ابتلاء المؤمن

الحكمة من ابتلاء المؤمن والكافر .. وهل الوفرة مقدمة للهلاك؟

كتب- عبد المنعم منيب

إن الوفرة تؤدي فى أغلب الأحوال إلى الإسراف سواء فى السلوك الشخصي أو الإداري أو العسكري أو السياسي فضلا عن السلوك الإجتماعي وذلك من سنن الله القدرية الكونية، ولذلك يتجه علماء النفس والتربية والاجتماع والإدارة والعلوم السياسية والعسكرية والاقتصادية إلى لجم جماح الإسراف والفساد الذي تسببه الوفرة عبر تدابير متعددة تختلف باختلاف المجال ولكن كلها قائمة على التضييق على الفاعل تضييقا يجري اختياره نوعا وكما بدقة كى لا يعدو كونه تربية أو اختبارا أو تدريبا أو تمرينا أو ضبطا لازما كى لا يحدث الفساد أو الترهل والتراخي أو ضعف العزيمة أو سوء تقدير العواقب وخلل ميزان المصالح والمفاسد والتى كلها من جوانب الإسراف الناتج عن الوفرة.

الوفرة والإسراف

والأدلة على أن الوفرة تؤدي غالبا للإسراف والفساد عديدة ومنها قوله تعالى: “وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ. وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ” (الزخرف آيات 23-25).
ومن الأدلة أيضا قوله تعالى: “وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ” (الشورى آية 27).
ومنها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “..فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تُبْسَطَ عليكم الدنيا كما بُسِطَتْ على من كان قبلكم فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا فتهلككم كما أهلكتهم” (رواه البخارى ومسلم وأحمد وغيرهم أنظر الجامع الكبير للسيوطي حديث رقم 3436).
وليس معنى هذا أن على المؤمن أن يزهد فى الموارد الدنيوية وينبذها بالكلية فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم “نِعِمَّا بِالمَالِ الصَّالِحِ للِرَّجُلِ الصَّالحِ”. (رواه أحمد فى مسنده والبخاري فى الأدب المفرد والحاكم وغيرهم، وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني أنظر السلسلة الضعيفة للألباني ضمن التعليق على حديث رقم 2042).

مقياس الخطأ والصواب في السلوك المالي

ولعل الحديث النبوي التالي يوضح المقياس الدقيق للسلوك المناسب الذي يجعل الوفرة مفيدة وغير مفسدة لأصحابها ويشير لبعض جوانب الوفرة المفسدة فقال صلى الله عليه وآله وسلم “إِنَّما أخَافُ عَلَيْكُمْ مِن بَعْدِى مَا يُفْتحُ عَلَيكُم مِنْ زَهْرَة الدُّنْيَا وَزِينَنِهَا، قَالَ رجُلٌ: أَوَ يَأتِى الخَيْرُ بِالشَّر يَا رَسْولَ اللَّه؟ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَأتِى الخْيَرُ بِالشَّرِّ، وإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا أوْ يُلِمُّ إِلَّا آكلَةَ الخَضَر، فَإِنَّها أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَلأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتقْبَلَتِ الشَّمْسَ فَثَلَطَت وبَالَت ثُمَّ رَتَعَت، وَإنَّ هَذَا المالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَنِعْمَ صَاحِبُ المُسْلِم هُوَ، لِمَنْ أعْطَاهْ المِسكيِنَ، والْيَتيمَ، وابْن السبيل، فَمَنْ أخَذَهُ بَحَقَهِ وَوَضَعَهُ فِى حَقِّه فَنعْمَ المَعُونةُ هُوَ، وَمَنْ أخَذَهُ بَغَيْر حَقَه كَانَ كَالَّذِى يأكل وَلَا يَشْبَعُ وَيَكون عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الَقيَامَة”(رواه البخاري ومسلم وغيرهما أنظر الجامع الكبير للسيوطي حديث رقم 7695)
فهذا الحديث يوضح أن الوفرة المحمودة هي التي تأتي بطرق مشروعة وتستهلك فى طاعة الله “مَنْ أخَذَهُ بَحَقَهِ وَوَضَعَهُ فِى حَقِّه” وفق نص الحديث، وحكمها فى هذه الحالة أنها “نعْمَ المَعُونةُ” كما فى نص الحديث الآنف، وهو نفس المعنى فى الحديث الذي قبله حين قال “نِعِمَّا بِالمَالِ الصَّالِحِ” أي الذي جاء بطرق مشروعة، و”للِرَّجُلِ الصَّالحِ” أي الذي ينفقه فى طاعة الله.
والمقصود بطاعة الله أعم من الصلاة والحج والعمرة والزكاة والجهاد في سبيل الله والصدقات لأن مفهوم الطاعة في الإسلام شامل ومعروف إذ يشمل حتى الإنفاق على الأسرة وصلة الرحم والوقف على طلبة العلم والبحث العلمي ورعاية المرضى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل النصيحة لمن يحتاجها..الخ، والأدلة على ذلك كثيرة ويطول المقال بذكرها وهي مشهورة ومعروفة.

حكم الانفاق على الأمور الحياتية

وليس المقصود أن المال لا ينفق فقط إلا على الطاعة المحضة فكثير من الأمور الحياتية هو من باب الطاعة فمثلا يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم “إنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك” (رواه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم انظر إرواء الغليل للألباني حديث رقم 899)، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “..وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقة وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: “أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر” (رواه مسلم وأحمد والبخاري فى الأدب المفرد وغيرهم وانظر الصحيحة للألباني رقم 454).
وفضلا عن ذلك فقد نبهنا القرآن لمراعاة الحياة الدنيا فقال تعالى “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” (النحل آية 97)، وقال تعالى على لسان قوم قارون “وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ”(القصص آية 77).

أنواع الوفرة

والوفرة التي نقصدها ليست المال فقط ولكنها تشمل كل موارد الحياة الدنيا مثل الصحة البدنية والولد والزواج والانتصار فى الصراعات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية بجانب المال، والأدلة على هذا الشمول كثيرة فى الكتاب والسنة وسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك يحاسب الله الناس يوم القيامة علي أمهات هذه الموارد كما ورد فى الحديث النبوي الشريف “لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه وعن علمه ما فعل فيه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه” (رواه الترمذي فى سننه عن أبي برزة وقال حسن صحيح وصححه الألباني فى الصحيحة 946، وله روايات متعددة منها عن معاذ وابن عباس وغيرهما)، وقال تعالى: “ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ”(التكاثر آية 8).

أنواع البلاء والحكمة من ورائه

وانطلاقا من هذا الشمول فى مفهوم الوفرة فإن الله تعالى يبتلي عباده مؤمنهم وكافرهم فى هذه المجالات فى الحياة الدنيا قال تعالى: “لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ”(آل عمران آية 186) وقال تعالى أيضا: “أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ” (البقرة آية 214) ، فابتلاء المؤمن معروفة حكمته فالابتلاء يأتي لتربيته وتهذيبه كي يتخلص من مضار الوفرة و يستقيم على أمر الله، فالبلاء تقويم لأخطاء المؤمن، وهذا الابتلاء يؤدى أخرويا لتكفير ذنوب المؤمن ورفع درجاته والأدلة على ذلك مشهورة معروفة.

 الهدف من ابتلاء الكافر

 ولكن ما هو الهدف من ابتلاء الكافر؟؟ 
هنا لابد من التأمل فى حقيقة السنة الربانية القدرية الكونية التي تنتظم ضمنها كل حركة الكون وفى قلبها حركة الإنس والجن مؤمنهم وكافرهم وهى يلخصها قول رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: “لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل عليه السلام إلى الجنة فقال أنظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها فنظر إليها فرجع فقال وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها فأمر بها فحفت بالمكاره فقال اذهب إليها فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها فنظر إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره فقال وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد قال اذهب فانظر إلى النار وإلى ما أعددت لأهلها فيها فنظر إليها فإذا هي يركب بعضها بعضا فرجع فقال وعزتك لا يدخلها أحد فأمر بها فحفت بالشهوات فقال ارجع فانظر إليها فنظر إليها فإذا هي قد حفت بالشهوات فرجع وقال وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها” (رواه أحمد وأبوداود والنسائي والترمذي وابن حبان في صحيحه وغيرهم، وقال الترمذي حسن صحيح وصححه الألباني، وقال شعيب الأرناؤوط إسناده حسن، انظر صحيح ابن حبان بتحقيق الأرناؤوط ، ط الرسالة ، حديث رقم 7394).

فهذا الحديث يوضح أن أعمال المكلفين تعترض بعضها المشقة حينا وتدفع لبعضها الآخر شهوات المكلفين ورغباتهم المحبوبة لهم.
 فهى إن كانت من الأعمال المؤدية إلى الجنة فإنها تكتنفها المشقات وإن كانت مؤدية للنار فهي تحركها الشهوات والرغبات.
 كما أن للكفار فى هذه المنظومة شأنا محددا يشبه ما يحدث للمسلم وهو الأخذ بالضر لعلهم يرجعون، فهذا جزء من الابتلاء الذي يعتري الكافرين.
وكذلك هناك جزء من ابتلاء الكافرين إنما يهدف لانتظام حركة الكون فى مسار متوازن بدرجة كبيرة فى حركته التاريخية وهو معنى قوله تعالى: “وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ” [البقرة:251]..
وبذا يجتمع عندنا ثلاثة أسس مهمة تحدد حركة الأحداث أو حركة التاريخ وهي:
-المشقة تكتنف الأعمال الموصلة للجنة و تكتنف الناس كلهم بمراحل مختلفة من حياتهم لترجعهم لطريق الجنة.
-الرغبات الخاطئة هى المحركة والدافعة لكل الأعمال الموصلة للنار.
-الصراع بين الأقطاب الكونية مستمر ما بقيت الدنيا وهو صراع بين الخير والشر وكذا صراع داخل مجتمع الشر وكذا صراع داخل مجتمع الخير. (راجع ماسبق وكتبناه هنا)    
 فالسنة الربانية القدرية الكونية قضت بأن تكون الدنيا دار اختبار لا دار قرار والمشقات في طريق الخير والحق هي من أدوات هذا الاختبار كما أن تسهيل طرق الشر والباطل وشدة نزوع النفوس لهذا الشر أو الباطل هي أيضا من أدوات هذا الاختبار، ومن ضمن كل من المشقات و التسهيلات في هذا المجال أمر الصراع بين قوى الحق والباطل، وايضا هناك الصراع داخل مجتمع الحق نفسه بين قواه المختلفة، والصراع داخل مجتمع الباطل والفساد بين قواه المختلفة المكونة له، وهذا الصراع كنا قد شرحناه في تحليل سابق لنا هنا بعنوان: “خريطة الصراع السياسي في منظور التحليل الإسلامي” فليراجعه من شاء.

 

مواجهة اليأس

لماذا نكد ونكافح رغم أن الحياة قصيرة؟ .. دليل مختصر لمواجهة اليأس والإحباط بالعمل

كتب- عبد المنعم منيب

كثير من الناس ينتابهم أحيانا شعور بأن الحياة قصيرة وبأن مستقبلهم غير مضمون، مما يدفعهم للتقاعس عن السعي للنجاح والتطور في الحياة ويقعدون عن العمل، حيث يفقدون الدافع للعمل أو السعي لتحقيق هدف مهم و يفقدون أي أمل.

وفي حالات أخرى ينتاب الإنسان شعور بأن العمر قد تقدم به وبأن النجاح لا قيمة له بعد الآن، وبالتالي يصل لنفس النتيجة السابقة وهي التقاعس عن السعي للنجاح والتطور في الحياة، وفقدان الدافع للعمل سواء كان عملا اجتماعيا أو سياسيا أو اقتصاديا أو دينيا([1]).

وهذا النمط من التفكير يفتح أبوابا من اليأس والإحباط والفشل، ولكن المسلم ستزول عنه كافة دواعي اليأس وكل هذه الأوهام الفاسدة لو تأمل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ([2]) فَلْيَغْرِسْهَا”([3])، وقد ورد أيضا بلفظ: “إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ”([4]).

