المسجد الأقصى المبارك في أسر اليهود

كيف ننقذ المسجد الأقصى المبارك من أسر اليهود؟

دَارَت حروب ومعارك عربية مع الصهيونية منذ صدور وعد بلفور في نوفمبر 1917م, بل منذ بداية إعلان المشروع الصهيوني في المؤتمر الصهيوني في بازل بسويسرا، وكانت الحرب سجالًا أحيانًا، بينما كانت الغلبة فيها للإسرائيليين في أغلب الأحيان, وفي كل الأحوال تقدّم المشروع الصهيوني في فلسطين وفي أراضٍ عربية أخرى في مصر والأردن وسوريا ولبنان، فضلًا عن الضغوط السياسية والعسكرية التي مارسها -وما زال يمارسها- الصهاينة على كافة الدول العربية والإسلامية, حارب المسلمون بالسلاح والمال وتظاهروا واحتجُّوا طوال أكثر من مائة عام، ورغم ذلك فالمشروع الصهيوني في محصلتِه النهائية ظلَّ يعلو ويتقدم، بينما مقاومةُ العرب والمسلمين لهذا المشروع هي في التحليل الأخير مجرد عوائق خفيفة ومشاغبات ومناوشات لا ترتقي لمستوى منع تقدّم المشروع الصهيوني وعلوه وفرض إرادته وأهدافه كأمر واقع, وبدلًا من أن نتكلم عن تحرير كل الأراضي المحتلة -بما فيها فلسطين من البحر إلى النهر- أمسينا نأمل فقط في أن تتدخل الولايات المتحدة وتمنع هدم المسجد الأقصى المبارك فقط, حتى ولو ظلَّ تحت حكم وسيطرة الصهاينة, فصار الأهم فقط بالنسبة لنا الآن أن لا يتم هدمه وبناء هيكل سليمان مكانه!

وبذا صار الذلّ والعار يكلِّل جبين أمة قوامها أكثر من مليار مسلم تطأُ أقدامهم كل بقاع الأرض، ولكن بلا تأثير ذي بال، فتقلبهم في الأرض أشبه بتقلب التائِه الذي يتخبط في الدروب وقد تمزقت ثيابه وتشتت باله وتهاوى عزمه ونخر العجز في إرادته، من جراء تخطف السباع والذئاب البشرية لعزته ومجده وثروته ونخوته.

ما هو السبيل لإنقاذ المسجد الأقصى المبارك وتحرير فلسطين وكتابة صفحة النهاية للمشروع الصهيوني العالمي في فلسطين، بل في عالمنا العربي والإسلامي بأسرِه؟

هل نخرج في مظاهرات صاخبة وعارمة في كل أرجاء المعمورة نستجدي أصحاب القرار هنا وهناك كي يحرِجوا سادة المشروع الصهيوني فيستحون من الرأي العام العالمي ومن مظاهراتنا وغضبنا فيوقفون مشروعهم؟

هل نفجِّر أنفسنا في سفارات ومصالح الصهاينة والأمريكيين وحلفائهم حتى يخافوا من بطشتنا فيعلنوا توبتهم وينسحبوا من أرضنا؟

هل نكتفي بالتبرُّع بكرائم أموالنا لمؤسسة الأقصى كي نساعد في ترميم ما أفسده اليهود من حوائط المسجد المبارك، وكي ندعم صمود المقدسيين في وجه الطغيان الصهيوني؟

هل نناشد أصحاب الجلالة والفخامة والسمو في جامعة الدول العربية أو منظمة مؤتمر الدول الإسلامية أو الجمعية العامة للأمم المتحدة للتفاوض ثم التفاوض ثم التفاوض حتى لو كان هذا التفاوض حتى الموت مع طغاة الكيان الصهيوني من أجل وقف التهويد والاستيطان للبلدة القديمة في القدس الشريف؟

للأسف الأسيف لقد جربنا كل هذا… تظاهرنا وفجرنا أنفسنا وتبرعنا بالمليارات وتفاوضنا حتى ملَّ التفاوض منا… لكن دون أدنى جدوى.

فما السبيل؟

السبيل هو التغيير في مسلكنا السياسي والاستراتيجي في مواجهة الصهيونية العالمية وحلفائها.

فما حقيقة هذا التغيير المطلوب؟

التغيير المطلوب هو سياسي واستراتيجي.

و لا بدَّ من إدراك أن لا حلّ من الحلول السابقة مجدٍ، لا التفاوض والدبلوماسية على النحو الذي عهدناه منذ فجر صراعنا مع الصهيونية، ولا المظاهرات ولا التبرعات, لا بدَّ أن تلعب الحكومات الدور المحوري سياسيًّا وعسكريًّا في مواجهة الصهيونية العالمية, وذلك عبر تجهيز وإعداد الأمة عقائديًّا وأخلاقيًّا وسياسيًّا وحضاريًّا واقتصاديًّا وتكنولوجيًّا، وأخيرًا عسكريًّا للتصدي الفاعل والحاسم للصهيونية العالمية ورأس حربتها دولة إسرائيل, ودورنا هنا نحن نخب الفكر والمعارضة في العالم الإسلامي هو الضغط بكل السبل المشروعة لدفع الحكومات لتبني هذا التغيير؛ إذ من المعلوم أن هذه الروح وهذا التصوُّر من الإعداد ليس من أولويات أي حكومة إسلامية حتى الآن, ولا بد أن يكون التغيير جذريًّا بأن يصير للأمة الإسلامية كيان قوي يمثِّل في موازين القوى الدولية (قبل الإقليمية) قطبًا دوليًّا استراتيجيًّا قادرًا وفاعلًا بكل ما يعنيه المصطلحُ من معنى الاستقلال والقدرة الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية الاستراتيجية, وانطلاقًا من هذه القدرات يتحرَّك الكيان الإسلامي لتحرير الأراضي العربية والإسلامية السليبة، وعلى رأسِها القدس الشريف و المسجد الأقصى المبارك, وكما ترى عزيزي القارئ فهذه مهمة وأهداف دولة وليس جماعة أو حزبًا أو منظمةً مهما كانت قدراتها, وإذا كان من المُسلَّم به أن مشكلات فلسطين والعراق وأفغانستان والسودان والصومال قد عَرَّت النُّخَب الحاكمة لعجزها عن التصدي لهذه المشكلات, فإنها قد عَرَّت أيضًا النخَب المعارضة لعجزها عن التصدي الصحيح لهذه المشكلات كما عَرَّت النخب الفكرية لعجزها عن طرح بدائل الحل الصحيحة لهذه المشكلات.

مشكلة فلسطين

هذه المشكلات وعلى رأسها مشكلة فلسطين لا يُجدي معها بكاء ولا عويل من قِبل المعارضة أو المفكرين، بل لا بدَّ من عمل حقيقي جدّي وفعَّال لدفع أنظمة الحكم للتعامل الصحيح مع هذه المشاكل، فلا بد أن تكون أعيننا على الحكم، فهذه مشاكل تحتاج دولةٌ لحلِّها وليس جماهير غاضبة يهتفون أو يقاطعون أو يشجبون ويندِّدون.

وحتى لا يكون هذا التحليل مجرد صرخة عابرة في فراغ لا تختلف عن كل ما سبقها من صرخات الغاضبين من أمتنا بلا جدوى وحتى لا نكون خالفنا ما دعونا له من استخدام استراتيجيات وتصوّرات عملية وفعالة ومختلفة عن كل ما سبق وعهدناه من تصورات لم نحصد منها غير الفشل, فلا مناص من الإجابة عن سؤالين هامين هما:

– كيف تتصدى أنظمة حكمنا للمشكلات التي ذكرناها وعلى رأسها مشكلة فلسطين رغم ضعف دولنا دينيًّا واقتصاديًّا وتكنولوجيًّا ومن ثم عسكريًّا؟

– ما الذي يمكن أن تنجزَه النخب المعارضة إزاء حكوماتها في وقت تُحكِم فيه هذه الحكومات قبضتَها الديكتاتورية بالحديد والنار على البلاد والعباد؟

بالنسبة للسؤال الأول فالإجابة عليه سهلةٌ، فقد حقَّق حزب الله اللبناني توازنًا استراتيجيًّا مع إسرائيل منذ سنوات طويلة، كما نجح في التصدِّي لها عام 2006م، عندما سوّلت لها نفسها أن تغامر بغرض القضاء على الحزب، وذلك كلُّه عبر أسلحة خفيفة ومتوسطة فقط، أي دون أن يمتلك الحزب لا سلاح طيران ولا دفاع جوي متقدم، ولا مدرعات ثقيلة ولا حتى خفيفة ولا مدفعية ثقيلة.

قطاع غزة

وشيء مشابه لذلك لكنه أكثر إعجازًا وإنجازًا وإبداعًا قامت به حماس و الجهاد الإسلامي و منظمات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عام 2009م، عندما نجحت في التصدي للهجوم الإسرائيلي على غزة، ومنعت قوات العدوان من التوغُّل في أراضي غزة رغم الحصار الاقتصادي والعسكري والسياسي المحكَم المضروب على غزة قبل وبعد عدوان 2009م وحتى الآن, وتجربة غزة أهم وأثرى من تجربة حزب الله؛ لأنها تمَّت بإمكانات أقلّ من إمكانات حزب الله, كما أن حزب الله لم يكن معنيًّا بكل عواقب العدوان الصهيوني على لبنان، بينما حماس وسائر منظمات المقاومة الفلسطينية كانت وما زالت معنيَّة بكل عواقب أي عدوان صهيوني على غزة.

وعارٌ على أي نظام حاكم لأي دولة أن يزعمَ أن لديه إمكاناتٍ أقل من إمكانات حماس أو حزب الله سواء سياسيًّا أو عسكريًّا أو اقتصاديًّا, تلك الإمكانات البسيطة التي انثنت إسرائيل أمامَها في حربين من أطول الحروب العربية الصهيونية عبر تاريخها, رغم حرص إسرائيل على قِصر مدة أي حرب تخوضها مع العرب؛ لعظم عبء الوقت في الحرب على الاقتصاد الصهيوني.

أما السؤال الثاني فإجابته بسيطة جدًّا، وهي أن تسلك النخبُ المعارضة نفس المسلَك الذي سلكته المعارضة في أوروبا الشرقية، عندما انهار جدارُ برلين في نوفمبر 1989م، وأدت حركات المعارضة إثر ذلك إلى تحوّل كل أوروبا الشرقية إلى نظم ديمقراطية بعد طول عهدها بالديكتاتورية.

صحيحٌ أننا نريد أن تتحول دول العالم الإسلامي كلها إلى نظم حكم إسلامية على طريق عودة الخلافة الإسلامية الراشدة الواحدة, لكن ما جرَى في أوروبا الشرقية وغيرها من دول تحوَّلت من ديكتاتوريات إلى نُظم حكم ديمقراطية أو شبه ديمقراطية، كل ذلك يمثِّل تجارب لا غنًى للنخب المعارضة في عالمنا الإسلامي عن فهمها والاستفادة منها، إذا كان أمر القدس وأفغانستان والعراق والصومال والسودان يعنينا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر هذا الموضوع في موقع الاسلام اليوم.

سيد قطب رحمه الله

هل سيطر القطبيون على قيادة الاخوان المسلمين في مصر؟

عندما تم انتخاب الدكتور محمد بديع مرشدا عاما للاخوان المسلمين خلفا للمرشد السابق الأستاذ مهدي عاكف ذهبت أغلب التقارير الصحفية إلى أن د. بديع جاء لقيادة الاخوان بصفته ممثلا لسيطرة القطبيين على الجماعة.

و جاء ذلك استمرارا للنغمة التي سارت عليها الصحافة في متابعتها للأزمة الأخيرة في انتخابات مجلس إرشاد الاخوان المسلمين حيث ذهبت حينها إلى أن ما يسمى بـ “القطبيين” قد سيطروا على قيادة الاخوان المسلمين بينما لم تحدد هذه التحليلات ماهية ما تقصده بمصطلح القطبيين, كما أن أكثر القراء لم ينتبهوا للدلالات العميقة التي ينطلي عليها هذا المصطلح و كان الوحيدون الذين أدركوا أبعاد كلمة “قطبيين” بكل أبعادها هم المتهمون بذلك من قادة “الاخوان المسلمين” كالدكتور محمود عزت و غيره, و لذلك اهتموا بتحديد علاقتهم بفكر الأستاذ سيد قطب رحمه الله, فصرحوا لوسائل الاعلام أنهم يعتزون بأفكاره و يحترمونها لكنهم لا يكفرون الحاكم و غير ذلك من تصريحاتهم التي أظهرت أنهم متمسكون بمنهج الاخوان المسلمين رغم احترامهم الشديد للأستاذ سيد قطب مما يعني في التحليل النهائي أنهم ملتزمون بالخط الرسمي لجماعة الإخوان المسلمين, و نفس المنهج سار عليه المرشد الثامن للاخوان المسلمين د.محمد بديع حيث كان لزاما على الرجل في أول خطاب له كمرشد للاخوان ان يطمئن الحكومة و الغرب و الأقباط و القوى السياسية الوطنية المختلفة على أن المنهج الذي سيخطه هو نفس منهج الاخوان المسلمين المعروف و ليس منهج سيد قطب المشهور براديكاليته في قضايا عديدة و لكن دون التصريح باسم سيد أو منهجه.

و لكن لماذا اهتم قادة الاخوان بنفي تهمة القطبية عنهم؟ و قبل ذلك ما معني القطبية؟ و ما الفرق بينها و بين منهج الاخوان المسلمون؟ بل و لماذا و كيف افترق القطبيون عن الإخوان المسلمين رغم أن سيد قطب كان من قادة الاخوان المسلمين و مفكريها؟

الأطوار الفكرية التي مر بها سيد قطب

في البداية لابد أن نلاحظ الأطوار الفكرية التي مر بها سيد قطب (رحمه الله), فبعدما ترك حياة الأدب و التي كان مصاحبا فيها لعملاق الأدب العربي عباس العقاد اتجه سيد قطب للكتابة في الأدب من منظور اسلامي بحت فكان أشهر ما كتبه في هذه المرحلة:

“التصوير الفني في القرآن”: وهو أول كتاب له في موضوع إسلامي (ط 1945م).

“مشاهد القيامة في القرآن” : (ط 1947م).

“النقد الأدبي أصوله ومناهجه” : (ط 1948م)

“العدالة الإجتماعية في الإسلام” : (ط 1949م) قبل سفره لأمريكا. وهو أول من أطلق لفظ “العدالة الإجتماعية” بدل “الإشتراكية” التي كان يستخدمها الكُتّاب في عصره للدلالة على موافقة الإسلام للإشتراكية (في نظرهم).

و كانت هذه هي مرحلة سيد قطب الأولى مع التوجه الاسلامي, ثم جاءت المرحلة التالية بعد عودته من رحلته لأمريكا حيث توجه للانضمام لجماعة الاخوان المسلمين و كان لهذا الانضمام سببان:

السبب الأول: ما شاهده في الولايات المتحدة من فرح بمقتل الامام حسن البنا, حيث نشرت العديد من الصحف هناك, أن عدو الغرب الأول قد قتل.

السبب الثاني: مقابلة حدثت بين سيد قطب و ضابط مخابرات انجليزي اسمه “جون هيوورث دن” حيث حذّر “دن” سيّداً من الإخوان المسلمين ومن مغبة إمساكهم بزمام الأمور في مصر وقدّم له معلومات دقيقة عن التنظيم وأهاب به أن يقف وأمثاله من المثقفين المصريين في وجه الإخوان المسلمين !!

و لهذين السببين رأى سيّد قطب أن دعوة الإخوان المسلمين صادقة و أن أعداء الأمة يكيدون لها، و قد قرر سيّد قطب حينها الإنضمام للإخوان المسلمين .. و إثر عودته من الولايات المتحدة بدأت علاقته بالاخوان المسلمين فانضم إليهم و تبحر في العلوم الشرعية و ألف سلسلة من الكتب حملت فكره الاسلامي لكن مرحلته الاسلامية هذه انقسمت لطورين متميزين:

الطور الأول- اهتم فيه بتبيين محاسن الاسلام و أفضليته سياسيا و اجتماعيا على غيره من المذاهب السياسية الأخرى و استمرت هذه المرحلة حتى 1960, و أصدر في هذا الطور الأول الكتب التالية:

“معركة الإسلام والرأسمالية” : (ط 1951م) و هو أول ما ألفه بعد رجوعه من الولايات المتحدة.

“السلام العالمي والإسلام” : (ط 1951م) وقد وكان في آخر هذا الكتاب في الطبعة الأولى فصل بعنوان “الآن” بيّن فيه زيف الإدعاءات الأمريكية ، مما جعل الحكومة الأمريكية تتدخل لدى مصر لحذف الفصل في طبعات الكتاب التالية.

“في ظلال القرآن” : طبع الجزء الأول سنة 1952م ، وطبع الجزء الأول من الطبعة المنقّحة سنة 1960م ، واستطاع سيد أن ينقّح الكتاب إلى الجزء الثالث عشر عند نهاية سورة إبراهيم ، ثم أُعدم بعدها رحمه الله, و الكتاب بطبعته النهائية جاء في ستة أجزاء من القطع الكبيرة حوت أكثر من (4000) صفحة.

“دراسات إسلامية” : هو عبارة عن (35) مقالة إسلامية في نقد مظاهر الفساد والظلم والإنحراف في المجتمع (ط 1953م) .

