وفق القانون، وفي هذه الحادثة (وغيرها) الدولة أعطت الكنيسة حق الحبس والاحتجاز ليس وفق القانون بل بالمخالفة للقانون، فلا عقوبة بلا جريمة ولا جريمة بلا نص، وكاميليا شحاتة وغيرها ممن تحولن من المسيحية إلي الإسلام مُحتجزات في أماكن تابعة للكنيسة بلا جريمة وهنا تكمن السخرية، فبينما لا يملك نظام حكم الرئيس مبارك بكل سطوته أن يحتجز شخصًا بلا جريمة حتي إنه شرَّع لنفسه قانون الطوارئ ليتغلب علي هذه المسألة فإن الكنيسة القبطية بزعامة البابا شنودة باتت تعتقل المتحولات للإسلام بلا حتي قانون طوارئ وذلك طبعًا لأنه لا يوجد أي قانون في العالم يسمح للكنيسة المصرية بأن تحتجز أي أحد.

و يمكن تخيل ما يمكن أن يحدث أو يُقال لو قرر شيخ الأزهر تسلم عدد من المتحولين من الإسلام للمسيحية مثل نجلاء الإمام أو محمد حجازي وزوجته، وطلب من جهاز أمن الدولة إحضارهم لساحة الجامع الأزهر (علي اعتبار جدلي أن جهاز أمن الدولة سيطيع شيخ الأزهر بنفس درجة طاعته للبابا شنودة ونوابه) وقام الأزهر باحتجازهم داخل أروقته بدعوي أنهم جري لهم غسيل مخ وأنه سيغسل المغسول كما قال أحد القساوسة علي قناة «الحياة» علي الهواء، فماذا عساها تقوله منظمات حقوق الإنسان وكذلك الحقوقيون وكبار الكتاب والمفكرون الليبراليون في مصر حينئذ؟ طبعا كانوا قد ملأوا الدنيا صراخا وعويلا عن حرية العقيدة واستبداد الأزهر وتطرفه وعودة الدولة الدينية الديكتاتورية …إلخ ، أما الآن فكل هذه الجهات «صم وبكم» تجاه محاكم التفتيش التي تقيمها الكنيسة المصرية داخلها في القرن الـ21، قرن الحريات والعولمة وحقوق الإنسان، قرن لجنة الحريات الدينية بالكونجرس الأمريكي المنافق.

ورغم أن كل هذا أمر صادم جدا، لكن الأكثر فجاجة وصفاقة وهو ما لم يلحظه الكثيرون هو الصراحة التي بلغت درجة التبجح في تصريحات المصادر الكنسية حول القضية .. إذ كيف يعلنون علي الفضائيات ووسائل الإعلام إنهم يجرون غسيل مخ لكاميليا شحاتة الآن بإحدي الشقق بالقاهرة، حتي وإن عللوا ذلك بأنها سبق وأجري لها المسلمون غسيل مخ؟!..

وكيف تصرح مصادر أخري لبعض الصحف بأن كاميليا منهارة نفسيًا الآن وأنها تُجري لها جلسات كهرباء علي مخها؟!، أفهم أنهم يستخدمون حالة الهزال والتقزم التي يعاني منها نظام الرئيس حسني مبارك وحزبه الحاكم الآن للحصول علي مكاسب طائفية ظنا منهم أن ذلك سيدوم، وأفهم أن نشوة الانتصارات التي يحققونها الآن قد تعمي قادة الكنيسة عن حقائق التاريخ والجغرافيا، فتعزز عندهم طبيعة النزوع البشري للطغيان الكامن داخل أي إنسان فيقيمون محاكم التفتيش سرًا في قلب الأديرة شاسعة المساحة البعيدة عن العمران والبعيدة عن أي رقابة أمنية أو قضائية، لكن أن يجروا محكمة التفتيش هذه للسيدة كاميليا شحاتة في قلب القاهرة ( الشيء نفسه فعلوه عام 2004 للسيدة وفاء قسطنطين زوجة كاهن أبو المطامير التي أسلمت) فهذا تبجح يفوق الوصف واستهانة بالشعب المصري بمسلميه وأقباطه قبل أن يكون استهانة بحكومتنا القزمة الهزيلة.

