أردوغان في شبابه بجانب أستاذه نجم الدين أربكان

تجربة ” أردوغان “.. إسلامية أم علمانية ؟ و ما علاقتها بـ”الإخوان”؟ (2)

قبل أن نتابع معا ما فعله أردوغان عبر تجربته في تركيا فإننا محتاجون لتذكر السياسة الخارجية لنجم الدين أربكان كزعيم سياسي إسلامي، و خاصة أثناء توليه الحكم عندما كان رئيسا للوزراء في منتصف التسعينات، قبل إطاحة الجيش به في انقلاب 1997 ..

كان نجم الدين أربكان غير مهتم بل ربما رافض لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، و كان يسعى ليبتعد بتركيا عن الولايات المتحدة و إسرائيل، كما سعى لتوثيق علاقة تركيا بالعالم الإسلامي، و أقام منظمة “الدول الإسلامية السبع الكبرى”، لتضم أكبر سبع دول إسلامية من حيث عدد السكان، بهدف تكوين تكتل اقتصادي إسلامي قوي يواجه تكتل الدول السبع الكبرى الذي تقوده الولايات المتحدة، و يضم أكبر سبع اقتصاديات في العالم و كلها أوروبية، بجانب الولايات المتحدة و اليابان و كندا..

(وطبعا منظمة أربكان هذه تدهورت بعد تركه الحكم فسموها أولا مجموعة الدول السبع فحذفوا لفظ “إسلامية” و لفظ “كبرى” لئلا يغضبوا الغرب، و بعدها لم يعودوا يجتمعون أو يتعاونون لأن حكام هذه الدول هم بالطبع أذناب للغرب).

 عندما أسس أردوغان حزبه أعلن أنه حزب تركي، و ابتعد به قليلا عن القوالب التي اتسمت بها كل أحزاب أربكان التي كان مصيرها جميعا الحل، و قال إن الالتزام الإسلامي لحزبه لا يعني مخالفة التقاليد العلمانية للدولة التركية، كما أعلن أن تركيا دولة أوروبية و مستقبلها أوروبي، و يجب أن تنضم للاتحاد الأوروبي كدولة كاملة العضوية، و أكد أن هذا الهدف سيكون أولويته الخارجية الأولى و الأهم لو فاز حزبه في الانتخابات، بجانب هدفه الداخلي و هو النهوض بالاقتصاد التركي الذي كان وصل عشية انتخابات نوفمبر 2002 إلى حالة تردي خطيرة، إذ بلغت نسبة التضخم 65% كما بلغ الدين الخارجي 23.5 مليار دولار.

عندما فاز حزب أردوغان بالانتخابات (38%) شكل الحكومة برئاسة عبد الله جول، لحين إصدار البرلمان قانون يتيح إسقاط عقوبة أردوغان، ليتمكن من خوض الانتخابات التكميلية ليتولى رئاسة الوزراء و قد كان، و تولى رئاسة الوزراء ، بينما تولى جول فيما بعد رئاسة الجمهورية.

أردوغان والسعي للانضمام للاتحاد الأوروبي

بجانب اهتمام أردوغان بالاقتصاد (و سنرى بعد سطور نتيجة هذا الاهتمام) فإنه كثف مباحثاته مع القادة الأوروبيين كي تنضم تركيا للاتحاد الأوروبي ، و طبعا أوروبا لم و لن تكون في يوم من الأيام راغبة في ضم 100 مليون مسلم تركي إلى الاتحاد الأوروبي ، و في الوقت الذي تسارعت وتيرة ضم دول أوروبا الشرقية للاتحاد فإن محاولات أردوغان للانضمام باءت بالفشل فشن عليهم حربا دبلوماسية بأنكم بهذا الرفض تعلنون أن الاتحاد الأوروبي هو نادي مسيحي ..الخ كما أعطى أردوغان إشارات خلف الكواليس إلى الولايات المتحدة حليفة تركيا الكبرى بأن تركيا لو انضمت إلى الاتحاد الأوروبي فإنها ستكون رجل أمريكا في الاتحاد …صحيح أن بريطانيا هي ذيل أمريكا في قلب الاتحاد.. لكن أمريكا التي تخشى أن يتطور الاتحاد و يصبح منافسا دوليا لها تحتاج مزيدا من الأوراق لتقييد هذا الاتحاد و وضعه تحت سيطرتها.. و من هنا جاءت ضغوطها المعلنة و السرية على الاتحاد لقبول تركيا ..

اضطر الاتحاد للتذرع بأن تركيا لا يمكن ضمها لأنها لا تتوفر فيها شروط الديمقراطية و احترام حقوق الإنسان بحسب المعايير الأوروبية و بدأ الاتحاد منذئذ تكتيكا جديدا للرفض و هو : يجب على تركيا أن تتحول للنمط الأوروبي في الديمقراطية و حقوق الإنسان .. و هذا ما كان يريده أردوغان..

التعديلات الدستورية لتلبية شروط الاتحاد الأوربي

أعلن أردوغان أنه سيفعل أي شئ لضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، و توجه لإجراء التعديلات الدستورية التي تحول تركيا للنمط الأوروبي في الديمقراطية و حقوق الإنسان و كان أول و أصعب شئ في ذلك هو تقليص الدور السياسي للجيش في الدستور.. عبر عدة تعديلات دستورية متتالية بحجة تحويل تركيا إلى النمط الديمقراطي الأوروبي كي يقبل الاتحاد ضمها له ، و بهذه التعديلات قلص دور مجلس الأمن القومي التركي (الذي كان يهيمن عليه العسكريون) و يسيطر على كل شئ في السياسة و الإدارة التركية حتى صار دوره مجرد مستشار للحكومة يشير عليها و يأتمر بأمرها كما جعل أمين المجلس شخصا مدنيا لأول مرة و جعل عدد العسكريين فيه أقل من نصف المدنيين ، و حرم على العسكريين التحدث للإعلام إلا في القضايا العسكرية و الأمنية على أن يكون ذلك تحت إشراف القيادة المدنية و منع محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية و بسط الرقابة المحاسبية على العسكريين بحيث يمكن محاسبتهم و محاكمتهم على أي سلوك من سلوكيات الفساد المالي بعد أن كانوا لا يخضعون لأي رقابة مدنية، و في نفس الوقت أجرى عدة محاكمات لعدد من قيادات الجيش و منهم رئيس أركان سابق  و نائب قائد الجيش و قادة جيوش و فرق و العديد من الجنرالات بجانب قادة سياسيين حزبيين و إعلاميين بتهمة محاولة قلب نظام الحكم و تم ذلك في أوقات مختلفة منذ 2003 و حتى 2013 و كان ذلك في عدة قضايا أشهرها القضية المعروفة بـ “أرغينيكون” و كذلك قضية عرفت بـ”المطرقة” و غيرهما… و عند بداية هذه المسيرة تحدثت تقارير عدة أن قائد الجيش يفكر في القيام بانقلاب لمنع التعديلات الدستورية إلا انه سافر لواشنطن لأخذ الإذن بالانقلاب و ردت عليه واشنطن بأنه يجب عليه دعم أردوغان كي ينجح في ضم تركيا للاتحاد الأوروبي … و طبعا تمت التعديلات و تعززت سيطرة أردوغان و حزبه على الحكم في مواجهة الجيش الذي قلمت أظافره بينما لم تنضم تركيا للاتحاد الأوروبي لأن أوروبا لا تريد تركيا.  

نهضة تركيا اقتصاديا على يد أردوغان

أما في المجال الاقتصادي فقد رفع أردوغان الدخل الوطني لتركيا من 230 مليار دولار عشية حكمه إلى 820 هذا العام بينما رفع إجمالي الصادرات من 36 مليار إلى 153، وخفض فائدة الدين من 63 في المئة إلى 9.3 فقط ، كما سدد الدين الخارجي بالكامل و الذي كان 23.5 مليار دولار عشية توليه الحكم كما ارتفع احتياطي البنك المركزي التركي من العملة الصعبة من 27.5 مليار دولار في 2002  الى 136 مليار دولار الآن، و إرتفع متوسط دخل الفرد التركي من 3.492 دولار إلى أكثر من 10.744 دولار سنويا، و تم إنشاء 17 ألف كيلومتر من الطرق، كما ارتفع عدد المطارات في عموم البلاد خلال هذه الفترة من 26 إلى 52 مطارا، و بذلك كله و غيره انتقل الاقتصاد التركي من المرتبة 26 إلى المرتبة 16 عالميا، كما احتلت تركيا المرتبة السادسة على المستوى الأوروبي في المجال الاقتصادي.

إنجازات أردوغان السياسية

و بجانب الانجازات الاقتصادية لأردوغان فقد قام بعدة انجازات سياسية لعل ابرزها حله لجزء كبير من المشكلة الكردية التي تؤرق تركيا منذ عشرات السنين فضلا عن انجازاته السياسية التي حققها في مجال العلاقات الخارجية خاصة فيما يتعلق بالدول الإسلامية و العربية.. و لكن مما يهمنا جدا في تجربته هو ممارسته السياسية باحترافية عالية.. و قصدنا بمفهوم الاحترافية في السياسة كتبنا عنه سابقا.. لكن لدينا مثالين عن تطبيق أردوغان لهذا المفهوم :

المثال الأول – في الغزو الأمريكي على العراق عام 2004 حيث طلبت الولايات المتحدة من أردوغان أن يسمح للقوات الأمريكية لاستخدام قاعدة أمريكية ضخمة موجودة في تركيا (تابعة للناتو) لتكون منطلقا لغزو شمال العراق و ذكرت أمريكا أردوغان بأن ذلك من مقتضيات التحالف التركي الأمريكي و من مقتضيات عضوية و شراكة تركيا في حلف الناتو، لكن أردوغان رد قائلا : نحن دولة ديمقراطية و لدينا برلمان و لا يمكنني اتخاذ هذا القرار قبل عرضه على البرلمان لأخذ موافقته ، و عرض الأمر على البرلمان التركي الذي يتمتع فيه حزب العدالة و التنمية بالأكثرية ، و لكن البرلمان التركي اتخذ قرارا برفض استخدام الأراضي التركية لغزو العراق.. و قد كان .. و عندما عبرت أمريكا عن غضبها رد أردوغان: ألم تطالبونا بالديمقراطية ؟ هذه هي الديمقراطية .. ممثلو الشعب التركي رفضوا طلبكم.

و كانت دعوات بوش لتطبيق الديمقراطية في العالم الاسلامي و العربي و لو بالقوة على أشدها في ذلك الوقت .. و انبرى صحفيون و كتاب أمريكيون و أوروبيون وقتها للدفاع عن موقف أردوغان مستنكرين أن يغضب الغرب من نتيجة الديمقراطية اذا خالفت هوى الغرب..

و بذا لم ينطلق غزو العراق من أراضي تركيا بينما انطلق من أراضي و أجواء عربية و إيرانية و دول إسلامية في أسيا الوسطى.     

المثال الثاني – ابان حرب غزة عام 2008 كان أردوغان يشارك في مؤتمر دافوس في مناظرة مع شيمون بيريز الزعيم الإسرائيلي و وجه أردوغان نقدا لاذعا لإسرائيل و بيريز ثم افتعل مشكلة معه على الهواء معتبرا أنه يهين تركيا (باعتبار أردوغان يمثل تركيا) و متهما مدير المناظرة انه منحاز لبيريز و قام منسحبا من المناظرة قائلا لن أحضر دافوس مرة أخرى .. و روجت وسائل الإعلام الموالية لأردوغان أنه انما فعل ذلك حفاظا على كرامة تركيا و الشعب التركي و رجع أردوغان ليجد آلاف الأتراك ينتظرونه في المطار يحيونه على موقفه و خطب فيهم قائلا: أنا لن أسمح أبدا أن تهان تركيا أو الشعب التركي و لذلك انسحبت .. فهتفت الجماهير له ..

و هنا نجده أذل إسرائيل و بيريز على مرأى من العالم كله و انتصر لغزة و الفلسطينيين و في نفس الوقت صور الأمر للشعب التركي على أنه انتصار للقومية التركية و كرامتها.