“هذا الدين” : أصدره وهو في السجن (ط 1960م) و قد كتبه لإخوانه السجناء ليثبت به قلوبهم ، وبيّن فيه عظمة الاسلام وخصائصه التي تفرّد بها .

“المستقبل لهذا الدين” : (ط 1960م).

الطور الثاني- ركز فيه على العقيدة الاسلامية و على الصراع العقائدي بين الاسلام و الآخر من وجهة نظره و كان قمة هذه المرحلة كتابه “معالم في الطريق” و استمرت هذه المرحلة الفكرية معه حتى اعدامه رحمه الله, و لقد أصدر في هذه المرحلة الكتب التالية:

“خصائص التصور الإسلامي ومقوماته” : وهو كتاب في العقيدة أراد به سيد قطب تعليم الأجيال حقيقة العقيدة وأهميتها ، (ط 1962م)

“الإسلام ومشكلات الحضارة” : (ط 1962م) ، دخل هذا الكتاب من باب التعريف بكتاب “الإنسان ذلك المجهول” لألكسس كارل ، ثم أتى بما لم يخطر على بال “ألكسس كارل” ولا غيره.

“مقومات التصور الإسلامي” : طبع بعد عشرين سنة من وفاته (ط 1986م). وقد كتبه سيد في آخر أيام حياته كما قال أخوه محمد في مقدمة الكتاب ، وقال بأن سيداً كتب آخر الكتاب على أوراق الإدعاء التي أعطيت له قبل المحاكمة !! وهناك فصلان مفقودان من الكتاب ، وهما بعنوان “حقيقة الحياة” و”حقيقة الإنسان” وهذا الكتاب يتحدّث عن حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية وحقيقة الكون والحياة والإنسان.

معالم في الطريق كتاب أعدم مؤلفه

لكن أشهر كتب سيد قطب بجانب “في ظلال القرآن” هو كتابه “معالم في الطريق” وهو آخر كتاب صدر في حياة سيد (ط 1964م). وهو من أكثر كتب سيد قطب إثارة للجدل حتى الآن ، و يقال أنه كان الذريعة الرئيسية لمحاكمة سيد والحكم عليه بالإعدام ، وقد كان بعض تلاميذ سيّد يرجونه ألّا يطبع الكتاب !! فكان يقول لهم “لا بد أن يتم البلاغ” ..

لذلك نرى أنه لعله هو الكتاب الذي أعدم صاحبه .. ويبدو أنه قد مُنع من التداول والطباعة في وقتنا هذا ، ولكنه موجود على شبكة الانترنت، وهذا الكتاب يمكن أن يقال بأنه خلاصة كتب سيّد قطب الإسلامية وقد أحدث دوياً هائلاً منذ صدوره و حتى الآن كما أنه يمثل البلورة النهائية لأفكار سيد قطب السياسية و التي فهمتها العديد من القوى الاسلامية كل على طريقته, فالبعض أخذ منها إشارة بتكفير المجتمعات الاسلامية و البعض أخذ منها إشارة أهمية التركيز على التربية الاسلامية للشعوب قبل الدخول في صراع مع الحكومات التي يرون أنها بعيدة عن الاسلام و البعض أخذ منها حتمية المفاصلة مع هذه الحكومات و خوض الصراع بكل أنواعه ضدها و بمختلف أدوات الصراع بما فيها الأساليب المسلحة, و لعل الايحاءات المتعددة التي أطلقها كتاب معالم في الطريق هي التي فجرت الخلافات بين الاخوان المسلمين في السجن بين أغلبية تؤيد القيادة الشرعية للاخوان و أقلية تؤيد أفكار سيد قطب في صورتها النهائية, و ألفت قيادة الاخوان وقتها الكتاب المشهور و المنسوب للاستاذ حسن الهضيبي (المرشد الثاني للاخوان) “دعاة لا قضاة” لا لترد على الفكر القطبي فقط بل أيضا لتحصن الاخوان ضد فكر التكفير الذي كان قد بدأ في إطلاقه شكري مصطفى و رفاقه في السجن.

و كان سيد حاضرا في السجن بين الاخوان قبل إعدامه إذ كان أول اعتقال له مطلع سنة (1954) ، ثم اعتقل بعدها في نفس السنة ، ثم حكمت عليه محكمة الثورة (سنة 1955) بالسجن خمسة عشر سنة ، وقال سيّد مستهزئاً بعد صدور الحكم “إنها مدّة قليلة ، فأين حكم الإعدام” !! ، وقضى معظم هذه الفترة في مستشفى سجن “ليمان طُرّة” لإصابته بأمراض كثيرة حتى أُفرج عنه بعفو صحي بعد تدخل الرئيس العراقي “عبد السلام عارف” سنة 1964، ثم أعيد مرة أخرى للسجن سنة 1965 بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم ، ولاقى أصناف التعذيب والتنكيل مع شدة المرض وكبر السنّ حتى صدر الحكم بإعدامه في 21 أغسطس 1966 ، وهنا أطلق سيد ابتسامة التقطتها عدسات المصورين.. و أُعدم – رحمه الله – فجر يوم الاثنين الثالث عشر من جمادى الأولى سنة 1386هـ الموافق 29أغسطس1966م ، أي بعد أسبوع من صدور الحكم عليه!!

جماعة القطبيين

و رغم وجود سيد قطب في السجن مع إخوانه حتى إعدامه إلا أن جماعة القطبيين لم تتبلور إلا في السجن بعد انتهاء محاكمات الإخوان المسلمين في عام 1966م و التي تعرف عند البعض بتنظيم سيد قطب, و قد تكونت من مجموعة صغيرة من قادة و أعضاء الإخوان المسلمين و كان على رأسهم الأستاذ محمد قطب شقيق سيد قطب, و كان من ضمنهم كل من الشيخ عبدالمجيد الشاذلي و الأستاذ مصطفى الخضيري و الدكتور محمد مأمون , و قد اختلفوا مع الإخوان في عدة قضايا و أهمها استراتيجية العمل الإسلامي.

إستراتيجية القطبيين للتغيير الإسلامي

و الإستراتيجية التي اعتمدها القطبيون للتغيير الإسلامي قد دونها بشكل متكامل الأستاذ محمد قطب في كتابه “واقعنا المعاصر” و تتلخص في أنه يتحتم تربية أغلبية الشعب على العقيدة الإسلامية الصحيحة حتى إذا قامت الدولة الإسلامية الحقيقية (من وجهة نظرهم) أيدها الشعب و تحمل الصعاب التي ستترتب على قيامها من قبل القوى الغربية التي ستقاوم أي نهضة اسلامية حقيقية في مصر و ستضرب حصارا ظالما (حسب رأيهم) على الدولة الإسلامية الناشئة يطال كل شئ من اول منع استيراد القمح و المواد الغذائية إلى منع استيراد أي مواد صناعية, بل و منع تدفق ماء النيل بطريقة أو أخرى حتى لو وصل الأمر إلى ضرب السد العالي بقنبلة نووية, و انطلاقا من هذه الرؤية فالقطبيون يرون أنه بجانب تربية الشعب قبل إقامة الدولة الإسلامية على الأفكار الاسلامية فإنه يتحتم أن يهتم أبناء الحركة الإسلامية بالتفوق في تعلم العلوم و التكنولوجيا الغربية الحديثة حتى تتوافر لهم فرص إيجاد الحلول العلمية و العملية الحديثة للتغلب على هذه الصعاب المترتبة على إقامة الدولة الإسلامية في مصر.

و رغم أن استراتيجية القطبيين في التغيير لها رونقها و وجاهتها عند البعض إلا أنهم لم يضعوا تكتيكات (أساليب) واضحة و مناسبة لتحقيقها مما جعلها تبدو و كأنها نوع من الترف الفكري.

كما أن القطبيين لا يؤيدون الدخول في إنتخابات مجلس الشعب أو الشورى أو المحليات.

الخلل في تكتيكات جماعة القطبيين

و بصفة عامة فإن القطبين عددهم صغير و معدل التجنيد عندهم بطئ جدا و ذلك كله يعكس الخلل في تكتيكات جماعة القطبيين, و لذلك فرغم أنهم بدأوا مسيرتهم الدعوية في نفس الوقت الذي بدأ فيه الإخوان المسلمون في منتصف السبعينات فإن عدد القطبيين الآن لا يزيد عن عدة آلاف بينما ربما يصل عدد الإخوان المسلمين إلى مئات الآلاف.

كما يُلاحظ أن القطبين ليس لهم نشاط في الجامعات و لا النقابات بعكس كل من الاخوان و السلفيين الآن و الجهاد و الجماعة الاسلامية سابقا, و هذا أيضا يعد مظهر من مظاهر الخلل في أساليب عمل جماعة القطبيين.

و رغم ذلك كله فإن التيار القطبي مازال تيارا موجودا في معظم دول العالم خاصة أقطار العالم العربي, لكنهم في كل مكان لهم نفس الخصائص الموجودة فيهم في مصر من حيث البطء و عدم الفاعلية و التركيز على تكوين نخبة عقائدية صلبة, و قد أدى ذلك في بعض الحالات إلى تململ عناصر فاعلة داخل جماعة القطبيين و من ثم الانشقاق عليها مللا من جمود منهجها الحركي.

الفكر القطبي ليس له صلة بجماعة الاخوان المسلمين

و بذلك كله نعلم أن الفكر القطبي هو فكر جماعة أخرى ليس لها صلة بجماعة الاخوان المسلمين بل إنها تنافس الاخوان المسلمين فكريا و تنظيميا, و لذلك رد الاخوان المسلمون عليها بكتاب “دعاة لا قضاة” في الستينات ثم ردوا مرة ثانية عبر الدكتور يوسف القرضاوي الذي رد على عدد من أطروحات سيد قطب في سلسلة مقالات نشرتها جريدة حزب العمل (الشعب) في الثمانينات أيام تحالف الاخوان مع الحزب.

و ذلك يشير إلى أن قادة الاخوان المسلمين الذين عاصروا نشأة جماعة القطبين في السجن مثل د.محمد بديع و د. محمود عزت أبعد الناس عن أن يكونوا قطبيين لأنهم رفضوا الانضمام لجماعة القطبيين لما تأسست و انحازوا لجماعة الاخوان المسلمين بقيادة الأستاذ حسن الهضيبي وقتها ثم استمروا على ذلك حتى اليوم.

و لكن على كل حال فإن التقارير الصحفية التي نعتت محمود عزت و محمد بديع و من على شاكلتهم بأنهم قطبيون ربما قدمت فائدة لهم في انتخابات مكتب الارشاد, لأن الانتساب لقامة كقامة سيد قطب قطعا أمر له رونقه بين التيارات الاسلامية بكافة اتجاهاتها الفكرية بما في ذلك الاخوان المسلمين و ان اختلفوا مع سيد رحمه الله في العديد من القضايا.

________________________

نشر هذا الموضوع في جريدة الدستور المصرية.

التجربة الناصرية

الإخوان المسلمون و خيارات جماعة مسجونة في تجربتها الناصرية

كتب- عبد المنعم منيب

تعرض الاخوان المسلمون لحملة اعتقالات كبيرة في الأونة الأخيرة من حيث حجم و وزن الأشخاص الذين تم اعتقالهم إذ شملت الاعتقالات ثلاثة من أعضاء مكتب الارشاد البارزين لا سيما الدكتور محمود عزت الأمين العام للجماعة سابقا و الرجل القوي في الجماعة و الدكتور عصام العريان المتحدث الاعلامي البارز في الجماعة و بينما كان الاخوان المسلمون يلملمون أطرافهم و يضمدون جراحهم من تأثير هذه الحملة أعلن بعض رموز جماعة الاخوان المسلمين في صبر و جلد -اعتاده الشارع السياسي منهم- أنهم لا يستبعدون تحويل عدد من رموزهم المعتقلين إلى محاكمة عسكرية, كما أعلنوا أن هذا لن يفت في عضدهم و لن يوقف شيئا من نشاطهم, و لم يكد الاخوان المسلمون يلتقطون أنفاسهم من جراء هذه الاعتقالات حتى داهمتهم أجهزة الأمن باعتقالات ثانية ثم ثالثة ثم تسارعت وتيرة الاعتقالات ضد أعضاء و قادة جماعة الاخوان المسلمين في عدد كبير من محافظات مصر فقوات الأمن استهدفت زعماء الجماعة فى القاهرة والجيزة، منذ شهر فبراير الماضي وحتى اليوم، وكذلك زعماء المحافظات الأخرى، مثل الإسكندرية، وأسيوط، والشرقية، والغربية، و احتجزت رموزا إخوانية بارزة و هامة, و كان دائما هناك كثير من الزخم الذي صاحب أحداث الاعتقالات فمن تأييد الاخوان المسلمين للبرادعي إلى مظاهراتهم احتجاجا على التهويد الجاري حاليا لمدينة القدس المحتلة و المسجد الأقصى الأسير, لكن على كل حال كانت الاعتقالات متسارعة و منتظمة بشكل دائم في الشهور الأخيرة, و رغم أن اعتقالات الأجهزة الأمنية للاخوان المسلمين صارت شيئا معتادا و منتظما و مستمرا منذ منتصف التسعينات من القرن الماضي, كما أنها اتسعت جدا منذ عام 2005 , لكن لاشك أن الحملة الأخيرة اتسمت بقدر جديد من الفجاجة و القسوة و اللامعقول, فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن أجهزة الأمن اجتاحت الجمعة الماضى ست محافظات، وألقت القبض على العديد من أعضاء الجماعة، مضاعفة بذلك أعداد الذين احتجزتهم في الشهور الماضية فقط، كي يبلغ عدد معتقلي الاخوان المسلمين في السجون المصرية حتى الآن نحو 350 معتقلا, و من هنا جاءت تعليقات الكثير من المراقبين التي ترددت بين الاستهجان و التعجب تارة و بين اعتبار هذه الاعتقالات بلا جدوى و لا معنى تارة أخرى.

وقد انتقدت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية فى تقرير لمراسلها فى القاهرة حملة الاعتقالات المستمرة التى شنتها الحكومة المصرية ضد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، و اعتبرت أن هذه الاعتقالات بدأت مبكرة هذا العام، لأن الانتخابات البرلمانية لن تجرى قبل عدة أشهر.

و رأى الكاتب الصحفي سلامة أحمد سلامة أن حملة الاعتقالات هذه هي نفس الحملة المستمرة التى تحاول منع الجماعة من الانخراط في الساحة السياسية قبل الانتخابات لمنعهم من ترشيح أعضائهم بكثافة في الانتخابات القادمة.

كما تعجب الدكتور ضياء رشوان الخبير في مركز الأهرام للدراسات السياسية و الاستراتيجية من هذه الاعتقالات و اعتبر أنه أمر نادر أن تحدث حملة اعتقالات كهذه بعد تعيين المرشد العام الجديد مباشرة، و الغرض منها على ما يبدو، هو تعطيل القيادة الجديدة قبل أن يتسنى لها الوقت حتى لتتنفس.

و أيا كانت الأهداف الحكومية من هذه الحملة فإن هناك آلافا من الأشخاص من مختلف الأنحاء في طول البلاد و عرضها صوتوا للإخوان المسلمين وساعدوهم في الانتخابات، وهناك آلاف آخرون من المؤيدين و المتعاطفين، و لا شك أن عملية التأييد و التعاطف هذه مع جماعة الاخوان المسلمين مستمرة و من الصعب جدا أن تتوقف الآن بسبب هذه الاعتقالات.

الاعتقالات المكثفة وردود الأفعال عليها

و في سياق متصل أثارت الاعتقالات المكثفة التي تعرض لها قادة و أعضاء الاخوان المسلمين في الشهور و الأيام الأخيرة العديد من التعليقات و ردود الأفعال فمن قائل إنها هجمة حكومية تستبق معركة الانتخابات البرلمانية القادمة و التي لم يتبق عليها إلا عدة شهور و من قائل أنها رسالة تحذير شديدة اللهجة ترسلها الحكومة عبر أجهزتها الأمنية الباطشة لتوقف الاندفاع الاخواني في اتجاه مساندة الدكتور محمد البرادعي في مساعيه لتعديل الدستور و تغيير وجه الحياة السياسية المصرية, و أيا كانت التحليلات و التعليقات فإن جماعة الاخوان المسلمين نفسها لم تسلم من الانتقادات في الفترة الأخيرة إن على مستوى موقفهم و رد فعلهم على هذه الاعتقالات و إن على مستوى موقفهم السياسي بصفة عامة في خضم الأحداث السياسية الهامة التي تشهدها الساحة السياسية المصرية حكومة و معارضة على حد سواء, الكثيرون اعتبروا موقف الاخوان من هذه الاعتقالات سلبيا هذا الموقف الذي اكتفى بتنظيم مجموعة من محامي جماعة الاخوان ليشكلوا هيئة الدفاع عن الاخوان المسلمين المعتقلين, بجانب تسهيل امداد معتقليهم بمستلزمات المعيشة في السجن من الطعام و الملابس و البطاطين, هذا الموقف الذي يعد هزيلا جدا إذا تمت مقارنته بموقف أنصار الدكتور أيمن نور عندما كان مسجونا, فعلى سبيل المثال كثيرا ما قام أنصار الدكتور أيمن نور بمظاهرات تأييد له و احتجاج على حبسه في مناسبات كثيرة و عديدة تزامن كثير منها مع عرض الدكتور أيمن على النيابة أو الطب الشرعي و نحو ذلك, هذا في الوقت الذي لا يمكن فيه مقارنة أنصار الدكتور نور بأنصار الاخوان المسلمين لا في العدد و لا في الانضباط التنظيمي و القدرات على التعبئة و نحو ذلك, فهل تخاذلت جماعة الاخوان المسلمون عن مناصرة أعضائها الذين ضحوا من أجلها و اعتقلوا بسببها؟ و هذا الموقف الذي اعتبره العديدون سلبيا أو على الأقل غير مناسب و غير كاف هل يؤثر على الانضباط التنظيمي لأعضاء الاخوان المسلمين أو على الأقل هل يؤثر على معنوياتهم؟ و ما هو وزن ذلك كله و تأثيره في معادلة الصراع السياسي على الساحة السياسية المصرية؟ هل تضعف هذه الاعتقالات و تلك الحملات الأمنية المكثفة جماعة الاخوان المسلمين أو على الأقل هل تدفع الكثير من أنصارها إلى الانفضاض عنها؟ أم هل يؤدي البطش الأمني إلى ارتعاش اليد أو الأيدي التي تمسك بزمام الأمور داخل جماعة الاخوان المسلمين فتكف عن التنافس السياسي مع الحزب الحاكم أو الأقل تخفف من حدة و ضراوة هذا التنافس؟

الحراك السياسي الجديد

أسئلة كثيرة لا مناص من الاجابة عليها في ظل الحراك السياسي الجديد الذي طرأ على الشارع السياسي المصري الآن مع دخول الدكتور محمد البرادعي بقوة لحلبة الصراع السياسي المصري و قلبه للعديد من معادلات هذا الصراع التي استمرت راسخة منذ عقود.