وطبعًا حاولت أجهزة الدولة التنصل من الاتهام الذي وجه إليها برفضها إسلام السيدة كاميليا شحاتة وتسليمها للكنيسة رغمًا عنها، فصرح رئيس لجنة الفتوي بالأزهر بأنها لم تسجل أي طلب لإشهار إسلامها بالأزهر، ونسي فضيلة الشيخ أو تناسي أو حتي أُملي عليه أن يتناسي أن موظفيه رفضوا أن يسمحوا لها بالقيام بإجراءات إعلان إسلامها بناء علي أوامر عليا صدرت لهم.

إسلام كاميليا شحاتة وقبلها وفاء قسطنطين وغيرهن من المحتجزات عند الكنيسة المصرية واضح وضوح الشمس، إذ لو لم يكن قد أسلمن فلماذا الإصرار علي احتجازهن حتي الآن؟ وهل كل واحدة زعلانة من زوجها تقوم الكنيسة باعتقالها عندها؟ طبعا لا، إذ إن عشرات الألوف من الزوجات المسيحيات بينهن وبين أزواجهن مشاكل ولم تعتقل الكنيسة أيًا منهم ولا منهن، فلماذا لا تحتجز إلا حفنة من النساء أسلمن بشكل أو بآخر؟! الجواب سهل جدًا..

وأيًا كان الأمر فنحن لا نناقش قضية إسلام أو مسيحية، فإسلام واحد أو تنصر آخر لن يؤثر في الوضع العام بشيء فهي قضية شخصية بحتة، ولكن الذي نناقشه هو ممارسات الكنيسة المصرية التي تفتح الباب علي مصراعيه لفتنة طائفية بسبب مخالفتها كل القوانين والأعراف ومواثيق حقوق الإنسان الدولية ظنًا منها أن الوضع الهزيل للحكومة سيدوم، وهذا لا يقلقني لأن هذا الوضع قطعًا لن يدوم، لكن الذي يقلقني أن يتحمس بعض المتسرعين فتنفتح أبواب فتنة طائفية لا تُبقي ولا تذر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرت في جريدة الدستور.

محمود عباس أبو مازن

فلسطين وأوهام السياسة العربية

بدأت المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية الأخيرة غير المباشرة على أساس أجندة سياسية تعتمد على أساس أن تسير المفاوضات تقريبية بشكل غير مباشر لمدة أربعة أشهر، وبعد ذلك يتم الانتقال إلى “المفاوضات المباشرة” إذا ما تحقق تقدم، وإذا ما أجاب نتنياهو على “أسئلة الأمن والحدود”، كما على النحو الذى طالب به الفلسطينيون، ولم يمض أكثر من شهرين حتى انتقل الإسرائيليون والأمريكيون إلى المطالبة بالدخول فى المفاوضات المباشرة، دون أن تتقدم تلك المحادثات التقريبية خطوة واحدة.

ولاحظنا هجوماً ثلاثياً أمريكيا وإسرائيلياً وأوروبياً مركزاً منسقاً على السلطة والعرب لإجبارهم على الذهاب إلى المفاوضات المباشرة.. فماذا كان رد فعل السلطة الفلسطينية؟

رئيس السلطة محمود عباس توجه للدول العربية ممثلة فى الجامعة العربية فى مسعى تكلل بحصوله على موافقة العرب على توجه السلطة للمفاوضات المباشرة دون شروط، وذلك عندما وافقت لجنة مبادرة السلام العربية قبل أسبوعين تقريباً على ذلك، وإن تركت توقيتها وكيفيتها لرئيس السلطة.