والسؤال ما فائدة زرع الفسيلة أثناء بدء القيامة بينما الفسيلة تحتاج لسبع سنوات حتى تنتج؟؟ والإجابة أن المسلم سيثاب بغرسها وحتى لو لم تنبت فهو سيثاب لأنه أطاع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتنفيذ أمره في هذا الحديث كما سيثاب بنيته في أن يزرع، ومعلوم ما في الزرع من ثواب دلت عليه أحاديث عدة([5]) ، فإنك لو زرعت زرعا بنية الحصول على الثواب المترتب على الزرع فإنك لا شك تثاب حتى ولو مات الزرع لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم “إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ”([6])، وهذا كله هو من دلالات حديث زرع الفسيلة ومعناه الظاهر، كما يدل على أن علينا الاستمرار في العمل الديني والدنيوي بنية نيل ما عند الله من ثواب لأن على المسلم العديد من التكليفات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الواجبة والمندوبة، فتكليفات المسلم ليست محصورة في العبادات الشخصية فيما بينه وبين ربه من إيمان و إخلاص و ذكر ودعاء وصلاة وصيام وزكاة وصدقات وحج وتوبة وإنابة ونحوها فقط، بل هو مرتبط بتكليفات اجتماعية واقتصادية وسياسية واجبة ومندوبة وعليه محذورات اجتماعية واقتصادية وسياسية ما بين مكروهة ومحرمة.

وجوب العمل الصالح -اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي

 ومن هنا فالحديث يشير لاستمرار المسلم في العمل في كل هذه المجالات حتى أخر نفس في حياته، فالحديث يدل على وجوب العمل الصالح -اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي- حتى لو ظننا أنه لن يحقق نتائجه لسبب خارج عن قدرتنا وعن الأسباب القدرية الكونية المأمورين بمراعاتها في أعمالنا، فما دمنا التزمنا بشروط العمل من الإخلاص لله تعالي، والالتزام باتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإننا مأجورون إن شاء الله، والنتيجة هي بقدر الله وهذه الدلالة يؤيدها قوله تعالي: ((وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ)) سورة الرعد آية 40، و قوله تعالى: ((وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ)) سورة يونس آية 46، وقوله تعالى: ((فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)) سورة غافر آية 77، فدلالة الآيات تتجه بوضوح إلى أن على المسلم أن يقوم بواجبه مخلصا لله متبعا للشرع ثم النتائج هي حسبما قدر الله، فلا يمكننا أن نقول: “إن العمل الواجب علينا شرعا الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي لن يحقق النتيجة المرجوة فينبغي ألا نعمله” فهذا الطرح ليس مقبولا شرعا، فضلا عن أنه يفتح أبواب شر من التقاعس والتقصير والسلبية في الواجبات بشبهات شتى، كما إنه يفتح أبواب الإحباط والأمراض النفسية والاجتماعية، ولذلك كله قال تعالي: ((وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)) (سورة الحجر آية 99) واليقين هو الموت حسبما اتفق المفسرون ومن هنا فنحن مأمورون بالعمل حتى الموت.

ما قل وكفى خير مما كثر وألهى

والترغيب في العمل لأخر نفس في الحياة إنما المقصود به ما تعلق بأعمال الآخرة وان كان ظاهرها دنيويا، كأن يكون عمل صالح له بُعْدٌ اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي أو حتى عبادة فردية، ولكن ما نشاهده في سلوكيات بعض المسلمين من الدأب والكد بل والكفاح من أجل تحصيل مزيد من متاع الدنيا فهو خارج عن مضمون ومقصود هذا المقال، لأن مجمل نصوص الكتاب والسنة تدل دلالة واضحة على وجوب القصد والاعتدال بشأن متاع الدنيا مادام مقصودا لذاته، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلاَّ بُعِثَ بِجَنَبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ يُسْمِعَانِ أَهْلَ الأَرْضِ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى”([7]).

وقد قال تعالى حاكيا عن قوم قارون نصيحتهم له فقال تعالى: ((إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)) سورة القصص من الآيتين 76-77، وهذه الآيات رغم وجازتها إلا إنها تمثل قواعدا ذهبية تحدد السلوك الإسلامي الصحيح ازاء متاع الدنيا اذ تحدد:

  • عدم الاستمتاع المحرم ((لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)) ومعلوم ان الاستمتاع المشروع يورث فرحا ليس مذموما.
  • استخدام متاع الدنيا ومواردها وإمكاناتها من أجل ارضاء الله تعالى ((وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ)).
  • أخذ نصيب من متاع الدنيا للمحافظة على نفسك وحيوتك ((وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)) وذلك طبعا في إطار حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم آنف الذكر “يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى”.
  • التأكيد على الكرم والاحسان بما أنعم الله عليك به من متاع الدنيا ((وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)).
  • عدم استخدام ما منحه الله لك من قدرات ومتاع الدنيا في الإفساد ((وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)).

وبذلك تنتظم وتتكامل منظومة سلوك المسلم دينيا ودنيويا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا طوال حياته وحتى وفاته فلا يعرقله يأس، ولا يهلكه نهم وولع غير مشروع بالدنيا وزينتها.

ونسأل الله لنا ولكم حسن الخاتمة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1])البعض تصدى لهذه الحالة بحديث مشهور لكنه لا أصل له وهو: “اعمل لدنياك كأنك تعيش ابدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا” وقد أورد العلامة الألباني في سلسلة الاحاديث الضعيفة والموضوعة هذا الحديث برقم 8 ج1 ص 63 وما بعدها وقال تعليقا عليه: “لا اصل له مرفوعا وورد موقوفا على أحد الصحابة بأسانيد بعضها ضعيف وبعضها فيه كذاب” أ.هـ باختصار، انظر: سلسلة الاحاديث الضعيفة والموضوعة، ط دار المعارف، الرياض 1412، أولي، كما اورده بلفظ آخر هو “أصلحوا دنياكم، واعملوا لآخرتكم، كأنكم تموتون غدا” وعلق عليه قائلا: “ضعيف جدا” أ.هـ، انظر المصدر نفسه حديث رقم 874 ج2 ص266 وما بعدها.

([2])الفسيلة: النخلة الصغيرة أو ما نسميه في عصرنا الحالي ((الشتلة)).

([3]) رواه الامام أحمد في مسنده، انظر حديث رقم 12902 ج20 ص251، ط مؤسسة الرسالة، أولى، بيروت 1421هـ، تحقيق شعيب الارناؤوط وآخرون، وعلق عليه محققه قائلا: إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير حماد بن سلمة، فمن رجال مسلم.. ثم قال: وأخرجه الطيالسي، وعبد بن حميد والبخاري في “الأدب المفرد” والبزار. أ. هـ

([4])نفس المصدر، حديث رقم 12981 ج20 ص296، وقال محققه: إسناده صحيح على شرط مسلم. وانظر (12902). أ. هـ

([5]) على سبيل المثال لا الحصر قول رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: “مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ” رواه البخاري برقم 2361 -واللفظ له- و رواه أيضا مسلم ومالك والترمذي وأحمد.

([6]) رواه البخاري حديث رقم 1 كما رواه أيضا أبو داود وابن ماجه وغيرهما.

([7])رواه أحمد في مسنده برقم 22135 ورواه أيضا ابن حبان و الطيالسي وأورده العلامة الألباني في سلسلة الحديث الصحيحة برقم 443 وقال: هذا إسناد صحيح على شرط مسلم، وقال الهيثمي :”رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح”. أ.هـ انظر: محمد ناصر الدين الالباني، سلسلة الحديث الصحيحة، ط مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض 1415هـ، الطبعة الأولى، ج1 ص804 و ما بعدها.

 

الدولة الاسلامية صورة تعبيرية

كيف بني النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم الدولة الإسلامية ؟

كيف بني النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم الدولة الاسلامية ؟ ، لم يبن النبي صلى الله عليه و آله و سلم دولة و مجد الإسلام إلا بتوفيق و تسديد من الله تعالى، ولكننا هنا لن نعرض للمظاهر الغيبية لهذا التوفيق والسداد إنما نعرض للمظاهر و الأسباب المادية التي وفق الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم لصناعة دولة و مجد الإسلام عبرها.

في البداية كانت مكة, وفي البداية كانت دعوته صلى الله عليه وآله و سلم سرية لمدة ثلاث سنوات حتى كون نواة الإسلام الأولى بعدها سارت الدعوة العلنية مسارها عشر سنوات في مكة, خلالها لم يستخدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيا من مظاهر استعمال القوة في التعامل مع مخالفيه و استخدم الصبر و أمر المسلمين باستخدام الصبر كدرع ضد الاضطهاد والتعذيب الذي تعرضوا له.

وفي مكة كانت العمليات الأساسية ذات التأثير السياسي التي قام النبي صلى الله عليه وآله و سلم بها منحصرة في ثلاث:

العملية الأولى- البناء الداخلي لمجتمع المسلمين: و ذلك عبر وسائل و أدوات عدة, قائمة كلها على تعاليم الإسلام في ذلك الوقت وكانت ذات طبيعة روحية مثل قيام الليل بالصلاة و تلاوة القرآن و كان دائما هناك تذكير بأحوال الأمم السابقة و عاقبة كل من الظالمين و المسلمين في كل أمة, و قبل ذلك و معه كان ترسيخ مفاهيم العقيدة الإسلامية الصحيحة بصفائها و نقائها و تمايزها عن العقائد الباطلة, مع تبشير المسلمين بمستقبل مملوء بالنصر و التمكين والمجد.

و قد حققت هذه الأدوات و الوسائل نجاحا منقطع النظير ممكن إدراك مداه من إدراك حجم النجاح الذي تحقق في بناء الشخصية المسلمة لدى كل صحابي أو صحابية ممن تربوا في العصر المكي وحجم الانجاز الذي حققوه لأمة الإسلام سواء في عصر النبي صلى الله عليه وآله و سلم أو بعده, وتصفح سير و انجازات أمثال أبي بكر الصديق أو عمر بن الخطاب أو حمزة بن عبد المطلب أو مصعب بن عمير أو أبي عبيدة بن الجراح أو عثمان أو على أو غيرهم يظهر ذلك بجلاء فكلهم أبناء العصر المكي للدعوة الإسلامية.

العملية الثانية- تحقيق أكبر قدر متاح من الحماية للمسلمين: داخل المجتمع المكي الوثني المعادي للإسلام و المسلمين وفق الأعراف و الفرص التي كانت سائدة آنذاك في هذا المجتمع, مثل كتمان الإيمان و الإسرار بالعبادات الإسلامية بالنسبة للبعض , ومثل القبول أو طلب حماية بعض سادة قريش الوثنيين ممن تعاطفوا مع بعض المسلمين بسبب أواصر الدم و النسب أو الصداقة أو بدوافع أخلاقية ذاتية ومن أبرز الأمثلة على الحماية التي تمت بدافع النسب و الدم حماية أبي طالب للنبي صلى الله عليه وآله و سلم و حماية عشيرة أبي بكر الصديق له و كذا عشيرة عثمان ابن عفان له و غيرهم, ومن أبرز عمليات الحماية بدوافع أخلاقية حماية المطعم بن عدي للنبي صلى الله عليه وآله و سلم بعد عودته من الطائف و كذلك إجارة ابن الدُغنة (سيد القارة) لأبي بكر الصديق عندما همَّ الأخير بالهجرة إلى الحبشة.

و في إطار الرغبة في تحقيق هذه الحماية أيضا تم استعمال أسلوب آخر هو أسلوب الهجرة و في هذا الإطار تمت عمليتا الهجرة للحبشة, الهجرة الأولى و الهجرة الثانية, وهما في التحليل الأخير دخول في حماية ملك أجنبي عن مكة هو ملك الحبشة الذي كان معروفا عنه في ذلك الوقت أنه ملك عادل لا يظلم أحدا.

و قد حققت هذه الأدوات كلها نجاحا ملحوظا و إن تفاوتت درجاته, و رغم هذا ففي هذه المرحلة تم حبس النبي صلى الله عليه وآله و سلم و عشيرته من بني عبد المطلب و بني هاشم (سواء مسلميهم أو كافريهم المساندين للنبي) في شعب أبي طالب ثلاث سنوات لا يصلهم الطعام إلا تهريبا, كما تعرض الكثير من المسلمين للتعذيب طوال العشر السنوات التي دارت فيها الدعوة الإسلامية في مكة في شقها العلني, بل مات بعض المسلمين تحت التعذيب كما تعرض الكثيرون منهم لإصابات بالغة و خطيرة, و ذلك لحكمة أرادها الله تعالى, و أوجه حكمة الله في ذلك عديدة لكن أبرزها أمران:

1- أنه لو كان الدخول في الإسلام سهلا هينا لدخل فيه كثيرون من غير الصادقين من الانتهازيين و الوصوليين و المنافقين الأمر الذي كان سيضعف قدرة الجسد الإسلامي منذ بداية نشأته و هو أمر ضار جدا في البداية وبالعكس إذ لما حدث هذا بعد ذلك في المدينة بعدما قوى الجسد الإسلامي أمكنه تجنب الآثار الضارة لهذه الظاهرة.