بداية لابد من التذكير بتصريحات قادة و رموز الاخوان المسلمين التي أكدت على استمرار الإخوان المسلمين في ممارسة السياسة من خلال معارضة النظام الحاكم مثل قول د.محمد البلتاجي “نحن ليس لدينا طريق آخر سوى النضال السياسى والدستورى، فنحن نريد الإصلاح السياسى، لذا لا أستطيع أن أتخيل عدم المشاركة فى الحياة السياسية” و كذلك التصريحات التي أشارت إلى ما يشبه ترحيب الجماعة بالاعتقالات مثل تصريح المهندس سعد الحسيني عضو الكتلة البرلمانية للاخوان المسلمين الذي اعتبر فيه أن هذه الاعتقالات بمثابة وسام على صدر جماعة الاخوان المسلمين.

طبيعة المعادلات السياسية التي تحكم العمل السياسي 

و بعد ذلك لابد لنا من تفحص طبيعة المعادلات السياسية الدقيقة و الصارمة التي تحكم العمل السياسي في ظل نظام الحكم الحالي منذ عقود حتى نعرف موقع هذه الاعتقالات منها و نعرف موضع الاخوان المسلمين و مواقفهم في هذه المعادلات. لقد نجحت الديكتاتورية القائمة في مصر منذ الاحتلال البريطاني 1882م في ترسيخ توازن قُوَىَ مجتمعي قائم على وجود نسبة محدودة من المتدينين (الذين بات يطلق علي نشطائهم اسم “الاسلاميون”) لا تملك القيام بتأثير فعال في مجريات الأمور العامة مهما كان نشاطها و ارتفاع صوتها, مع وجود نخبة محدودة من العلمانيين المرتبطين بقوى غربية (صورة الاستعمار الجديد) و يملكون مقاليد السلطة و القوة, مع وجود كتل اخرى من القوميين و الليبرالين و الماركسيين كلها تعارض الحكم لكنها معزولة لسبب أو لأخر و بدعم مباشر من النظام لهذا العزل عن أمرين:

الأول- الامساك بزمام القوة السياسية في الدولة.

و الأمر الثاني- امكانيات تعبئة و تنظيم عامة الجماهير في البلاد.

أما بقية المجتمع فقد حافظ نظام الحكم على جعله كتلة صامتة و سلبية إزاء الشئون العامة خاصة شئون الحكم و السياسة.

التوازن داخل التيارات السياسية

و لقد أقام النظام الحاكم عدة توازنات أخرى داخل كل كيان أو تكتل سياسي فالاسلاميون بين جماعاتهم المختلفة توازن, فهناك توازن بين السلفيين و الاخوان و بعضهما البعض و بين الاثنين من جهة و بين الجهاديين من جهة اخرى توازن آخر و هناك توازن بين هؤلاء جميعا من جهة و بين جماعات التكفيريين, و نفس الشئ نجده داخل القوى السياسية العلمانية المعارضة فهناك توازن بين فصائل الناصريين و القوميين المتعددة و المختلفة و جميعهم من جهة يحكمهم توازن ما مع الماركسيين بكافة مجموعاتهم و الكل يتوازن بشكل أو بآخر مع المعارضة الليبرالية و جميع المعارضة غير الاسلامية يحكمها توازن مع كل الاسلاميين……. و هكذا سلسلة لا تكاد تنتهي من التوازنات يأكل بعضها بعضا لصالح النظام الحاكم إذ لا يمسك بمفاتيح هذه السلسلة من التوازنات غير النظام الحاكم و أجهزته الأمنية و السياسية وحدها, و كلما لاح في الأفق نذير اختلال لهذا التوازن فإن قوى الحكم الداخلية و كذلك القوى الخارجية المساندة لنظام الحكم و الساهرة علي سلامة هذا التوازن تقوم بإعادة التوازن إلى سابق عهده بالحيلة حينا و بالقوة و القمع في أغلب الأحيان, مع ملاحظة أن هذا القمع قد يتستر بغطاء من القوانين و القرارات الرسمية.

معادلات اللعبة السياسية الدولية

و هناك عملية سياسية اخرى تستخدم ورقة وجود هذه القوى المختلفة في معادلات اللعبة السياسية الدولية و الاقليمية, حيث يستخدم النظام وجود الاسلاميين السياسي و الدعوى للضغط على الغرب لكسب تأييد الأخير المطلق للنظام الحاكم تحت تهديد أن البديل هم الاسلاميون, و كذلك التذرع بالوجود القوي للاسلاميين بالشارع السياسي المصري لرفض العديد من الاملاءات الغربية في مجالات كبعض الحقوق الاجتماعية و الاقتصادية المخالفة لثوابت المجتمع الشرقي أو الاسلامي, و من هنا فالنسبة التي حصل عليها الاخوان المسلمون في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة لم تكن مفاجأة للنظام بل مقصودة لتحقيق اهداف عديدة, و نفس الشئ بالنسبة لوجود المعارضة الليبرالية أو القومية أو اليسارية فهى موظفة من قبل النظام لمخاطبة الغرب بأن هناك حريات و ممارسات ديمقراطية و تقدم مطرد في الاصلاح السياسي.

الاخوان المسلمون في مصر طوال القرن الأخير

الاخوان المسلمون في مصر طوال القرن الأخير تحركوا في أغلب الأوقات في إطار لم يهدد هذا التوازن القائم و هذه المعادلات السياسية المكرسة, فعمل الاخوان المسلمين لم ينجح في إختراق المنظومة المسيطرة على مقدرات القوة السياسية في البلاد اللهم الا في حالات نادرة و حتى في الحالات النادرة التي نجح الاخوان المسلمون في ذلك فإنهم لم يستعملوا هذه القوة السياسية بالشكل المناسب, حتى أطلق البعض على جماعة الاخوان المسلمين جماعة الفرص الضائعة.

و كذلك فجماعة الاخوان المسلمين لم تنجح في تحقيق اختراق واسع و فعال للكتلة الصامتة من أغلبية الشعب, و ربما كاد هذا الاختراق أن يحدث مرة واحدة في تاريخنا المعاصر في نهاية السبعينات من القرن الميلادي الماضي بفعل الحركة الدعوية التي قامت بها كل من “جماعة التبليغ و الدعوة” و مجموعات اسلامية عديدة استخدمت التكتيكات الدعوية لـ “جماعة التبليغ و الدعوة”, لكن سرعان ما أدت أحداث صدام الجهاديين مع النظام الحاكم بجانب عوامل عديدة إلى ترسيخ سياسات حكومية تقيد حركة الدعوة بصفة عامة و تمنع هذه التكتيكات بصفة خاصة, و ذلك كله في إطار استراتيجية حكومية ضد الحركة الاسلامية مستمرة بشكل واضح منذ عام 1986 و حتى الآن و هي أشبه ما تكون بمزيج من استراتيجيتي “الاحتواء” و “الردع المرن” المعروفتان في الصراع الدولي.

هل الاخوان المسلمون جماعة كبيرة ذات عقل صغير؟

و بسبب التزام الاخوان المسلمين اختيارا أو اكراها بمقتضيات هذه المعادلات السياسية التي رسخها النظام الحاكم فإنهم لا يستطيعون دفع صراعهم مع الحكم إلى أبعد من هذه المعادلات بانشاء معادلات جديدة أو الاخلال بتوازن القُوَىَ القائم, و هذه الحالة من التفكير السياسي و الاستراتيجي لدى الاخوان المسلمين دفع البعض لاعتبار جماعة الاخوان المسلمين جماعة كبيرة ذات عقل صغير رغم ما في هذا التعبير من مبالغة.

و مما لا شك فيه أيضا أن هذا الالتزام الاخواني بالمعادلات السياسية التي كرسها و يكرسها النظام لا يأتي فقط خوفا من زيادة جرعة البطش من قبل النظام بقدر ما هو تعبير عن طبيعة التفكير السياسي و الاستراتيجي داخل المطبخ السياسي لجماعة الاخوان المسلمين فالعقليات التي تحكم هؤلاء القادة اعتادت على عدم الاكتراث بآثار القمع الحكومي فقد اعتادوا ادارة الجماعة تحت القصف القمعي للنظام بكل درجات هذا القصف الذي شهدوه منذ نهاية الثمانينات من القرن الماضي كما أن القسوة التي تم قمع جماعة الاخوان المسلمين بها منذ ثورة يوليو 1952 و حتى عهد الرئيس السادات خلقت لدى قادة الجماعة السياسيين حذرا ربما نراه زائدا عن الحد المناسب لمثل هذا العمل السياسي الذي يتصدى له الاخوان المسلمون الآن و في مثل هذه الظروف من الحراك السياسي و فرص التغيير و الفشل و التردي الذريع الذي وصل له النظام السياسي المصري, فهل مازالت عقول قادة جماعة الاخوان المسلمين مسجونة في التجربة المريرة للجماعة مع عبدالناصر أم أن الجماعة تعايشت مع القصف الحكومي بقدر تعايشها مع وجود نظام الحكم نفسه و استمراره؟

هذا السؤال يحتاج اجابة واضحة من قيادة الاخوان المسلمين ليس بالقول و لكن بالفعل, فلا أحد يطالبهم بما وراء الممكن لكن الجميع يطالبونهم باستغلال أقصى ما يمكن لا سيما و أن السياسة هي فن الممكن.

و تبقى أسئلة تتعلق بتأثير هذه الاعتقالات على جماعة الاخوان المسلمين من قبيل هل يتفلت الأعضاء تاركين كيان الاخوان المسلمين بسبب القمع؟ و من قبيل هل تتمكن الجماعة من القيام بنفس أدوارها التي كانت تقوم بها قبل الاعتقالات؟ و هل تتصاعد الاعتقالات أم تنحسر؟

في الواقع ربما يتفلت القليل من أعضاء الجماعة الحديثي عهد بها و لكن الجماعة سرعان ما ستعوض هذه التفلت بمزيد من الأعضاء الجدد الأكثر التزاما و انضباطا تنظيميا .

و ستظل جماعة الاخوان المسلمين تقوم بأدوارها المحصورة في المعادلات السياسية الراسخة و المكرسة في مصر منذ عقود.

أما تصاعد الاعتقالات أو انحسارها فهو محصور في القرار الحكومي الملتزم بحفظ توازن القُوَىَ القائم على ألا تخرج كل قوة سياسية في مصر عن الدور المرسوم لها بعناية داخل أروقة الحكم المصري.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا الموضوع نشر في موقع الاسلام اليوم و في جريدة الدستور المصرية اليومية الورقية.

قادة الاخوان المسلمون و صراع الأجيال

الإخوان المسلمون .. بين صراع الأجيال وصراع الأفكار

في إطار حملة الاعتقالات الأخيرة التي شنتها الأجهزة الأمنية في مصر ضد العديد من كوادر جماعة الإخوان المسلمين هل يمكن القول بأن القوة والقدرة السياسية لجماعة الإخوان المسلمين في مصر قد اهتزت؛ بسبب الخلافات العديدة على مستوى قيادة الجماعة ومكتب الإرشاد بين المحافظين والإصلاحيين التي أُشيع عنها الكثير منذ فترة قصيرة.. الأمر الذي جرَّأ الأجهزة الأمنية على شنّ مثل هذه الحملة القاسية ضد عدد من قادة وكوادر الجماعة.

د.محمود عزت وبعده د. محمد بديع هما أشهر من تناولتهم التقارير الصحفية وقصص الأخبار أيام الخلافات التي شهدتها قيادة جماعة الإخوان المسلمين، وخاصة انتخابات مجلس الإرشاد، وبعدها انتخاب ومبايعة المرشد الثامن للجماعة، ذلك المنصب الذي تولاه منذ فترة قصيرة د. محمد بديع, ولكن هل هذان الرجلان هما أبرز اللاعبين بين قادة الجماعة؟ أم أنهم مجرد رمزين لعدد أكبر من اللاعبين؟ وبصفة عامة هل ما تم إعلانه من خلافات تمثِّل الأبعاد الحقيقية للعبة القيادة داخل جماعة الإخوان المسلمين؟ أم أن هناك أبعادًا عديدة أخرى للعبة السياسية داخل الجماعة لم تتكشف أبعادها بعد؟

لقد تفجرت الخلافاتُ بشكل علني وبأسلوب يعتبر الأكثر حدَّة منذ أكثر من خمسين عامًا داخل جماعة الإخوان المسلمين, وقد تسببت قسوة وحدة هذه الخلافات في أكبر جماعة معارضة في مصر وأعرق وأكبر حركة إسلامية سياسية في العالم في إطلاق دخان كثيف صرف بصر أكثر المراقبين عن تحولات كبرى شهدتها جماعة الإخوان المسلمين في خِضَمّ هذه الخلافات.

و رغم الجدل الشديد الذي تشهده ساحات المراقبين السياسيين المهتمين بالحركات الإسلامية إلا أن منهجًا عميقًا ومناسبًا لفهم هذه الحركات الإسلامية لم يتبلورْ بعدُ، واكتفى أغلبية المراقبين بتحليل سطحي وتبسيطي من قبيل القسمة التقليدية إلى محافظين وإصلاحيين.

فهل فعلًا لا تعكس خلافات الإخوان الأخيرة سوى الصراع بين الإصلاح والمحافظة كما يردِّد الجميع؟ أم أن هناك مرحلة جديدة كما قال د. عصام العريان؟ وإذا كان الإخوان قد انتقلوا إلى مرحلة جديدة فما ملامح هذه المرحلة؟

إن نظرةً شاملةً لتطور أوضاع القيادة داخل جماعة الإخوان المسلمين منذ أعاد الأستاذ عمر التلمساني تأسيسها في منتصف السبعينيات، وحتى الآن تشير إلى مرورها بمرحلة واحدة منذئذٍ وحتى يوم انتخاب د. محمد بديع كمرشد ثامن لجماعة الإخوان مؤخرًا، هذه المرحلة تختص بمستوى وجيل مَن يحتل منصب المرشد العام، حيث كان منصب المرشد العام حكرًا على الباقين من مكتب الإرشاد القديم الذي كان متوليًا القيادة حتى تَمَّ حلّ الجماعة أثناء صدامها مع نظام عبد الناصر, فتولى التلمساني ثم حامد أبو النصر ثم مصطفى مشهور ثم مأمون الهضيبي ثم مهدي عاكف, وكل هؤلاء كانوا من الجيل الذي عاصر الإخوان في الأربعينيات من القرن العشرين وحتى وفاة كل منهم عدا الأستاذ عاكف الذي امتنع عن الترشح لمنصب المرشد لفترة تالية، واعتزل المنصب وهو على قيد الحياة (أطال الله عمره), إذن فالملمح الأول من ملامح المرحلة الجديدة هو انتقال منصب المرشد من جيل إخوان الأربعينيات إلى جيل إخوان الستينيات ممثَّلين في المرشد الثامن وهو الدكتور محمد بديع.

لكن هل هذا يعني سيطرة جيل الستينيات أو ما يُعرف بجيل سيد قطب (باعتبار سيد قطب كان أشهر رموز هذا الجيل) على مكتب الإرشاد ومن ثَمَّ على الجماعة لهذا السبب؟

في الواقع أن جيل الستينيات لا يوجد منه في عضوية مجلس الإرشاد الجديد (الثمانية عشر) سوى ثلاثة هم د. محمد بديع ود. محمود عزت والأستاذ جمعة أمين, بينما يوجد ثلاثة عشر عضوًا من جيل السبعينيات الذين هم جيل د. عبد المنعم أبو الفتوح (الذي لم يدخل مكتب الإرشاد هذه المرة) ود. عصام العريان, إذن فمن أبرز التحولات التي مرت بها جماعة الإخوان في خضم خلافاتها الأخيرة أيضًا هو نقل الثقل في مركز الإرشاد من جيل الأربعينيات والستينيات إلى جيل السبعينيات مع إدخال واحد من جيل الثمانينيات إلى مكتب الإرشاد ربما لأول مرة وهو الدكتور عبد الرحمن البرّ, هذا كله مع عدم وقوع أي قطيعة مع جيل الأربعينيات؛ إذ أن هناك عضوًا واحدًا من هذا الجيل في مكتب الإرشاد هو الدكتور رشاد البيومي، فضلًا عن أن مهندس كل هذه التغيرات هو الأستاذ مهدي عاكف الذي قاد هذا التحول هو من جيل الأربعينيات.