هذا التحليل لا يهدف لسرد تفاصيل تجربة أردوغان السياسية و الاقتصادية و إلا لاحتجنا لكتاب و ليس مقالا و إنما يهدف هذا التحليل لفهم الخطوط العامة المهمة لهذه التجربة فالتحليل يهتم بما وراء ما حدث لا بتفاصيل ما حدث و من شاء التفاصيل فيمكنه البحث عنها على الويب و سيجدها.

و لنعد معا ما سبق ببطء و نفهم معا أبعاده… 

لقد تأمل أردوغان واقعه السياسي فوجد أن خصمه هم العلمانيون و وجد أن قوتهم في أمور هي

1-الشريحة الشعبية الكبيرة: التي تؤيدهم لأنها تلوثت فكريا أو سلوكبا ( أو كلاهما) بالعلمانية أو ارتبطت مصالحها بها و بمؤسساتها و هؤلاء تترجم قدراتهم إلى أصوات في الانتخابات .. و هؤلاء واجههم بالعمل الجماهيري الناجح و تحقيق الانجازات الاقتصادية لكسب أعداد أكبر من الشعب التركي لصفه و صف حزبه.

2-مؤسسات القضاء و الإعلام و أساتذة الجامعات: و هؤلاء وجد أنهم لا يمكنهم فعل شئ إلا في إطار الظهير الشعبي المذكور في (1) كما أدراك أن رأس حربتهم و أداتهم في التنفيذ هي الجيش .. لكنه مع ذلك عالج المؤسسة القضائية بالعديد من الإصلاحات الدستورية كي تستقيم بدرجة ما و إلا لما استطاع القبض على العديد من قادة الجيش و محاكمتهم و إحباط العديد من مؤامرات الانقلاب العسكري

3-مؤسسة الجيش: و هذه لم يكن يمكنه مواجهتها بالتعديلات الدستورية فقط و إلا لانقلبت عليه و منعته من إتمام التعديلات و لألغت البرلمان و الحزب نفسه بمساندة القوى المذكورة في (1-2) لكنه ألزمها تقبل التغيير عبر عمل سياسي مهم و هو حيلة الانضمام للاتحاد الأوروبي و وعد أمريكا بأن يكون حصان طروادة بالنسبة لأمريكا في الاتحاد و من ثم ضغطت أمريكا على الجيش ليتقبل التغيرات الديمقراطية و استمرار الحياة الديمقراطية في تركيا.

متغيرات دولية واقليمية ساهمت في نجاح أردوغان

هناك عوامل مساعدة كثيرة ساعدت أردوغان منها ارتفاع الأصوات التي دعت الغرب بالسماح بإسلام معتدل ليحكم، كي يكون بديلا لإسلام طالبان و القاعدة عشية هجمات 11 سبتمبر، و كذلك ذيوع القول بخطأ اعتماد الأمريكان على ديكتاتوريات الشرق الوسط على حساب الديمقراطية مما أفرز الإرهاب و التشدد و نحو ذلك من دعوات مراكز الأبحاث الغربية .. و في الواقع فإن أردوغان استفاد من ذلك و كله و استغله حتى إذا مالت التوجهات الغربية لشئ من التغير بفعل انقلاب السيسي و توجه التحالف العربي المساند للسيسي (الذي اتخذ من السيسي رأس حربة له لضرب عصفوري الربيع العربي و الحركة الإسلامية في المنطقة)، فإن أردوغان كان قد وصل لأرض صلبة يرتكز عليها ليصير أقل تأثرا بالتقلبات الإقليمية و الدولية .. حيث استقرت الأوضاع الدستورية في حالة أقل خطرا على وجود حزبه، كما أن انجازاته الاقتصادية الضخمة لا تسانده اقتصاديا فقط و لكنها حققت له تمكنا سياسيا فبينما فاز الحزب عام 2002 بـ 38% فإن الحزب منذ شهرين فاز في المحليات بـ42% ثم فاز أردوغان منذ أسبوع بـ56% من أول جولة .. و هكذا تشير الأرقام لتصاعد في شعبية الحزب بشكل منتظم..

هذا ما فعله أردوغان في تجربته و انا أرى أن ما فعله هذا حتى الآن تنطبق عليه مقولة كيسنجر : “ما هو الشخص الثوري؟
 إذا كان الجواب عن هذا السؤال ليس غامضا لما كان الثوريون الناجحون قلة ، لأن الثوريين دائما ما يبدأون من موقف أدنى ، و ينتصرون لأن النظام القائم لا يكون في مقدوره أن يدرك مدى وهنه ، و يصبح هذا بصفة خاصة عندما يظهر التحدي الثوري ليس بمسيرة على الباستيل، بل مرتديا زى المحافظين ، إن قلة من المؤسسات هي التي تستطيع أن تدافع عن نفسها ضد أولئك الذين يدعون أنهم سيحافظون على تلك المؤسسات” (الدبلوماسية جـ1 ص 133 ط روز اليوسف ، القاهرة 2001م).

و إذا كان هذا هو ما فعله أردوغان سياسيا فما هو حكمه الشرعي في فقه السياسة الشرعية في الإسلام؟؟ و إجابة هذا السؤال هي موضوع الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

رجب طيب أردوغان

تجربة ” أردوغان “.. إسلامية أم علمانية ؟ و ما علاقتها بـ”الإخوان”؟ (1)

ما هو التقييم الصحيح لتجربة أردوغان في تركيا ؟

لا شك أن التقييم ليكون صحيحا يجب أن يرتكز على عدة محاور هي ..

الأول –هو واقع تركيا قبل تولي أردوغان و حزبه الحكم.

الثاني –فهم ما حدث فعلا في الواقع العملي لتجربة أردوغان في الحكم.

الثالث –تقييم هذا الواقع وفقا لفقه و قواعد السياسة الشرعية.

هذا إذا كنا نريد أن نقول عن تقيمنا أنه وجهة نظر إسلامية.. إذ لا يعقل أن نقول أننا نتكلم وفقا للإسلام و نحن نتكلم كلاما لم يراع فقه السياسة الشرعية و قواعدها أو دون أن ندرك الواقع الحقيقي للتجربة.

و كثير من الأخوة كلما ذكروا تجربة رجب طيب أردوغان في تركيا يستدعون ما يعتبرونه علاقة هذه التجربة أو تبعيتها لجماعة الإخوان المسلمون و لذلك فإننا مضطرون لتناول هذه النقطة بالتحليل في محور رابع.

و سوف ننشر هذه المحاور الأربعة عبر عدة مقالات (ان شاء الله) ليسهل قراءتها و لئلا نطيل على القارئ فيشعر بالملل.

عندما ألغى أتاتورك الخلافة الإسلامية أقام دولة علمانية شديدة العداء للإسلام و منع كافة المظاهر الإسلامية و حول مسجد أيا صوفيا الى متحف و فرض العلمنة و الإنسلاخ من الاسلام بالحديد و النار و في سبيل ذلك حاصر و ضيق على أي مظاهر أو شعائر اسلامية و منع أي أنشطة اسلامية حتى لو كانت لا تمت للعمل السياسي بأي صلة .. و دور و أفاعيل كمال أتاتورك في إزالة ليس الجانب السياسي للاسلام في تركيا فقط بل و كل ما يمت للاسلام بصلة أمر مشهور و يطول وصفه و يمكن لمن شاء التوسع في قراءتها أن يرجع الى عدد من المراجع الموثوقة (مثل: محمد قطب ، واقعنا المعاصر. محمد محمد حسين ، الاتجاهات الوطنية في الأدب العربي المعاصر. عبد الله عبد الرحمن “مترجم” ، الرجل الصنم .. و غيرها) لكننا هنا نود أن ننظر الى ما آلت اليه الأوضاع في تركيا عشية تولي أردوغان للحكم..

دولة أتاتورك

 تحولت دولة الخلافة الى دولة علمانية متعصبة تحظر أي نشاط إسلامي سياسي، و تضيق و تحاصر أي نشاط إسلامي أخلاقي حتى لو كان بعيدا عن السياسة، و أصبح منتشرا فيها الانحلال الفكري و الأخلاقي و باتت تعادي المسلمين و قضاياهم، و توالي اليهود و الأمريكيين و الأوروبيين على الساحة الدولية و الاقليمة..

و أمسى فيها ممنوع رفع الآذان بغير اللغة التركية، و أحيانا كان يمنع إعلان الآذان أصلا ،و منعت الدولة اللحية و الحجاب في مؤسسات الدولة، بما في ذلك الجامعات فلا يدخلها ملتحي و لا محجبة، حتى لو كان داخلا لمرة واحدة لقضاء شئ عابر، كما يجري منع أي شخص لديه ميول إسلامية من دخول أجهزة الدولة المؤثرة كالجيش و الأجهزة الأمنية و القضائية و نحوها، و كل من يظهر عليه أي ميول إسلامي في هذه الأجهزة يتم فصله منها ، و كان كل ذلك مقنن بالقانون و الدستور و لا يمكن لأحد تغييره، و في نفس الوقت فإن أشكال الفسق و الفجور و الانحلال و الانحرافات الخلقية و الفكرية مباحة بالقانون و الدستور، وفوق ذلك كله فإن الدستور يوجب وضع مؤسسة الجيش فوق كل مؤسسات الدولة، بما في ذلك فوق رئيس الجمهورية، و رئيس الوزراء المنتخب، بدعوى حماية تراث أتاتورك و تقاليد و أسس الدولة العلمانية، فيمكن لقائد الجيش أن يوجه انذارا علنيا الى رئيس الجمهورية، أو إلى رئيس الوزراء المنتخب في أي وقت لدفعه للتراجع عن قرار ما أو توجه ما، و استعمل العلمانيون أيضا مؤسسة القضاء لضرب أي أحزاب إسلامية عبر أحكام قضائية تصدر بحلها، كلما قامت و حاولت العمل في ظل النظام الحزبي الذي يدعي الليبرالية.

إذن فنحن أمام وضع علماني متطرف جدا في معاداته للإسلام و متحالف مع الولايات المتحدة و إسرائيل و عضو بحلف الناتو (لاحظ كانت سماء تركيا هي ساحة تدريب دائمة للقوات الجوية الإسرائيلية بسبب ضيق مساحة الكيان الصهيويني و حاجتها لمساحة اوسع للتدريب)، و في النظام التركي يسهر على حفظ استمرار الحكم العلماني كل من الجيش و القضاء و أغلب وسائل الإعلام ، و لم يكن هذا الوضع يتم الحفاظ عليه ضد رغبة ذوي التوجه الإسلامي فقط، بل كان يتم الحفاظ عليه ضد ارادة الشعب في الكثير من المواقف التي لا يقبلها عامة الشعب لمصادمتها لبعض توجهاته الإسلامية، او لمصادمتها للحرية الحقيقية ، كان الوضع مفروضا بالحديد و النار ، فانقلب الجيش على رئيس علماني ليبرالي هو عدنان مندريس عام 1960 بسبب أنه خاض حملته الانتخابية على أساس وعود بإلغاء الإجراءات العلمانية الصارمة بالبلاد، و كان من بين هذه الاجراءات التى تعهد بالغائها : الأذان بالتركية و منع قراءة القرآن وإغلاق المدارس الدينية، وحينما فاز قام مندريس بإلغاء هذه الإجراءات حيث أعاد الآذان إلى العربية، وأدخل الدروس الدينية إلى المدارس العامة، وفتح أول معهد ديني عال إلى جانب افتتاحه مراكز تعليم القرآن الكريم، و لكن الجيش اطاح به و أعدمه هو و اثنين من وزراءه و سجن آخرين.

 نجم الدين أربكان وقوة الإسلاميين في تركيا

و في عام 1980 استعرض نجم الدين أربكان قوة الاسلاميين بحشد مظاهرة مليونية في قلب استانبول ضد اسرائيل، و كان قبلها قد حصل على نسبة لا بأس بها من مقاعد البرلمان التركي، مما أرعب عسكر تركيا العلمانيين فقاموا بانقلاب بقيادة الجنرال كنعان إيفرين، و حلوا حزب أربكان و اعتقلوا العديد من الزعماء السياسيين، وحلوا البرلمان والأحزاب السياسية والنقابات العمالية، وفرضوا دستورا منح قادة الجيش سلطات غير محدودة.

و بعد ذلك شكل أربكان حزبه باسم آخر ليتحايل على قرار حل حزبه الأول، و حصد نسبة كبيرة من مقاعد البرلمان أهلته لتولي رئاسة الحكومة، لكن الجيش التركي تدخل مرة أخرى عام 1997 ليطيح بحكومة نجم الدين أربكان و يحل حزبه “حزب الفضيلة”..