2- لما كان مقدرا أن يدخل الإسلام في نضال مسلح ضد الظلم و الطغيان في مراحل تالية من تاريخه فإن مروره بهذه المرحلة من الاضطهاد كانت كفيلة بأن تدفع عنه فرية القول بأنه انتشر بالسيف إذ لو كان انتشر بالسيف فكيف كان السيف مسلولا على أتباعه قتلا وتعذيبا و تشريدا طوال عشر سنوات في مكة و مع ذلك ظلوا يزدادون عددا و لا يقلون ولم يرفع واحد منهم سيفا, و لم يكن المسلمون يملكون سيفا و مع ذلك أسلم الجسم الرئيس من قبيلتي المدينة المنورة الأوس و الخزرج في هذه المرحلة.

العملية الثالثة- سعي النبي صلى الله عليه و آله وسلم لإقامة دولة الإسلام في بلد غير مكة: وذلك عبر دعوة كبار ورؤساء العديد من قبائل الجزيرة العربية للإسلام والتعاهد على النضال من أجل حماية دعوة الإسلام, كانت دعوة النبي صلى الله عليه و آله وسلم لزعماء القبائل تتم في موسم الحج من كل عام بمكة كما أنه ذهب بنفسه الشريفة للطائف حيث عرض دعوته علي زعمائها فرفضوا الإسلام, و في هذا الإطار دعا النبي صلى الله عليه و آله وسلم العديد من القبائل و رفض البعض بينما تردد آخرون و في النهاية قبل الأوس و الخزرج الإسلام وهما القبيلتان العربيتان اللتان كانتا تسكنا يثرب.

و بعد قبول أهل يثرب للدين الإسلامي انتقل المسلمون ليثرب التي أصبحت اسمها المدينة المنورة بانتقال النبي صلى الله عليه و آله وسلم لها لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ الإسلام.

بدأ النبي صلى الله عليه و آله وسلم إقامة الدولة في المدينة المنورة بإقامة المسجد النبوي الشريف الذي بإنشائه صار مقر الحكم ورمز الدولة الإسلامية كما قام صلى الله عليه و آله وسلم بوضع أسس العلاقة بين المسلمين الذين جاءوا معه من مكة (والذين جرى تسميتهم بالمهاجرين) وبين مسلمي الأوس والخزرج سكان المدينة الأصليين (والذين تم تسميتهم بالأنصار أو أنصار رسول الله) وكانت الأُخُوة بين هذين الفريقين هي أساس هذه العلاقة فيما سمى بالمؤاخاة بين المهاجرين و الأنصار, فقد جعل النبي صلى الله عليه و آله وسلم كل واحد من المهاجرين أخا لواحد من الأنصار و جرى الشرع حينئذ على أنهما كالشقيقين يتوارثان بعضهما البعض (إلى أن تم إلغاء هذا التوارث في نهايات البعثة النبوية مع استقرار تشريعات الميراث في شكلها النهائي), فكان من ذلك أن آخى بين أبي بكر و خارجة بن زيد, و آخى بين الزبير و كعب بن مالك, و آخى بين عثمان بن عفان وبين رجل من بني زريق بن سعد الزرقي رضى الله عنهم أجمعين.

وقد ضرب الأنصار أروع ألوان الإيثار في هذه الأخوة حيث صار كل أنصاري يقسم بيته وكل مزارعه أو أمواله مع أخيه المهاجر حتى زوجاته فقد كان يسعى ليطلق نصفهن ليزوجها لأخيه المهاجر, وافق بعض المهاجرين على عرض الأنصار بشأن تقاسم الدور ولكنهم رفضوا تقاسم النخل بل قبلوا العمل معا على أن يصيروا شركاء في ما ينتج من ثمر, بينما رفض بعض المهاجرين أخذ شئ من الأنصار كعبد الرحمن بن عوف الذي قال لأخيه الأنصاري جزاك الله خيرا و بارك الله لك في مالك وزوجك أريد فقط أن تدلني على السوق و انطلق إلى السوق فباع و اشترى حتى صار من كبار تجار المسلمين الأثرياء.

وفيما فعله المهاجرون والأنصار نزلت العديد من الآيات تثني على سلوكهم هذا كقوله تعالى: “وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ” التوبة100, وقال سبحانه بشأن المهاجرين فقط “للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ” الحشر8, ثم قال سبحانه بشأن الأنصار: “وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” الحشر9, وفي المهاجرين والأنصار من كبار الصحابة ورد َعنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ: “قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ، وَلاَ نَصِيفَهُ.” رواه البخاري.

ولم تقتصر خطوات تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة على بناء المسجد والإخاء بين المهاجرين و الأنصار فقط بل كانت هناك خطوات أخرى لصهر بقية سكان المدينة من يهود و وثنيين في إطار مواطنة الدولة الإسلامية, ومن هنا تأتي أهمية الوثيقة المشهورة باسم وثيقة المدينة بينما أطلق عليها بعض الكتاب المعاصرين اسم “دستور المدينة” و ذلك لأنها بحق بمثابة نص دستوري هام جدا وفي منتهى الأهمية والتحضر والتقدم الدستوري, وكان من أهم بنود هذه الوثيقة المعروفة في كتب التراث باسم الصحيفة أو صحيفة المدينة ما يلي:

1- المسلمون من قريش و يثرب ومن تبعهم و لحق بهم وجاهد معهم, أمة واحدة من دون الناس.

2- هؤلاء المسلمون جميعا على اختلاف قبائلهم يتعاقلون بينهم و يفيدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

3- إن المؤمنين لا يتركون مفرحا (أي المثقل بالديون) بينهم أن يعطوه في فداء أو عقل.

4- أن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم (أي ظلم كبير) أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين, و إن أيديهم عليه جميعا و لو كان ولد أحدهم.

5- لا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ولا ينصر كافر على مؤمن.

6- ذمة الله واحدة, يجير عليهم أدناهم, والمؤمنون بعضهم موالي بعض دون الناس.

7- لا يحل لمؤمن أقر بما في الصحيفة وآمن بالله و اليوم و الآخر أن ينصر محدثا أو يؤويه, و إن من نصره أو أواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة, لا يؤخذ منه صرف و لا عدل.

8- اليهود ينفقون مع اليهود ما داموا محاربين.

9- يهود بني عوف أمة مع المؤمنين, لليهود دينهم و للمسلمين دينهم إلا من ظلم و أثم فإنه لا يوتغ (أي لا يهلك) إلا نفسه و أهل بيته.

10- إن على اليهود نفقاتهم وعلى المسلمين نفقاتهم وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.

11- كل ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله.

12- من خرج من المدينة آمن , ومن قعد آمن, إلا من ظلم و أثم.

13- إن الله على أصدق ما في الصحيفة وأبره, وإنه جار لمن بر و اتقى.” انتهت أهم بنود هذه الوثيقة الدستورية.

وكفى بها ترسيخا وتأسيسا لأصول الحكم وحقوق و واجبات المواطنة وحرية الاعتقاد في دولة الإسلام الوليدة التي بدأت لتوها تشق طريقها في غابة الوثنية في الجزيرة العربية بل و في العالم.

وهكذا وضع النبي صلى الله عليه وآله و سلم أسسا ثلاثة للدولة الناشئة:

– المسجد: كمقر للحكم و مركز للقيادة و الإرشاد والتوجيه والتعليم و التثقيف.

– الإخاء بين المهاجرين و الأنصار.

– كتابة الصحيفة التي تنظم العلاقة بين كل مواطني المدينة بمختلف دياناتهم و قبائلهم وأعراقهم و التي أيضا ترسخ لسلطة الشريعة الإسلامية مجسدة في سلطة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

و لكن هل هذه الأسس الثلاث كافية لبناء دولة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشكل يكفل لها تحقيق كل أهدافها؟

طبعا كان هناك أساس رابع باقي هو بناء الجيش, ورغم أن أتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان معظمهم قد مارسوا القتال في جاهليتهم وعرفوا كيف يحملون السلاح و يستخدمونه في ظروف “لا يبقى فيها من لا يحمل سلاحا” , و رغم أن الأنصار الذين قامت دولة الإسلام في المدينة على أكتافهم قد أعلنوا للرسول يوم بيعتهم في العقبة عن قدراتهم في القتال و بأسهم في الحروب, إلا أن الظروف الجديدة التي بدأ الإسلام يجتازها و تصاعد الموقف الحربي بينه و بين القوى الوثنية و خاصة في أعقاب الهجرة إلى المدينة, و نزول الآيات القرآنية تؤذن ببدء القتال المسلح كل ذلك حتم على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن ينمي هذه القدرات و أن يدفع أتباعه إلى مزيد من التدريب والمهارة العسكرية في مواجهة الأعداء الذين يحيطون بالدولة الجديدة إحاطة السوار بالمعصم, و راح الرسول القائد صلى الله عليه وآله وسلم طيلة العصر المدني يعمل دونما تهاون على تعليم أتباعه فنون القتال وتدريبهم على استعمال السلاح رافعا شعارا واضحا لا غموض فيه وهو قوله تعالى: “وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ”الأنفال60.

ـــــــــــــــــــــــــــ

نشرت في جريدة اليوم السابع.

صلى الله عليه و آله و سلم

الكيفية التي هيأ الله بها النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم لتلقي الوحي

لم ينزل الوحي على النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم الا بعد تهيئة من قدر الله تعالى, فعلى المستوى العام كان العالم محتاجا للنبي الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم كي ينقذه من الهاوية التي سقط فيها, و على مستوى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقد كان صلى الله عليه و آله و سلم قد مر بالعديد من التجارب الانسانية و الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية هيئته بتقدير الله تعالى لتحمل أعباء الدعوة و قد تعرضنا لذلك تفصيلا في الاسبوع الماضي, و يأتي الآن الدور لعرض التهيئة الروحية و الأخلاقية التي قدر الله تعالي لنبيه أن يمر بها قبل البعثة و أثر ذلك بعد البعثة.

و لا شك أن البعد الأخلاقي في حياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم يبرز واضحا نقيا في انسلاخه الحاسم عن كل ممارسات الجاهليين الغير أخلاقية التي كانت تعج بها الحياة العربية في المدن و الصحراء.. شربا للخمر و استمراء للزنا و لعبا للميسر و تصعيدا للربا و تهافتا على مال اليتيم ووأدا للبنات و ظلما للذين لا يقدرون على رد الظلم و استعبادا محزنا للذين لا يعرفون طعم الحرية .. ممارسات شتى لا يحصيها العد, كانت تجرى على مسرح الجزيرة العربية و مدينتها الكبرى “مكة” ليل نهار, و نظرا لتعاقبها و تكرراها فقد صارت كل هذه الأخلاق الذميمة عادات راسخة و تقاليد مستقرة, ثم تجاوزت هذا لكي تصبح مفاخر و مكرمات يتبارى العرب في الاتيان بالمزيد منها, و محمد صلى الله عليه و آله و سلم بعيدا عن هذا كله منسلخ منه .. و لقد منحه موقفه النبيل هذا نظافة و طهرا لم يعرفهما انسان قط, و علمه في الوقت نفسه كيف يكون الرفض و التمرد على الوضع الديني, الوضع الغير انساني مهما حمل هذا الوضع من تبريرات انتقلت به من كونه فسقا و اثما و فجورا إلى مرتبة العادات و القيم و المفاخر و المعتقدات الراسخة.