صحيح أن دخول جيل السبعينيات لمكتب الإرشاد بدأ بدخول د.عبد المنعم أبو الفتوح عام 1987، لكن مع ذلك احتاج الأمر نحو عشرين عامًا لتصير الغلبة المطلقة في مكتب الإرشاد لجيل السبعينيات، سواء في الانتخابات السابقة أم في آخر انتخابات.

ولكن كيف تكون الغلبة في مكتب الإرشاد لجيل السبعينيات بينما المرشد هو من جيل الستينيات؟

من الواضح أن الجماعة تسير بخطًى ثابتة نحو نقل القيادة في الجماعة لجيلي السبعينيات والثمانينيات, إذ سيصعب على قامة تالية لمهدي عاكف أن لا تترسم خطاه وتتأسى بخطته في ضخّ دماء جديدة في جسم قيادة الإخوان, وسيصعب على أي مرشد قادم أن يتشبث بالمنصب فترةً طويلة.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن انتقال القيادة من جيلي الأربعينيات والستينيات إلى جيلي السبعينيات والثمانينيات سيؤدي إلى درجة أكبر من شيوع أو توزع القوة المؤثرة في صناعة القرار داخل جماعة الإخوان المسلمين, لأن الرمزية التاريخية التي تمتع بها جيلا الأربعينيات والستينيات لا يمكن أن يدّعيها أي من جيل السبعينيات أو الثمانينيات, ولذلك نرى أن مكتب الإرشاد السابق تصدى بسهولة لرأي المرشد بتصعيد د. العريان رغم الرمزية التاريخية التي يمثلها مهدي عاكف، وذلك في أول إشارة واضحة لتحول الإخوان إلى المؤسسية في صنع القرار بغضّ النظر عن المكانات التاريخية لرموز الأربعينيات والستينيات التي كانت تحسم القرار في اتجاهٍ أو آخر, لقد انساق الكتَّابُ والمراقبون للتحليل في اتجاه صراع المحافظين والإصلاحيين دون أن يفطنوا لهذه النقطة، وهي أنه حدث المزيد من توزع القوة بين قادة الإخوان، إذ لم يعد يمكن لفرد أن يمسك بكل خيوط لعبة صنع القرار حتى لو كان المرشد السابع مهدي عاكف ذا الشرعية التاريخية وكاريزما التنظيم الخاص، ولا حتى نائبه الأول محمد حبيب رغم ثقافته السياسية, ومن المدهش في هذا التحول أن الذي غضب من بعض آثاره (في قضية تصعيد العريان بدون انتخاب) هو قائد هذا التحول أصلًا الأستاذ مهدي عاكف (أحد أعظم مرشدي الإخوان عبر تاريخهم) وذلك عندما أعفى كثيرًا من قادة الجماعة من بعض قيود السلطة المركزية الموكولة للمرشد، وأعطى للكثيرين حرية الحركة والكلام بل واتخاذ القرار في إطار “شفافية وانفتاح” منظم بدقة، وهذا نقل الجماعة لمرحلة جديدة هامة وواعدة، وليس كما يظن البعض أنها مرحلة انغلاق أو تفكُّك.

في المرحلة الجديدة أغلب القادة من جيل واحد أو من جيلين متقاربين، ولا يفضل أحدهم على الآخر بأي رمزية أو شرعية تاريخية أو نحوها, فالقرار سيخضع لنقاش وأخذ ورد من الجميع على قدم المساواة.

ورغم كل هذا فلا يمكن اعتبار أن التحول الجديد في جماعة الإخوان هو مجرد صراع أجيال، بل بالعكس، فما أثاره الكثيرون من خلافات ذات طبيعة سياسية وفكرية له وجه من الصحة، لكنَّ فيه شيًا من التخبط, نعم هناك فريق له خبرات سياسية واسعة يرفع شعارات التغيير والإصلاح في الإخوان، ويدلي لوسائل الإعلام بأفكار راقت للكثيرين خارج الإخوان، ولم ترُقْ لكثيرين داخل الإخوان، لكن هذا الصراع هو صراع يعكس تعدُّد اتجاهات الاجتهاد السياسي داخل الإخوان، ولا يعكس صراعًا بين الأجيال؛ لأن مثلًا عبد المنعم أبو الفتوح ومحمد حبيب هما من جيل السبعينيات، بينما الأغلبية من مجلس الإرشاد الجديد هم أيضًا من نفس الجيل، بل هناك اسم ما زال البعض يشن عليه حربًا لا هوادة فيها، باعتباره من المحافظين والقطبين و….الخ هو د محمود غزلان، ومع ذلك فمحمود غزلان من نفس جيل السبعينيات وزميل للدكتور عبد المنعم أبو الفتوح, وهذا يعني أنه إذا كانت الجماعة نقلت قيادتها في مرحلتها الجديدة إلى جيل السبعينيات، فإن هذا الجيل ليس شيئًا واحدًا، بل إن هناك خلافات في الاجتهادات السياسية والفكرية لدى هذا الجيل، وإن توزع القوة في الجماعة واعتمادها على الآليات المؤسسية في صنع القرار سوف يثري روح الشورى، (بلغة الحركات الإسلامية) أو روح الديمقراطية (بلغة السياسة المعاصرة) داخل الجماعة, وما أزمة الانتخابات الأخيرة في الجماعة ومواقف وانتقادات د.عبد المنعم أبو الفتوح ود. محمد حبيب وتعليقات د. عصام العريان ود. محمود غزلان، ما كل هذا إلا المخاض العسير الذي ستولد على إثره آليات مناسبة داخل الجماعة؛ لإدارة اللعبة السياسية داخلها، وسيكون من أهم قواعد هذه الآليات الاحتكام لنتائج الانتخابات لحلّ الخلافات بعد تعديل اللوائح الداخلية والرضا برأي الأغلبية والالتزام به والاكتفاء في أغلب عمليات النقد والاعتراض على القنوات الداخلية للجماعة, أما مَن سيعاند هذه التحولات الجديدة فإنه لن يجد له مكانًا إلا في زوايا النسيان، مهما كان تاريخه؛ لأن عجلة التاريخ إذا دارت فإنها تدور للأمام نحو المستقبل، فلا تلتفت حينئذٍ لتاريخ أحد كائنًا من كان .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كتبت هذا الموضوع لموقع اسلام تودي و تم نشره به.

أسامة بن لادن

هل اتجهت منظمة القاعدة للواقعية السياسية؟

رسالة للعالم أجمع, هكذا حدد أسامة بن لادن الهدف من كلمته الأخيرة التي بثتها قناة الجزيرة أول أمس الجمعة, فقد وجه بن لادن خطابه للعالم اجمع و تكلم فيه عن التغيرات المناخية و الاحتباس الحراري بشكل أساسي و أشار فيه للأزمة المالية العالمية, فقال في أولها: “أما بعد فهذه رسالة إلى العالم أجمع عن المتسببين في التغير المناخي وأخطاره بقصد أو بغير قصد، وما يجب علينا فعله”.

و تعتبر هذه اللغة جديدة على قائد القاعدة الذي سبق و قسم العالم كله إلى فسطاط الايمان و فسطاط الكفر, فضلا عن أن كلمة بن لادن الأخيرة لم يذكر فيها آية قرآنية واحدة و لا حديثا نبويا واحدا, كما أنه لم يعد يقصر دفاعه عن المسلمين المظلومين بل إنه قدم القاعدة على أنها تدافع عن ” المستضعفين والمنكوبين في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، الذين لا حول لهم ولا قوة”.

لغة التركيز على مخاطبة العالم كله و دعوته للوقوف مع القاعدة ضد الولايات المتحدة كانت واضحة جدا بشكل لا لبس فيه إذ يقول على المثال “فيا أيها الناس أهل الأرض جميعا، ليس من الإنصاف والعدل ولا من الحكمة والعقل أن يترك العبء على المجاهدين وحدهم في قضية يعم ضررها العالم أجمع، فالمطلوب منكم يسير، وهو أن تحكموا عليهم الحصار، فجدوا وبادروا في مقاطعتهم لتنقذوا أنفسكم وأموالكم وأطفالكم من التغير المناخي وتعيشوا أعزة أحرارا بعيدا عن أعتاب المؤتمرات وتوسل الحياة، فلا خير في حياة تريق ماء المحيا”, و هو في ذلك كله لا يستثنى الدول الكبرى بل يدعوها بصراحة لحصار الولايا المتحدة فيقول: ” ويجب على الدول الغنية أن تتوقف عن إقراض أميركا لأن في ذلك تمويلا لحروبها الظالمة على المستضعفين”.

لهجة الخطاب واضحة جدا و غريبة على القاعدة, و المحللون المتسرعون سيتسابقون للقول بكل سطحية أن هذا الخطاب يعكس ضعف القاعدة إذ لولا ضعفها لما طلب قائدها من العالم أجمع أن يقف مع القاعدة ضد الولايات المتحدة, لكن حقيقة الأمر ليست كذلك, فالولايات المتحدة و حلفائها يتكبدون خسائر فادحة يوميا أمام مقاتلي القاعدة في كل الجبهات المفتوحة في أفغانستان و العراق و الصومال و غيرها, صحيح أن القاعدة منذ فترة طويلة أعجزتها التدابير الأمنية في أوروبا و أمريكا الشمالية عن القيام بعمليات كبيرة هناك, لكنها جعلت من أفغانستان و العراق فيتناما صغرى للولايات المتحدة و حلفائها, و باتت الولايات المتحدة و حلفائها يبحثون عن مخرج من هناك, إذن فما الجديد الذي دفع أسامة بن لادن لتغيير خطابه السياسي لهذه الدرجة من الانفتاح على العالم و بدل من الاقتصار على محاولة كسب المسلمين و العرب عبر تبني قضاياهم الساخنة (كقضايا فلسطين و العراق و افغانستان و الشيشان و غيرها) فإنه بدأ في تبنى قضايا كونية تهم العالم أجمع مثل الاحتباس الحراري و الأزمة المالية العالمية؟

حقيقة هذه مرحلة جديدة في تطور الفكر السياسي للقاعدة و قد سبقتها تطورات أخرى سبق و أشرنا لبعضها هنا على صفحات الدستور منها محاولة الظواهري و بن لادن التوجه بخطابهم لعامة جماهير اليسار العالمي و مناوءي العولمة و كذلك تحريض أتباعهم على استخدام اساليب المظاهرات و العصيان المدني, و أخيرا جاءت هذه الكلمة يوم الجمعة الماضية بالتوجه للعالم اجمع بما في ذلك الدول الرأسمالية للتوحد ضد الولايات المتحدة, و هذا لا يعكس ضعفا لدي القاعدة بل بالعكس فهو يعكس احساسها بقرب تحقيق النصر في أفغانستان و من ثم السعى للعب دور سياسي دولي يستثمر سياسيا ثمار نصرها العسكري, فهل ستنجح القاعدة في ذلك؟

ــــــــــــــــــــــــــ

كتبت هذا الموضوع يوم 30 يناير 2010  و  نشر في جريدة الدستور المصرية اليومية الورقية.

الشيخ د. محمد عبد المقصود أحد أبرز دعاة السلفية في مصر

التيارات السلفية في مصر و مواقفها السياسية

 علاقة السلفية بالوهابية و بتنظيم القاعدة و الاخوان المسلمين.

 من المعتاد أن تجذب بعض أحداث الفتنة الطائفية اهتمام السلفيين و احيانا تدفعهم للخروج في مظاهرات كما حدث في أحداث المسرحية التي قيل أنها عرضت في كنيسة في الاسكندرية منذ عدة سنوات.

 لماذا يتجاهل السلفيون ملف الاصلاح السياسي في مصر.

 الجمعية الشرعية و جماعة أنصار السنة من أقدم الجماعات السلفية في مصر.

 السلفية الجهادية لا علاقة لها بالسلفية العلمية الموجودة في مصر و في بعض الدول العربية, بل بالعكس يوجد تنافس بينهما.

لا الاخوان المسلمين سيمكنهم تجاهل الجمهور العريض الذي تمثله السلفية و لا السلفية ستستغنى عن الوزن السياسي المهم للاخوان.

 ما هو الدور السياسي للسلفيين في الانتخابات القادمة و في قضية توريث الحكم؟

 مواقف السلفيين من المنتظر أن تتغير مع مرور الوقت عبر النضج الذي ستولده تجاربهم لا سيما بعد تجربتهم العريضة في القنوات الفضائية و شبكة الانترنت, بجانب متابعتهم للنقد الذي يوجه إليهم.

 ليس مصادفة أن المحاكمة العسكرية الوحيدة التي جرت في مصر لسلفيين كانت بسبب تهريبهم المال و السلاح لغزة عام 2001

 لم تعد المملكة السعودية ترتاح لتوجهات الاخوان المسلمين و طموحاتهم السياسية منذ موقفهم الرافض للتدخل الأمريكي في حرب تحرير الكويت عام 1990

السلفية هي أحد التيارات الاسلامية القديمة جدا في مصر منذ العصور الوسطى الإسلامية و قد مثلها العديد من الجمعيات و المجموعات منذ بدايات القرن العشرين الميلادي مثل جمعية “الهداية” التي قادها الشيخ محمد الخضر حسين لكن هذه الجمعيات كانت تنشأ ثم تنحل مع مرور الوقت.

و كانت هذه الجمعيات تهتم بالشعائر الاسلامية التعبدية المختلفة و تجريدها من البدع, و السعي لتنفيذها على النحو التي كانت عليه في العصور الاسلامية الأولى في عصر النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم و عهد صحابته لاسيما الخلفاء الراشدين بشكل خاص, كما اهتم هذا التيار دائما بما تسميه الجماعات الاسلامية بالهدي الظاهر و يقصد به إتباع سنة النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم في الأمور المتعلقة بشكل الملابس و شعر الرأس و اللحية بالنسبة للرجال و الحجاب و عدم إظهار التزين بالنسبة للنساء.

“الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب و السنة” 

و هناك العديد من الجمعيات و الجماعات السلفية التي نشأت منذ زمن طويل و مازالت ناشطة حتى الآن مثل “الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب و السنة” و التي أسسها الشيخ محمود خطاب السبكي (رحمه الله) في تسعينات القرن 19 الميلادي و كان من علماء المذهب المالكي في الأزهر الشريف, و عندما تم إصدار قانون الجمعيات سجل الشيخ جمعيته وفق هذا القانون عام 1913م, و ظلت تعمل حتى اليوم و لها فروع كثيرة بكل محافظات مصر و عادة ما يقودها علماء من الأزهر الشريف حتى الآن رغم أن من بين دعاتها أشخاص من خريجي المدارس و الجامعات المدنية و هؤلاء يتلقون دورات علمية لمدة سنتين في معهد إعداد الدعاة التابع للجمعية, قبل أن تعتبرهم الجمعية دعاة و تسمح لهم بالخطابة و إعطاء الدروس في مقراتها.

و”الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب و السنة” لا تمارس السياسة و لاتتكلم فيها و لا تتخذ أي مواقف سياسية, لكن الحاج عيسى عاشور (رحمه الله) صاحب دار الاعتصام للنشر أصدر مجلة اسمها “الاعتصام” و اتفق مع الجمعية الشرعية على اعتبارها لسان الجمعية الشرعية, و ظلت هذه المجلة تكتب عن السياسة في العصر الملكي ثم امتنعت عن ذلك في عصر جمال عبدالناصر ثم عادت لنفس النمط في عصر السادات و مارست المعارضة السياسية الاسلامية بحدة و كأنها إحدى صحف المعارضة مما دفع الرئيس أنور السادات إلى جعلها في زمرة الصحف و المجلات التي صادرها ضمن القرارت القمعية التي أصدرها ضد جميع قوى المعارضة المصرية في 5 سبتمبر 1981م, و لكن المجلة عادت للصدور في عصر مبارك إلى أن توقفت مع انتهاء ترخيصها بوفاة صاحبها, الا أن الجمعية الشرعية أصدرت في السنوات الأخيرة مجلة باسم “التبيان” و هى تنحو منحى سياسيا أشبه بالاعتصام لكن الاتجاه الإخواني الذي تميزت به الاعتصام خفت قليلا في “التبيان” و إن ظل بارزا بها, و يعكس التوجه السياسي لهاتين المجلتين رغم تعبيرهما عن جمعية تنأى بنفسها عن السياسة حالة عدم الاقتناع بالالتزام الحرفي لقاعدة عدم الاشتغال بالسياسة التي كان محمود خطاب السبكي قد إلتزم بها منذ تأسيس جماعته كما يعكس تأثرها القوي بجماعة الاخوان المسلمين .