و من هنا بدأ رجب طيب أردوغان و عبد الله جول (و هما من أبرز القادة الصاعدين وقتها الذين تربوا في أحزاب أربكان منذ 1972) يفكران تفكيرا آخر لمواجهة الوضع، فشكلا حزب العدالة و التنمية عام 2001 ، و خاضا به أول انتخابات قابلتهم بعد تشكله و هي انتخابات نوفمبر 2002، حيث اكتسح الحزب الانتخابات بنسبة أهلته لتولي الحكم و هنا بدأ العمل الضخم الذي قام به أردوغان و حزبه…

و هو ما سنتناوله في الحلقة التالية ان شاء الله.

الصراع السياسي في منظور التحليل

خريطة الصراع السياسي في منظور التحليل الإسلامي

كتب- عبد المنعم منيب

تقسيم خريطة الصراع إلى فسطاطين هما فسطاط الكفر وفسطاط الإيمان هو تقسيم عقائدي مجمل، لكن عند إجراء تحليل وتعامل سياسي إسلامي صحيح لايمكن الارتكاز على هذا التقسيم بإجماله، لأن التحليل السياسي ومن ثم العمل السياسي يحتاجان تفصيلا لأن التحليل والعمل السياسي لا يتعاملان مع إجمال ولكن مع تفصيل.

 والتفصيل إنما يأتي بتتبع هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سيرته حيث نجد أن الكفار فيهم المطعم بن عدي بما له من نموذج في التفكير والسلوك السياسي دفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يطلب حمايته في مكة، ودفعه لأن يقول بعد بدر لو كان المطعم حيًا وسألني هؤلاء النتنى لدفعتهم له (يقصد أسري قريش في بدر).

والكفار كان فيهم أبو سفيان بن حرب الذي هرب بالقافلة، ولم يرد قتالًا فأرسل إلى أبي جهل أن قد سلمت القافلة فعودوا بالجيش.

 وفي الكفار عتبة بن ربيعة بما يمثله من نموذج للتفكير والسلوك لدي نوع من الكفار وهو أمرٌ دفعَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن يقول عنه يوم بدر: «إن يكنْ عندَ أحدٍ من القومِ خيرٌ فهو عندَ صاحبِ الجملِ الأحمرِ إن يطيعوه يَرشدوا» (صحيح/ مجمع الزوائد)، وهو من دعا قريشا في بدر لترك محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتركه وشأنه مع بقية الجزيرة العربية، وكان معه في رأيه حكيم بن حزام حينئذ قبل أن يسلم.

 وفي الكفار أيضًا أمثال أبو جهل وأبو لهب وأم جميل، وضمن الكفار أيضًا أمثال ملاعب الأسنة الذي أراد أن يؤمن رسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليبلغوا دعوة الإسلام رغم أنه كان وقتها كافرًا.

وفي فسطاط الكفار من هو مثل النجاشي قبل إسلامه حين قال عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم «مَلِكًا لا يُظلمُ عندَه أَحَدٌ» (السلسلة الصحيحة)، وفي فسطاط الكفر مثل كسرى الذي مزق رسالة النبي صلى الله عليه وآله و سلم له فدعا عليه صلى الله عليه وآله وسلم عنه حينئذ أن يمزق الله ملكه.

وفي فسطاط الكفر من هو مثل أمير اليمن من قبل كسرى الذي أرسل له كسرى ليقبض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فآمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وسلم اليمن إلى ولاية الإسلام.

معسكر الكفر من الناحية السياسية يشهد اختلافات شتى

والمحصلة أن معسكر الكفر من الناحية السياسية يشهد اختلافات شتى تبدأ من العدل وحماية الضعيف ورفع الظلم (مثل النجاشي والمطعم بن عدي وملاعب الأسنة وغيرهم)، و تمر بمن لا يرفع الظلم لكنه عاقل فيدعو لسياسة كفرية عاقلة تقلل الصدام مع الحق (مثل عتبة بن ربيعة)، ومنهم من هو قريب من الإسلام لو وجد دعوة مناسبة كوالي كسرى في اليمن، ومنهم من هو محارب بحمق وحقد وغل مثل أبي لهب وأبي جهل، ومنهم من هو محارب بروية وتمهل مثل أبي سفيان قبل أن يسلم (دعاهم في بدر للرجوع وفي الخندق لما وجد مس الضرر أمر بالرجوع).

هم معسكر واحد من حيث عقيدة الكفر لكنهم ليسوا سواء من حيث النسق والسلوك السياسي فإذا تعاملت معهم سياسيًا وفقًا لكونهم واحد في العقيدة فقد أهملت واقعهم السياسي، وهذا موجود الآن أيضًا في الواقع الكفري الراهن.

حركة التاريخ والسياسة قائمة على الصراع

الدنيا كلها دار مشقة لأنها دار للابتلاء ففي الحديث: «لما خلقَ اللهُ الجنةَ قال لجبريلَ: اذهبْ فانظرْ إليها ، فذهبَ فنظرَ إليها ثم جاء فقال: أيْ ربِّ وعزتِك لا يسمعُ بها أحدٌ إلا دخلَها، ثم حفَّها بالمكارِهِ، ثم قال: يا جبريلُ اذهبْ فانظرْ إليها، فذهبَ فنظرَ إليها، ثم جاء فقال: أيْ ربِّ وعزتِك لقد خشيتُ أن لا يدخلَها أحدٌ، قال: فلما خلقَ اللهُ النارَ قال: يا جبريلُ اذهبْ فانظرْ إليها، فذهبَ فنظرَ إليها، ثم جاء فقال: أيْ ربِّ وعزتِك لا يسمعُ بها أحدٌ فيدخلُها، فحفَّها بالشهواتِ ثم قال: يا جبريلُ اذهبْ فانظرْ إليها، فذهبَ فنظرَ إليها، ثم جاء فقال: أيْ ربِّ وعزتِك لقد خشيتُ أن لا يبقَى أحدٌ إلا دخلَها» (صحيح أبي داوود:4744). ومن ضمن هذه المشقة والابتلاء أن سنة الله في حركة التاريخ والأحداث أنها تقوم على الصراع قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251].

البعض يسطح الأمور ويعتبر أن الصراع هو بين الحق والباطل فقط، ولكن الأمر فيه تفصيل أوسع من هذا، وهذا التفصيل مهم جدًا للتحليل السياسي الإسلامي والممارسة السياسية الإسلامية المنضبطة بالشرع الحنيف وخاصة هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلفائه الراشدين، لعل أهم ما يساعدنا على فهم هذا التفصيل هو أن نفهم أن الصرع هو بين الإسلام الكامل الصحيح وبين إبليس، وهنا يأتي السؤال من يمثل الإسلام الكامل الصحيح؟

وللإجابة على هذا السؤال نجد أن ليس كل المسلمين كاملي الإيمان لأن الإيمان بحسب عقيدة أهل السنة يزيد وينقص، كما أنه قد يكون انحرافًا ما في الفكر أو العقيدة لدى مسلم لكن هذا لا يقدح في أصل إسلامه.

إذن ليس كل معسكر المسلمين ممثلًا لطرف الصراع ضد إبليس بشكل كامل وصحيح.

ثم يأتي السؤال الآخر وهو من يمثل إبليس في الصراع؟

هل لا يوجد أي أحد من الإنس يطيع إبليس وينفذ مخططاته سوى الكفار؟

بالطبع لا، فهناك من الإنس من يتبعه في الكفر كما أن هناك من الإنس من بين صفوف المسلمين من يتبعه في الشهوات والشبهات بل ويحارب من أجل نشر الفاحشة والشهوات والانحرافات؛ قال تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور:19].

إذن فهناك تنوعات سلوكية وعقيدية داخل الصف الإسلامي نفسه تعطي الفرصة ليتعامل إبليس مع بعضها لتدعيمه في معركته ضد الإسلام الصحيح الكامل وأهله. وهذه التنويعات سوف نتكلم عنها بقدر من التفصيل في السطور القادمة إن شاء الله تعالى، ولكن يجب هنا أن ننبه أن حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] لا يعارض هذا فسبل الشيطان منها ما هو عقدي يقدح في أصل الإيمان، ومنها ما هو سلوكي يقدح في كمال الإيمان فقط ولا يقدح في أصله، وإلا لكان المرجئ أو الغارق في الشهوات حتى مماته مستقيمًا على السبيل الواحد المستقيم وهذا لا يقول به أحد من أهل السنة.

أنماط الصراع داخل مجتمع المؤمنين

في الدولة الإسلامية (وبشكل عام في أي مجتمع إسلامي حتى لو لم يكن داخل دولة إسلامية، لكن الدولة الإسلامية هي الواقع الأمثل لنا كمسلمين) هناك عدة أنساق من الصراع لكن في البداية سنقابل نسقًا عامًا يشمل الكثيرين أيًا كانت درجة إيمانهم وهو الحسد، والبعض قد يقلل من أثر هذه العملية في الواقع السياسي لكن أحداث التاريخ من أبينا آدم وحتى اليوم تثبت أن الكثير من الصراعات المهمة بكل أنواعها لم يحركها سوى الحسد. ولعل الحسد هو أحد محركات الصراع الرئيسية داخل الأمة التي أشار إليها الحديث النبوي «وسألتُه أن لا يجعلَ بأسَهم بينهم فمنَعَنيها» (مسلم:2890).

أما نسق الصراع الأخر المهم جدًا والذي ينبغي التعامل معه باهتمام شديد لأن عبره يتكون مجد الأمة أو يندثر فهو نسق الصراع بين أهل العدالة من المسلمين وبين أهل الفسق وأهل الظلم من المسلمين، فالمسلمون إما (عدول) بمفهوم العدالة المعروف في الفقه وفي علم الحديث (وهو من لم يرتكب كبيرة ولم يصر على صغيرة)، وإما مسلم فاسق (وهو من يصر على الصغيرة ويرتكب الكبائر ربما في مجال الانحراف الشخصي فيما دون حقوق الناس)، أو ظالم (وهو من يجور على حقوق الناس مرتكبًا بذلك كبائر تتعلق بالجور على حقوق الآخرين).

والصراع دائر بين أهل العدالة وأهل الفسق والظلم في إطار قوله تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النسلء:27]، وقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41]. فأهل الشهوات من جهتهم يصارعون ليكون المجتمع الإسلامي كله مثلهم وأهل العدالة يجب عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن هذه العملية هي مناط خيرية الأمة على غيرها من الأمم كما أنها أحد أبرز أهداف التمكين كما في الآية الأخيرة، ومن هنا فالصراع قائم بين أهل الفسق والظلم من المسلمين من جهة، وأهل العدالة من المؤمنين على قضية الاستقامة على تعاليم وشريعة السلام {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112].

ففريق الفسق والظلم يريد انحراف المجتمع إلى مسلكهم وأهل الإيمان يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ليستقيم المجتمع على شرع الله، وهكذا فداخل معسكر أو فسطاط الإيمان عدة صراعات صراع بين أهل العدالة وأهل الفسق، وصراع بين أهل العدالة وأهل الظلم بالإضافة لصراع عام قائم على الحسد تتغير خريطته من حين لآخر ولكنه قد يصل إلى البغي فيقف في وجهه أهل العدالة تطبيقًا لقوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9].

وهناك محور أو نسق آخر من أنساق الصراع وهو متعلق بالصراع بين أهل العدالة وأصحاب الشبهات والبدع في الدين وكذلك أصحاب التأويل الخاطئ وما ينتج عن ذلك كله من آثار في الواقع، إما مذهب فقهي غير مقبول أو مذهب عقدي كالخوارج بفرقهم والمعتزلة والمرجئة والشيعة بفرقهم جميعًا. وبذا يتضح ما ذكرناه في بداية هذا المقال من أن فسطاط الإيمان ليس كله واحدًا بل داخله أنساق عدة للصراع ينبغي فهمها والتعامل معها وفقًا للسياسة الشرعية.