ثم عاد محمود عباس يعلن أنه كى يعود للمفاوضات المباشرة بلا شروط، فإنه يريد دعماً سياسياً من الدول الكبرى، مطالباً الرباعية (الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى وروسيا) أن تكرر بيانها الذى أصدرته فى مارس الماضى، والذى يدعو إسرائيل لوقف الاستيطان والتوصل إلى اتفاق خلال 24 شهرًا.

وتقول السلطة، إنها تريد دولة فلسطينية على أراضى 1967 عاصمتها القدس الشرقية على أساس حل الدولتين، وهو حل لا شك أن الاستيطان يعوقه، أما نتانياهو فهو لم يعلن حتى الآن تجميد الاستيطان.

وقال رئيس دائرة المفاوضات فى منظمة التحرير الفلسطينية صائب عريقات، إن السلطة تريد محادثات مباشرة لكن “بجدول أعمال محدد وسقف زمنى محدد، وأن تقوم إسرائيل بوقف الاستيطان بما يشمل القدس، وقبول مرجعية الدولتين على حدود عام 1967 مع تبادل متفق عليه”.

ونسى عريقات أو تناسى أن الضغط الإسرائيلى والمؤيد من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى هدفه شىء واحد محدد هو عودة المفاوضات المباشرة بلا قيد أو شرط.

وأثناء ذلك كله وبعده يمكننا قراءة الأخبار التالية فى مختلف وسائل الميديا: “قالت الخارجية الأمريكية إن الوزيرة هيلارى كلينتون بحثت بيان الرباعية مع الأمين العام الأممى بان كى مون ومبعوث الرباعية تونى بلير ووزير الخارجية الروسى سيرغى لافروف.

وقال المتحدث باسم الخارجية فيليب كراولى إن واشنطن تؤيد إصدار مثل هذا البيان إذا كان يسمح بالانتقال إلى المحادثات المباشرة”.

“قال نتنياهو فى لقاء مع ميتشل فى القدس إنه متمسك بالمفاوضات المباشرة، وهو هدف تتشاطره معه الإدارة الأمريكية، كما قال المبعوث الأمريكى”.

فلماذا هذا التكالب الثلاثى على إجبار الضحية للذهاب إلى مفاوضات ميئوس من نتيجتها؟! ولماذا كثرة الكلام عن هذه المفاوضات وخطواتها رغم أن كل هذه المفاوضات أموراً فارغة وليس لها أى مضمون و لن تحقق أى هدف؟

فى الواقع فإن الحكومة الإسرائيلية تطبق فى هذا المجال مقولة لوزير الخارجية الأمريكى الأسبق هنرى كسينجر، قال فيها “أوهم الآخرين بأنك تتحرك فى حين تكون ثابتا”، وهذه المقولة واضح أنها أساس التحركات الأميركية-الإسرائيلية المشتركة فى حدوتة المفاوضات، وذلك ليس تطورا طارئا على السياسات الإسرائيلية أو الأمريكية فى المنطقة، بل هى إستراتيجية إسرائيلية وأمريكية و أوروبية ثابتة بشأن العمليات السياسية (و الاقتصادية أحيانا) فى العالم الاسلامى منذ أن تدهورت قدراته ومكانته السياسية والإستراتيجية.

ولعل السؤال الذى يطرح نفسه الآن هو ما الغاية من هذه الاستراتيجية التى يمارسونها تجاهنا؟

الإجابة بسيطة لكنها مؤلمة وهى: أنهم يمارسون علينا عمليات التخدير لئلا نيأس فنلجأ إلى استراتيجيات وتكتيكات أخرى فى أى عملية سياسية على نحو مضاد لأهدافهم ومصالحهم، وكلنا يذكر مؤتمرات القمة العربية الطارئة أو المنتظمة التى لا تنتج أى شىء مفيد للعالم العربى أو للقضية الفلسطينية والتى رغم ذلك تتكلف مئات الملايين من الدولارات كان أطفال فلسطين أولى بها، ولكنها طبعاً مفيدة لأمريكا وإسرائيل لأنها قطعا تخدر الشعوب العربية التى تظل تنتظر وتنتظر النتائج والتحركات والقرارات العربية دون أن يتحقق شىء ودون أن تيأس الشعوب العربية فتلجأ إلى طرق وأساليب أخرى لحل مشاكلها أملاً فى الجامعة العربية وقراراتها، لذلك فإنه ما لم تفهم الشعوب العربية حقيقة هذه الأوهام السياسية فإنها ستظل تنتظر وتنتظرإلى يوم القيامة دون أدنى جدوى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرت في موقع جريدة اليوم السابع.