ويري عماد الدين خليل محقا أن البعد الروحي هو أشد الأبعاد ثقلا و خطرا في حياة الانسان, و الروايات القليلة التي تحدثنا عن عزلة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بعيدا عن صخب مكة و ضجيجها حينا بعد حين و عن انقطاعه إلى الصحراء و حيدا متأملا باحثا منقبا مقلبا وجهه في آفاق السموات و الأرض هذه الروايات تكفي لالتقاط الاشارة الأخيرة الحاسمة المتممة للصورة التي علينا أن نعرفها عن حياة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم قبل مبعثه, فكما علمه الانشقاق الأخلاقي عن الوضع المكي القدرة على الرفض و التمرد فقد جاء تغربه و عزلته و انقطاعه امتدادا نفسيا باتجاه آخر لكنه متمم, و بدونه لا يمكن لانسان ما أن يلعب دوره الحاسم الكبير.. انه امتداد باتجاه التهيؤ للاندماج و الاتصال بالوحي و مواجهة رفض الجاهلية و التمرد على قيادتها و اعرافها و سلطانها مع اندماج بالكون على انفساحه داعيا البشرية لهجرة مواضعها المنحرفة الخاطئة التي ساقتها إليها زعامات ظالمة و سلطات مستبدة و الوهيات زائفة, و أعراف و بيئات مليئة بالدنس و الوحل و الخطيئة, إنه تمهيد للاتصال بالسلطة الواحدة التي تشرف على الكون و تحرك الانسان و الخلائق في ساحاته .. سلطة السماء.

و في نفس الاطار (و إن بأسلوب مختلف) تأتي حادثة شق الصدر فقد بقي النبي صلى الله عليه و آله و سلم عند مرضعته حليمة في بني سعد حتى بلغ الرابعة أو الخامسة من عمره و عندئذ حدثت واقعة شق الصدر إذ آتاه جبريل و هو يلعب مع الغلمان فأخذه فألقاه على الأرض, فشق صدره و استخرج قلبه و استخرج منه علقة, فقال: هذا حظ الشيطان منك, ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم, ثم أعاد صدره كما كان ثم أعاد النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى مكانه, بينما كان الغلمان قد سعوا إلى حليمة فقالوا إن محمدا قد قتل, فلما جاءته وجدته صلى الله عليه و آله و سلم ممتقع اللون, و هذه الحادثة هي بلا ريب من المعجزات التي تعجز عقولنا و علمنا البشري عن ادراك حقيقتها في ميداني النفس و التشريح لأنها (كأي تجربة أو حدث روحي) لا تخضع لمقاييس العقل و الحس المحدود, يكفينا أن نلتقط منها رمزا او دلالة تغطي مساحة ما في صورة الأربعين سنة من حياة محمد صلى الله عليه و آله و سلم, يقول محمد الغزالي: “شئ واحد هو الذي نستطيع استنتاجه من هذه الأثار, ان بشرا ممتازا كمحمد صلى الله عليه و آله و سلم لا تدعه العناية عرضا للوساوس الصغيرة التي تتناوش غيره من سائر الناس, فإذا كانت هناك موجات تملأ الأفاق, و كانت هناك قلوب تسرع إلى التقاطها و التأثر بها, فقلوب النبين بتولى الله لها لا تستقبل هذه التيارات الخبيثة و لا تهتز لها, و بذلك يكون جهد المرسلين في متابعة الترقي لا في مقاومة التدني, و في تطهير العامة من المنكر لا في التطهر منه, فقد عافاهم الله من لوثاته”.

و ما دمنا بصدد تحليل المؤثرات البيئية و الوراثية و الغيبية في تكوين الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وتهيئته للرسالة, فإن حادثة شق الصدر تقف في القمة من المؤثرات جميعا, صياغة روحية مادية لشخصية النبي الانسان, و تهيئته من لدن العليم بأسرار النفوس الخبير بتعقيدات الشخصية البشرية .. لكي يكون محمد صلى الله عليه و آله و سلم بالذات ووفق تكوينه الموجه قادرا على التقاط اشارة السماء و مقابلة الوحي و تحمل المسؤولية رسولا للناس جميعا ليصعد بهم إلى القمم الشامخة التي تنقطع دونها أنفاس الرجال.

و من هنا أجمع جميع المؤرخين على أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان متميزا بحسن الخلق كصدق الحديث و الأمانة حتى سموه بالصادق الأمين, و كانوا يودعون عنده ودائعهم و أماناتهم, كما كان صلى الله عليه و آله و سلم لا يشرب الخمر و لا يأكل ما مما ذبح على النصب و لا يحضر للأوثان عيدا و لا احتفالا بل كان من بداية نشأته نافرا من هذه المعبودات الباطلة.

كما كان صلى الله عليه و آله و سلم يأكل من نتيجة عمله لأن أباه لم يترك له ثروة , و كانت التجارة هي عمله حين شب , و لما تزوج خديجة كان يعمل بمالها و يشركها في الربح و كان يشارك غيرها أحيانا.

و رغم ذلك كله فعندما بعث الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه و آله و سلم و أمره ان ينذر قومه و يدعوهم للاسلام و نزل قوله تعالى “و أنذر عشيرتك الأقربين” الشعراء 214, خرج رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم حتى صعد الصفا, فهتف بهم فاجتمعوا له , فقال “أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا, قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.

فقال: أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟

ثم انصرف و تبعه القوم, فنزلت سورة “تبت يدا أبي لهب”.

و هكذا نجد ان الكفار لم تجد معهم أخلاق النبي صلى الله عليه و آله و سلم التي اشتهر بها بينهم من الصدق و الأمانة و حسن الخلق بل كذبوه و عاندوه الا قليلا ممن كتب الله لهم نعمة الاسلام.

و اشتدت قريش في عدائها للنبي صلى الله عليه و آله و سلم و أصحابه, أما رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فقد لاقى من ايذائهم أنواعا كثيرة من ذلك ما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما: بينا النبي صلى الله عليه و آله و سلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه و دفعه عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله”

كما روى عبدالله بن عمر رضى الله عنهما قال: بينا النبي صلى الله عليه و آله و سلم ساجد و حوله ناس من قريش جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزور فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه و آله و سلم فلم يرفع رأسه فجاءت فاطمة رضى الله عنها فأخذته من على ظهره و دعت على من صنع ذلك”.

و منه ما كانوا يواجهونه به من فنون الاستهزاء والسخرية و الغمز و اللمز كلما مشي بينهم أو مر بهم في طرقاتهم او نواديهم.

و من ذلك ماورد من أن بعضهم عمد إلى قبضة من تراب فنثرها على رأسه و هو يسير في بعض طرق مكة, و عاد إلى بيته و التراب على رأسه, فقامت إليه إحدى بناته تغسل عنه التراب و هي تبكي و رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يقول لها: يا بني لا تبكي, فإن الله مانع أباك.

و أما أصحابه رضوان الله عليهم فقد تجرع كل منهم ألوانا من العذاب حتى مات منهم من مات تحت العذاب و عمي من عمي, و لم يثنهم ذلك عن دين الله شيئا و لا تتسع المساحة لسرد الوان العذاب التي لاقاها كل منهم و ما قصص تعذيب بلال بن رباح و آل ياسر و غيرهم عنا ببعيد.

و قد يكفينا ما ذكره الخباب بن الأرت رضى الله عنه قال أتيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هو متوسد ببردة و هو في ظل الكعبة, و لقد لقينا من المشركين شدة فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟ فقعد و هو محمر الوجه, فقال: لقد كان من كان من قبلكم يمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه, و ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف الا الله و لكنكم قوم تستعجلون”.

و بالاضافة لحسن خلقه صلى الله عليه و آله و سلم فقد كان حليما صبورا فصبر على أذى قومه له في سبيل دعوته و لم يتعجل بالدعاء بهلاك قومه مثلا, و من ذلك ما ذكرته عائشة رضى الله عنها من أنها قالت للنبي صلى الله عليه و آله و سلم هل أتي عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: “لقد لقيت من قومك و كان أشد ما لقيته منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت و أنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا و أنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي و إذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك و ما ردوا عليك, و قد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد إن قد سمع قول قومك لك, و أنا ملك الجبال, و قد بعثني ربي إليك لتأمرني فيما شئت, و إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين (أي الجبلين المحيطين بمكة), فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا”.

و عائشة رضى الله عنها هي نفسها التي قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم شيئا قط بيده و لا امرأة و لا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله, و ما نِيلَ منه شيئا قط فينتقم من صاحبه إلا أن يُنْتَهَكَ شئٌ من محارم الله تعالى, فينتقم لله تعالى”.

كما كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ذا حلم و صبر واسع بل لا نهاية له في تعامله مع جهلة المسلمين و من أمثلة ذلك ما ذكره أنس رضى الله عنه عندما قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و عليه برد نجراني غليظ الحاشية فادركه أعرابي فجذبه بردائه جذبة شديدة فنظرت إلى صفحة عنق النبي صلى الله عليه و آله و سلم و قد أثرت فيها حاشية البردة من شدة الجذبه ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك, فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء”.

و لعله رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم كان يقصد نفسه في ما ذكره ابن مسعود رضى الله عنه في قوله: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يحكي نبيا من الأنبياء صلوات الله و سلامه عليه ضربه قومه فأدموه و يمسح الدم عن وجهه و يقول: اللهم اغفر لقومي فانهم لا يعلمون”.

و مع ذلك فقد ظل النبي صلى الله عليه و آله و سلم يتمتع بالعديد من الصفات و السمات السلوكية المتميزة بعد البعثة و ظل يسير بها بين الناس, فمنها حسن خلقه صلى الله عليه و آله و سلم قال تعالى: “وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ” القلم 4, و عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: “لقد خدمت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عشر سنين فما قال لي قط: أف , و لا قال لشئ فعلته لِمَ فعلته؟ و لا لشئ لم افعله ألا فعلت كذا”.

و عن الصعب بن جثامة رضى الله عنه قال: أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم حمارا وحشيا فرده على, فلما رأى ما في وجهي قال: “إنا لم نرده عليك إلا أنا حُرُمْ”.

و عن عبدالله بن عمرو رضى الله عنهما قال: لم يكن رسول الله فاحشا و متفحشا, و كان يقول: إن من خياركم أحسنكم خلقا”

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرت في جريدة اليوم السابع الأسبوعية

المسجد النبوي في المدينة المنورة

هل كان النبي محمد مصلحا اجتماعيا أم قائدا سياسيا أم أنه خاتم المرسلين؟

عندما بلغ سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم الأربعين من عمره خرج فى شهر رمضان كعادته إلى غار حراء متأملا مفكرا مقلبا وجهه فى السماء وفى ليلة الإثنين من أواخر الشهر الكريم جاءه جبريل بأمر الله تعالى.

وحينئذ بدأ الوحى وبدأت نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم, فكيف كان العالم وقتها؟ وكيف تهيأ النبى الكريم لتغيير هذا العالم؟

كانت الوثنيات بأشكالها المختلفة تسيطر على العالم من الهند والصين وفارس شرقاً إلى أوروبا وأفريقيا غرباً, فمن عبادة النيران فى بلاد فارس إلى عبادة الأحجار والأشجار فى أفريقيا إلى الجدل الذى وصل حد الاضطهاد الدينى والتقاتل بالسلاح حول حقائق العقيدة المسيحية فى بيزنطة بل والإغراق فى الجدل الفلسفى العقيم حتى صار اسم بيزنظة علما على كل جدل عقيم, الوثنية والجدل العقيم حتى فى الألوهيات سيطرا على العالم شرقاً وغرباً, وتدهورت القوى العسكرية لكل من امبراطوريتى فارس والروم حتى صارتا تعتمدان على حراس من عرب الجزيرة العربية ليحرسوا حدودهما الجنوبية وتمثل ذلك فى مملكتى المناذرة والغساسنة, العالم تعمق فى الوثنية والضلال والشهوات حتى انغمست الكعبة بيت الله الحرام فى الأوثان ذلك البيت الذى كان قد أعاد بناءه إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام على أسس التوحيد الخالص «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوعَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (129)» البقرة.

وكانت جزيرة العرب منغمسة فى هذه الوثنية من عبادة الحجر والشجر مع وجود بقايا قليلة من أهل الكتاب اعتراهم ما اعترى أهل الكتاب فى ذلك العصر من خلاف وجدل حول حقائق العقيدة, وزاد العرب على وثنيتهم تفككهم السياسى ولم يختلفوا كثيراً فى تحللهم الاجتماعى عمن حولهم من أمم فارس والروم والحبشة إلا أن مظاهر هذا التحلل ربما اختلفت بشكل أو آخر من وأد البنات وكثرة الحروب والسلب والنهب والعصبية القبلية البغيضة التى طالما أشعلت الحروب وقطعت الأواصر فضلاً عن الطمع والخمر والقمار والمتعة المحرمة وتسخير الأقوياء للضعفاء.