آليات الصراع داخل المجتمع أو الدولة الإسلامية

ولنختم الآن بنظرة سريعة على الفكرة العامة لآليات إدارة الصراع داخل المجتمع الإسلامي مع أهل الفسق وأهل الظلم وأهل البدع والشبهات (غلو أو إرجاء أو غيرهما) وهذه الفكرة العامة ترتكز على عدة أشياء أبرزها التالي:

– الأصل هو التربية والتقويم ونشر العلم الشرعي الصحيح عبر توفير البيئة الإيمانية العامة بشكل سليم بعيدًا عن أي دعوة أو إثارة للفسق أو الظلم أو البدع أو أي تحبيذ لهم.

– وهذه البيئة تتشكل من الأسرة والعائلة والمدرسة والجامعة والمسجد والنادي وأماكن العمل والشارع ووسائل الإعلام والثقافة والترفيه المختلفة.

– تعمل سياسات الدولة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على مكافأة ورفع العدول والتضييق وخفض أهل الفسق والظلم والبدع في كافة المجالات (هناك أمثلة عديدة لذلك في التاريخ والفقه الإسلامي وعلى سبيل المثال والإيضاح نتذكر معًا الدعاء الذي دعاه العز بن عبد السلام على المنبر قائلًا: “اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك و يؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر”. ونذكر هنا أيضا أعظم مثال تطبيقي تاريخي وهو أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما حدد العطاء أي المرتبات التي قررها للمسلمين فقد ميز الصحابة وميز من الصحابة أهل بدر وميز المهاجرين والأنصار على من بعدهم من المسلمين وقال والله لا أساوي من قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع من قاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا في الاقتصاد. أما في السياسة فقد كان عمر يجمع أهل بدر ليشاورهم مقدمًا لهم على غيرهم وعندما حضرته الوفاة جعل الخلافة محصورة في الستة الذين توفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو راضٍ عنهم وهذا ليس بدعة من عمر بل هو أمرٌ بدا مستقرًا في فقه الصحابة إذ عندما حدثت الفتنة الكبرى بين الإمام علي ومعاوية رضي الله عنهما وأثناء الجدل قبل وبعد مقتل علي رضي الله عنه كان يكثر القول بإرجاع الخلافة إلى من بقي من الصحابة ممن توفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو راض عنهم. والشاهد أنه ليس السبق لمجرد السبق لأن السبق يكمن فيه معنى جوهري وهو العدالة وارتفاع درجة الإيمان بين أهل العدالة).

– النظام العقابي في الدولة الإسلامية قائم على أن الفسق الشخصي الذي لا يتسبب في الاعتداء على حقوق آخرين يندب فيه لأفراد المجتمع الستر على أصحابه ونصحهم في السر لا سيما لو كانوا نادمين وجنحوا للتوبة لكن إذا وصلت جريمة الفسق لمعرفة المسؤولين فلا يسعهم سوى تطبيق نظام العقوبات الإسلامي.

– النظام العقابي الإسلامي لا يسمح بالتغاضي عن الظلم الذي يمس حقوق الناس ويجب على أفراد الرعية والمسؤولين أن يسعوا إلى رفع هذا الظلم ولا يسع مسؤول بالدولة منع عقوبة الظالم أو التغاضي عن رد الحقوق لأهلها تحت أي مسمى.

– تقوم الدولة والأفراد بنصح ووعظ أهل الشبهات الفقهية أو العقدية لكن الدولة يجب عليها بشكل أكبر السعي لإزالة شبهاتهم بشكل منتظم ومنع انتشارها ومنعهم من الدعوة إلى البدع العقدية ونشرها.

– يلاحظ امتناع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن قتال الخوارج إلى أن قتلوا صحابيًا وزوجته وامتنعوا عن تقديم القتلة للإمام وامتنعوا بالسلاح فقاتلهم حينئذ. كما أنه من قبل هذا رد على شبهاتهم بنفسه وأرسل إليهم ابن عباس فناظرهم ورجع منهم الآلاف إلى الرشد بسبب هذه الردود.

الثورة المصرية

الإسلاميون و 3 فرص سانحة في مصر

عَانَى الإسلاميون في مصر من القمع وعانت الدعوة الإسلامية من التضييق البالغ في العديد من أقطار العالم العربي فترة طويلة إلى أن منَّ الله علينا بنجاح ثورتي مصر وتونس في الإطاحة بنظامي مبارك وبن على، وهما من أكثر نظم العالم الإسلامي قمعًا للإسلاميين وتضييقًا على الدعوة الإسلاميَّة والعمل الإسلامي, والآن وبعد تغيير الوضع في كلٍّ من مصر وتونس هناك فرصة سانحة للإسلاميين في ظلّ أجواء الحرية التي سادت بعد الثورة.. فما هي ملامح العمل الإسلامي الذي يمكن اعتبار أنه يستجيب لمتطلبات هذه المرحلة ويستغلُّ أغلب الفرص المتاحة من أجل النهوض بالحركة الإسلاميَّة وتقوية موقعها في الخريطة السياسيَّة محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا؟

العمل الجماهيري

أول معالم العمل الإسلامي الفعَّال في الفترة المقبلة هي العمل الجماهيري العام بدعوة عامة الناس إلى تفهم تعاليم الإسلام والالتزام بها، وذلك سيتمُّ عبر مستويين:

المستوى الأول- عمل جماهيري عام: وذلك عبر وسائل الإعلام الحديثة المتعددة مثل الصحف والمجلات المطبوعة والفضائيَّات والإنترنت، وكذلك التحرك الدعوي في الجامعات والقرى والمدن والنوادي عبر التواصل الشخصي والأعمال الدعوية الجماعيَّة من ندوات وخطب ودروس ومحاضرات وأنشطة دينيَّة واجتماعيَّة ورياضيَّة وترفيهيَّة.

الأداء الإسلامي على النت الآن لا بأس به, أما الفضائيات فهي بعيدة كثيرًا عن المهنيَّة الإعلاميَّة وفق أُسُسها الحديثة، وتعمل على فرض أسلوب الخطابة على حساب العمل الإعلامي الحقيقي بكل مفاهيمه وأساليبه وتكنيكاته, أما مجال الصحافة المطبوعة فلا نكاد نلمح وجودًا إسلاميًّا حقيقيًّا فيها, إذ لا توجد ثَمَّ مطبوعة أسبوعيَّة أو يوميَّة ذات توجه إسلامي حقيقي.

التحرك الدعوي عبر الدعوة الفردية والجماعية كانت عليه قيود أيام حكم القمع, لكن الآن قد ارتفعت هذه القيود وينبغي انتهاز هذه الفرصة لتوسيع الأرضيَّة الجماهيريَّة للعمل الإسلامي, ليس الهدف فقط هو كسب تأييد الناس في انتخابات أو استفتاء… إنما هناك هدفان يجب العمل لتحقيقهما هما:

1- توسيع دائرة الملتزمين بالإسلام عقيدة وشريعة, فكرًا وسلوكًا, بحيث تشمل هذه الدائرة أغلبيَّة المسلمين.

2- توسيع دائرة المؤيدين للمنهج السياسي والاقتصادي والنموذج الحضاري الإسلامي بين الذين استعصى عليهم الالتزام بالإسلام عقيدة أو سلوكًا أيًّا كان اتجاههم الفكري أو العقيدي.

المستوى الثاني- العمل الجماهيري الخاص: وذلك عبر المساجد ويهدف إلى تدعيم عمليَّة الالتزام الحقيقي بالإسلام عقيدةً وشريعة عبر التربية على السلوكيات الإسلاميَّة وعبر تزكية النفوس بالتعبد والتعلم في المسجد, وبجعل المسجد ركيزةً لإدارة شئون المسلمين الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة بشكلٍ يبعدها عن الانحرافات السائدة في المجتمع المعاصر ويدعم وجود وصمود الواقع الاجتماعي الإسلامي في وجه هجمات العلمانيَّة وغيرها من العقائد المنحرفة ويدحضُ ما تورِده من شبهات.

التثقيف والتجنيد السياسي الإسلامي

أما ثاني معالم العمل الإسلامي في ظلّ المتغيرات التي طرأت على الواقع العربي بعد الثورات العربية الناجحة فهو عمليَّة التثقيف والتجنيد السياسي الإسلامي, إذ يلزمنا الاهتمام بعمليَّة التثقيف السياسي وفق هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السياسة, وهو أمرٌ ليس هينًا لعدم وجود الأدبيات النظريَّة الكافية, لكنه أمر لا بدَّ منه في ظلّ الحتميَّة الراهنة لعمليَّة خوض غمار العمل والصراع السياسي، وهو أمرٌ يستلزم وعيًا كافيًا بمتطلبات هذه العمليَّة لدى صفوف الحركة الإسلاميَّة قادة وقواعد على حدٍّ سواء, والأمر لا يقتصر على حاجتنا للتثقيف السياسي، بل نحن محتاجون أيضًا لعمل واسع جدًّا في مجال التنظيم السياسي في أطُر وجماعات سياسيَّة تتناسب في صيغتها مع الأوضاع السياسيَّة والقانونية الموجودة في كل دولة, هذه الأطر والجماعات مهمتها القيام بعمليات التعبئة السياسيَّة وممارسة العمل السياسي وفق أهداف وخطط وأولويات العمل الإسلامي.

العمل السياسي الإسلامي

العمل السياسي الإسلامي هو ثالث معالم العمل الإسلامي في هذه المرحلة, ولا بدَّ أن يشمل مجالَيْن مهمَّيْن:

المجال الأول- الفكر السياسي الإسلامي: وهذا المجال الهدف منه حلّ العديد من إشكاليات الفكر السياسي الإسلامي المعاصر لأن حلّ هذه الإشكاليَّات من شأنه حلّ العديد من المشكلات والعوائق التي تعترض طريق نجاح وتقدم وتطوير العمل السياسي الإسلامى، ويمكن هنا الإشارة لعدد من هذه الإشكاليات على سبيل المثال لا الحصر مثل:

1- طريقة اختيار الحاكم أو القائد الإسلامي والرقابة على قراراته وأداءه ومحاسبته إذا أخطأ أو أخفق.

2- آليَّات صناعة القرار في الدولة أو في الجماعة السياسيَّة الإسلاميَّة.

3- آليَّات ممارسة الشورى وعملية تمثيل القاعدة الشعبية في الحكم وصناعة القرار.

4- أنواع السلطات والفصل بينها.

5- مفهوم الحريات العامة والخاصة وأبعادها في الإسلام.

6- النظم والآليات العمليَّة لتطبيق تعاليم الإسلام في مجال حقوق الإنسان.

7- آليات حسم الخلافات السياسيَّة بين مختلف القوى السياسيَّة الإسلاميَّة وغير الإسلاميَّة.

8- مفهوم المواطنة في الدولة ومفهوم العضو أو المناصر للجماعة السياسيَّة.

9- أهداف وآليَّات وتكتيكات العمل السياسي الإسلامي المعاصر في البيئات والدول المختلفة.

10- أنساق ونظم وآليات التحالف والتعاون مع القوى السياسيَّة المختلفة.

وغير ذلك من القضايا التي تتوقف عليها عملية تقدم ونجاح العمل السياسي الإسلامي.

المجال الثاني- العمل السياسي الإسلامي: وذلك عبر الأحزاب والجماعات السياسيَّة الإسلاميَّة ويراعي فيها:

– التعاون والتنسيق بين القوى الإسلاميَّة المتعددة بدل الصراع والتنافس والتناحر.

– ترتيب الأوليات بدقَّة, ونقترح أن تكون بالترتيب التالي:

1- العمل على استمرار ضمان الحريات العامَّة وتصفية كل سياسات القمع والتضييق السابق.

2- إفساح المجال للعمل الإسلامي بكلِّ أنواعه والتصدي لأي محاولة لعرقلته.

3- محاصرة بُؤَر الفساد السياسي والأخلاقي والعقائدي والعمل على تصفيتها أو على الأقل التضييق عليها تمهيدًا لخنقها.

4- التواصل مع النخب غير الإسلاميَّة بحيث يتم جذبها فكريًّا وعقائديًّا فإن لم ننجح في ذلك فلنكسب تعاطفها وتأييدها أو على الأقل وفي أسوأ الأحوال نحصل على حيادها بدلا من عداوتها.

5- فتح خطوط حوار مع كافة القوى الإقليميَّة والدوليَّة في إطار إدارة رشيدة للعمل السياسي الإسلامي.