المسجد النبوي في المدينة المنورة

هل كان النبي محمد مصلحا اجتماعيا أم قائدا سياسيا أم أنه خاتم المرسلين؟

عندما بلغ سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم الأربعين من عمره خرج فى شهر رمضان كعادته إلى غار حراء متأملا مفكرا مقلبا وجهه فى السماء وفى ليلة الإثنين من أواخر الشهر الكريم جاءه جبريل بأمر الله تعالى.

وحينئذ بدأ الوحى وبدأت نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم, فكيف كان العالم وقتها؟ وكيف تهيأ النبى الكريم لتغيير هذا العالم؟

كانت الوثنيات بأشكالها المختلفة تسيطر على العالم من الهند والصين وفارس شرقاً إلى أوروبا وأفريقيا غرباً, فمن عبادة النيران فى بلاد فارس إلى عبادة الأحجار والأشجار فى أفريقيا إلى الجدل الذى وصل حد الاضطهاد الدينى والتقاتل بالسلاح حول حقائق العقيدة المسيحية فى بيزنطة بل والإغراق فى الجدل الفلسفى العقيم حتى صار اسم بيزنظة علما على كل جدل عقيم, الوثنية والجدل العقيم حتى فى الألوهيات سيطرا على العالم شرقاً وغرباً, وتدهورت القوى العسكرية لكل من امبراطوريتى فارس والروم حتى صارتا تعتمدان على حراس من عرب الجزيرة العربية ليحرسوا حدودهما الجنوبية وتمثل ذلك فى مملكتى المناذرة والغساسنة, العالم تعمق فى الوثنية والضلال والشهوات حتى انغمست الكعبة بيت الله الحرام فى الأوثان ذلك البيت الذى كان قد أعاد بناءه إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام على أسس التوحيد الخالص «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوعَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (129)» البقرة.

وكانت جزيرة العرب منغمسة فى هذه الوثنية من عبادة الحجر والشجر مع وجود بقايا قليلة من أهل الكتاب اعتراهم ما اعترى أهل الكتاب فى ذلك العصر من خلاف وجدل حول حقائق العقيدة, وزاد العرب على وثنيتهم تفككهم السياسى ولم يختلفوا كثيراً فى تحللهم الاجتماعى عمن حولهم من أمم فارس والروم والحبشة إلا أن مظاهر هذا التحلل ربما اختلفت بشكل أو آخر من وأد البنات وكثرة الحروب والسلب والنهب والعصبية القبلية البغيضة التى طالما أشعلت الحروب وقطعت الأواصر فضلاً عن الطمع والخمر والقمار والمتعة المحرمة وتسخير الأقوياء للضعفاء.

◄◄ مكة قلب الجزيرة

كانت مكة قلب الجزبرة العربية معنوياً واقتصادياً ومن ثم سياسياً, ففى مكة بيت الله الحرام الذى يقدسه كل العرب بجميع قبائلهم وعقائدهم, وعبر مكة كانت تجارة الشرق والغرب تمر من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب وبالعكس عبر رحلة الشتاء والصيف حيث كان تجار مكة يتجهون فى الشتاء إلى اليمن وفى الصيف إلى الشام لتناقل التجارة من هنا لهنا وبالعكس فضلا عن تسويقهم جزءا كبيرا من هذه السلع فى موسم الحج ببيعه لسائر قبائل الجزيرة العربية من حجاج البيت الحرام.