◄◄ مكة قلب الجزيرة

كانت مكة قلب الجزبرة العربية معنوياً واقتصادياً ومن ثم سياسياً, ففى مكة بيت الله الحرام الذى يقدسه كل العرب بجميع قبائلهم وعقائدهم, وعبر مكة كانت تجارة الشرق والغرب تمر من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب وبالعكس عبر رحلة الشتاء والصيف حيث كان تجار مكة يتجهون فى الشتاء إلى اليمن وفى الصيف إلى الشام لتناقل التجارة من هنا لهنا وبالعكس فضلا عن تسويقهم جزءا كبيرا من هذه السلع فى موسم الحج ببيعه لسائر قبائل الجزيرة العربية من حجاج البيت الحرام.

ومن هنا تمتع أهل مكة وهم قبيلة قريش بفروعها العديدة بمكانة سياسية ومعنوية واقتصادية كبيرة بين سائر العرب, وكانت قريش تنقسم اجتماعيا إلى شعبتين كما يقول العقاد – واحدة من أصحاب الترف والطمع وهذه كانت تحرص على استبقاء الأمر الواقع على ما هو عليه لأنه يوافق هواها, أما الشعبة الثانية فكانت من أصحاب السماحة وكانوا أناسا وسطا بين مقام الطغاة الظالمين من رؤوس الشعبة الأولى وبين الضعفاء الذين لا يملكون إلا الإذعان للسادة الكبار الطغاة.

ومن هذه الشعبة الوسط ذات النسب الكريم كان بيت عبدالمطلب جد النبى صلى الله عليه وآله وسلم, ومن هنا جاء نسب النبوة العريق الذى خرج منه الصادق الأمين لينقذ العالم من تيه الضلال.

فى هذا الجو العالمى والإقليمى البائس أوحى الله تعالى إلى سيد الخلق محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم ليغير الدنيا من حال إلى حال.

وكما قال العقاد: «قالت حوادث الكون: لقد كانت الدنيا فى حاجة إلى رسالة, وقالت حقائق التاريخ: لقد كان محمد هو صاحب تلك الرسالة»

وهكذا كان العالم على موعد مع إمام الأنبياء و خاتم المرسلين, ولكن كيف صلح أن يكفى رسول واحد لهداية البشرية جميعا وكيف استمرت هذه الهداية فى مرحلة ما بعد موته صلى الله عليه وآله وسلم؟

يقول الشيخ محمد الغزالى: «فى المزالق المتلفة قد يقول لك ناصح أمين: أغمض عينيك واتبعنى, أو لا تسلنى عن شىء يستثيرك!

وربما تكون السلامة فى طاعته.

فأنت تمشى وراءه حتى تبلغ مأمنك.

إنه فى هذه الحال رائدك المعين, الذى يفكر لك, وينظر لك, ويأخذ بيدك. فلو هلك هلكت معه.

أما لو جاءك من أول الأمر رجل رشيد فرسم لك خط السير, وحذرك مواطن الخطر, وشرح لك فى إفاضة ما يطوى لك المراحل ويهون المتاعب, وسار معك قليلاً ليدربك على العمل بما علمت, فأنت فى هذه الحال رائد نفسك, تستطيع الاستغناء بتفكيرك وبصرك عن غيرك.

إن الوضع الأول أليق بالأطفال والسذج, أما الوضع الأخير فهو المفروض عند معاملة الرجال وأولى الرأى من الناس.

والله عز وجل عندما بعث محمدا عليه الصلاة والسلام لهداية العالم, جعل فى رسالته الأصول التى تفتح للعقول منافذ المعرفة بما كان ويكون, والقرآن الذى أنزله على قلبه هو كتاب من رب العالمين إلى كل حى, ليوجهه إلى الخير ويلهمه الرشد.

◄◄ قوة من قوى الخير

لم يكن محمد عليه الصلاة والسلام إماماً لقبيل من الناس صلحوا بصلاحه, فلما انتهى ذهبوا معه فى خبر كان, بل كان قوة من قوى الخير, لها فى عالم المعانى ما لاكتشاف البخار والكهرباء فى عالم المادة.

وإن بعثته لتمثل مرحلة من مراحل التطور فى الوجود الإنسانى, كان البشر قبلها فى وصاية رعاتهم أشبه بطفل محجور عليه, ثم شب الطفل عن الطوق ورشح لاحتمال الأعباء وحده, وجاء الخطاب الإلهى إليه – عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم- يشرح له كيف يعيش فى الأرض, وكيف يعود إلى السماء, فإذا بقى محمد صلى الله عليه وسلم أو ذهب فلن ينقص ذلك من جوهر رسالته, إن رسالته تفتيح للأعين والآذان وتجلية للبصائر والأذهان, وذلك مودع فى تراثه الضخم من كتاب وسنة.

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً{174} فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً {175}» النساء.

ومن هنا فنبينا الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم إن كان جاء لإصلاح العالم فى فترة دقيقة من الزمن فإنه لم يقدم نفسه كمصلح اجتماعى ولا كقائد سياسى يسعى للتغيير والتطوير إنما قدم نفسه كنبى وخاتم للمرسلين فأى عبقرية تمتع بها فى مجالات السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد إنما هى عبقرية الدعوة المنزلة من عند الله عز وجل, ولابد من ملاحظة هذه الحقيقة بشكل موضوعى ودقيق, لأن الموضة التى جرى عليها الكثيرون من المستشرقين ومن لف لفهم فى عصرنا الحديث هى مدح النبى الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره قائدا سياسيا أو عسكريا عظيما أو مصلحا اجتماعيا نابغا, وذلك كله بعيد عن حقيقة أن الله بعثه نبيا ورسولا للعالمين كافة, وفى ذلك ما فيه من عدم الصدق والموضوعية فحقائق القرآن ثم حقائق التاريخ تفصح بجلاء عن أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقدم نفسه بأى صفة للناس سوى صفة الرسالة والنبوة, قال تعالى: »وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ« سبأ28, وقال سبحانه: »قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـى وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِىِّ الأُمِّيِّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ« الأعراف158.

وبالتالى فرغم ما فى ظاهر دعاوى عظمته صلى الله عليه وآله وسلم وعبقريته فى مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والحرب من مدح فإنها تعتبر طعنا فى الرسالة المحمدية إن اعتبر ذلك هو حقيقة النبى الوحيدة دون إرجاع ذلك لطبيعة الرسالة الإسلامية التى بعث الله بها نبينا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.

صحيح أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عظيم فى كل ميزان: عظيم فى ميزان الدين, وعظيم فى ميزان العلم, وعظيم فى ميزان الشعور, وعظيم فى ميزان من يختلفون فى العقائد ولا يسعهم أن يختلفوا فى الطبائع الآدمية (حسب تعبير العقاد) لكنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقدم نفسه إلا بصفة واحدة هى أنه محمد رسول الله خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم.

ومع ذلك فإنه صلى الله عليه وآله وسلم كان له صفات خيرات حباه الله بها قبل النبوة مهدت لتصديق الناس له وإيمانهم بما جاء به من دعوة التوحيد وشريعة الإسلام, كما جهزته صلى الله عليه وآله وسلم لتلقى الوحى الإلهى والقيام بواجباته, فالله تعالى قد هيأ الظروف البيئية والوراثية التى تسهم معا فى تكوين الإنسان وتمنحه صفاته الخَلْقية الخُلُقية وتصوغ بنيانه الجسدى والنفسى, وتحدد قدراته العقلية واستجاباته العاطفية لتجتمع بشكل يجعل من نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإنسان المهيأ لتحمل المسؤولية التى أنيطت به بعد أربعين سنة من ميلاده .. (وحسب عماد الدين خليل) فإن أربعة عقود فى حياة الإنسان المحدودة تمثل امتدادا زمنيا طويلا أريد به أن يستكمل محمد الإنسان كل مساحات تكوينه الذاتى ونضجه البشرى قبل أن يتاح له أول لقاء مع الوحى الأمين وما أصعب اللقاء الأول بين ممثلى السماء والأرض وما أشق الحوار..

◄◄العقود الأربعة

طيلة هذه العقود الأربعة ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ ويتلقى ويجابه ويهضم ويتمثل شتى المؤثرات الوراثية والبيئية لكى يحولها إلى خلايا تبنى كيانه وسمات مادية وروحية تهيئة لليوم العظيم فعن أصالة أبيه وأمه أخذ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أصالة الشخصية ووضوحها ونقاءها وكسب على المستوى الاجتماعى احتراما وتقديرا فى بيئة كانت تستهجن مجهولى الأنساب وتحتقر الخلطاء ومن مرارة اليتم ووحشة العزلة وانقطاع معين العطف والحنان قبس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الصلابة والاستقلال والقدرة على التحمل والإرادة النافذة والتحدى الذى لا تنكسر له قناة وبالفقر والحرمان تربى ونما بعيدا عن ترف الغنى وميوعة الدلال واتكالية الواجدين وعبر رحلته الأولى إلى الشام فى رعاية عمه فتح محمد صلى الله عليه وآله وسلم عينيه ووعيه تجاه العالم الذى يتجاوز حدود الصحراء وسكونها إلى حيث المجتمعات المدنية التى تضطرب نشاطا وقلقا, والجماعات العربية التى فصلتها عن شقيقتها فى الصحراء الأم سلطات أجنبية أحكمت قبضتها على الأعناق, وساقت الشيوخ والأمراء العرب إلى ما تريد هى وتهوى لا ما يريدون ويهوون, وفى رحلته الثانية إلى الشام مسؤولا عن تجارة السيدة خديجة تعلم الرسول الكثير والكثير، عمق فى حسه معطيات الرحلة الأولى وزاد عليها إدراكا أكثر بما يحدث فى أطراف عالمه العربى من علاقات بين الغالب والمغلوب والسيد والمسود وإفادة أغنى من كل ما يتعلمه الذين يرحلون من مكان إلى مكان فيتعلمون من رحيلهم طبائع الجماعات والشعوب وكنه العلاقات بينها واختلاف البيئات والأوضاع .. ويزدادون مرونة وقدرة على التعامل المنفتح الذى لا ينقطع له خيط مع شتى الطبائع وفهما لما يتطلبه الإنسان فى عصر من العصور بعد اطلاع مباشر على عينات من هذا الإنسان فى سعادته وهنائه أو تعاسته وشقائه, وفوق هذا وذاك فقد أتيح للرسول صلى الله عليه وآله وسلم فى رحلته هذه تنمية وامتحان قدراته الخاصة التى تعلمها أيام الرعى صبيا وها هو الآن يدير تجارة لسيدة تملك الكثير فيعرف كيف يحيل القليل كثيرا ويصمد إزاء إغراء الذهب والفضة أمينا لا تلحق أمانته ذرة من غبار, قديرا على الارتفاع فوق مستويات الإغراء إلى آخر لحظة, ثم يجىء إسهامه فى القضايا الكبرى التى عاشتها مكة آنذاك متنوعا شاملا مغطيا شتى مساحات العمل البشرى الجماعى وكأنه أريد له أن يجرب كل شىء, أن يسهم عاملا فى كل اتجاه وأن يبنى عبر أنشطته المتنوعة جميعا شخصية قادرة على التصدى لكل مشكلة والإسهام الإيجابى الفعال فى كل ما من شأنه أن يعيد حقا أو يقيم عدلا, فى حرب الفجار مارس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شؤون القتال, وفى حلف الفضول شارك فى تجربة السياسة والحكم, وفى بناء الكعبة أعرب عن بداهته المثيرة للإعجاب فى حل المشاكل التى تلعب فيها المعتقدات والقيم والمقدسات دورا كبيرا, وخلال هذا وذاك يتزوج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويمارس فى أعقاب زواجه ذاك كبرى التجارب الاجتماعية فى حياة الإنسان وينجح فى التجربة.

هكذا بدت حياة النبى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم قبل مبعثه سلسلة مترابطة الحلقات منطقية التعاقب من التجارب والخبرات فى شتى المجالات لتهيئه لتلقى الوحى والقيام بأعباء الرسالة.

ولكن ماذا عن خبراته الروحية والدينية والأخلاقية؟

هذا له حديث آخر إن شاء الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرت هذا الموضوع في العدد الأسبوعي من جريدة اليوم السابع.