الخطاب السياسي للجمعية

لكن لابد من ملاحظة أن الخطاب السياسي لمجلات هذه الجمعية و لبعض دعاتها في المساجد قائم على أسلوب الاصلاح الجزئي العشوائي, فهو لا يطالب بتغيير شامل و متكامل كما أنه لا يطرح برنامجا متكاملا و محددا للاصلاح أيا كان جوهره, بل يكتفي بتوجيه النقد لعدد محدود من المظاهر السلبية و قضايا الفساد والفشل السياسي و الاقتصادي و إن كان تركيزهم الأكبر على قضايا الفساد الأخلاقي, و يقتصر تناولهم لأي من هذه القضايا على بعض جوانبها الجزئية دون الإطار الكلي لها الذي ينتظمه النسق السياسي أو الإجتماعي أو الإقتصادي العام.

تنقية الدين من البدع و الخرافات و مكافحة التبرك و التمسح بالأضرحة

و تركز الجمعية إهتمامها الأكبر في مجال تنقية الدين من البدع و الخرافات و مكافحة التبرك و التمسح بالأضرحة أو النذر لها و الصلاة فيها و رغم أنها لا تدعو للتمسك بمذهب فقهي محدد فإن من بين علماءها من يلتزمون بمذهب محدد بحكم دراستهم الأزهرية أما دعاة الجمعية الشرعية فمرجعهم الأساسي كتاب الشيخ محمود خطاب السبكي “الدين الخالص” و هو موسوعة فقهية ضخمة تذكر كل الأراء الفقهية بأدلتها ثم ترجح أحدها.

و ترى”الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب و السنة” أن مشكلة الأمة الإسلامية تكمن في البدع و الخرافات التي دخلت على الدين و منها العديد من طقوس التصوف, و انه إذا تم تنقية الدين من هذه البدع سوف يعود للأمة مجدها و عزها.

و بالرغم من ذلك فإن موقفهم من الصوفية ليس بحدة فصائل اسلامية أخرى, بسبب الطبيعة الصوفية التي تربى عليها السبكي في الأزهر, و بالتالي فإن الجمعية الشرعية تميل لتقسيم التصوف لنوعين نوع معتدل و هو الملتزم بالسنة و نوع متشدد و هو الذي يتضمن انحرافات عقائدية و فقهية.

“جماعة أنصار السنة المحمدية”

و أيضا من الجمعيات البارزة ذات الطبيعة السلفية في مصر “جماعة أنصار السنة المحمدية” و هي فصيل من الحركة الإسلامية التقليدية حاد جدا في موقفه من التصوف و الصوفية ذلك الفصيل قام بتأسيسه الشيخ محمد حامد الفقي عام 1926م وهي تعمل بنشاط حتى الآن, و كان الشيخ محمد حامد الفقي من علماء الأزهر كما كان من مرتادي الجمعية الشرعية, لكنه اختلف معهم في أحد جزئيات مسألة صفات الله تعالى و هي جزئية من علم العقيدة و هي من المحددات التي تفرق بين الفرق الإسلامية المختلفة (كالمعتزلة و الأشاعرة و أهل السنة و الشيعة و غيرهم), و لذلك أنشأ الشيخ حامد الفقي “جماعة أنصار السنة المحمدية” و هي في فكرها العقيدي أقرب إلى أهل السنة أكثر من الجمعية الشرعية و تركز في خطابها على محاربة بدع المساجد و الأضرحة و الصوفية و تعتبر أن البعد عن الإسلام الصافي هو أحد أسباب تخلف الأمة الإسلامية كما أن مسألة وجوب الحكم بالشريعة على مستوى نظام الحكم في الدولة حاضرة و منصوص عليها في أدبيات الجماعة و ميثاقها ولكنهم عندما يطالبون بها عبر الخطابة و الكتابة و الدروس المسجدية فإن ذلك لا يصحبه أي عمل سياسي آخر ومعظم علماء”جماعة أنصار السنة المحمدية” هم من علماء الأزهر الشريف حتى اليوم, و لها فروع كثيرة في كل محافظات مصر لكنها أقل حيوية من الجمعية الشرعية رغم أن فكرها الفقهي أكثر حيوية من فكر الجمعية الشرعية.

مجلة التوحيد

و تصدر”جماعة أنصار السنة المحمدية” بانتظام مجلة شهرية اسمها “التوحيد” تتسم بأنها بعيدة لحد كبير عن الكلام في السياسة و هي بذلك عكس مجلات الجمعية الشرعية, بل إن هذا مثير للدهشة لأن الطرح الفكري لجماعة أنصار السنة أكثر إلتصاقا بالسياسة إذا قارناه بالطرح الفكري للـ “الجمعية الشرعية” بسبب حرص “أنصار السنة” الواضح و الصريح في ميثاقها على طرح قضية الحكم بالشريعة و الدعوة لها و الاصرار على أنها واجب شرعي لا سبيل للفكاك منه و انه السبيل الوحيد للإصلاح و الخروج من أزمات الأمة الراهنة.

السلفية العلمية و السلفية الحركية

و في مقابل الاختراق القوى و الواضح الذي حققه الإخوان المسلمون للجمعية الشرعية, فإنه من الواضح أن هناك إختراقا مماثلا حققته السلفية العلمية و السلفية الحركية لجماعة انصار السنة.

و يقدر عدد نشطاء جماعة أنصار السنة في مصر بعدة آلاف ناشط فقط, لكنها قوية بما تملكه من مؤسسات خيرية و معاهد علمية و مكتبات و مساجد و إن كانت الأخيرة تم ضمها لإشراف وزارة الأوقاف في محاولة حكومية لتكبيل الجماعة و الحد من توسع نشاطها و تقليل عدد أعضائها.

جماعة أنصار السنة المحمدية خارج مصر

و توجد امتدادات لجماعة أنصار السنة المحمدية في بعض الدول العربية لكنها لا تتبعها تنظيميا, و أهم جماعات “أنصار السنة المحمدية” خارج مصر توجد في جمهورية السودان و هي هناك أقوى و أكبر من جماعة أنصار السنة في مصر رغم أن جماعة مصر هي الأصل, و لكن ربما يرجع السبب لحرية الحركة المتاحة للجماعة هناك بالمقارنة للجماعة في مصر.

كما يوجد متعاطفون فكريا مع جماعة أنصار السنة في العديد من دول العالم بما في ذلك في أوروبا لكن مع مرور الوقت يزداد تماهي أنصار السنة مع السلفية العلمية و السلفية الحركية لتشابهما الشديد في المنهج الفكري.

السلفيين

و بجانب هاتين الجمعيتين يوجد تيار واسع غير منتظم في تنظيم واحد هذا التيار برز بشكله الحالي في منتصف السبعينات من القرن الماضي, و أتباع هذا الفصيل يطلقون على أنفسهم السلفيين, و هم لا تجمعهم منظمة محددة لكنهم يلتفون حول عدد من المشايخ و يتتلمذون عليهم و يمثل الشيخ منفردا هو و مجموعة تلاميذه كيانا مستقلا عن بقية المشايخ و تلاميذهم, و يتفاوت عدد التلاميذ من شيخ لآخر حسب نجاح الشيخ و شهرته في مجال الدعوة فهناك شيخ عدد اتباعه يقدر بعشرات الآلاف و هناك شيخ عدد أتباعه يقدر بالعشرات فقط, و أشهر مشايخ هذا التيار و أكثرهم شعبية الدكتور أسامة عبدالعظيم أستاذ أصول الفقه بجامعة الأزهر و الذي يزعم البعض أن أتباعه أكثر من مائة ألف منتشرين في معظم محافظات مصر, و هو رقم كبير إذ قارناه بحجم مجموع أعضاء كل الأحزاب السياسية في مصر فيما عدا الحزب الحاكم و تزداد أهمية هذا العدد من الأتباع إذا علمنا أن كل هذا العدد هم من النشطاء و ليسوا مجرد مستمعين لشيخ, و يعتبر الشيخ محمد مصطفى الدبيسي بمثابة نائب للدكتور أسامة عبدالعظيم و هو أهم مساعديه منذ نشأة هذا الفصيل, رغم أن هذا الفصيل لم يعلن عن هيكل تنظيمي محدد المعالم حتى الآن.

و هذا الفصيل عادة لا يشتغل بالسياسة ولا يتكلم فيها علنا و لا يتخذ مواقف سياسية علنية لكنهم قد يضطرون للكلام في السياسة تحت ضغوط أتباعهم المقربين جدا و يكون ذلك في جلسات سرية لخواص الأتباع و يقتصر كلامهم السياسي على شرح تصوراتهم للواقع السياسي و مشكلاته, و يعتبرون هذا الكلام من الأسرار التي يكون من المحظور علي الجميع إذاعتها خارج نطاق الذين حضروا هذه الجلسات السرية.

و تتلخص رؤية هذا الفصيل للتغيير السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي في تفسيرهم الخاص لقوله تعالى “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” فهم يرون أن الأية تشير إلى أن تغيير واقع الأمة الإسلامية إلى الأفضل لن يتم إلا عندما يغير كل مسلم نفسه وفق معايير الإسلام فيلتزم بتعاليمه و يؤثر في من حوله من أهله و جيرانه و زملاء عمله فيغيروا هم أيضا أنفسهم بنفس الطريقة و بذا ينصلح حال الأمة من وجهة نظرهم, و من أهم معايير الإسلام التي يسعون لتطبيقها في الواقع تنقية الدين من البدع خاصة المرتبطة بالتصوف و الأضرحة و كذلك منع المسلمين من الإفتتان بالحضارة الغربية و مرتكزاتها الفكرية المخالفة للإسلام, و وسيلة التغيير عندهم تنحصر في الدعوة عبر خطب الجمعة و الدروس الدينية في المساجد بالإضافة إلى الدعوة الفردية، و طبعا دخلت على الخط القنوات الفضائية و مواقع شبكة الإنترنت, و كان هذا الفصيل يقوم بدعوة الناس في الشوارع للصلاة في المسجد و الإستماع لدروس المشايخ عندما كانت أجهزة الأمن تغض الطرف عن هذا في فترة السبعينات من القرن الماضي، لكنها توقفت عن هذا النشاط منذ الثمانينات من القرن الماضي تحت ضغط الأمن.

و تفيد بعض المعلومات الموثوقة المتسربة عن قيادة هذا التيار أن أكثرهم لا يمانع من المشاركة في التصويت في الانتخابات النيابية و غيرها من انواع الانتخابات لدعم محاولات الاصلاح و هم في ذلك يتفقون مع منهج الاخوان المسلمين.

تيار السلفية العلمية

وفي منتصف السبعينات أيضا أنشأ مجموعة من قادة الحركة الطلابية الإسلامية في عدد من جامعات مصر تيار السلفية العلمية لكن كان ثقلها الرئيسي في جامعة الإسكندرية حيث قادها من هناك و إلى جميع أنحاء مصر محمد إسماعيل المقدم و سعيد عبد العظيم و محمد عبد الفتاح (أبو إدريس) و أحمد فريد و غيرهم و كان من أبرز قادتها في القاهرة حينئذ عبدالفتاح الزيني, و قد رفضوا الإنضمام للإخوان المسلمين عام 1978م و سموا أنفسهم المدرسة السلفية و رفضوا لفظ الأمير لإعتبارهم أنه يقتصرعلى إمارة الدولة و لكن أطلقوا على قائدهم أبي إدريس لقب “اسم قيم المدرسة السلفية” أسوة بالمدارس العلمية التي كانت قائمة في عصور الإزدهار العلمي في التاريخ الإسلامي, و احتدم التنافس بين “المدرسة السلفية” و الإخوان على ضم الشباب و السيطرة على المساجد, و عندما أصدرت المدرسة السلفية ابتداء من نهايات عام 1979 سلسلة كتب دورية باسم “السلفيون يتحدثون” تندر عليهم بعض الإخوان بقولهم السلفيون يتحدثون و الإخوان يجاهدون و كان الجهاد الأفغاني قد اندلع لتوه ضد السوفيت و كان الشائع حينئذ أن المجاهدين الأفغان هم من الإخوان المسلمين.

المدرسة السلفية

و ظلت السلفية العلمية تطلق على نفسها اسم “المدرسة السلفية” لعدة سنوات لكنها سعيا لتطوير حركتها و اعطاءها مزيد من الحركية زاد اهتمامها بالعمل الجماهيري و أطلقوا على منظمتهم اسم “الدعوة السلفية” و بذلك اصبح اسم “المدرسة السلفية” مجرد تاريخ.

و”الدعوة السلفية” منتشرة في كل أنحاء مصر و لها أتباع كثيرون يقدرون بمئات الألوف و يطلق عليهم اختصارا اسم “السلفيين” لكنهم ليسوا تنظيما هرميا متماسكا مثل الإخوان المسلمين بل يغلب عليهم التفرق لمجموعات يتبع كل منها شيخ من المشايخ لكن مشايخها متفاهمون لحد ما, ومن مشايخها المشهورين غير الذين ذكرناهم الشيخ محمد حسان و الشيخ أبو ذر القلموني صاحب كتاب “ففروا إلى الله” و الشيخ محمد حسين يعقوب و الدكتور سيد حسين العفاني و الشيخ ياسر برهامي و الشيخ أبواسحاق الحويني و الشيخ مصطفى العدوي و غيرهم كثير جدا لكننا ذكرنا أشهرهم.

كما أن “الدعوة السلفية” مثلها مثل بقية تيارات الحركة الإسلامية ترى وجوب رجوع المسلمين إلى الإلتزام بتعاليم الإسلام وفقا لمنهج السلف الصالح لكنهم أكثر حرفية و التزاما بذلك و اقل اجتهادا و تجديدا فيه, و يفرق بينهم و بين الإخوان المسلمين رفضهم للتصوف و آراء الأشاعرة و المعتزلة و الشيعة التي ترك الإمام حسن البنا الباب مواربا لها بهدف لم شمل المسلمين, كما يفرقهم عنهم أيضا رفض “الدعوة السلفية” للعمل الحزبي و الدخول في الإنتخابات البرلمانية, كما يفرقهم عن تنظيمي الجهاد و القاعدة رفضهم للعمل المسلح.

ومن المتوقع أن يسعى النظام الحاكم في مصر في لحظة ما لافساح ساحة العمل السياسي أمام “السلفية العلمية” لاحداث توازن مع العمل السياسي الضخم الذي يقوم به الاخوان المسلمين, لأن السلفيين هم التيار الأضخم في الساحة الاسلامية المصرية إلا أنهم ليس لديهم مركزية في التنظيم كما لا يملكون عمق الخبرة التنظيمية و السياسية التي يتمتع بها الاخوان المسلمين, فضلا عن أن توزع السلفيين إلى مجموعات متعددة تتبع كل منها شيخ من مشايخ السلفية هو عقبة أخرى من عقبات قيام السلفيين بأي دور سياسي.

السلفية و حرب غزة

و قد كانت أحداث حرب غزة (2009) مناسبة لظهور أثر تعدد المشايخ على الموقف السياسي للسلفيين فقد رد الداعية الشهير الشيخ محمد حسان على الشيخ محمد حسين يعقوب بشأن موقفه من حرب غزة ردا اتسم بالحدة الشديدة إذ مدح الشيخ محمد حسان صواريخ حماس في برنامجه “جبريل يسأل والنبي يجيب” على قناة الرحمة وأنكر على من يقلل من جهدهم ويسخر من صواريخهم و وجه حسان كلامه للحكام الذين يجلسون على كرسي الحكم فقال: “في النهاية الكل هيموت، انت فاكر إن الكرسي هيخوف ملك الموت، إنت فاكر إن الجنود هتخوف ملك الموت لا يا حبيبي… أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي ..”

وحث حسان على الجهاد و الاستشهاد و مساندة الفلسطينيين فقال: “إننا نشتاق إلى الجنة بل إن من في قلبه مثقال ذرة من صدق يرجوا الآن الشهادة في سبيل الله تعالى..”

وأشار محمد حسان إلى القهر و الاستبداد الذي تعيشه الأمة الاسلامية حسب رأيه فقال: “كفاية الذل، كفاية ..الناس شربت لما طفحت ذل ومهانة ” وفي إشارة ضمنية لأن الأنظمة العربية لا تفعل شيئا لفلسطين و أنه لا حل من وجهة نظره الا في القتال الفعلي ضد الصهاينة قال الشيخ حسان “الجعجة كتير ولا أرى طحنا، والكلمات كتير ومؤتمرات وزيارات ومفاوضات والأسلحة صدت (أي أصابها الصدأ) وما شفناش صاروخ وقع على اليهود من أي جهة”.

و وجه محمد حسان كلمة إلى رجال الأعمال قائلا “الذين يستثمرون أموالهم في بنوك أوربا وأمريكا نقول لهم آن الأوان أن تستثمروا أموالكم في أمتكم في أوطانكم في بلادكم لتكون عونا للأمة على قوتها واستقلالها اقتصاديا وعسكريا”.