وهذه الأطروحات كلها مجرَّد مقترحات عامة تنتظر تعليق وتطوير ذوي الشأن والاهتمام بمجال العمل الإسلامي بعامة والسياسي منه بخاصة.

لكن لا ينبغي أن يظنَّ إخواننا في البلاد المختلفة أن هذا الأمر يخص مصر وتونس فقط؛ لأن سائر دول المنطقة قد تأثرت الأمور فيها بثورتي مصر وتونس، وجرى توسيع مجال الحريات فيها بدرجات متفاوتة وهي ما زالت قابلة للتطوير.

ولا بدَّ من التأكيد على أن سنوات القمع في مصر وتونس قد خلفت جهلا واسعًا بتعاليم الإسلام وشبهات واسعة حول العقيدة والشريعة على حد سواء, وهذا الأمر متوقع في كل قطر يمارس القمع ضد الدعوة الإسلاميَّة الصحيحة, ومن هنا فمن الخطر أن يُغفل العمل الإسلامي في هذه الأقطار العمل الدعوى والتعليمي ولا يعطيهما حقهما, وإذا كنا نريد عملا سياسيًّا، فهو لا بدَّ أن يكون شاملًا على النحو الذي ذكرناه حتى يخدم في إطارِه العام العمل الدعوي والتعليمي وتصحيح المفاهيم ودحض الشبهات وكسب الأنصار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تم نشر هذا الموضوع في موقع الإسلام اليوم.

ثورة مصر صورة ارشيفية

دور الولايات المتحدة وأوروبا والإسلامي في ثورة مصر و تونس

ما هو دور الولايات المتحدة وأوروبا والإسلاميين في ثورة مصر و تونس، لقد اندلعت الهَبَّة الشعبية التونسية خلال هذا الشهر بشكلٍ صنع ثورةً ممتدَّة مازالت تتفاعل وتَسِير ربَّما نحو هدفها الشعبي المأمول, ولم يقتصر تأثير الثورة التونسية على هذه الآثار الداخلية بل امتدَّ أثرها ليشمل أجزاءً مختلفةً من العالم العربي لنشهد احتجاجاتٍ شعبيةً واسعةً في عدد من الدول كالأردن والجزائر ومصر واليمن في محاولة منها جميعًا لاستلهام نجاح التجربة التونسية, ولكن أحداث الثورة الشعبية المصرية التي بدأت فعالياتها الثلاثاء (25يناير) قد استحوذت على الاهتمام العام بسبب كثافتها العددية بشكلٍ لم تشهده مصر منذ أكثر من ثلاثين عامًا وأيضًا بسبب قوتها وعنف المواجهة الأمنية لها, وكذلك بسبب الأثر العميق الذي خلفته, وقد أدَّى ذلك كله إلى ردود أفعال عديدة في الداخل والخارج, ومن المهم الآن التركيز على قضيتين إحداهما خارجية والأخرى داخلية.

ردّ الفعل الأوروبي والأمريكي

القضية الخارجية تمثَّلت في طبيعة ردّ الفعل الأوروبي والأمريكي على هذه الاحتجاجات؛ إذ اتَّسَم بالسرعة والوضوح النسبِيِّ بعكس ما حدث في الحالة التونسية فدَعَت الولايات المتحدة السلطات المصرية إلى التعامل بشكل سلميٍّ مع الاحتجاجات وقالت: إنَّ واشنطن تأمل أن ترَى إصلاحات في مصر وأماكن أخرى لخلق مزيدٍ من الفرص السياسية والاقتصادية, ولم يقتصر الموقف الأمريكي على هذا بل سرعان ما تتابعت التصريحات مع استمرار المظاهرات في الأيام التالية؛ إذ قال البيت الأبيض: إنه يتابع الوضع في مصر عن كثبٍ، ويؤيِّد حق المصريين في حرية التجمع والتعبير, ثُمّ تتابعت البيانات الأمريكية المتعددة من الرئيس أوباما والمتحدث باسم البيت الأبيض ووزيرة الخارجية والمتحدث باسم الخارجية الأمريكية وصولاً لإرسال مبعوث أمريكي لمصر ولكن أهمَّ تصريح هو تصريح لأوباما قال فيه (الأربعاء 2 فبراير): إنه نصح حسني مبارك بنقل السلطة الآن.

ودخلت كلٌّ من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي على خطّ ردود الأفعال فرددوا تصريحات عديدة متشابهة مع التصريحات الأمريكية لكنها كانت أسرع في انحيازها للمطالبة بالتغيير وتحقيق مطالب الشعب, وقد وصلت لذروتها الأربعاء أيضًا وطالبت- مثلها مثل أوباما- بأنّ يبادر الرئيس لنقل السلطة فورًا والدخول في المرحلة الانتقالية التي تطالب بها قوى المعارضة.

ولا شكَّ أن ردود الأفعال هذه لن تقتصر على التصريحات العلنية فقط بل سوف تترجم لأشكال من الضغط السياسي الأوروبي والأمريكي ستتم ممارسته بدرجات متفاوتة تجاه النظام الحاكم في مصر؛ إذ أشارت مصادر أوروبية في بروكسل أنّ وزراء خارجية الدول الأعضاء في التكتُّل الموحد سيَقُومون بمناقشة للوضع في مصر خلال اجتماعهم يوم الاثنين القادم في بروكسل «مع أنَّ الموضوع لم يُدْرَج على جدول الأعمال، لكن الوزراء سوف يتطرقون إليه في معرض مناقشاتهم» على حدّ قول هذه المصادر.

والسؤال الآن ما هو الأثر المتوقَّع للموقف الأمريكي والأوروبي على النظام الحاكم في مصر؟

في الواقع فإنَّ خبرة التاريخ تقول: إنه من الممكن أن تذهب الضغوط الغربية (الأمريكية والأوروبية) على النظام الحاكم في مصر إلى أبعد مدَى, من حيث إجباره على التحوُّل نحو درجةٍ عاليةٍ من الحياة الديمقراطية ومكافحة الفساد وحلّ مشكلات غالبية الشعب إذا تواصلت وتصاعدت الضغوط الشعبية, بشرط أن تكون هذه الديمقراطية في إطارٍ من رعاية المصالح والأولويات السياسية والإستراتيجية الغربية, ولنزيد الأمر إيضاحًا لابدّ من تذكُّر نموذج ثورة 1919 في مصر فقد أدَّى الضغط الشعبي القوى على الاحتلال الانجليزي إلى صدور دستور 1923 وهو أكثر الدساتير المصرية ليبرالية في تاريخها الحديث والمعاصر, وظلّ الوضع في مصر في أكثر الأحيان يتمتع بقدرٍ كبيرٍ من الحرية والليبرالية مع الأخذ في الاعتبار مصالح وأولويات الإنجليز السياسية والإستراتيجية فرغم الحرية النسبية تَمّ سنّ قانون يحظر الماركسية وتنظيماتها كما تَمّ حصر التيار الإسلامي في إطار مُعيّن أراده الاحتلال، فضلاً عن توفير الدعم المصري للإنجليز في الحرب العالمية الثانية, وفي السنوات الأخيرة تَمّت تجربة مشابهة مع تركيا في ظلّ حزب العدالة فقد ضغطت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على عسكر تركيا كي يسمحوا لحزب العدالة بتغيير الدستور بما يدعم مزيدًا من التوجُّه الليبرالي في نظام الحكم التركي ويقلص من ديكتاتورية العسكر رغم علمانية العسكر وإسلامية حزب العدالة الحاكم, لكن في نفس الوقت فإنَّه كلما اقترب الأمر من تحقيق مكاسب إسلامية فعَّالة فإنّ الغرب نفسه يتدخل لمنع ذلك (لاحظ قانون حظر البغاء), نعم مسموح لحزب العدالة ببعض التحركات والرتوش الإسلامية لكن في الإطار الذي لا يهدِّد المصالح والأولويات السياسية والإستراتيجية الغربية بما في ذلك مصالح إسرائيل, ومن هنا يمكن فهم المدى الذي يمكن أن يصل إليه الضغط الغربي على نظام الحكم في مصر أو في غيرها من بلدان العالم الإسلامي… ديمقراطية أو حرية أو شفافية و مكافحة للفساد… كلُّ هذا قد يدعمه الغرب لاحتواء الغضب الشعبي والابتعاد بأغلبية الشعب عن الانْجِذاب للتيارات الإسلامية الحقيقية لكن بشرط أن لا تؤدِّي هذه الديمقراطية للإخلال بأيِّ من المصالح والأولويات السياسية والإستراتيجية الغربية (وفي قلبها مصالح إسرائيل).

موقف فصائل الحركة الإسلامية من الحراك

أمَّا القضية الداخلية التي ينبغِي تأمُّلها فهي غياب بعض فصائل الحركة الإسلامية عن المشاركة في فعاليات الغضب بالشارع المصري منذ البداية أو على الأقل ضعف هذه المشاركة من قِبَل بعض التيارات وعزوف تيارات أخرى عن المشاركة فيها بالكلية, طبعًا لكل تيار حساباته الخاصة التي نحترمها ولكن لابدّ أن لا يغيب عن حساباتنا ثلاثة أمور:

الأول- أنَّ الحسابات ينبغي أن تكون دقيقة وعميقة وموضوعية؛ لأننا أمام لحظات تاريخية حاسمة ومن الخطورة بمكان أن يقع فيها أي خطأ في الحسابات؛ لأنَّ كل خطأ الآن سيكون له تكلفةٌ ضخمةٌ ليس علينا الآن فقط بل على الأجيال المقبلة أيضًا.

الثاني- أنَّه مهما كانت الحسابات دقيقة وموضوعية وعميقة فإنَّها ينبغي أن تضع في حسبانِهَا المواقف الاستثنائية والاحتمالات الطارئة, والفرص التي قد تتاح أو تقدم لنا على طبقٍ من ذهب فجأة, ولا يعقل أن يكون لدينا- كحركة إسلامية- آمال عريضة بأن نكوَن منقذي الإنسانية الحديثة من تِيهِ الشهوات والشبهات ومن ظلام الظلم والعدوان ولا يكون لدينا خطط وبرامج وقدرات لمواجهة المواقف الطارئة والحالات الاستثنائية والمفاجئات المختلفة.

الثالث- أنَّ الحركة الإسلامية خسرت كثيرًا في عصرها الحديث بسبب عدم انتهازها للفرص الكثيرة التي سنحت لها, وعلينا الحذر من تكرار هذا الخطأ… خطأ إضاعة الفرص التي عادةً ما يَضنّ بها التاريخ و قلَّمَا تتكرَّر.

ـــــــــــــــــــــــ

تم نشر هذا المقال في موقع الإسلام اليوم.

القرآن الكريم عماد الدعوة الاسلامية

المشهد الدعوي في العالم الاسلامي .. تحليل تطبيقي على مصر

كي نحلل المشهد الدعوي في العالم الاسلامي بالتطبيق على حالة مصر فإننا سنتخذ لنا مدخلا من الانتخابات النيابيَّة المصرية التي تجري خلال ساعات وما تشهده من تجاذبات سياسية ودينيَّة، لا سيما وأن اشتراك حركة إسلامية كبرى (وهي حركة الإخوان المسلمين) في هذه العمليَّة يثير العديد من التساؤلات حول المشهد الدعوي والإعلامي للحركة الإسلاميَّة في العالم الإسلامي, ولئلا ندخلَ في تفصيلاتٍ كثيرة لا تحتملها مساحة هذا المقال فإننا سنتخذ من الحالة المصريَّة مثالًا لما هو عليه واقع الدعوة والإعلام الإسلامي في العالم الإسلامي كله.

لقد نجحت النظم السياسية القائمة في مصر منذ الاحتلال البريطاني 1882م في ترسيخ توازن قُوَى مجتمعي قائم على وجود نسبة محدودة من المتديِّنين (الذين بات يُطلق على نُشطائهم اسم “الإسلاميون” لا تملك القيام بتأثير فعَّال في مُجريات الأمور العامَّة مهما كان نشاطها وارتفاع صوتها, مع وجود نخبة محدودة من العلمانيين لكنهم يملكون مقاليد السلطة والقوة، بينما بقية المجتمع هم كتلة صامتة وسلبيَّة إزاء الشئون العامة، خاصة شئون الحكم والسياسة, وكلما لاح في الأفق نذير اختلال لهذا التوازن فإن القوى العلمانيَّة الداخليَّة والخارجيَّة الساهرة عليه تقوم بإعادة التوازن إلى سابق عهده بالحيلة حينًا وبالقوة والقمع في أغلب الأحيان, مع ملاحظة أن هذا القَمْع قد يتستَّر بغطاء من القوانين والقرارات الرسميَّة.