النقاب

هل النقاب أو الحجاب كفر بالإسلام؟؟

شهد النقاش حول النقاب تشددا ضده في العديد من المناسبات، فمن قائل إن النقاب يهدد الامن العام لأن المجرمين من الممكن أن يتخفوا وراءه ليرتكبوا الجرائم، و من قائل أنه ليس من الدين في شئ فلا يجوز لبسه، و من قائل أنه يعرقل عملية التحقق من الشخصية، إلى غير ذلك من الحجج التي نرى انها مجرد تشدد ضد قضية خلافية لكل شخص الحرية في تبني ما يشاء بشأنها.

النقاب مندوب أم واجب؟

النقاب في الشرع و حسب أراء العلماء هو من الاسلام لكنهم اختلفوا فمنهم من قال أنه مندوب أي من تفعله تأخذ ثواب و من لا تفعله فليس عليها وزر، او كما يقال باللغة الدارجة هو سنة فقط، و من العلماء من قال هو فرض، و منهم من قال هو مندوب لكنه يصير فرضا إذا خيفت الفتنة بسبب عدم ارتدائه، فهذه هي أراء العلماء السابقين عندما كان العلماء لا يتأثرون بشئ سوى حكم الشرع، و لا يهمنا هنا آراء بعض العلماء الذين يتأثرون في فتاواهم و آرائهم بمناصبهم الحكومية أو علاقاتهم بمراكز القوة أو يتأثرون بحبهم للظهور في صورة من لا تتعارض آراؤهم مع مفاهيم الحضارة الغربية الحديثة أو حتى القديمة بغض النظر عن توافق ذلك كله مع الحكم الشرعي الحقيقي أم لا.

التشدد ضد النقاب لا بد أن يكون سمة هذه الأيام مادام السيد الأوروبي غير راض عن هذا المظهر الاسلامي، و كيف لا و الهجوم على الحجاب الحقيقي نفسه لا يكل و لا يمل لا هنا و لا في أوروبا، تعرية الأنثى لجسمها سواء بكشفه و تحريره من الملابس الساترة أو بلبس الضيق أو الشفاف الذي يظهر الجسم اللابس و كأنه عاري تماما إذا جرى الكلام عنه فنحن هنا نتكلم عن الحرية و تحرير المرأة و تقدمها، أما إذا لبست الأنثى النقاب بمحض إرادتها فالحديث هنا يكون عن التشدد و الغلو في الدين و قهر المرأة و جهلها و تخلفها، الحديث عن التعري المذكور يقرنه المتحدثون بأن الإيمان في القلب و ناقص ثانية واحدة و يقولوا أن المتعرية قديسة من القديسات أو أحد أولياء الله الصالحين لأن ايمان قلبها قوي جدا، أما الحديث عن النقاب (أو حتى الحجاب الحقيقي) فيقترن بالقول بأن صاحبته ترائي بلبسها و تجهل حقيقة الإيمان و ناقص ثانية و يقولوا أنها كافرة و بنت ستين في سبعين لأنها لبست النقاب، و كأن أحد أركان الايمان أن يتخفى هذا الايمان في القلب فلا يظهر له أي أثر على الجوارح فإن ظهر له أي أثر كان ايمانا كاذبا!!!

و نفس الذين يتشددون ضد النقاب (و أحيانا ضد الحجاب) يتكلمون عن التدين المنقوص، و هنا يطرح السؤال نفسه: أنتم في كلامكم عن التدين المنقوص تطرحون أن التدين لم ينعكس في سلوك أصحابه و هذا حق إذ لابد أن ينعكس التدين (أي الايمان) و يظهر في سلوك أصحابه، أفلا ترون أن النقاب (و مثله الحجاب الحقيقي) هو سلوك شخصي لابد أن يكون انعكاسا للتدين غير المنقوص؟

هل يجب أن نفتش في ضمير المنتقبة ؟؟

و في الواقع فإن أي محتوى لابد ان ينعكس على مظاهر الشئ الذي يحتويه إلا في حالات نادرة و لأسباب محددة، و القول بأن بعض المنتقبات غير ملتزمات دينيا فهذا أمر لابد أن نتركه لله تعالي لأن القانون المصري لا يحاسب أي أحد على مدى التزامه الديني فلماذا المنتقبة بالذات سوف نفتش في ضميرها و نراقب مدى التزامها؟

تبقى الحجج السطحية التي تساق لتبرير التشدد ضد النقاب، و هي أضعف من أن تحتاج إلى رد عليها، فالقول بأنه يمكن للمجرمين التخفي في النقاب يرد عليه بأن أي عمليات تجميل ممكن للمجرمين أن يستعملوها في التخفي فامنعوها تماما لا سيما ان صاحبة النقاب يحق لأي جهة أمنية أن تتحقق من شخصيتها عبر الاطلاع على بطاقة اثبات شخصيتها في أي وقت و مطابقتها بوجهها و ممكن تقنين ذلك عبر شرطة نسائية، بينما من يعمل عملية تجميل يتغير شكله تماما، و كذلك امنعوا تداول أدوات المكياج لأنها ممكن أن تستعمل في التنكر من قبل المجرمين، و امنعوا ملابس رجال الدين الاسلامي و المسيحي على حد سواء لأنه ممكن للمجرمين أن يلبسوها لتسهل عليهم التحرك أثناء ارتكاب الجرائم.

أما القول بأن النقاب يعوق التحقق من الشخصية في كافة الاجراءات الرسمية من عقود و بيع و شراء و غير ذلك فكله كلام سطحي لأن الشرع نفسه الذي شرع النقاب شرع ازالته في حالة التعاقد أو غير ذلك من الاجراءات التي تحتاج التحقق من الشخصية ثم تعيده الأنثى المعنية لوجهها بعد إتمام الاجراء المطلوب.

و إذا ظهرت سطحية كل هذه الحجج حق لنا ان نتسائل عن سبب التشدد مع النقاب مع انه في أقل احواله هو حرية شخصية بينما يتم التساهل مع كل مظاهر الخراب و الفساد التي يعج بهما المجتمع.

ـــــــــــــــــــــــــــ

نشرت هذا المقال بمدونتي القديمة.

المسلمون يدعون الله -صورة أرشيفية

المسلمون و إبادة غزة … بين العجز و الدعاء والجهاد

عندما تسلط الجيش الإسرائيلي بآلته الحربية الطاغية على أهالي غزة بالقتل و الحرق و الدمار انقسم العالم الاسلامي إلى معسكرين معسكر الحكام و معسكر الشعوب, و تخاذل الحكام و وقفوا موقفا متواطئا مع إسرائيل و من تعاطف منهم مع الفلسطينين تعاطف بالقول فقط, و نظرا لأن الشعوب لا تملك شيئا في صنع قرار بلادها ولا تملك أن تعمل أي عمل حقيقي يمثل مساندة إيجابية فعالة لأهالي غزة كتحريك الجيوش أو قطع البترول عن الدول التي تساند إسرائيل أو إمداد المقاومة بالسلاح, فإن ذلك كان حافزا لأن يجتهد المسلمون بالمساجد في الدعاء على إسرائيل.

و الدعاء على الأعداء و المعتدين أمر مشروع في الإسلام و فعله النبي صلى الله عليه و آله و سلم كما فعله الأنبياء من قبله. فنبي الله نوح عليه السلام أخبر عنه القرآن أنه دعا على الكافرين من قومه فقال تعالى ” وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً{26} إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً{27}” (سورة نوح)و دعا موسى على فرعون و قومه قال تعالى ” وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ” (يونس88) كما دعا النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم على أعدائه في العديد من المواقف ففي مرة دعا على قريش بأن تحيق بها ازمة إقتصادية كالتي حاقت بأهل مصر في عصر يوسف عليه السلام فقد روى البخاري عن عبدالله بن مسعود قال: ” إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى مِنْ النَّاسِ إِدْبَارًا قَالَ اللَّهُمَّ سَبْعٌ كَسَبْعِ يُوسُفَ فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْمَيْتَةَ وَالْجِيَفَ وَيَنْظُرَ أَحَدُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى الدُّخَانَ مِنْ الْجُوعِ فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ”.

كما دعا النبي صلى الله عليه و آله و سلم على قبائل عربية أخرى حاربته أو ناصبته العداء و قتلت أصحابه و دعا على قبائل يهودية لنفس الأسباب, لكن العلماء حددوا إطارا و ادابا للدعاء و ذلك جمعا بين ألفاظ و مناسبات الأحاديث الخاصة بأمور الدعاء فقال إبن حجر في تعليقه على الحديث المذكور في الدعاء بالقحط و الأزمة الإقتصادية على قريش: ” الدُّعَاء عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِالْقَحْطِ يَنْبَغِي أَنْ يُخَصّ بِمَنْ كَانَ مُحَارِبًا دُون مَنْ كَانَ مُسَالِمًا” (فتح الباري شرح صحيح البخاري جـ3 ص 439).

و ذلك لأن هناك روايات في دعاء النبي صلى الله عليه و آله و سلم على قبائل مضر دعا فيها لبعض قبائلها مثل حديث أبي هريرة : “أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ يَقُولُ اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ قَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ هَذَا كُلُّهُ فِي الصُّبْحِ” (البخاري حديث 951)، و لذلك اورده البخاري في نفس الباب ليضع الدعاء على الأعداء في إطاره الصحيح, فالدعاء هنا ليس على كل الكفار لكفرهم و إنما هو دعاء على الكفار المحاربين اما المسالم منهم فهذا ليس مجال الدعاء عليه.

و من هنا فقد ثارت بعض المشكلات في صيغ الدعاء في بعض المساجد, فالمعتاد ان يدعو الإمام بالهلاك على ما يسميهم بـ “اليهود المعتدين” أو “اليهود المغتصبين”, و لكن في قليل من الحالات ربما يقول الإمام “اللهم عليك باليهود الضالين أعداءك اعداء الدين” مثلا و في الواقع فهو لا يقصد في قلبه أن يدعو على كل يهودي في الأرض و إنما يقصد هؤلاء الذين يعتدون على الفلسطينين لكنه سبقه لسانه دون تركيز منه في مرامي اللفظ, و لكن بعض المصلين ذوي الثقافة السياسية ربما طمحوا أن يدعوا أئمة المساجد على الصهاينة فقط بإعتبار أن الصهيونية هي سبب ذلك العدوان و الإحتلال و ليس مجرد اليهودية و ان هناك يهود غير صهاينة, و لكن من الصعب أن يلم كل أئمة المساجد بهذا التفصيل لكن أكثرهم إن لم يكن جميعهم يدركون و يقصدون بدعائهم “اليهود المحتلين و من ساندهم في أي مكان في العالم” و لذلك يكثر على لسانهم لفظ “اليهود المعتدين” أو “اليهود المغتصبين”, احترازا من اليهود المسالمين إن وجدوا.

و المسلمون هم دعاة بناء و ليسوا دعاة هدم لذلك فهم يأملون في هداية الخلائق جميعا و لذلك لما كان للنبي صلى الله عليه و آله و سلم راجعا من الطائف حزينا من سوء موقفهم من الإسلام و قبلها كان حزينا من موقف قريش المعاند “أرسل إليه ربه ملك الجبال فسأله أن يطبق على قومه الأخشبين فقال : بل استأني لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده” (رواه الطبراني عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب), فالمسلمون يميلون للتعاون و الحوار أملا في أن يفضي ذلك للإيمان أكثر من ميلهم للقتل و الصراع و الدعاء بهلاك الأعداء, لكن في أزمة غزة هذه وجد المسلمون أنفسهم بين نارين.. نار الحكم المستبد في بلادهم الذي يمنعهم من نصرة أهل غزة و نار الإسرائيلين الذين يصلون أهل غزة نار الفسفور الأبيض و لا يملكون لها دفعا و لا دفاعا فلجأوا إلى الله يضجون إليه بالدعاء في المساجد كل صلاة، و هذا ليس عيبا إلا إذا ظنوا أنهم بمجرد قيامهم بهذا الدعاء قد فعلوا ما عليهم و تحللوا مما يجب عليهم من نصرة إخوانهم و نجدتهم من نار الإحتلال.

فالنبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن يركن للدعاء فقط، بل كان يتخذ تدابير عديدة من أجل تحقيق أهداف الدعوة فهو كان يتحرك بين الناس في مكة يدعوهم للإسلام، و كان يعرض نفسه على قبائل العرب و سافر للطائف ليعرض على قادتها الإسلام، و لما لم يأت ذلك كله بالنتيجة المرجوة هاجر للمدينة المنورة و أحدث فيها تنمية إقتصادية، و بنى بها جيشه و أعاد تأسيس قواعد التكتيك القتالي بما لم يكن قد عرفه العرب في المدينة أو حتى في كل الجزيرة العربية، وحتى في غزوة بدر الذي إشتهر دعاؤه و إلحاحه في الدعاء فيها لم يقم بهذا الدعاء إلا بعد ان رتب الجيش و حدد لكل شخص موقعه و عمله في القتال، و حدد خطة القتال و قطع الماء عن قريش و حصرهم في ارض غير مناسبة و بعد ذلك كله جلس يدعو الله أن ينصر جنوده.