و في هذا الخطاب أثنى حسان على حماس كثيرا ووصفهم بأنهم “الأطهار الأبرار”

و كان الشيخ محمد حسين يعقوب الداعية السلفي المشهور قد وجه قبلها نقدا لاذعا لحماس و سخر منها و من أعمال المقاومة سخرية مرة كما سخر ممن يطالبون الشعوب و الحكومات الإسلامية بعمل شئ لغزة و قال لا نستطيع أن نعمل لهم شيئا, كما سخر من الصواريخ التي تطلقها المقاومة و قال انها لا تفعل شيئا سوى أنها تعطي الذريعة لقتل الفلسطنيين, جاء ذلك في محاضرتين ليعقوب بثهما موقع طريق الاسلام عبر شبكة الانترنت قبل محاضرة حسان بيوم, و هذا الموقف يعطى صورة لما قد يكون عليه الأمر في حالة انغماس السلفيين في العمل السياسي في مصر, فهم قد يختلفون بشدة و يتنازعون في مواقفهم من القضايا السياسية المختلفة, و هذا أيضا جانب من جوانب ضعفهم إذا تمت المقارنة بينهم و بين الاخوان المسلمين الذين يملكون تنظيما مركزيا يتسم بالسمع و الطاعة الحديدية.

السلفية الحركية

وفي نفس الوقت الذي نشأت فيه السلفية العلمية (منتصف السبعينات من القرن العشرين) نشأ في القاهرة رافد أخر من روافد السلفية بقيادة عدد من الدعاة الشباب حينذاك و كان أبرزهم في ذلك الوقت الدكتور سيد العربي و الدكتور محمد عبد المقصود و الشيخ نشأت أحمد ولم يختلف هذا الرافد السلفي عن السلفية العلمية الا في شئ واحد و هو الاعلان عن كفر الحاكم الذي لا يحكم بالشريعة الاسلامية باسمه أيا كان اسمه, و قد انتشر هذا التيار مع الوقت و صار له أنصار و أتباع يقدرون بعشرات الآلاف لا سيما بعدما برزت شعبية بعض الدعاة الاسلاميين من هذا التيار مثل الداعية ذائع الصيت فوزي السعيد, و قد أطلق بعض أتباع هذا التيار على أنفسهم اسم السلفية الحركية, و لكن المشايخ الكبار من هذا التيار لا يطلقون على أنفسهم أي اسم.

و قد تعرض هذا التيار لحصار أمني شديد منذ عام 2001م بسبب قيام عدد من رموزه بالافتاء لعدد من الشباب بجواز جمع التبرعات و تهريبها إلى الفلسطينيين في الأراضي المحتلة, و جواز الانتقال لهذه الأراضي للمشاركة في المقاومة المسلحة هناك, و على إثر ذلك قام هؤلاء الشباب بجمع عدة ملايين من الجنيهات كتبرعات و هربوها لغزة كما حاولوا التدرب على السلاح بهدف الانتقال لغزة عبر سيناء للمشاركة في أعمال المقاومة المسلحة, و قد تم إعتقالهم جميعا كما إعتقل معهم إثنان من أبرز رموز هذا التيار و هما الشيخ نشأت ابراهيم و الشيخ فوزي السعيد, و تم تقديمهم جميعا إلى محاكمة عسكرية بالقاهرة و عرفت اعلاميا باسم “محاكمة تنظيم الوعد” , و صدرت ضدهم أحكام متفاوتة لكن المحكمة برأت ساحة كل من الشيخين نشأت ابراهيم و فوزي السعيد, و تم الافراج عنهما بعد عدة سنوات من الاعتقال.

و لكن مازال رموز هذا التيار و دعاته ممنوعون من التعبير عن آرائهم في أي مكان سواء مساجد أو صحف أو قنوات تليفزيونية أو حتى في جلسات خاصة, و قد خرق الشيخ نشأت أحمد هذا الحظر و ألقى موعظة دينية في مناسبة عزاء في فيلا أحد أقرباء أحد المتوفين و ذلك تحت إلحاح أهل المتوفى فتم اعتقاله في نفس الليلة عام 2007م و ظل بالسجن عدة شهور قبل أن يفرج عنه بعد أخذ التعهدات عليه بعدم الكلام مرة أخرى في أي مكان.

التشدد الأمن تجاه السلفية الحركية

و يبدو أن التشدد الأمني مع هذا التيار يأتي من مجاهرة هذا التيار بمعارضة الحاكم الذي لا يحكم بالشريعة تصريحا في خطابهم الدعوي و تصريحهم بكفره, هذا رغم موقفهم الواضح برفض العمل المسلح أو إنشاء منظمات اسلامية سرية.

و على كل حال فهذا التيار السلفي سواء من أسميناه هنا بـ “السلفية العلمية” و كذلك توأمه الذي أسميناه هنا بـ “السلفية الحركية” يمثلان في مصر و مختلف دول العالم أقوى و أكبر تيار إسلامي منافس لجماعة الاخوان المسلمين من حيث العدد و الحيوية بل إن نشطاءه و أتباعه أضعاف أتباع الاخوان المسلمين في كل مكان لكن هذا التيار يتخلف عن الاخوان المسلمين في القدرات و الخبرات التنظيمية و السياسية.

السلفية الجهادية

و في أوائل التسعينات رغب عدد من الجهاديين العرب البارزين أمثال أبو محمد المقدسي و أبو قتادة الفلسطيني في دفع تهمة طالما أثارها بعض الاسلاميين السلفيين تجاه التيار الجهادي و هي أنهم يهتمون بالجهاد فقط بينما لا يهتمون بالعلم فأطلق هؤلاء اسم السلفية الجهادية على التيار الجهادي و انتشر هذا الاسم في دول الخليج و الشام, لكن اسم السلفية الجهادية أصبح اسما ذائع الصيت بعد عدد من العمليات المسلحة في الخليج و الشام, و بدأ بعض المتعاطفين مع القاعدة في مصر و غيرها يستحسنون التسمي بهذا الاسم لا سيما و أنه أقل اثارة للشبهات الأمنية من اسم القاعدة, مع أن فكرهم الحقيقي هو فكر منظمة القاعدة.

و بذا يتبين لنا أن اسم السلفية الجهادية لا علاقة له لا بالسلفية العلمية و لا السلفية الحركية الموجودتين في مصر و في أغلب الدول العربية, و الذين يطلق عليهم اللفظ الدارج و المشهور “السلفيون”, بل بالعكس فإن هناك تنافس بين السلفية الجهادية و السلفية العلمية في مجال استقطاب الأعضاء لكل منهما.

نقد السلفيين

و يوجه العديد من الكتاب العلمانيين و الليبرالين النقد للسلفيين المصريين بسبب عدم مشاركتهم في النضال السياسي المعارض لنظام الحكم و كذلك بسبب تركيزهم في وعظهم على أمور اليوم الآخر و على أمور العبادات و مظاهر الانسان من ملابس و لحية و حجاب و نحو ذلك مع عدم التركيز على أحكام المعاملات الاجتماعية و الاقتصادية في الاسلام لا سيما أنه لو ركز مشايخ السلفية على الوعظ في هذه المجالات فإن ذلك سيكون له مردود هام و جيد على المجتمع و قضية الاصلاح بأسرها, إلا أن هذا النقد رغم وجاهته فإن فيه مغالطتان:

الأولى- أن عزوف مشايخ السلفية عن الكلام و الوعظ في هذا المجال ليس عاما فإن منهم من يطرق هذا الاتجاه و يتكلم فيه من حين إلى آخر بل و يتكلم في العديد من الشئون السياسية مثل الشيخ أبي اسحاق الحويني و الشيخ حازم صلاح أبو اسماعيل و غيرهما.

الثاني- أن عدم تكلم السلفيين في هذه المجالات ليس موقفا فكريا أو عقائديا راسخا بل هو مجرد تقدير لهامش الحرية المتاح و حذر من التورط في مشكلات مع نظام الحكم من ناحية و من ناحية أخرى عدم وعي بأولويات العمل الدعوي و عدم الوعي هذا من المنتظر أن يتغير مع مرور الوقت عبر النضج الذي ستولده التجارب الدعوية للسلفيين لا سيما بعد تجربتهم العريضة في القنوات الفضائية و شبكة الانترنت, بجانب متابعتهم طبعا للنقد الذي يوجه إليهم.

إن النقد الذي يوجه للسلفيين بشأن عدم تركيزهم على قضية المعاملات الاجتماعية و الاقتصادية و قضايا الاصلاح السياسي جيد لو ظل في هذا الاطار و هو جدير بالمناقشة في هذا الاطار أيضا, و سرعان ما سيتجاوب معه السلفيون بمرور الوقت لكنه لو خرج عن هذا الاطار إلى اطار آخر يهدف لحذف الأحكام الفقهية الخاصة بالمظاهر الخارجية للمسلم أو المسلمة من حجاب أو لحية أو نقاب, و كذلك حذف أو اهمال أحكام الفقه الخاصة بالعبادات كصلاة و صيام و زكاة و غيرها من منطلق أن الأمة تواجه تحديات و مشكلات كبرى أهم من ذلك فإن هذا النقاش أو النقد في هذه الحالة سيلقى كل اهمال و تجاهل من التيار السلفي لسبب بسيط جدا هو أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم واجه تحديات أكبر من هذه و لم يتخل عن أي من هذه الأحكام بل شرع الصلاة في وقت احتدام القتال و اشتباك الجيوش رغم أن الاسلام في بعض المعارك كان مهددا بالزوال بدليل قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم في غزوة بدر “اللهم ان تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض”.

علاقات السلفيين بالمملكة العربية السعودية

و من جملة النقد الذي يوجهه البعض للسلفيين ما يتردد عن علاقات وثيقة للسلفيين بالمملكة العربية السعودية و في واقع الأمر فإن هذا الاتهام صحيح من جهة و خاطئ من جهة أخرى, فهو صحيح من جهة أن هناك علاقات وثيقة بين عدد لا بأس به من السلفيين المصريين و السلفيين السعوديين المتفقين معهم في نفس الأفكار, و هو خاطئ من جهة أخرى من حيث أن أغلب هؤلاء السلفيين السعوديين ذوي الصلة بنظرائهم المصريين لا يمثلون الحكومة السعودية و لا يتحركون بدافع منها … نعم قد تغض الحكومة السعودية الطرف عن مثل هذه العلاقات لأنها تحقق لها أهدافا استراتيجية في صراعها مع الاتجاه الفكري الذي يمثل تنظيم القاعدة لأن السلفيين يمثلون صمام أمان بدرجة ما ضد فكر هذا التنظيم و ضد انتشار فكر الاخوان المسلمين أيضا الذي لم تعد المملكة السعودية ترتاح لتوجهاته و طموحاته السياسية منذ موقفه الرافض للتدخل الأمريكي في حرب تحرير الكويت عام 1990 , و من ناحية أخرى يمثل السلفيون في السعودية و في كل دول العالم عمقا فكريا استراتيجيا ضد النفوذ الايراني المتنامي في المنطقة و العالم بسبب التشدد السلفي الفقهي ضد التشيع الذي يرون أن ايران تمثله.

و إذا اعتبرنا أن كل قوة سياسية تتحرك في ظل ضوء أخضر بالتحرك من نظام الحكم في مصر أو في السعودية أو في أي دولة عربية هي قوة تابعة لذلك النظام السياسي بسبب هذا الضوء فإننا سنعتبر كل القوى السياسية المعارضة في العالم العربي هي قوى تابعة لنظم الحكم, لأن جميع نظم الحكم تقريبا في العالم العربي هي نظم قوية جدا و آلتها الأمنية في منتهى القوة و لا يمكن لأي قوة سياسية معارضة أو شبه معارضة أن تتحرك الا بضوء أخضر لسبب أو لآخر من نظام الحكم أيا كان سبب هذا الضوء الذي عادة ما ينبعث من نافذة النظام الحاكم…. قد يكون سبب هذا السماح الحكومي توازنات داخلية أو خارجية أو ضغوط من المعارضة او الشعب أو أزمة اقتصادية لكن على كل حال يأتي السماح في النهاية من نافذة النظام الحاكم.

السلفيون في مصر

السلفيون في مصر يتحركون أيضا بضوء أخضر من النظام السياسي الحاكم, لنفس الأسباب السعودية (منافسة أو موازنة الفكر الجهادي و الاخواني و الايراني) و يضاف إلى ذلك التنفيس عن الضغوط الشعبية التي قد يولدها تدين خارج نطاق السيطرة, و لا شك أن مشايخ السلفية حتى الان يمثلون نوع من الضبط السياسي للقوى الشعبية العديدة التي تدين لهم بالولاء أو التعاطف, و لكن السلفيين في مصر ليسوا تحت السيطرة دائما فهم جزء من الشعب و هناك العديد من القضايا السياسية و الاقتصادية قد تدفعهم دفعا للتدخل في السياسة و الاحتكاك بالحكومة او حتى بأجهزة الأمن رغم حرصهم على البعد عن مثل هذا التداخل أو الاحتكاك, و يأتي في مقدمة الأمور التي عادة ما تجذب السلفيين للتدخل في الشئون السياسية و كسر تعليمات اجهزة الأمن قضية فلسطين بصفة عامة مثل حصار غزة أو قتل فلسطينيين أو الاعتداء على المسجد الأقصى و ليس مصادفة أن المحاكمة العسكرية الوحيدة التي جرت في مصر لسلفيين كانت بسبب تهريبهم المال و السلاح لغزة عام 2001, كما أنه من المعتاد أن تجذب بعض أحداث الفتنة الطائفية (بعضها و ليس كلها) اهتمام السلفيين و احيانا تدفعهم للخروج في مظاهرات كما حدث في أحداث المسرحية التي قيل أنها عرضت في كنيسة في الاسكندرية منذ عدة سنوات.

كما أن التغييرات القانونية أو الدستورية ذات الطبيعة العلمانية من شأنها أن تدفع السلفيين لتحركات احتجاجية ذات طبيعة سلمية تأخذ شكل البيانات السياسية أو المحاضرات و المؤتمرات (و ربما مستقبلا المظاهرات) كما حدث أثناء مناداة البعض بتغيير المادة الثانية من الدستور التي تنص على أن الاسلام هو الدين الرسمي للدولة و أن الشريعة مصدر رئيس للتشريع, و كما حدث مؤخرا في قضية النقاب.

هل السلفيون لديهم رؤية سياسية؟

و رغم ذلك كله فالسلفيون ليس لديهم رؤية سياسية واضحة أو دقيقة تجاه النظام الحاكم كما أنهم حتى الآن يتجنبون معارضته بقوة و يكتفون بالتلميحات الموحية بالمعارضة, و لا يهتمون بطرح مشروع سياسي متكامل بديل للنظام الحاكم, فهم بحق حركة اجتماعية اصلاحية أكثر منها حركة سياسية و من ثم فليس من المستغرب عدم تطرقهم لملف الاصلاح السياسي في مصر أو توريث الحكم رغم أنه لو سأل سائل أحد مشايخ السلفية ذوي الثقافة السياسية العالية مثل أبي اسحاق الحويني أو الدكتور محمد اسماعيل المقدم عن رأيه في الديكتاتورية و الشورى و توريث الحكم و تطبيق الشريعة الاسلامية في الحكم لوجدنا اجاباته دقيقة و متكاملة اسلاميا بشكل من الممكن أن يدعم اي نضال سياسي اصلاحي معارض في مصر لكنهم حتى الآن ليس من اولوياتهم النضال في هذا المجال كما انهم لا يملكون تنظيما سياسيا و لا كوادر سياسية و لا حتى رغبة في العمل السياسي, و رغم ذلك كله سيظلوا رقما هاما و صعبا في معادلة العمل السياسي في مصر و سيزداد هذا الرقم أهمية و قوة مع مرور الوقت لأنهم رغم أنهم حركة اجتماعية فقط فإنها حركة اصلاحية كبيرة جدا وواسعة النفوذ و التأثير و ليست معزولة عن مجريات حياتنا السياسية و الاقتصادية و سرعان ما ستستفزهم الضغوط الاقتصدية و الضغوط السياسية و جهود التغريب و العلمنة الاجتماعية و الاقتصادية للاحتجاج الاجتماعي و حينئذ سيجدون أنفسهم محتاجين لخبرة الاخوان المسلمين و قواهم السياسية المنظمة و سيجد الاخوان انفسهم غير قادرين على تجاهل السلفيين ذوي الحركة الاجتماعية واسعة النفوذ التي لا يمكن تجاهل ثقلها الشعبي.

كما أن أي معارضة وطنية مصرية تتعامل مع واقع مصر السياسي و الاجتماعي بمهارة لن يسعها أن تغض الطرف عن التعامل مع السلفيين كأحد أهم و أبرز معالم خريطة مصر السياسية و الاجتماعية الآن.

ــــــــــــــــــــ

نشرت هذا الموضوع في جريدة الدستور المصرية (العدد الأسبوعي).

الايرانيون الشيعة في الحج صورة أرشيفية

الحج و السياسة.. ما هو جوهر الخلافات الايرانية السعودية كل عام؟

تجددت الخلافات في الفترة الأخيرة بين ايران و المملكة السعودية حول بعض الممارسات الشيعية في الحج و التي ترى فيها السعودية لونا من العمل السياسي الذي تحرص على ابعاد شعائر الحج عنه, و تجرنا هذه الاحداث إلى قضية هامة هي علاقة الحج بالسياسة منذ فجر الاسلام حتى الآن.