ومن هنا تمتع أهل مكة وهم قبيلة قريش بفروعها العديدة بمكانة سياسية ومعنوية واقتصادية كبيرة بين سائر العرب, وكانت قريش تنقسم اجتماعيا إلى شعبتين كما يقول العقاد – واحدة من أصحاب الترف والطمع وهذه كانت تحرص على استبقاء الأمر الواقع على ما هو عليه لأنه يوافق هواها, أما الشعبة الثانية فكانت من أصحاب السماحة وكانوا أناسا وسطا بين مقام الطغاة الظالمين من رؤوس الشعبة الأولى وبين الضعفاء الذين لا يملكون إلا الإذعان للسادة الكبار الطغاة.

ومن هذه الشعبة الوسط ذات النسب الكريم كان بيت عبدالمطلب جد النبى صلى الله عليه وآله وسلم, ومن هنا جاء نسب النبوة العريق الذى خرج منه الصادق الأمين لينقذ العالم من تيه الضلال.

فى هذا الجو العالمى والإقليمى البائس أوحى الله تعالى إلى سيد الخلق محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم ليغير الدنيا من حال إلى حال.

وكما قال العقاد: «قالت حوادث الكون: لقد كانت الدنيا فى حاجة إلى رسالة, وقالت حقائق التاريخ: لقد كان محمد هو صاحب تلك الرسالة»

وهكذا كان العالم على موعد مع إمام الأنبياء و خاتم المرسلين, ولكن كيف صلح أن يكفى رسول واحد لهداية البشرية جميعا وكيف استمرت هذه الهداية فى مرحلة ما بعد موته صلى الله عليه وآله وسلم؟

يقول الشيخ محمد الغزالى: «فى المزالق المتلفة قد يقول لك ناصح أمين: أغمض عينيك واتبعنى, أو لا تسلنى عن شىء يستثيرك!

وربما تكون السلامة فى طاعته.

فأنت تمشى وراءه حتى تبلغ مأمنك.

إنه فى هذه الحال رائدك المعين, الذى يفكر لك, وينظر لك, ويأخذ بيدك. فلو هلك هلكت معه.

أما لو جاءك من أول الأمر رجل رشيد فرسم لك خط السير, وحذرك مواطن الخطر, وشرح لك فى إفاضة ما يطوى لك المراحل ويهون المتاعب, وسار معك قليلاً ليدربك على العمل بما علمت, فأنت فى هذه الحال رائد نفسك, تستطيع الاستغناء بتفكيرك وبصرك عن غيرك.

إن الوضع الأول أليق بالأطفال والسذج, أما الوضع الأخير فهو المفروض عند معاملة الرجال وأولى الرأى من الناس.

والله عز وجل عندما بعث محمدا عليه الصلاة والسلام لهداية العالم, جعل فى رسالته الأصول التى تفتح للعقول منافذ المعرفة بما كان ويكون, والقرآن الذى أنزله على قلبه هو كتاب من رب العالمين إلى كل حى, ليوجهه إلى الخير ويلهمه الرشد.

◄◄ قوة من قوى الخير

لم يكن محمد عليه الصلاة والسلام إماماً لقبيل من الناس صلحوا بصلاحه, فلما انتهى ذهبوا معه فى خبر كان, بل كان قوة من قوى الخير, لها فى عالم المعانى ما لاكتشاف البخار والكهرباء فى عالم المادة.

وإن بعثته لتمثل مرحلة من مراحل التطور فى الوجود الإنسانى, كان البشر قبلها فى وصاية رعاتهم أشبه بطفل محجور عليه, ثم شب الطفل عن الطوق ورشح لاحتمال الأعباء وحده, وجاء الخطاب الإلهى إليه – عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم- يشرح له كيف يعيش فى الأرض, وكيف يعود إلى السماء, فإذا بقى محمد صلى الله عليه وسلم أو ذهب فلن ينقص ذلك من جوهر رسالته, إن رسالته تفتيح للأعين والآذان وتجلية للبصائر والأذهان, وذلك مودع فى تراثه الضخم من كتاب وسنة.