و في غزوة الخندق حفر الخندق و حصن المدينة و وضع أهالي المدينة من النساء و الأطفال في قلاع و حصون المدينة، و رتب لهم السلاح و الحراسات و حشد كل القادرين على حمل السلاح لحماية المدينة، و حماية الخندق الذي يحميها ومع و بعد ذلك أخذ يدعو.

فالدعاء ليس وسيلة وحيدة و لا هو يخرج صاحبه من دائرة المسئولية العملية بمجرد أن دعا بل الدعاء وسيلة من الوسائل.

و النبي صلى الله عليه و آله و سلم هو خير من دعا، و هو أفضل من دعا، و هو الأقرب إلى الله، و مع ذلك لم يمت إلا و قد تحرك كثيرا، و أوذي كثيرا بسبب حركته في الدعوة إلى الله، و حوصر في شعب ابي طالب وفي المدينة إبان غزوة الخندق، و كاد يقتل بسبب عمله لله، كما حرك هجرتين للحبشة، و هاجر إلى المدينة، و عاد و فتح مكة، و غزا و أرسل عشرات الغزوات في كل أنحاء الجزيرة العربية، بل و غزا الروم.

و من المشهور (كما جاء في البخاري و غيره) أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم رد عسكريا بسرعة على نقض قريش لمعاهدة الحديبية عندما ساندوا قبيلة بكر الكافرة في قتل اعدادا من قبيلة خزاعة المسلمة و لقد جاء عمرو بن سالم سيد خزاعة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم بالمسجد النبوي فقال له:

يَا رَبّ إِنِّي نَاشِـد مُحَمَّـدًا حِلْـف أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا

*****فَانْصُرْ هَدَاك اللَّه نَصْرًا أَيَّـدَا وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدًا

إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِـدَا وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُـؤَكَّـدَا

*****هُمْ بَيَّتُونَا بَالْوَتِيرِ هُجَّـدًا وَقَـتَلُونَـا رُكَّـعًا وَ سُـجَّـدًا

وَزَعَمُوا أَنْ لَسْت أَدْعُوأَحَدًا وَهُـمْ أَذَلُّ وَأَقَـلُّ عَـدَدًا

فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ردا على هذه الإستغاثة كلمة و احدة: “نُصِرَتْ يَا عَمْرو بْن سَالِم “، و جهز الحيش من عشرة آلاف مقاتل و فتح مكة، فكان نصره لقتلى مسلمي خزاعة بيد حلفاء قريش هو سحق قريش نفسها هي و حلفائها، و لم يكتف بالدعاء لخزاعة أو التبرع لها بالمال و الغذاء أو حتى السلاح.

و عندما صعدت روحه صلى الله عليه و آله و سلم إلى بارئها كان جيشا مجهزا مستعدا يقف على أطراف المدينة ينتظر أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم لينطلق ليغزو الروم، إنتقاما لخسائر المسلمين في معركة مؤته مع الروم, فحتى و هو صلى الله عليه و آله و سلم في نزع الموت الأخير كانت جيوشه جاهزة للتحرك، و لم يكتف بالدعاء و هو على فراش الموت، بل كان مصمما و هو على فراش الموت على الإنتقام لقتلى المسلمين، و كان كلما أفاق من سكرة من سكرات الموت يقول أنفذوا بعث أسامة، و لكن الصحابة لم يطاوعهم قلبهم بأن يغادروا المدينة و النبي  صلى الله عليه و آله و سلم في مرض شديد، فتأخروا في حركتهم، و كان الصديق رضي الله عنه واعيا بهدي النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فأصر على إنفاذ أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بإرسال الجيش ليغزو الروم بعيد موت النبي صلى الله عليه و آله وسلم، وذلك رغم ردة كل الجزيرة العربية و تآمرها على دولة الإسلام و قال الصديق قولته المشهورة: “و الله لو لعبت الكلاب بخلاخيل أمهات المؤمنين بالمدينة ما حللت لواء عقده النبي صلى الله عليه و آله وسلم “.

فهكذا لم يكتف النبي صلى الله عليه و آله و سلم و خلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم بالدعاء في مواطن الجهاد، بل كان جهادهم قتالا بجانب الدعاء حتى و هم على فراش الموت.

محمد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم

عبقرية محمد صلى الله عليه و آله و سلم لعباس العقاد

طعن شاب مولع بالحضارة و الفلسفة الغربية في شخص النبي محمد (صلى الله عليه و آله و سلم ) قائلا أن بطولة محمد إنما هي بطولة سيف و دماء، و كان هذا الشاب يحسب أن التطاول على الأنبياء من لوازم الإطلاع على الفلسفة و العلوم الحديثة، وكان ذلك في بيت محمود عباس العقاد في إحدى الجلسات التي جمعت بين العقاد و عدد من الأدباء و المثقفين.

و قد تزامنت هذه الجلسة مع ذكرى المولد النبوي الشريف في إحدى السنوات ، و قد رد الحضور ردا شديدا على هذا الشاب مما دعاه للاعتذار عن مقولته ثم انصرف من الجلسة، لكن أحد الحضور اقترح على العقاد أن يكتب كتابا عن النبي محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) وفق المناهج الحديثة بدلا من تلقي المسلمين معلوماتهم عن عظمة النبي محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) من كتابات المستشرقين.

و قد عزم العقاد على هذا لكنه لم يكتب هذا الكتاب المنشود إلا بعد ثلاثين عاما من هذا العزم، و قد كتب أخر سطر منه في يوم مولد النبي محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) أيضا.

واعتبر العقاد أن الثلاثين عاما هذه كانت لازمة كي يتهيأ علميا و فكريا و نفسيا لمثل هذا العمل الهام..”عبقرية محمد” صلى الله عليه و آله و سلم.

و في مقدمة الكتاب أشار العقاد إلى أن كتابه هذا ليس كتابة للسيرة النبوية و لا شرحا للإسلام أو دفاعا عنه أو مجادلة لخصومه “إنما الكتاب تقدير لعبقرية محمد بالمقدار الذي يدين به كل إنسان و لا يدين به المسلم فقط، و بالحق الذي يثبت له الحب في قلب كل إنسان و ليس في قلب كل مسلم فقط”.

واعتبر العقاد أن هذا الزمان يحتاج من يخلصه من أزماته و لن يصلح لمصلح أن يهدي قومه و هو مغموط الحق معرض للجفوة و هو يقصد بذلك النبي محمد (صلى الله عليه و آله و سلم)، كما أشار العقاد إلى أن الناس قد اجترأوا على العظمة في زماننا لأن شيوع الحقوق العامة قد أغرى أناسا من صغار النفوس على إنكار الحقوق الخاصة حقوق العلية النادرين الذين ينصفهم التميز و تظلمهم المساواة، و قد ظلم هذا الفهم الخاطئ للمساواة حقوق العظماء السابقين، و قد أغرى الناس بهذا الظلم غرورهم بتقدم العصر الحديث، و اعتقادهم أنه قد أتى بالجديد الناسخ للقديم في كل شئ.. حتى في ملكات النفوس و الأذهان، و هي مزية خالدة لا ينسخ فيها الجديد القديم حسب تعبير العقاد.

العالم كان ملائما للبعثة النبوية

أول فصل في كتاب العقاد يثبت أن العالم كان ملائما للبعثة النبوية فيه و قد جاءت في الوقت المناسب من حيث أحوال الفرس و الروم و العرب و قريش فخلاصة الحال حسب تعبير العقاد “عالم يتطلع إلى نبي و مدينة تتطلع إلى نبي و قبيلة و بيت و أبوان بأصلح ما يكونون لإنجاب ذلك النبي”.

عبقرية الداعي

أما الفصل التالي “عبقرية الداعي” فهو لا يقل في روعته عن روعة العقاد المعهودة و من أبرز ما فيه إبرازه أن المؤمنين لم يؤمنوا ابتغاء لذة الجنة و إلا لكان المترفون من صناديد الكفر أحرص على مثل هذه اللذة فلم يكن أبو لهب أزهد في اللذة من عمر، لكن هناك فارق واحد بين من سبق للإيمان ومن تخلف عنه حسب رأي العقاد ذلك هو الفارق بين الأخيار و الأشرار.. بين من يعقلون و يصغون للقول و من يستكبرون و لا يصغون للقول.

و في نفس الفصل يبرز أن المؤمنين هم من كان يجرد عليهم المشركون السيف فالمؤمنون كانوا مطاردين و مضطهدين تحت وطأة سيوف الكفار فكيف يكونوا آمنوا خوفا من السيف و يضرب مثالا بإسلام عمر عندما ذهب للنبي صلى الله عليه و آله و سلم متوشحا سيفه فخافه المسلمون لكن حمزة قال ائذنوا له إلى أخر القصة المشهورة فعمر الذي جاء ليسلم هو من كان يحمل السيف و ليس داعيه هو الذى حمل عليه السيف.

عبقرية محمد العسكرية

و في فصل “عبقرية محمد العسكرية” يسعى بنجاح إلى إقناع القارئ بعدالة السلوك العسكري للنبي محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) و مبرراته، كما يعقد مقارنات هامة بين القتال عند المسلمين و اليهود و المسيحيين، كما يعقد مقارنات بين الإنجازات في فنون الحرب لدى هتلر و نابليون و بين النبي محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) ليقول في نهاية الفصل:

“إن عبقرية محمد في قيادته لعبقرية ترضاها فنون الحرب و المروءة و شريعة الله و الناس و الحضارة في أحدث عصورها و المنصفون من الأصدقاء و الأعداء”.

ويتابع: “قد سمعنا كثيرا فى العصور الحديثة عن المقاومة التى تتجنب العنف ولا تعتمد على غير وجه الحق والحجة .. سمعنا بها فى الحركة الهندية التى قام على رأسها غاندى وقد استبعد البعض أن يتفق المسلمون مع تلك المقاومة السلبية لاعتقادهم أن الإسلام قد شرع للقتال، ولكن المثل الذى قدمه النبى محمد صلَّى الله عليه وآله وسلم فى رحلة الحديبية يبين أن الإسلام قد أخذ من كل وسائل الدعوة بنصيب يجرى فى حينه مع مناسباته وأسبابه، وقد خرج النبي محمد صلَّى الله عليه وآله وسلم إلى مكة فى رحلة الحديبية حاجاً لا غازياً” .. بمثل هذه العبارات برهن العقاد على عبقرية النبي السياسية.

محمد في التاريخ

و هكذا إلى أخر الكتاب حيث يثبت عبقرية النبي الإدارية و في الفصاحة و في الصداقة و في الرئاسة و في الحياة الزوجية و الأسرية و كذا في عبوديته لله تعالى.

و يختم الكتاب بفصل “محمد في التاريخ” و فيه يشير إلى أن الإيجاز يغني في هذا الفصل “لأن العالم كله صفحات تنبئنا بمكان النبي محمد فيه. محمد في نفسه بالغ في العظمة وفقا لكل مقياس صحيح في عصور الحضارة….فالتاريخ كله بعد محمد متصل به مرهون بعمله، و إن حادثا واحدا من أحداثه الباقية لم يكن ليقع في الدنيا كما وقع لولا ظهور محمد و ظهور عمله”. بحسب تعبير عملاق الأدب العربى الحديث محمود عباس العقاد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرت هذا الموضوع في جريدة الدستور المصرية بالعدد الأسبوعى، وفي مدونتى القديمة.

القضاء والقدر

تعرف على جانب من أسرار القضاء والقدر

يمثل القدر أحد أبرز المسائل الغيبية في العقيدة الإسلامية كما أنه يثير العديد من الإشكاليات مما جعله مزلة أقدام وبابًا ضَل فيه الكثيرون، لأنهم حاولوا الإطلاع علي أسرار وخفايا موضوع هو من أخص خصائص عالم الغيب الذي اختص الله بعلمه فلم يطلع علي غيبه أحداً إلا من اصطفى من أنبيائه ورسله، بل إن هؤلاء المرسلين أنفسهم لم يُطلعهم تعالى علي كل شيء بل أطلعهم على ما أراد لحكمةٍ بالغةٍ قضاها.