فمنذ جهر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالدعوة و هو يستخدم موسم الحج من أجل الدعوة للاسلام بين قبائل الجزيرة العربية الذين كانت تجتمع وفودهم في مكة للحج كل عام رغم وثنيتهم حيث كان للوثنيين طقوسا تقترن بالحج, و ظل النبي الكريم صلى الله عليه و آله و سلم على هذا الحال عشر سنوات متواصلة بمكة حتى تمخضت هذه الجهود عن دخول عدد من وجوه أهل يثرب في الاسلام و تمت بيعتا العقبة الأولي و الثانية أخر موسمي الحج من سنوات النبي صلى الله عليه و آله و سلم العشر التي استغرقت مرحلة الجهر بالدعوة الاسلامية في مكة, و بعدها هاجر النبي صلى الله عليه و آله و سلم للمدينة المنورة (يثرب) و انطلقت الدعوة الاسلامية في طورها الجديد إلى أن تم فتح مكة و حج المسلمون مرة أخرى للكعبة الشريفة و كانت أول حجة بامارة أبي بكر الصديق رضى الله عنه و قد تضمنت جانبا سياسيا أيضا حيث روى البخاري في صحيحه أن أبا هريرة قال: بعثني أبوبكر في تلك الحجة “أي التي كان أمير الحج فيها أبوبكر، وذلك في السنة التاسعة للهجرة” في مؤذنين “يوم النحر” نؤذن بمنى (أى نعلن): ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. ثم أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً فأمره أن يؤذن بـ”براءة” (أي يقرأعلى الناس سورة التوبة و قد نزلت لتوها و التي فيها براءة من المشركين و ألغاء العهود مع الوثنيين و عدم القبول منه بسوى الاسلام) . فأذن معنا “علي بن أبي طالب” في أهل منى يوم النحر: لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. وزاد الترمذي: “ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته ومن لا مدة له فأربعة أشهر”.

ثم تلتها حجة الوداع حيث خطب النبي صلى الله عليه و آله و سلم في يوم الحج الأكبر، وقد اجتمع حوله مئة ألف وأربعة وأربعون ألفاً من الناس، فقام فيهم خطيباً، وألقى خطبة جامعة، تضمنت أول إعلان عام لحقوق الإنسان عرفته البشرية، أعلن فيه المساواة بين البشر ووجوب اقامة العدل وحرمة الدماء والأموال وشدد على أهمية مراعاة حقوق النساء، ووضع دماء الجاهلية وأموالها الربوية، جاء في صحيح البخاري عن عبدالرحمن بن أبي بكرة عن أبيه في حديث طويل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : “فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه”.

و منذ ذلك الحين و للحج و للكعبة الشريفة ارتباط بشكل مباشر أو غير مباشر بالسياسة ففضلا عن خطبة عرفة و ما قد يقترن بها من خطاب يهتم بالشئون العامة للعالم الاسلامي و من ثم السياسة فإننا نجد أن العديد من الصراعات السياسية الكثيرة التي حدثت في العالم الاسلامي وقعت في أكثر الأحيان على خط التماس مع الحج و الحرم المكي, فعندما ثار عبدالله بن الزبير رضى الله عنه على الأمويين اعتصم بمكة و منها انطلقت ثورته و عندما أعاد الأمويون سيطرتهم على الدولة الاسلامية بعد عشر سنوات من حكم ابن الزبير اقتحموا مكة و ضربوا الكعبة بالمنجنيق كي يتمكنوا من السيطرة عليها و انهاء حكم ابن الزبير, و عندما سيطر الفاطميون على شمال أفريقيا و الشام سعوا لتكريس مكانتهم المعنوية لدي المسلمين و العالم بالسيطرة على مكة و المدينة و تولي شئون الحج و نفس الشئ عمله بعدهم الأيوبيون و المماليك و العثمانيون و عندما انقلب “الشريف حسين” علي العثمانيين و سعى لاقامة خلافة اسلامية يتزعمها هو استقل بمكة عن العثمانيين و حاربهم انطلاقا منها, و نفس الشئ فعله الملك عبد العزيز أل سعود عندما نافس الأشراف و دخل في صراع معهم و أراد أن يوحد الجزيرة العربية تحت حكمه قام باحكام السيطرة على الحرمين و طرد الأشراف من الحكم, و ظل الحج و الحرمين الشريفين في مكة و المدينة المنورة رموزا تدعم دور المملكة العربية السعودية ليس في العالمين العربي و الاسلامي فقط بل أيضا في العالم بأسره.

إذن فما المشكلة في استخدام الحج في نشاط سياسي ما من قبل شيعة أو غيرهم؟

المشكلة لها أساس فقهي أيضا و ليست سياسية بحته فالحج عند أهل السنة لابد أن يلتزم بالآية الكريمة {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ } البقرة 197.

و بالتالي فوقت الحج و شعائره لا يسمح فيهما بما يقتضيه العمل السياسي من جدال و خلاف, أما الشيعة فلديهم في طقوسهم مسألة إعلان البراءة من المشركين ربما تأسيا باعلان الامام على بن أبي طالب لسورة التوبة كما قلنا سابقا في موسم الحج بمنى في سنة 9 هـ , طبعا مقترنا باجتهاد جديد من قبل المرشد السابق للثورة الايرانية الامام الخميني و تبعه عليه المرشد الحالي على خامنيئ من أن مشركي العصر هم اليهود و الأمريكان, السنة يتحفظون على هذا الاجتهاد من ناحيتين الأول أن اعلان الامام علي بن أبي طالب رضي الله عنه لسورة التوبة (براءة) سببه أن السورة كانت نزلت لتوها من السماء و احتاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاعلانها لما فيها من اعلان قوانين جديدة ستحكم العلاقة مع الوثنيين الذين في الجزيرة العربية و الذين كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد سمح لهم حتى ذلك الحين بالحج لمكة و الطواف بالكعبة مع المسلمين فلزم اعلانهم في الحج بالأحكام و القوانين التي أرستها سورة التوبة (براءة), و بالتالي فحيث زال هذا السبب فلا داعي لاعلانها مرة أخرى بدليل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعلن هذه البراءة مرة أخرى في حجة الوداع, أما التحفظ الثاني لأهل السنة على هذه البراءة فهو أن اليهود و الأمريكان لا يحجون لمكة حتى نعلنهم بتحريم حجهم لها كما أن أحكام ذلك الواردة في سورة التوبة خاصة بالوثنيين و ليس أهل الكتاب.

من هذا المنطلق فإنه من الجائز مثلا استغلال اجتماع المسلمين في الحج لاعلان خطاب سياسي معين أو التباحث بين المسلمين في شئون سياسية تهم الأمة عبر مؤتمرات و ندوات تعقد بهذا الغرض بعد انتهاء شعائر الحج مع مراعاة حرمة و قداسة الأماكن المقدسة, لكن ذلك لا يحدث إلا في أطر رسمية تنظمها المملكة السعودية من حين لأخر و بقدر و شكل لا يشبع الطموح الايراني.

الخلاف السعودي الايراني حول هذه النقاط و غيرها في الحج بدأ منذ وصول الامام الخميني للحكم في أعقاب الثورة الايرانية عام 1979 ووصل ذروته عام 1987 عندما قتل العديد من الحجاج أكثرهم ايرانيين في أحداث شغب أعقبت مظاهرات للحجاج الايرانيين في الحج ضد الولايات المتحدة, و قد قاطعت ايران الحج وقتها لمدة ثلاث سنوات متواصلة.

الخلاف الحالي اعتبره الطرفان سياسي بامتياز, ايران تعتبر السعودية تعوق الشيعة عن تحقيق رغباتهم المشروعة في اعلان البراءة من أمريكا و اسرائيل و تسئ معاملة الحجاج الشيعة, بينما السعودية تعتبر ذلك يتنافي مع أداب الحج و سيفتح باب فتنة بين المسلمين لأنه سيفتح باب الخلافات لو أصبح الحج منبرا لتعبر كل دولة عن خلافاتها و مواقفها السياسية تجاه الآخرين, كما اعتبر السعوديون أن ايران تريد أن تشغل شعبها و تصدر مشاكلها للخارج بسبب حرج موقفها الدولي بشأن ملفها النووي و غيره و حرج موقفها الداخلي بسبب النزاع حول انتخابات الرئاسة الأخيرة.

العديد من علماء الدين دخلو على الخط و أعلنوا مواقفهم من المشكلة, فقال الشيخ محمود عاشور، وكيل الأزهر السابق، و عضو مجمع البحوث الإسلامية: «إن الحج من أعظم شعائر الإسلام، وأحد أركانه الخمسة، وبالتالي فإن اتخاذ هذه الفريضة لأغراض سياسية أو لتحقيق مآرب لا علاقة لها بمقاصد الحج الشرعية، أو أي أمور أخرى تخرج هذه العبادة عن مقاصدها، حرام شرعا».

ودعا الشيخ عاشور، حجاج بيت الله الحرام التأدب بآداب الحج. مؤكدا أن الحج عبادة محضة، ولا يمكن أن يعتبر مناسبة سياسية أبدا، أو أن يستغل لإثارة الفتن. وتابع قائلا: «إنكم أيها الحجاج ذهبتم إلى الحج لكي تتطهروا من الذنوب ومن بلايا السياسة، وخطاياها، وفتنها، وبالتالي عليكم أن تستثمروا هذه المناسبة في ما ينفع الأمة ويجمع كلمتها على الخير ويوحد صفوفها، ولستم ذاهبين إلى الحج لتدعوا إلى تفريق الأمة».

و أكد الدكتور أحمد السايح، الأستاذ بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، على ضرورة فهم مقاصد العبادات في الإسلام وبخاصة الحج. لأن المسلم يتحمل فيه المشاق، وبالتالي لا يحتاج أداء هذه الفريضة سوى ترديد الكلمات التي يقولها لأداء المناسك فقط. أما الشعارات السياسية تصير كلام الحاج دعاية طائفية وتخرجه عن المنهج الإسلامي، وهو ما يجعله مرفوضا شرعا.

وقال السايح: «إن استغلال تجمع الحجيج في الأراضي المقدسة للدعاية السياسية أمر لا صلة له بالإسلام. وعلى المسلم أن يلتزم بأداء الفريضة بأدب، حتى يكون نسكه مقبولا عند الله».

أما الدكتور محمد عبد المنعم البري، الأمين العام السابق لجبهة علماء الأزهر، الأستاذ بجامعة الأزهر، فقد رأى أنه لا يصح مطلقا رفع أي شعارات سياسية أو طائفية أثناء وجود الحجاج في الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج. وأكد البري أن من يسعى إلى ذلك فإنه يسعى إلى إحداث فتنة في المجتمع الإسلامي. وقال البري: «إنه من حق سلطات الأمن السعودية التصدي لأي محاولات من شأنها أن تعكر صفو الحج، والحفاظ على أمن الحرمين الشريفين».

وأكد البري أن أي إساءة تقع في أرض الحرمين هي إساءة للإسلام وللمسلمين كافة، وأن استغلال موسم الحج لتحقيق أي مآرب سياسية فتنة كبرى تمزق شمل الأمة.

فيما صرح الدكتور عبد المعطي بيومي عضو مجمع البحوث الإسلامية “أن الحج هو موسم لتجمع المسلمين من كل بقاع الأرض دون تفرقة بينهم” وفي تلميح بالرد على كلام الزعيم خامنيئ من أن الشيعة يعاملون معاملة سيئة في الحج قال بيومي: “لم نعرف أو نسمع أن مسلما أيا كانت جنسيته تعرض لأى مضايقات أو مشكلات فى الأراضى المقدسة وبالتالي فإن أي محاولة لبث هذه الفرقة لا تتفق ومقاصد الشريعة الإسلامية التي تحث علي الاتحاد وتنبذ التفرق مشيراً إلى أن أصحاب تلك المحاولات يريدون إثارة الفتنة في العالم الإسلامي وتحويل موسم العبادة الى ساحة معركة سياسية الدين بريء منها.

وفي المقابل، شن آية الله لطف الله صافي الكلبايكاني، أحد مراجع الدين في إيران، هجوماً عنيفاً على الحركة الوهابية، وقال إن الوهابية “بيّضت وجه الصهاينة بارتكابها عمليات القتل الوحشية”، في معرض إدانته للتفجيرات الأخيرة التي شهدتها العاصمة العراقية بغداد.

وأضاف الكلبايكاني أنه “لا فرق في الاسم الذي يطلق على هذه الفرقة، سواء أكان القاعدة أو طالبان أو أي شيء آخر”، ووصف المرجع الشيعي الوهابيين بأنهم “فرقة ضالة”، وقال إن من بين “جرائمهم” القيام بـما أسماه “تدمير الأماكن المقدسة في مكة والمدينة المنورة”

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر هذا الموضوع في جريدة الدستور المصرية (العدد الاسبوعي).

النظام-الاقليمي-العربي

النظام الإقليمي العربي.. الفوضى على الأبواب

كتب- عبد المنعم منيب

ربما بدا أن سقوط النظام العربي وترنُّحَهُ إلى هاوية سحيقة من الفوضى وعدم الاستقرار قد بدأ ظهوره للعيان منذ غزو العراق للكويت عام 1990م، لكن المتفائلين يومها ظنوا أنه ربما يكون مجرد خرق كبير يصعب أن يلتئم، لكنه في النهاية سوف يلتئم على يدي راقع ماهر، ومرت السنون قاحلةً عجافًا في صحراء السياسة والإستراتيجية العربية لتعبُر الصومال فتتركها مفككة بلا حكومة، والسودان لتقسمها إلى شمال وجنوب وشرق، ثم مرت على الصحراء المغربية حيث يستمر نزاعها المزمن، والجزائر حيث الصراع الأهلي الدامي، واتسع الخرق على الراقع أو لنقل: لم يجد الخرق الراقع الماهر، ومن ثم حدث السقوط المدوي للنظام العربي عام 2004م يوم سقطت عاصمة الرشيد بغداد تحت سنابك خيل التتار الأمريكي وتحالفه الغربي المدعوم بالصمت والتعاطف العربي والإسلامي.

المسمار الأول في نعش النظام الإقليمي العربي

وكما آذنت العراق بدق المسمار الأول في نعش النظام الإقليمي العربي عام 1990م فإنها سرعان ما آذنت بدق المزيد من المسامير في نعش هذا النظام إثر سقوطها في 2004م، فانفجر الصراع الطائفي من جديد في لبنان، وتمت محاصرة سوريا غربيًّا، وتدهور الحال في السودان والصومال أكثر فأكثر، وألقت ليبيا بسلاحها للولايات المتحدة، واندلع التمرد الحوثي في اليمن، وتشرذم الفلسطينيون ومنظماتهم واحتدم صراعهم، وتجذرت الديكتاتوريات العربية، وازداد النفوذ الغربي بعامة والأمريكي منه والإسرائيلي بخاصة في العالم العربي، ولم يعد للدول العربية قدرة على الفعل أو إرادة للتأثير، سواء منها الكبرى أو الصغرى، فكلها صارت مفعولاً بها لا فاعلة.

وإزاء تدهور أحوال العرب هكذا وسقوط نظامهم الإقليمي حاولت بعض قوى الجوار الإقليمي التدخل لملء الفراغ، فتدخلت إريتريا وإثيوبيا في الصومال، وإريتريا وكينيا وتشاد في السودان، وإيران في أماكن شتى من العالم العربي، ونافست تركيا جارتها إيران في ذلك وإن بطرق وأساليب مختلفة، ولكن كل هذه التدخلات لم تعد بجدوى لا على أصحابها ولا على النظام أو الشعب العربي.

النظام الإقليمي العربي نشأ مع نشأة جامعة الدول العربية والمنظمات والمؤسسات التابعة لها والتالية لها، وازداد رسوخ هذا النظام مع تمام استقلال كل الأقطار العربية، وتصاعد نفوذ الاقتصاد العربي مع ارتفاع أسعار النفط وقبله صعود نجم العديد من الزعامات العربية التي لعبت أدوارًا سياسية دولية وإقليمية ذات طبيعة مؤثرة بشكل أو بآخر ولو على المستوى الإعلامي فقط.

نشأة جامعة الدول العربية

ولقد جاءت نشأة جامعة الدول العربية، ومن ثم النظام الإقليمي العربي، مرتبطة بضوء أخضر من قوة الاحتلال الغربي الأقوى نفوذًا في المنطقة العربية حينئذ وهي بريطانيا، كما لم ينجح النظام الإقليمي العربي وعلى رأسه جامعة الدول العربية في تجاوز العقبات ومواجهة التحديات الكبرى التي واجهته، وعلى رأسها التردي الاقتصادي والتدهور الاجتماعي والسياسي والتخلف العلمي والتكنولوجي وتحرير فلسطين أو على الأقل تحجيم إسرائيل ومنع تمددها الجغرافي والسياسي وتمدد نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري، كما فشل النظام العربي في تحقيق الوحدة العربية أو حتى مستوًى راقٍ من التعاون الإقليمي العربي في كافة المجالات، بل سار كل قطر وحبلُهُ على غاربِهِ فيما يتعلق بتحديد أولوياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية ، وتفككوا سياسيًّا فسار بعضهم في رِكَاب الشرق الشيوعي (قبل أن يسقط) بينما سار بعضهم في ركاب الغرب الرأسمالي.

إضعاف الحركات الإسلامية وإشغال الجماهير العربية وتخديرها سياسيا

لكن في مقابل ذلك نجح النظام الإقليمي العربي في شيئين لا ثالث لهما، هما:

الأول: إضعاف الحركات الإسلامية، وهي حركات سياسية إسلامية تدعو للأصالة والمعاصرة والفاعلية في مواجهة التحديات المفروضة على الأمة.