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً{174} فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً {175}» النساء.

ومن هنا فنبينا الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم إن كان جاء لإصلاح العالم فى فترة دقيقة من الزمن فإنه لم يقدم نفسه كمصلح اجتماعى ولا كقائد سياسى يسعى للتغيير والتطوير إنما قدم نفسه كنبى وخاتم للمرسلين فأى عبقرية تمتع بها فى مجالات السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد إنما هى عبقرية الدعوة المنزلة من عند الله عز وجل, ولابد من ملاحظة هذه الحقيقة بشكل موضوعى ودقيق, لأن الموضة التى جرى عليها الكثيرون من المستشرقين ومن لف لفهم فى عصرنا الحديث هى مدح النبى الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره قائدا سياسيا أو عسكريا عظيما أو مصلحا اجتماعيا نابغا, وذلك كله بعيد عن حقيقة أن الله بعثه نبيا ورسولا للعالمين كافة, وفى ذلك ما فيه من عدم الصدق والموضوعية فحقائق القرآن ثم حقائق التاريخ تفصح بجلاء عن أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقدم نفسه بأى صفة للناس سوى صفة الرسالة والنبوة, قال تعالى: »وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ« سبأ28, وقال سبحانه: »قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـى وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِىِّ الأُمِّيِّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ« الأعراف158.

وبالتالى فرغم ما فى ظاهر دعاوى عظمته صلى الله عليه وآله وسلم وعبقريته فى مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والحرب من مدح فإنها تعتبر طعنا فى الرسالة المحمدية إن اعتبر ذلك هو حقيقة النبى الوحيدة دون إرجاع ذلك لطبيعة الرسالة الإسلامية التى بعث الله بها نبينا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.

صحيح أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عظيم فى كل ميزان: عظيم فى ميزان الدين, وعظيم فى ميزان العلم, وعظيم فى ميزان الشعور, وعظيم فى ميزان من يختلفون فى العقائد ولا يسعهم أن يختلفوا فى الطبائع الآدمية (حسب تعبير العقاد) لكنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقدم نفسه إلا بصفة واحدة هى أنه محمد رسول الله خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم.

ومع ذلك فإنه صلى الله عليه وآله وسلم كان له صفات خيرات حباه الله بها قبل النبوة مهدت لتصديق الناس له وإيمانهم بما جاء به من دعوة التوحيد وشريعة الإسلام, كما جهزته صلى الله عليه وآله وسلم لتلقى الوحى الإلهى والقيام بواجباته, فالله تعالى قد هيأ الظروف البيئية والوراثية التى تسهم معا فى تكوين الإنسان وتمنحه صفاته الخَلْقية الخُلُقية وتصوغ بنيانه الجسدى والنفسى, وتحدد قدراته العقلية واستجاباته العاطفية لتجتمع بشكل يجعل من نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإنسان المهيأ لتحمل المسؤولية التى أنيطت به بعد أربعين سنة من ميلاده .. (وحسب عماد الدين خليل) فإن أربعة عقود فى حياة الإنسان المحدودة تمثل امتدادا زمنيا طويلا أريد به أن يستكمل محمد الإنسان كل مساحات تكوينه الذاتى ونضجه البشرى قبل أن يتاح له أول لقاء مع الوحى الأمين وما أصعب اللقاء الأول بين ممثلى السماء والأرض وما أشق الحوار..