ولما كانت قضيه القضاء والقدر بهذه الخطورة فإن الله لم يترك خلقه هكذا ضلالاً جهالًا في بابها مما يعين الشيطان عليهم، حاشا له أن يفعل ذلك بل أقام منارات الهدى في باب القدر فلا يضل عن هداها إلا هالك. ومن هذه المنارات ترغيب المؤمنين في الإيمان بالغيب والتسليم به والصبر علي حلو القدر ومره والتبشير بثوابه وحسن جزائه في العاقبة سواء في الدنيا أو الأخرة.

ولم تقتصر منارات الهدي في موضوع القضاء والقدر علي هذا بل إن الكتاب والسنة سلكا مسلكاً آخر لتقوية إيمان المؤمنين وإعانتهم على الصبر على مر القدر، والشكر على حلوه دون اليأس في الأولى ودون الكبر والإغترار في الثانية، و نقصد بهذا المسلك الآخر هو مسلك تجسيد بعض المفاهيم التي تضع حركة القضاء والقدر في إطارٍ واضحٍ ومفهوم تجسيدًا ماديًا في الواقع الذي نعيشه، وهذا التجسيد لا نقصد به ما ورد في الكتاب والسُنة من ضرب الأمثال بل نقصد به ما ورد فيهما من وقائع لقصصٍ حقيقيةٍ حدثت في أزمنةٍ مختلفة وظهر الجانب الغيبي في هذا القصص بارزاً في عالم الشهادة، ولاشك أن تصفح هذا القصص لا يكسب القارئ علماً ببعض مرامي القضاء والقدر فقط بل أيضاً يعطي إيمانه بالغيب قوةً تقترب في درجتها من قوة من تصديقه بالمحسوسات التي يشاهدها في عالم الشهادة، ولعل هذا من أقوى دوافعنا لتصفح أمثلةٍ عن هذا القصص، ولكن لابد أن نلاحظ قبل أن نبدأ في هذا التصفح أن هذا القَصَص نوعان:

النوع الأول: قصص كاملة لأحداث محددة قصها علينا الوحي في الكتاب والسُنة من مبدئها إلي منتهاها، وكان منتهاها واضحاً فيه النهايتين الدنيوية والأخروية لهذه الأحداث مما أعطاها وضوحاً ظاهراً فالظلم والتكبر قد يحلو لبعض النفوس ويستهويها هذا في البداية فقط، لكن تأتي العاقبة بعد سنوات لتبين لنا عاقبة هذا الأمر الذي قدر له في بداية الأحداث أن يكون بطل الأحداث فيها غنيًا أو ذا صحةٍ أو قوةٍ أو جمال أو غير ذلك مما يحلو لنا، وهذا في كل القصص القرآني الذي يندرج تحت هذا النوع.

ولنضرب مثالين اثنين فقط علي هذا النوع من القصص، وهما قصة أصحاب الحديقة وقصة قارون.

قصة أصحاب الحديقة

فالأولي مذكورة في سورة القلم قال الله تعالى : {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ* أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ* فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ* بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 17-33] ومختصر القصة في كتب التفسير أن رجلاً صالحاً كان يملك بستاناً، وكان يعطي جزءاً من ثماره صدقة للفقراء كنصيب ثابت لهم من محصول البستان عند كل حصاد, فلما مات عزم أبناؤه علي الاستئثار بالمحصول ومنع الفقراء منه، فأرسل الله عليه ناراً أحرقته عن أخره فصار البستان بعدما احترق أسودًا كسواد الليل المظلم، فلما رأي أبناء الرجل الصالح هذا المنظر راجعوا أنفسهم وندموا وتابوا عن فعلتهم.

وفي هذه القصة يبدو قضاء الشر في عاقبتة خير لهم لأنهم تابوا، وكذلك هو عقوبة بسبب عزمهم علي البخل، و فيها أن حفظ الله للبستان زمن أبيهم كان عاقبة من عواقب عمله الصالح وهو قضاء خير له وإن بدا هذا الإنفاق شراً عند البخلاء.

قصة قارون مع بني إسرائيل

والقصة الثانية: قصة قارون قال الله تعالي في سورة القصص { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّـهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّـهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ* قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّـهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّـهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّـهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّـهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّـهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 76-83]

وفيها ما هو مشهور من القصة من حسن مظهر قارون وغناه وما أسبغ الله عليه من نعم، وكذلك فخره وبطره فالفرح المذكور والذى نهوه عنه هو البطر والأشر لا السرور، وكل هذه الأشياء بدت للبعض في بداية الأحداث أنها قدر خير له وإن كان هو نفسه نفي دور القدر في غناه وقوته ولكن تأتى نهاية الأحداث بما لم يتوقعه هو وكل الموافقين على سلوكه، حيث خسف الله به وبغناه الأرض, فالقصة تظهر لقصار النظر عواقب الأمور التى بدا أنها قدر حلو منذ بدايتها لكنها كانت استدراجاً وكانت شرا له دنيوياً وأخروياً.

ولاشك أن هذا النوع من القصص بالغ التأثير في هداية ذوي العقول والبصيرة لكن قد يصعب علي البعض فهمه أو استمرار تذكره، وقد يغلبهم تعجلهم في التفكير والنظر فلا يرون العظة البالغة والعبرة الخطيرة في هذا القصص المسترسل والسائر عبر عشرات السنين بأحداث وئيدة الخطي إلي حد كبير، وهنا تأتي وظيفة النوع الثاني من القصص المستقي من الوحي.

نوع أخر من القصص القرآنى

وهو النوع الثاني: وهو قصص أورد مشهداً أو أكثر من مشاهد القدر الواقعية الظاهرة في عالم الشهادة (أي في الواقع المشاهد) ثم قام شخص (أو الوحي) في نفس وقت وقوعها بتفسير جوانبها الغيبية وإزاحة الستار عن أسرارها غير المشاهدة وذلك ببيان واضح ومباشر، وهذه القصص كثيرة في الكتاب والسنة وفيما يلي نذكر جانباً منها للاعتبار والتذكر:

قصة البشارة بميلاد إسحاق عليه السلام

ومن هذه الأحداث الواقعية التي دخل الوحي طرفاً في صياغتها وتفسيرها مباشرة مخاطباً أصحابها حدث تبشير الملائكة سيدنا إبراهيم (عليه السلام) و زوجته بإسحاق وبعده يعقوب فلما تعجبت زوجته بين لها الملائكة أن هذا قدر الله يفعل ما يشاء قال الله تعالى في سورة (هود): {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ* قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَـٰذَا بَعْلِي شَيْخًا ۖ إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود: 71-72]

قصة البشارة بميلاد يحيى عليه السلام

وكذلك زكريا (عليه السلام) لما بشرته الملائكة بيحيى تعجب فجاءه ردٌ مماثل في المعنى قاله الله تعالى في مريم%22″>سورة مريم {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا *قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا* قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا * قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ۚ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا * فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [ مريم: 2-15]

قصة السيدة مريم عليها السلام

ومن هذا النوع أيضا من القصص قصة السيدة مريم مع ميلاد إبنها عيسى عليه السلام قال تعالى في سورة الأنبياء {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] , وقال الله في سورة مريم: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّـهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 16-33] .فرزقت المسيح علي رغم منها ورغم ما ظنته أنه شرٌ لها إلا إنه كان رحمة للعالمين بل سينزل أخر الزمان ليصير وقتها رحمة لأهل ذلك الزمان أيضاً، ومريم هذه هي التي قالت أمها عنها يوم ولادتها إنها أنثي كأنها تشعر أنها لن تقدم من الخير ما يستطيع أن يقدمه الذكر لما نذرت لله مولودها، ومع ذلك فهذه الأنثى ارتقت في مدارج الإيمان والعمل الصالح حتى صارت سيدة نساء عصرها وأية من آيات الله علي مر العصور ورمز العفة والطهارة والصلاح كما قال الله تعالي في سورة آل عمران: { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 42-43] . فعلًا ذكرها مع أنها أنثي كما قالت أمها في سورة آل عمران: { إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّـهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 35-36] . فلا يأس من الإصطفاء أيا كان الجنس. حول قصة جالوت مع بني إسرائيل وفي هذا الإطار العام والسريع تأتي أيضاً قصة نصر مؤمني بني إسرائيل علي جالوت كما جاءت في سورة البقرة وفي الأحاديث النبوية الصحيحة.فلا يأس مع نصر المؤمنين علي عدوهم رغم قلتهم (إذ كانوا نحو ثلاثمائه فقط) مادموا ملتزمين بأمر الله وسنته في خلقه. هذه الأحداث عامة وسريعة وتسير في اتجاه متشابه تقريباً وهو مبررات أقداره لأنها ترمي إلي حكمه بالغة اقتضاها الله.

قصة موسى مع الخضر عليهما السلام

ثم نجد أحداثًا أخرى أكثر تفصيلاً وتنوعاً تذكر طرفاً منها أيضاً لمجرد التذكرة والإشارة لا الحصر ولا الاستقصاء فمنها قصة الخضر مع سيدنا موسي (عليه السلام) قال الله تعالي في سورة الكهف: {قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّـهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا* فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا *قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا* قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي ۖ قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَـٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا* فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا *وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 66-82]

وفيها بيان لجانب من مرامي القدر المر في أنواع مختلفة من الأحداث مثل حدث فقد المال والذي تمثل هنا في خرق السفينة والمرمي الحقيقي هنا هو حفظ المال لا فقده وذلك بحفظ السفينة من أن يستولى عليها الملك, ثم نرى كذلك حدث فقد النفس متمثلا في قتل الغلام والمرمي الحقيقي هنا هو حفظ دين الوالدين المؤمنين وحفظ الدين مقدم علي حفظ النفس, ثم أيضاً نري حدث فقد المجهود أو بذل العمل دون مقابل مادي ورأي القدر فيه هو حفظ مال ضعفاء لكن المرمي أبعد من ذلك و هو أن أباهما كان صالحاً وهو يعني ما هو أبعد بشأن حفظ المال إذ يشير بذلك إلى قدر الله فى خلقه بحفظ ذرية كل صالح ومالهم بما فيهم ذرية نفس هذا الذي يبذل عمله ومجهوده دون مقابل مادي وإنما يبذل لوجه الله.

قصة الذي تكلم في المهد

ونري حدثاً آخر واضحاً في قصة الطفل الذي تكلم في المهد وهو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم فقال «بينا طفل يرضع من أمه فمر رجل راكب علي دابه فارهه وشارة حسنة فقالت أمه اللهم إجعل إبني مثل هذا فترك الثدي وأقبل إليه فنظر إليه فقال اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل علي ثديه فجعل يرضع فكأني أنظر إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو يحكي إرتضاعه بأصبعه السبابة في فيه فجعل يمصها ثم قال ومرا بجاريه وهم يضربونها ويقولون زنيت سرقت وهي تقول : حسبي الله ونعم الوكيل, فقالت أمه اللهم لا تجعل إبني مثلها، فترك الرضاعة ونظر إليها، فقال اللهم إجعلني مثلها, فهنالك تراجعا الحديث (أي الطفل الرضيع وأمه) فقالت مر رجل حسن الهيئة، فقلت اللهم اجعل إبني مثله فقلت لا تجعلني مثله، ومررنا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون (زنيت سرقت) فقلت اللهم لا تجعل إبني مثلها فقلت اللهم اجعلني مثلها, قال إن ذلك الرجل جبار فقلت اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون زنيت ولم تزن وسرقت ولم تسرق فقلت اللهم إجعلني مثله» .[البخاري- الفتح 6 (3436)، مسلم (2550) واللفظ له]

فهنا هذا الصبي أشار للحكمه من القدر في لون من قدر الخير وهو الجمال الظاهر في الهيئة والملبس ويبين أن وراءه كبره تجبره الذى هو لون من قدر الشر.

كما يبين الحكمة من القدر الذي ظاهره الشر في صورة الظلم الواقع على الجارية وأن وراءه خيراً وفيرا وثوابا عظيمًا، والأمثلة في ذلك المجال كثيرة وغزيرة وجديرة بأن تفرد بالبحث والكتابة.

ـــــــــــــــــــــ

هذا المقال كنت كتبته فى المعتقل عام 1998م.