فالدعوة الإسلامية الصحيحة أو الدعوة التي يحتاجها الإسلاميون هي التي تحقق اختراقًا حقيقيًّا لحالة الانحراف الاجتماعي العامة الموجودة في واقعنافالدعوة الإسلاميَّة التي لا تخلُّ بالتوازن المجتمعي والسياسي الحالي ولا تحوِّله لصالح الإسلام هي دعوة ضعيفة وعاجزة.

الدعوة الإسلاميَّة التي قامت بها الحركة الإسلاميَّة في مصر بمختلف فصائلها طوال القرن الأخير تحركت في أغلب الأوقات في إطار لم يهددْ هذا التوازن القائمفالدعوة لم تنجح في اختراق المنظومة المسيطرة على مقدرات القوة السياسية في البلاد اللهم إلا في حالات نادرة، وحتى في الحالات النادرة التي نجحت في ذلك فإن المدعو عادةً ما نجده قد زهد في مكانته الاجتماعيَّة أو السياسيَّة، وتخلَّى عنها ظنًّا منه أن هذا من مقتضيات الالتزام الإسلامي، فتخلى بذلك عما كان يملكه من قوَّة.

وكذلك فالحركة الإسلاميَّة لم تنجح في تحقيق اختراق واسع وفعَّال للكتلة الصامتة من أغلبيَّة الشعب, وربما كاد هذا الاختراق أن يحدث مرةً واحدةً في تاريخنا المعاصر في نهاية السبعينيَّات من القرن الميلادي الماضي، بفعل الحركة الدعوية التي قامت بها كل من “جماعة التبليغ والدعوة” ومجموعات إسلاميَّة عديدة استخدمت التكتيكات الدعوية لـ “جماعة التبليغ والدعوة” مع إدخال بعض التعديلات الفقهيَّة لتلافي أخطائهم في هذا المجال, لكن سرعان ما أدت أحداث الصدام مع النظام الحاكم بجانب عوامل عديدة إلى ترسيخ سياسات حكوميَّة تقيد حركة الدعوة بصفة عامة وتمنع هذه التكتيكات بصفة خاصَّةوذلك كله في إطار استراتيجيَّة حكوميَّة ضد الحركة الإسلاميَّة مستمرَّة بشكلٍ واضح منذ عام 1986 وحتى الآن، وهي أشبه ما تكون بمزيج من استراتيجيتَي “الاحتواء” و”الردع المرن” المعروفتَيْن في استراتيجيَّات الصراع الدولي.

وقد يظن البعض أن الإنترنت والفضائيات أتاحا فرص تحقيق اختراق دعوي لكل من الأغلبيَّة الصامتة والنخبة العلمانيَّة ذات القوة السياسيَّة, لكن حقيقة الأمر أن هذا مرهون بتطوير هاتين الوسيلتين لأنهما على الوضع الحالي سيوصلان الدعوة لهذه الفئات لكنهما لن يحققا عمليَّة التحوُّل السلوكي الحقيقي؛ لأن هذا التحول يحتاج خطوات وتكتيكات أخرى عديدة مكملة تقوم على أساس خطوات وأنشطة عمليَّة وواقعيَّة.

ولا بدَّ في العمل الإعلامي الإسلامي من ملاحظة أن الإعلام هو في حد ذاته أحد أهم أدوات العمل السياسي, فعبره يتمُّ الضغط على الخصوم والدفاع عن الأنصار والمستضعفين وتحقيق العديد من الأهداف السياسيَّة.

والفضائيَّات الإسلاميَّة على كثرتها النسبيَّة مقتصرةٌ على الجوانب الدعويَّة والتعليميَّة ولا تقوم بدور سياسي إيجابي كافٍ، بل بالعكس فهي في بعض الحالات تقوم بدور سلبي سياسيًّا عندما تحاول سحب الناس من عالم الأسباب السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة إلى عالم التواكل (الضار سياسيًّا بلا شك) تحت دعوى الصبر والاعتماد على الطاعة (التي من قبيل العباداتوالدعاء فقط لرفع البلاء السياسي والاجتماعي والاقتصادي, وذلك بالمخالفة لصحيح الفقه الذي يشير إلى أنه لا تنافٍ بين الأخذ بالأسباب السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة وبين الصبر والدعاء وتحصيل الطاعات التي من قبيل العبادات, بل بالعكس فأحكام الفقه الإسلامي توجب الأخذ بالأسباب, هذا فضلًا عن ترديد بعض مشايخ الفضائيات من حين لآخر لأفكار ضارة سياسيًّا بشكلٍ مباشر مثل إعلان بعضهم تحريم عدد من أساليب العمل السياسي تحديدًا كالمظاهرات, أو إعلانهم مواقف سلبيَّة من بعض التحركات السياسيَّة الإسلاميَّة, ومن أمثلة ذلك إعلان أحدهم موقفًا رافضًا لمقاومة حماس وسلوك المسلمين المناصرين لها في العالم العربي، مع دفاعه عن موقف الحكام العرب أيَّام حرب إسرائيل على غزة في يناير 2009م.

ومن هنا فالحركة الإسلامية في مصر ربما منذ 1954م وهي تفتقر لامتلاك وسائل وأدوات إعلاميَّة كافية من حيث الكمّ والنوع والفعاليَّة السياسيَّة كي تتكئ عليها في تحقيق أهدافها السياسيَّة أو حتى الدفاع عن نفسها ضدّ الهجمات الشرسة التي تنصب عليها ليل نهار, ورغم أن الكثيرين يتذرَّعون بالعوائق القانونيَّة التي تضعها الحكومة العلمانيَّة القمعيَّة أمام التصريح بمطبوعة أو فضائيَّة سياسيَّة إسلاميَّة إلا أن العائق الحقيقي في رأينا هو عدم وجود إرادة حقيقيَّة لدى المتنفِّذين وأصحاب الأموال من أبناء الحركة الإسلاميَّة في إنشاء وإدارة مطبوعات وفضائيَّات سياسيَّة إسلاميَّة، وهو ما نعتبره بمثابة حياة أو موت سياسي بالنسبة للحركة الإسلاميَّة المعاصرة في العالم بعامة وفي مصر بخاصَّة.

ومن هنا نفهم تجاذبات وشراسة المعركة بين الدعاة ورموز الحكم في كل العالم الإسلامي حول جوهر وفاعليَّة العمل الدعوي والإعلامي الإسلامي, وهو ما تبرزه في صورة مصغرة بشكلٍ أو بآخر صراعات الإخوان المسلمين مع خصومهم في الانتخابات النيابيَّة المصريَّة الراهنة أيًّا كانت نتائجها النهائيَّة وآثارها وعواقبها المختلفة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تم نشر هذا المقال في موقع الاسلام اليوم.

سعد زغلول و خليفته مصطفى النحاس زعيما حزب الوفد

الليبراليون و الإسلاميون بالواقع السياسي في مصر

الليبراليون و الإسلاميون بالواقع السياسي في مصر تحكم علاقاتهم قصة العلمانية في مصر بشكل عام وكونها خيار سلطة أكثر منه خيار شعب، فالشعب و إن أيد سعد زغلول كزعيم فإنه أيده لموقفه من الاحتلال الانجليزي و استبداد الملك صنيعة الانجليز، فلم يعرض سعد زغلول على الشعب الاختيار بين الحكم بأحكام الشريعة الإسلامية و بين الحكم العلماني بوجهه الليبرالي، و إنما تم تخيير الشعب بين العلمانية الليبرالية المناضلة ضد الاحتلال و بين الحكم الملكي المستبد الموالي للاحتلال.

و نفس الشئ حدث مع جمال عبد الناصر الذي فرض العلمانية (و إن بوجهها الديكتاتوري) بقرار فوقي مثله مثل سعد زغلول, و أيضا أيد الشعب ناصر حيث كان الخيار أمام الشعب هو إما ثورة يوليو و زعيمها و إما الملك الفاسد و الأحزاب المفسدة , و حتى عندما اختلف ناصر مع الإخوان المسلمين فقد كانت حركة الإخوان حركة مرهقة من الضربات الأمنية المتلاحقة و النزاعات الداخلية كما أن الصراع لم يحسمه استفتاء من الشعب بل حسمته الآلة الأمنية الناصرية بجبروتها المعروف, المهم أن الشعب لم يختر بين ناصر و الإخوان, و لم يطلب منه الاختيار بين العلمانية الناصرية و الإسلامية الإخوانية, إنما كان على الشعب أن يختار إما علمانية ناصر الديكتاتورية المناضلة ضد الامبريالية الدولية و الاستعمار الغربي و إما حكومة عميلة للغرب مفروضة بأسنة الحراب الأوروبوأمريكية.

و هكذا استقرت قواعد اللعبة السياسية في مصر على استبعاد الحركة الإسلامية و مشروعها للحكم بأحكام الشريعة الإسلامية من اللعبة السياسية و الحيلولة بين الشعب و بين اختيار نظام الحكم الذي يسيطر على مقاليد البلاد, و لذلك سعي النظام الحاكم دائما للحيلولة بين أي جماعة أو حركة إسلامية و بين أن تتحول لحركة شعبية منتشرة بين شتى قطاعات الشعب و فئاته المختلفة, حتى لو كانت هذه الجماعة جماعة دعوية لا تحمل أي مشروع سياسي كالجمعية الشرعية أو جماعة التبليغ و الدعوة ما دامت تدعو إلى أو تؤيد تطبيق الشريعة الإسلامية, كذلك دأبت الحكومة على التضييق على المشاريع التي تطبق ما عرفه العالم كله الآن باسم الاقتصاد الإسلامي, لنفي صفة أن الإسلام به تشريعات عملية يمكنها حل أزماتنا المعاصرة و في قلبها الأزمة الاقتصادية, و حتى في ظل توجه العالم كله (بما في ذلك دول غير إسلامية) الآن لإفساح المجال للاقتصاد الإسلامي و الصيرفة الإسلامية بما فيها دول الاتحاد الأوروبي و روسيا الاتحادية و غيرها فإن مصر مازالت تضيق الخناق على الأنشطة الاقتصادية الإسلامية و الصيرفة الإسلامية لأنها لا يهمها مصلحة البلاد الاقتصادية و لا يهمها جذب الاستثمارات العاملة في هذا المجال و التي تقدر بمئات المليارات إنما يهمها الحفاظ على قواعد اللعبة السياسية في مصر و هي إبعاد الإسلاميين بكافة تياراتهم عن الشعب و عن الانخراط في اللعبة السياسية الجارية حتى و لو كان ذلك عبر حل مشاكل الناس الاقتصادية.

كما دأبت الحكومة في إطار تنفيذ نفس الأهداف على إبعاد الإسلاميين عن العملية التعليمية و التربوية و الدعوية عبر منعهم من التسرب لكليات جامعة الأزهر التي تخرج الدعاة و الخطباء و المدرسين بل حتى لو تسرب أحدهم و حصل على هذه الإجازات العلمية من هذه الكليات فإنه سرعان ما يتم إبعاده بقرار أمني عن التعليم و عن الإمامة في المساجد, كما يتم إبعاد الإسلاميين بصفة عامة عن التدريس في المدارس الحكومية كما يتم تضييق الخناق على المدارس الخاصة التي يديرها إسلاميون و ينتهي الأمر بأكثرها للتأميم لصالح وزارة التربية و التعليم.

أما على المستوى الإعلامي فقد تم تكثيف الهجوم على جماعة الإخوان المسلمين فكريا حتى سلموا ببعض الشعارات التي بدا ظاهرها أنه تراجع عن مطلب الحكم بالشريعة الإسلامية و إن كان جوهره لا يحمل أي تراجع, حيث نحت الإخوان شعار دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية, و هو و إن بدا للرأي العام انه تراجع (أو تطوير) إخواني لكنه في حقيقته ليس فيه أي تراجع لأن الإسلام ليس فيه دولة دينية بل فيه دولة تحكم بالإسلام أي إسلامية أو مرجعيتها إسلامية, و لكن على كل حال فقد بدا الموقف الإخواني و كأنه يتراجع أمام القصف الفكري العلماني و هذا في حد ذاته يحسب سلبا ضد الإخوان المسلمين.