◄◄العقود الأربعة

طيلة هذه العقود الأربعة ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ ويتلقى ويجابه ويهضم ويتمثل شتى المؤثرات الوراثية والبيئية لكى يحولها إلى خلايا تبنى كيانه وسمات مادية وروحية تهيئة لليوم العظيم فعن أصالة أبيه وأمه أخذ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أصالة الشخصية ووضوحها ونقاءها وكسب على المستوى الاجتماعى احتراما وتقديرا فى بيئة كانت تستهجن مجهولى الأنساب وتحتقر الخلطاء ومن مرارة اليتم ووحشة العزلة وانقطاع معين العطف والحنان قبس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الصلابة والاستقلال والقدرة على التحمل والإرادة النافذة والتحدى الذى لا تنكسر له قناة وبالفقر والحرمان تربى ونما بعيدا عن ترف الغنى وميوعة الدلال واتكالية الواجدين وعبر رحلته الأولى إلى الشام فى رعاية عمه فتح محمد صلى الله عليه وآله وسلم عينيه ووعيه تجاه العالم الذى يتجاوز حدود الصحراء وسكونها إلى حيث المجتمعات المدنية التى تضطرب نشاطا وقلقا, والجماعات العربية التى فصلتها عن شقيقتها فى الصحراء الأم سلطات أجنبية أحكمت قبضتها على الأعناق, وساقت الشيوخ والأمراء العرب إلى ما تريد هى وتهوى لا ما يريدون ويهوون, وفى رحلته الثانية إلى الشام مسؤولا عن تجارة السيدة خديجة تعلم الرسول الكثير والكثير، عمق فى حسه معطيات الرحلة الأولى وزاد عليها إدراكا أكثر بما يحدث فى أطراف عالمه العربى من علاقات بين الغالب والمغلوب والسيد والمسود وإفادة أغنى من كل ما يتعلمه الذين يرحلون من مكان إلى مكان فيتعلمون من رحيلهم طبائع الجماعات والشعوب وكنه العلاقات بينها واختلاف البيئات والأوضاع .. ويزدادون مرونة وقدرة على التعامل المنفتح الذى لا ينقطع له خيط مع شتى الطبائع وفهما لما يتطلبه الإنسان فى عصر من العصور بعد اطلاع مباشر على عينات من هذا الإنسان فى سعادته وهنائه أو تعاسته وشقائه, وفوق هذا وذاك فقد أتيح للرسول صلى الله عليه وآله وسلم فى رحلته هذه تنمية وامتحان قدراته الخاصة التى تعلمها أيام الرعى صبيا وها هو الآن يدير تجارة لسيدة تملك الكثير فيعرف كيف يحيل القليل كثيرا ويصمد إزاء إغراء الذهب والفضة أمينا لا تلحق أمانته ذرة من غبار, قديرا على الارتفاع فوق مستويات الإغراء إلى آخر لحظة, ثم يجىء إسهامه فى القضايا الكبرى التى عاشتها مكة آنذاك متنوعا شاملا مغطيا شتى مساحات العمل البشرى الجماعى وكأنه أريد له أن يجرب كل شىء, أن يسهم عاملا فى كل اتجاه وأن يبنى عبر أنشطته المتنوعة جميعا شخصية قادرة على التصدى لكل مشكلة والإسهام الإيجابى الفعال فى كل ما من شأنه أن يعيد حقا أو يقيم عدلا, فى حرب الفجار مارس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شؤون القتال, وفى حلف الفضول شارك فى تجربة السياسة والحكم, وفى بناء الكعبة أعرب عن بداهته المثيرة للإعجاب فى حل المشاكل التى تلعب فيها المعتقدات والقيم والمقدسات دورا كبيرا, وخلال هذا وذاك يتزوج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويمارس فى أعقاب زواجه ذاك كبرى التجارب الاجتماعية فى حياة الإنسان وينجح فى التجربة.

هكذا بدت حياة النبى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم قبل مبعثه سلسلة مترابطة الحلقات منطقية التعاقب من التجارب والخبرات فى شتى المجالات لتهيئه لتلقى الوحى والقيام بأعباء الرسالة.

ولكن ماذا عن خبراته الروحية والدينية والأخلاقية؟

هذا له حديث آخر إن شاء الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرت هذا الموضوع في العدد الأسبوعي من جريدة اليوم السابع.