و من أثار ذلك أن لم يعد أحد الآن يطالب بتحكيم الشريعة الإسلامية كمصدر وحيد للتشريع وصارت مثل هذه الدعوة أمرا مستغربا بعدما كان المطالبون بها منذ أربعين عاما يصمون بمطالبهم الآذان و يزلزلون الأركان.

و لا شك أن أغلب القوى المعارضة غير الإسلامية تتوافق مع سياسة الحزب الحاكم و أجهزته الإعلامية و القمعية في سياسات الإبعاد و الاستئصال التي تتخذها ضد الحركة الإسلامية و من ذلك إبعاد الحركة الإسلامية عن الشعب و إبعاد الشعب عنها و عدم إتاحة الخيار الإسلامي للشعب بين الخيارات السياسية المطروحة و لذلك نجد شبه إجماع بين الحكومة و المعارضة على عدم السماح للحركة الإسلامية بتكوين حزب أو النجاح في أي انتخابات مؤثرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر هذا المقال في الدستور المصرية.

الإسلاميون و النظام الحاكم في مصر

الإسلاميون والنظام الحاكم في مصر

الإسلاميون والنظام الحاكم في مصر تحكمهما علاقة جديرة بالتأمل، إذ من الملاحظ أن قطاعا واسعا من الإسلاميين إما مؤيدون للنظام الحاكم أو يسلكون سلوكا مؤيدا لهذا النظام, و هذا القطاع الواسع يمكن رصد سلوكه المؤيد للنظام الحاكم في عدة قضايا على النحو التالي:

 تكاد تعتبر هذه التيارات الإسلامية أن هذا النظام الحاكم هو نظام و إن لم يكن مثاليا فهو نظام مقبول بالمعايير الإسلامية حسب رأيهم و فقههم هم , ذلك الفقه الذي يعتبرونه هو المرجعية الإسلامية الثابتة و الصحيحة دون سواها.

دائما ما تتخذ هذه التيارات مواقف حادة بشكل مجاني من قوى المعارضة الإسلامية و العلمانية على حد سواء, و ربما كانت عينهم على سماح النظام لهم بالوجود مقابل هذه المواقف المعارضة لكل من يعارض النظام, و لكن لاشك أن هذا ثمن بخس لسبب بسيط هو أن وجود هذه التيارات حتمي لكل من المجتمع و الدولة و نظام الحكم فالنظام الحاكم لا يسمح لهم بالوجود كمجرد إحسان منه إنما هي ضرورة سياسية و مجتمعية بل و أمنية أيضا هو مضطر لها و محتاج إليها.

كثيرا ما تقوم هذه التيارات بانتقاد أساليب قوى المعارضة المختلفة تلك الأساليب التي تكون بالطبع موجهة للنظام الحاكم و أحيانا نلاحظ أن أشد هذه الأساليب تأثيرا ضد الحكومة هي الأكثر تعرضا للانتقاد من قبل هذه التيارات أو بعضها, و كأن هذه التيارات لم تقرأ قولة أبي سفيان بن حرب (قبل إسلامه) في غزوة أحد عندما قال للنبي صلى الله عليه و آله و سلم ” …… وتجدون مُثلة لم آمر بها ولم تسؤني”رواه البخاري, فهكذا يتبرأ أبو سفيان من سلوكيات فعلها ناس من جيشه أو من فريقه تختلف مع قيمه و مبادئه لكنه يعلن أنها لم تسوؤه لأنها ضد عدوه فما يضيره إن تضرر عدوه, و على كل حال فربما لا يروق للبعض تفهم هذه القضية من خلال مثال لسلوك أبي سفيان أيام كفره لكننا نسوق هنا مثالا أمرنا الله بتأسيه و هو سلوك النبي صلى الله عليه و آله و سلم في واقعة أبي بصير, إذ لما جاء أبو بصير مسلما للنبي صلى الله عليه و آله و سلم و هاربا من تعذيب قريش له بعد صلح الحديبية و رده النبي صلى الله عليه و آله و سلم لقريش حسب معاهدة الحديبية و قتل أبو بصير القريشي الذي تسلمه من النبي صلى الله عليه و آله و سلم و رجع أبو بصير للنبي صلى الله عليه و آله و سلم فجاءه فقال: يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم.فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” ويل أمه ! مسعر حرب لو كان له أحد !” فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر, وانفلت من قريش أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة، فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم”أ.هـ (من سيرة ابن كثير), و كان العهد حينئذ بين النبي صلى الله عليه و آله و سلم و قريش وفق صلح الحديبية بألا يتعرض النبي لقريش بحرب و لا تتعرض قريش للنبي بحرب.

فماذا يضير هؤلاء الإسلاميون أن تنال معارضة إسلامية أو غير إسلامية من النظام الحاكم نيلا بضغط أو إحراج سياسي أو نحو ذلك؟! أليس معارض خصمي هو بالضرورة مجتمعا معي على هدف واحد؟!

كما من الملاحظ أن هؤلاء الإسلاميون الذين نتكلم عنهم لا يثقفون أتباعهم على أساسيات حقيقة الصراع بين الحق و الباطل و لذلك فكثير منهم يرتعدون من مجرد فكرة معارضة النظام معارضة جدية و حاسمة كما أن كثيرا منهم لا يمكن أن يصمدوا في حالة تعرضهم لضغط جدي من النظام الحاكم, و المحصلة النهائية لذلك كله ضعف سياسي عام يعاني منه هذا التيار, الأمر الذي يحدد مدى سقف معارضة هذا التيار للنظام الحاكم ما لو قرر قادة هذا التيار في يوم من الأيام أن يقولوا “لا” قاطعة لهذا النظام.

و السؤال الذي يطرح نفسه بشدة الآن هو ما هو سبب هذا السلوك المؤيد للنظام الحاكم الذي يسلكه هؤلاء الإسلاميون؟

في الواقع هناك أسباب كثيرة اجتماعية و نفسية و سياسية ودينية و طبعا أمنية لكننا سنركز هنا على سببين:

الأول- أن هؤلاء الإسلاميون في غمرة معارضتهم الحادة و التامة للفكر الجهادي الذي يطعن في شرعية النظام الحاكم بشكل كامل و تام قاموا بإسباغ شرعية شبه كاملة على النظام متناسين أن هناك درجات مختلفة من الشرعية و متناسين أنه قد توجد مطاعن شتى على أي نظام حكم بعيدا عن الجدل الجهادي/ السلفي, أو الجدل السلفي / الإخواني, فمستحيل أن يكون النظام الحاكم مرفوض و مكروه و موصوم بكل العيوب و النقائص في كافة المجالات و من كافة قوى الشعب و رموزه الواعية و العليمة ثم يظل هؤلاء الإسلاميون أسرى الفكر التقليدي الذي يرى أن الحاكم دائما على حق مهما فعل, و يعتبرونه و كأنه أمير المؤمنين رغم أننا في دولة علمانية لا تعترف بهذه الأطروحات أصلا و فصلا, و رغم معارضة ذلك للعديد من الأحاديث النبوية الشريفة مثل قوله صلى الله عليه و آله و سلم “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق” و قوله صلى الله عليه و آله و سلم “إنما الطاعة في المعروف” و قوله صلى الله عليه و آله و سلم “أن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا” إلى غير ذلك من الأحاديث و الآيات القرآنية الكثيرة التي تعري هذا النظام تماما.

الثاني- أن هؤلاء الإسلاميون عزلوا أنفسهم عن الواقع السياسي بشكل كامل الأمر الذي جعل صورة هذا الواقع الكاملة بما فيها من تفصيلات هامة مشوشة جدا أمامهم الأمر الذي أخفى عليهم فرص و مخاطر هذا الواقع.

الإسلاميون والحياة السياسية في مصر

الإسلاميون و الحياة السياسية في مصر

ما هو موقع وتأثير الإسلاميين في الحياة السياسية في مصر ؟ ، وفي الواقع فإن كثيرا من الناس يظنون أن كل الإسلاميين أو أغلبهم هم من الإخوان المسلمين, بينما الحقيقة أن هناك مئات الألوف من الإسلاميين لا ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين لا فكرا و لا منهجا و لا تنظيما, و هناك قوى إسلامية عديدة منظمة أو شبه منظمة تتحرك وتعمل في الشارع المصري بجدية و حيوية لا بأس بها, إلا إن صورة الإخوان المسلمين هي الماثلة أكثر في الأذهان بسبب ممارستهم لأشكال من العمل السياسي , والعمل السياسي لا تحتاجه الحركات الإسلامية من أجل الشهرة إنما تحتاجه من أجل تحصيل قدر من القوة و القدرة في مواجهة القمع الحكومي مما سوف يتيح لها مزيدا من العمل والنشاط الإسلامي الفعال والواسع في الواقع المصري, هناك جماعات تظن أن العمل السياسي سوف يعوق عملها عبر استثارة النظام الحاكم عليها الأمر الذي سيدفع أجهزة الأمن لمنع هذه الجماعات من النشاط, و أغلب جماعات الحركة الإسلامية تؤيد هذه الرؤية خاصة عدد من المجموعات السلفية و جماعة التبليغ و الدعوة و الجمعية الشرعية و جماعة أنصار السنة وغيرها, كما أن العديد من مشايخ جماعة الدعوة السلفية خاصة المشايخ ياسر برهامي و سعيد عبد العظيم و عبد المنعم الشحات يرون أن الدخول في مجال العمل السياسي سيدفع جماعتهم لتقديم تنازلات عقائدية وسياسية لا يرغبون في تقديمها, و ربط هذا الفريق بين تحريمهم للترشح للانتخابات النيابية و كذلك كراهتهم التحريمية للمظاهرات و بين اعتزالهم ومقاطعتهم للعمل السياسي.

والواقع أن الذين قاطعوا العمل السياسي خشية استثارة التضييق الأمني ضدهم لم يدركوا حقيقة النظام الحاكم جيدا فالنظام الحاكم لا يعطي للقوى المنافسة التي تهادنه سوى الفتات… هذا إذا كانت قوة سياسية علمانية أما إذا كانت هذه القوة السياسية إسلامية فإنه لا يعطيها سوى فتات الفتات, و لننظر إلى طريقة صناعة القرار في البلاد, و لنتأمل ما هي درجة مشاركة القوى المعارضة العلمانية المهادنة للنظام في صناعة هذا القرار سنجد أن النتيجة صفر.

حتى العلمانيين الذين اندمجوا في نظام الحكم لم يكن حظهم أحسن كثيرا في مجال صنع القرار, إذ القرار هو للقيادة العليا المطلقة فقط, إذن فالمهادنة لا توسع مساحة العمل الإسلامي للمدى المأمول بل تجعله دائما يسير في الإطار المرسوم له من قبل الحكومة و هذا الإطار مناقض لحقيقة و أهداف العمل الإسلامي الذي يسعى أصلا لمنع التخريب العقائدي و التحلل الأخلاقي و الاجتماعي الذي تروج له الحكومة, بينما الحكومة تحافظ بخطوطها المرسومة للحركة الإسلامية على منع فاعلية الإسلاميين في هذا المجال وعلى استمرار التدهور والتخريب العقائدي و الاجتماعي و الاقتصادي, فكما يقال دائما بأن الحرية لا توهب وإنما تنتزع انتزاعا فأيضا الدور الإصلاحي لا يوهب من قبل حكومة مخربة وإنما ينتزع منها انتزاعا.

أما الفريق الذي يتعلل بأن ممارسة السياسة تستدعي تقديم تنازلات لا يرغبون في تقديمها فلابد أن يلاحظوا أن السياسي المحنك لا يمكن لأحد أن يرغمه على تقديم تنازلات لا يريد هو أن يقدمها و من ناحية أخرى فإنه ينبغي تحديد الحكم الشرعي لهذه التنازلات فإذا كانت هذه التنازلات لا يجوز تقديمها فقطعا لا ينبغي تقديمها لكن لابد من ملاحظة أن فقه السياسة الشرعية يتيح تقديم بعض التنازلات السياسية في حالات محددة وفق قواعد شرعية محددة.

هذا فيما يتعلق بتبريرهم اعتزال العمل السياسي بحجة البعد عن الوقوع في شرك تقديم تنازلات مخالفة لرسالتهم و دعوتهم.

أما ما يتعلق بمسألة تحريم الاشتراك في المجالس التشريعية و المظاهرات و الاحتجاج بذلك على أنه ينبغي عدم مزاولة العمل السياسي فهذا اختزال للعمل السياسي في شئ واحد هو انتخابات مجلس الشعب بينما العمل السياسي أكبر و أوسع من هذا بكثير, فإقامة مؤتمرات جماهيرية كبيرة يتم تناول الأحوال السياسية فيها بالنقد والتقييم والمناقشة عمل سياسي هام, و إقامة تواصل سياسي مع قوى و أحزاب معارضة و جماعات حقوق إنسان في الداخل و الخارج هو عمل سياسي هام سيعود بفائدة كبيرة على الحركات الإسلامية التي ستقوم به, و إنشاء وإدارة بث إذاعي و قنوات فضائية سياسية و صحافة مطبوعة كلها أعمال سياسية هامة ومفيدة لكل الحركات الإسلامية, بل النضال السياسي السلمي من أجل توسيع حرية العمل الإسلامي الدعوي بكل مفرداته هو أيضا عمل سياسي مهم وممكن بل يجب استخدام كل الأساليب المذكورة من علاقات مع قوى معارضة ومنظمات حقوقية و إعلام فضائي و غيره و مؤتمرات جماهيرية احتجاجية من أجل تحقيق هذه الغاية, فاليوم لا يمكن للكثيرين مجرد الاعتكاف في المساجد في العشر الأخيرة من رمضان ناهيك عن المنع من إلقاء الخطب و الدروس في المساجد و التجمعات و ذلك كله بسبب القمع المستمر من الحكومة ضد الحركات الإسلامية فضلا عن وجود المئات من المعتقلين الإسلاميين السلفيين في السجون تتراوح مدد اعتقالهم حتى الآن بين عشرة شهور وعدة سنوات, و لا توجد ثمة أداة سياسية للتصدي لكل هذه المشكلات بيد الحركات الإسلامية (عدا الإخوان المسلمين) و لا حل سوى تحصيل أدوات العمل السياسي التي ضربنا أمثلة عليها في السطور السابقة, و إلا فإن ما تفعله هذه الحركات الإسلامية سيحسبه عليهم التاريخ أنه تهرب من ساحة العمل الإسلامي الجاد في زمن لا مناص فيه عن الجدية, صحيح أن لهذا العمل ثمن و ضريبة لكن هل يوجد شئ بلا ثمن؟… حتى الجنة ذكر النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن لها ثمنا فقال: “ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة” وقال تعالى: “أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ” آل عمران142, و قال أيضا: “وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ” محمد38.

تفتيت الدول العربية

تفتيت الدول العربية سيناريو رسمه الاستعمار فإلى أين يصل؟

تفتيت الدول العربية سيناريو رسمه الاستعمار منذ فترة طويلة فإلى أين يصل؟، لاسيما أنه في الشهور القليلة القادمة يتحدَّد مستقبل أكبر دولة عربية وإفريقية -من حيث المساحة- عندما تتمُّ (أو لا تتمّ) عملية الاستفتاء على تقرير مصير جنوب السودان, وهذه المناسبة تذكِّرُنا بأن هناك مخططًا قديمًا بشأن تفتيت الأقطار العربية لمزيدٍ من الدول بغرض دفعها جميعًا لمزيد من الضعف والتحالف مع الغرب وتسهيل أمر السيطرة على المنطقة لصالح الغرب وإسرائيل.

مخطط استعماري قديم

لقد شكَّك كثيرون في وجود هذا المخطط أصلًا رغم إثبات العديد من الباحثين السياسيين البارزين لوجود هذا المخطط, كما أن العديدين وإن صدَّقوا بوجود هذا المخطط برعاية إسرائيلية وغربية فإنهم قد شكَّكوا في إمكانية تحقيقِه, كان هذا في بداية الثمانينيات أو حتى أواخر السبعينيات من القرن العشرين, لكن الآن أصبحت عملية تفتيت أقطار عربية أمرًا واضحًا لكل ذي عينين, ورغم أن الأمر بدأ بمؤامرة التمَرُّد في جنوب السودان منذ بداية الثمانينيات إلا أننا الآن -وبعد مرور ثلاثة عقود- نرى التفتيت يسير في العالم العربي على قدَمٍ وساق على الأقل في كل من العراق واليمن والصومال والسودان ولبنان، وحتى دولة كمصر عريقة في الوحدة والمركزية نرى الآن تصاعد النزعات الانفصاليَّة فيها من قِبل الأقباط بتحريض وزعامة الكنيسة القبطِيَّة.

استدعاء النزعات الانفصالية

ويمكنُنا الآن بعد مرور ثلاثة عقود على بداية محاولات التفتيت في العالم العربي أن نَلْمَح العوامل الرئيسة التي اعتَادَ أعداء الأمة على استغلالها لإجراء عملية التفتيت، بدايةً من استدعاء النزعات الانفصالية وحتى تفعيلها وتطويرها, وعبر الإطلال على هذه العوامل يمكننا أن نفكِّر بموضوعية في أساليب جادة لإفشال عمليات التفتيت الحالية والمستقبلية في كل أرجاء العالم العربي والإسلامي.

وأول العوامل التي استغلَّها أعداؤنا في التفتيت هي وجود أقلِّيَّة عرقيَّة أو دينية، وهذه الأقلية عادةً ما يتمُّ استغلالُها من أجل التفتيت عبر تغذية روح التعصُّب الديني أو العِرقي لديها وإشعارها بالظلم حتى لو لم تكنْ مظلومةً كما يتمُّ تغذية روح الاستقلال لديها وتعبئتها حول زعامات إما مصنوعة في الغرب وإما مصنوعة محلِّيًّا عبر دعم ومساندة الغرب وإسرائيل.

ظلم الأقليات العِرقية

وكي تنجحَ هذه العمليات لا بدَّ من وجود عامل آخر مهِمّ في تسريع عملية التفتيت، ألا وهو ظلم الأقليات العِرقية أو الدينية أو اللغوية, وطبعًا هذا الظلم موجود أحيانًا على نطاق واسع، وفي أحيان أخرى يكون موجودًا بقدر ضئيل لكن قوى سياسية طائفية داخليَّة تقوم بتضخيمه في نفوس الأقلية العرقية أو الدينية لاستغلال الموقف لصالح فكْرِها الانفصالي ويدعمها في ذلك الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل وقوى إقليمية متعدِّدَة لأهداف متنوِّعة.

ويأتي ضعف الجيش والقوى الأمنية كعامل أساسي بارز في نجاح عمليات التفتيت؛ إذ إن هذا الضعف هو أهمّ عامل لتنفيذ التفتيت عمليًّا على أرض الواقع وإقامة الكيانات الجديدة المنبثِقَة من الكيان الأم، كما حدث فيما يسمى بجمهورية أرض الصومال وبلاد بونت في الصومال ودولة الأكراد في العراق ودولة الجبهة الشعبية في جنوب السودان ونحوها.

المزج بين القوة الصلبة والقوة الناعمة

وهناك عاملٌ آخر وهو عامل فكري، لكنه مهم جدًّا، وهو عاملٌ يتعلَّق بطبيعة التفكير السياسي والاستراتيجي, ففي بعض الحالات كانت القوى الأمنيَّة في الدولة قوية إزاء قوى التمرُّد، ولكنها فشلت في إخماد التمَرُّد كما حدث في العراق والسودان في فترات مختلفة، لكن الفشل هنا يرجع لخَلَل في الفكر السياسي والاستراتيجي؛ حيث ارتكزت الدولة على القوة الغاشمة وحدها في محاولة إخضاع التمَرُّد، وهي وصفة أكيدة للفشل الذَّريع في القضاء على أي تمرُّد؛ إذ إن معالجة أي تمرُّد تقتضي المزج بين القوة الصلبة والقوة الناعمة بنِسَب يتمُّ تحديدُها بذكاء وحنكة وإدراك واعٍ جدًّا بواقع هذا التمرُّد وبطبيعة قيادته العليا والوسطى وقواعده الشعبية, القوة الناعمة نقصد بها هنا أمورًا كثيرةً من ضمنها الدبلوماسية والإعلام والمساعدات الاقتصادية والثقافة والفكر والأدب والفن، فضلًا عن الأعمال السياسية المختلفة، وعلى رأْسِها عزلُ قواعد التمرد عن قيادته وتعرية حقيقة قيادَتِه وعمالتها للغرب أمام الجميع مع محاولة استمالة أطياف من القادة والتفريق بين الباقين، فضلًا عن استمالة القواعد بطرق مختلفة, ومن ضمن الأعمال السياسية أيضًا، وطبعا عزل التمرد عن مسانديه الخارجيين بطرق مختلفة وبأقصى درجة ممكنة.

القبلية تربة خصبة لعمليات التمرُّد

ومن ناحيةٍ أخرى لعبت القبلية دور التربة الخصبة لعمليات التمرُّد, وهذا ينبِّهُنا لأهمية الاهتمام بربط القبيلة بالانتماء العام للأمة، لئلَّا تظلَّ هكذا عاملًا سلبيًّا يعمل ضد الوحدة في العديد من البلدان العربية والإسلامية.

ومما يؤسَف له أن التناحُرَ والحرب الباردة بين الدول العربية لعبا دورًا بارِزًا في مساندة وتمويل عمليات التفتيت، وهذا عاملٌ سلبي آخر في عملية التفتيت, ولبنان نموذج واضح في هذا المجال كما لا ننسى أن العديد من الدول الإسلامية موَّلت ودعمت عسكريًّا تمرُّدات السودان في الشرق والغرب والجنوب.

الأزمة الإسلامية والعربية العامة

عمليات التفتيت التي جرتْ وتجري في العالم الإسلامي، وبخاصة في العالم العربي، نجحتْ حتى الآن وتسير قُدُمًا بمعدل ملموس ومطَّرِد, وهي جزء أو لون من ألوان أو أجزاء الأزمة الإسلامية والعربية العامة التي لا فَكَاك منها إلا بصحوة إسلامية فكرية وعلمية وحركية, ولكن حل هذه الأزمة يحتاج:

أولًا- مضمون عام يندرِج تحته ويتفرَّع عنه دراسة كل حالة من حالات الواقع السياسي ومشكلاتِه من أجل مواجهتِها وحلِّها بشكلٍ موضوعي وعملي بشكل دقيق.

ثانيًا- محاولة للمساعدة في الحلّ الجزئي لهذه المشكلة, إذ لا مانع من إجراء حلول محدودة زمانًا ومكانًا ونوعًا للتقليل والحدّ من حَجْم التدهوُر الذي تنحدرُ فيه الأمة الإسلامية عبر أعمال جزئيَّة تحقِّق ذلك, إذ ليس من الحكمة في شيء الوقوف مكتوفي الأيدي أمام المشكلات والأزمات التي تلمُّ بالأمة بدعوى انتظار الحل الكامل والشامل والمثالي كالوحدة الإسلامية الشاملة أو عودة الخلافة الإسلامية بينما الأمة تئِنُّ بل تنزف دمًا من وطأة مشكلاتِها وأزماتِها.

ثالثًا- التوعية بجانب من جوانب واقع عملية التفتيت التي تجري في العالم الإسلامي بغَرَض لفْتِ أنظار الاستراتيجيين الإسلاميين لوضع هذه الجوانب التي ذكرناها في حساباتهم عند التفكُّر والعمل وتحديد الأولويات في مجال العمل السياسي والدعويّ الإسلامي.

وعلى كلِّ حالٍ فلفتنا الانتباه لكثير من جزئيات المشكلة لا ينفي أهمية امتلاك الطرف الإسلامي للقوة الشاملة بمعناها الاستراتيجي الشامل للقيام بحلّ هذه المشكلة؛ لأنها مشكلةٌ قديمة طالما اعترت العالم الإسلامي كلما أصاب حُكَّامَه الضعف وكلَّمَا أصاب فكره السياسي والاستراتيجي الركود والجمود كما حصل في فترات من عصور الدول الأموية والعباسية والعثمانية وغيرها, “وَاللّه غَالِبٌ عَلَى أَمْرِه وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ” (يوسف21).