الثاني: إشغال الجماهير العربية وتخديرها سياسيا بوهم التعاون والتضامن الإقليمي العربي عبر مؤتمرات جامعة الدول العربية والمنظمات والاتحادات التابعة لها، ففي كل مصيبة وخيبة أمل تصيب الأمة العربية نجد المؤتمرات تنعقد والقرارات تطلق ونسمع طحنًا ولا نرى طحينًا أبدًا، وانخدع أغلب العرب بذلك، حتى إنا لنجد المعارضين يتظاهرون مطالبين القمم العربية وجامعة الدول العربية أن تتحرك وتعمل شيئًا، بينما هذه القمم وتلك الجامعة هي من أوصل الأمة العربية والإسلامية إلى ما هي عليه الآن من التردي في هوة سحيقة من الذل والهوان والتخلف.

سقوط النظام الإقليمي العربي بافتضاح خوائه وتفاهته

والآن عندما سقط النظام الإقليمي العربي بافتضاح خوائه وتفاهته تحت سنابك تتار الناتو في بغداد وتتار أفريقيا في الصومال والسودان بدأت الفوضى تزحف أكثر فأكثر إلى قلب الأقطار العربية، وإن بنسب متفاوتة؛ فهذا تمرد الحوثيين في اليمن، وهذه صراعات طائفية وعرقية في العراق ولبنان وسوريا والسودان ومصر والجزائر، وهذه وهذه وهذه.

البعض يترقب الآتي، ويعتبر أنه الأسوأ بكل المعايير، ولكن المواطن العربي الذي تطحنه أزماته الاقتصادية والاجتماعية وتأكل أحشاءه الأمراض والأوبئة ما الذي سيخسره أو ما الذي يفكر فيه غير أن يستمر في مقاومة عوامل الفناء التي تنهش كيانه الاجتماعي وتهاجم بيته في أطراف مدينة عربية قلبها زاهٍ بينما تعشش على أطرافها أكواخ العشوائيات؟!

المراقب السياسي المهتم يتفكر ويتأمل فيجد أن اللاعبين الفاعلين الآن في المنطقة العربية منظمات معارضة أو متمردة أكثر من كونها مؤسسات رسمية؛ ففي فلسطين منظمات عدة على رأسها حماس والجهاد الإسلامي، وفي لبنان حزب الله، وفي العراق منظمات عديدة للمقاومة وللصراع الطائفي والعرقي أيضًا، وفي اليمن منظمة الحوثيين، وفي الصومال منظمة شباب المجاهدين، وفي المغرب العربي (وإن بدرجة أقل) القاعدة، وفي السودان منظمات متمردة عدة في دارفور أشهرها منظمة (العدل والمساواة) وفي الجنوب منظمة (الجيش الشعبي لتحرير السودان)، وهكذا.

اللاعبون السياسيون الآن من هم؟

لكن حتى وإن دعمت بعض القوى الدولية أو الإقليمية هذه المنظمة أو تلك فإن الفاعل الفعال والظاهر للعيان هو منظمات وليس الأقطار العربية وليس النظام الإقليمي العربي. ومن هنا فإن الفرصة وإن كانت مواتية للعب دور إيجابي من قِبل المنظمات المعارِضة ذات التوجهات النهضوية، وعلى رأسها الحركة الإسلامية الصافية الصادقة، فإن الدور الناجح الذي لعبه النظام الإقليمي العربي المنتهية صلاحيته في مواجهة الحركات الإسلامية وإضعافها ووقف نموِّها ومنع تطورها السياسي والإستراتيجي والاجتماعي ترك الحركة الإسلامية بكافة فصائلها في حالة عجز ظاهر لا تقدِر معه على الحراك السياسي الإيجابي والفعال لاستغلال الفرص المواتية، وما نشاهده من تحركات إسلامية رغم كل هذا فإنما هو بسبب الطبيعة الحيوية التي تتمتع بها الحركات الإسلامية رغم كل الندوب والجراح.

لكن على كل حال فمع كرِّ الليالي ومرور الأيام سوف تتطور الحركات الإسلامية الصادقة، وستزول عنها ندوبها وجراحها، ولسوف ترتفع لمستوى التحديات التي تواجه الأمة، فلا تعود تواجهها بشجاعة فقط حينًا وبحكمة فقط في حين آخر، بل ستواجهها بحكمة وشجاعة في كافة الأوقات.

ـــــــــــــــــــــــــــ

نشر بموقع الاسلام اليوم.

الاخوان المسلمون

الإخوان المسلمون و اللعبة السياسية في مصر الآن

كلما اشتد القمع الحكومي ضد المعارضة السياسية في مصر اتجهت الأنظار إلى الاخوان المسلمين انتظارا لأن يتمكنوا من التصدي لهذا القمع و الاستبداد الحكومي باعتبار الاخوان هم اكبر قوى المعارضة و أقواها, و لكن في كل مرة يخيب ظن القوى الوطنية في الاخوان المسلمين.

عدد من رموز القوى الوطنية يرون ان الاخوان المسلمين يتخاذلون في مواجهة النظام الحاكم, أما الاخوان فيرون أنهم عاجزون عن التصدى للقمع الحكومي بطريقة و بدرجة يمكنها ايقافه.

معادلات الحياة السياسية في مصر

هي معادلة قديمة قِدَم الاخوان و القوى الوطنية في حياتنا السياسية, فالقوى الوطنية تنظر لحجم الاخوان الظاهر على سطح الحياة السياسية, بينما الاخوان ينظرون لحقيقة قدرتهم الذاتية و قدرة النظام الحاكم على تصفية الجماعة عبر الوسائل الأمنية كما حدث أيام اغتيال حسن البنا على أيدي حكومة النقراشي و كذلك تكرر على أيدي جمال عبدالناصر و يمكن ان يتكرر على أيدي أي حاكم.

القوى الوطنية لا تلاحظ التواطؤ الدولي مع قمع اي تيار اسلامي في مصر و لا تلاحظ الفيتو الدولي على تولي أي قوة اسلامية للحكم في مصر بينما الاخوان يلاحظون ذلك كله.

و ادراك الاخوان المسلمين لكل هذه التحديات جعلهم يتقوقعون ازاءاها لا سيما و أنها تحديات معقدة يختلط بها عناصر الدولي و المحلي, البعض يحسن الظن بالاخوان المسلمين و يرى أنهم يصبرون حتى تزداد قدراتهم و يتحينون فرصة يأتي بها القدر فتتغير المعادلات الدولية و الاقليمية و من ثم تتغير معادلات السياسة الداخلية المصرية, البعض الآخر يسئ الظن بالاخوان المسلمين و يرى أنهم يقدمون مصلحة بقائهم ككيان على مصلحة المخاطرة بالسعي الجاد لتغيير النظام الحاكم.

الاصلاح السياسي في مصر

على كل حال فإن اتهام الاخوان المسلمين أو الدفاع عنهم هنا لن يفيد لا الاخوان و لا المعارضة الوطنية و لا قضية الاصلاح السياسي في مصر, انما الذي قد يفيد هو التفكر و التأمل السياسي في سبل الخروج من الأزمة الراهنة الا و هي أزمة المعارضة المصرية كلها سواء الأحزاب او القوى المعارضة خارج الأحزاب و على رأسها الاخوان المسلمون.

فالأحزاب التي تم اختراقها من قبل الحكومة لا أمل فيها فهي صارت حكومية أكثر من الحكومة و صار قادتها اكثر استبدادا و ديكتاتورية من قيادة الحزب الحاكم نفسه, هذه الأحزاب سقطت من معادلة المعارضة واقعيا و لا يملك أي تصور لعمل معارض إلا أن يسقطها من حساباته المستقبلية اللهم إلا إذا طهر أحد هذه الأحزاب نفسه من عملاء الحكومة و تحول إلى خندق المعارضة الحقيقية.

أحزاب و قوى المعارضة الحقيقية

أما أحزاب و قوى المعارضة الحقيقية من غير الاخوان المسلمين فهي ضعيفة و عليها أن تقوي نفسها عبر البناء التنظيمي الذي يتسم بالعلمية و الشجاعة على حد سواء, فالعلمية تعني الاهتمام بالخبرات و القواعد العلمية المعروفة التي ينبغي أن يقوم عليها عمل الأحزاب الجماهيرية مثل بناء القواعد الجماهيرية و التغلغل في قطاعات الشعب المختلفة في النقابات و الجامعات و المدارس و المصانع و المدن و القرى, و ذلك عبر الاختلاط المباشر بالجماهير و تنظيمها في هذه الأماكن, و الشجاعة التي نقصدها هي تحمل عواقب ذلك من مضايقات حكومية سوف تصل للاعتقال و لكن عليهم الاستمرار في عملهم كما يفعل الاخوان المسلمون و سائر التيارات الاسلامية فهذا العمل هو أحد العوامل التي وفرت القوة للاخوان المسلمين و غيرهم من الاسلاميين و تقاعس المعارضة عن هذا العمل الجماهيري خوفا من العواقب تارة أو جهلا بأهمية مثل هذا العمل تارة أخرى هو من أسباب ضعفها و تأخرها كثيرا عن الاخوان المسلمين و عن سائر الاسلاميين, و العمل عبر الانترنت الذي يركز عليه أكثر شباب المعارضة الآن لا يكفي لبناء حركات سياسية قوية هو فقط مجرد مرحلة تتلوها مراحل عديدة ربما هي أهم منه كما أنه يمثل أحد أدوات العمل و ليس كلها, فلابد من الالتحام المباشر مع الجماهير, و هذا الالتحام لا يتم عبر المظاهرات بل عبر التثقيف و التعبئة الشعبية كما قلنا, فقبل أن تطلب المعارضة من الجماهير المشاركة في مظاهرة أو اضراب لابد أن تقنعهم بجدوى و أهمية و أهداف العمل السياسي النضالي بكل صوره.

عقبات أمام الاخوان المسلمين

تبقى مشكلة الاخوان المسلمين هي الأعقد و الأهم على حد سواء, فالاخوان المسلمون أكثر قوى المعارضة تهيئا لخوض صراع التغيير السياسي و من ثم تسلم الحكم, لكن القمع الحكومي يمنع ذلك بتواطؤ دولي واضح, ففي هذه المعادلة عقبتان:

 عقبة القمع الحكومي الذي لا يقف عند حد و المستعد للذهاب لأبعد مدى مع اي قوة اسلامية بما في ذلك الاخوان المسلمين.

 عقبة التواطؤ الدولي مع هذا السلوك الحكومي المستبد الغاشم, هذا التواطؤ الذي يتم ترجمته لكل أشكال المساندة الدولية لهذا الاستبداد و القمع.

فكيف يمكن للاخوان المسلمين تجاوز هاتين العقبتين؟

الصراع السياسي وقواعده

عقبة القمع الحكومي لن يتسنى للاخوان تجاوزها إلا بتهيئة أنفسهم و حياتهم و منظماتهم لخوض صراع سياسي مرير و طويل سيكون سلميا من ناحيتهم بينما سيكون قمعيا جدا من ناحية النظام الحاكم, و اذا كان الصبر و المصابرة هما أهم السمات التي سيرتكز عليها الاخوان في هذا الصراع فإن الابتكار و المخاطرة لابد أن يكونا من أبرز أسلحتهم في هذا الصراع, يتحتم على الاخوان استخدام جميع الأوراق المتاحة في اللعبة السياسية الراهنة عبر هذا الصراع و لابد ألا يدخر الاخوان وسعا في الضغط على الحزب الحاكم بكل السبل و في كل مناسبة, بل عليهم اختلاق المناسبات و ابتكار السبل لتحقيق ذلك كله بشرط عدم التورط في أي عنف أو مخالفة شرعية, لكن لن يمكنهم طبعا فعل ذلك الا بعدما يكونوا قد استعدوا لذلك و أعدوا للصمود و الاستمرار على ذلك, و لن يقوم الاخوان المسلمون بذلك كله ما لم يقتنعوا بأن الصراع (أي صراع) لا يمكن الانتصار فيه الا عبر المخاطرة المحسوبة و الابتكار و امتلاك زمام المبادءة دائما, كما ان الاخوان المسلمين لن يقتنعوا بخوض هذا الصراع أصلا ما لم يدركوا أنه لم يحدث أبدا عبر التاريخ أن تنازل مستبد أو ديكتاتور عن سلطاته و أرجعها لشعبه دون صراع سياسي محموم انتهى بهزيمة المستبد.

الاخوان المسلمون بين التميع والتردد

ليس من مصلحة الاخوان الاستمرار على حالتهم الراهنة لأنها حالة تتسم بالتميع في علاقتهم مع الحكومة من حيث أن الحكومة لا تدخر وسعا في قمعهم و استنزاف قواهم بينما هم مترددون في خوض الصراع الذي اصبح مفروضا عليهم من قبل الحكومة قبل أن يكون واجبا اسلاميا عليهم لازالة منكر الاستبداد الجاسم على صدر مصر منذ قرون, الاخوان المسلمون حتى يكون موقفهم السياسي واضحا ليس أمامهم سوى خيارين لا ثالث لهما إما التحالف مع الحزب الحاكم و الخضوع لشروط ذلك الحزب و اما الصراع معه, الحالة الحالية المترددة بين الصراع تارة (عبر الانتخابات و البرلمان و النقابات و الجامعات..ألخ) و الصمت و الكمون تارة أخرى حتى تمر موجة القمع الغاشم… هذه الحالة ليست في مصلحة الاخوان المسلمين و لا في مصلحة قضيتهم و أهدافهم و سيظل النظام الحاكم يستنزفهم و لن يني عنهم, و معروف أن الاخوان المسلمين كيان ملتزم دينيا و بالتالي لن يمكنه تقديم تنازلات للنظام الحاكم على حساب أهداف الجماعة و عقيدتها الاسلامية فلا يبقى أمامهم سوى الصراع السياسي من أجل عقيدتهم و أهدافهم.

التواطؤ الدولي مع الاستبداد الحاكم

أما عقبة التواطؤ الدولي مع الاستبداد الحاكم ضد التيار الاسلامي فمن المعلوم أن القوى الدولية تلوح دائما بامكانية التعاطف مع الاخوان بل مع وصولهم للحكم إذا ما عدَّلوا افكارهم و أهدافهم و تبنوا القيم الغربية في ثوب اسلامي الأمر الذي يحلو للبعض ان يعتبره بمثابة دعوة لظهور أردوغان جديد من بين الاخوان المسلمين في مصر, و لكن على كل حال فإن إخوان مصر شئ و حزب العدالة و التنمية في تركيا شئ آخر, و جماعة الاخوان في مصر كتلتها الرئيسية ملتزمة دينيا و لا يمكن أن تقدم على تنازلات دينية حتى لو كانت ذات صبغة سياسية و ما يقال عن معتدلين و متشددين داخل قيادة الاخوان المسلمين فهو فهم خاطئ لطبيعة التنوع في الاجتهاد الفكري و السياسي داخل الجماعة و هذا التنوع في واقع الأمر لا يعني بأي حال أن الجماعة ستقدم تنازلات عن ثوابتها الدينية الراسخة, و تجربة حزب الوسط ليست عنا ببعيد فبمجرد أن سحبت جماعة الاخوان المسلمين دعمها له ظهر حزب الوسط كقوة سياسية صغيرة و لا يمكن أن يضاهي بأي درجة من الدرجات جماعة الاخوان المسلمين فضلا عن أن يصير هو أو أي محاولة أخرى مشابهة له بديلا عنها.

و لكن قد يتمكن الاخوان المسلمون من تجاوز العقبة الدولية عبر التحالف الوثيق مع الأحزاب و القوى الوطنية التي تمثل المعارضة الحقيقة التي تكلمنا عنها في بداية الموضوع, لأن الاخوان لابد أن يدركو الخطأ الذي وقعت فيه حماس عند تشكيلها حكومتها الأولى في الضفة و القطاع, فقد اعمت نشوة النصر حماس عن ادراك حقيقة الأوضاع الدولية و الاقليمية, هل كان الموقف الدولي و الاقليمي من حكومة حماس سيكون هو نفس الموقف الحالي لو كانت القوى الوطنية الأخرى (من غير فتح) شاركت فيها بحجم مناسب و خاصة القوى ذات الصلات العربية و الدولية المرموقة؟

بالطبع لا.

هذا في الحالة الفلسطينية التي لا تتمتع قواها الوطنية بنفس الدرجة العالية من القبول الدولي و العربي الذي تتمتع به قوى وطنية مصرية كحزب الغد او حزب الجبهة أو حزب الكرامة (تحت التأسيس) او حركة كفاية أو تيار استقلال القضاء أو غيرهم.

الاخوان المسلمين هل هم قاطرة لقوى المعارضة؟

إن الاخوان المسلمين لا يحتاجون لشراكة قوية و دائمة مع سائر قوى المعارضة الوطنية من أجل تجاوز عقبة عدم القبول الدولي و الاقليمي فقط بل أيضا من أجل أن الاخوان المسلمين تقع على عاتقهم مسئولية القيام بدور القاطرة لقوى المعارضة المصرية بكافة توجهاتها, فالاخوان المسلمون من مصلحتهم أن تزداد القوة الذاتية لهذه القوى المعارضة بالقدر الذي يتيح لها القدرة على معارضة النظام الحاكم و مناوءته و منازلته بقوة فهذا لن يخفف الضغط الحكومي القمعي عن الاخوان فقط بل أنه سيسهل مهمتهم في تحقيق عملية التغيير و الاصلاح السياسي, و تطوير قوى المعارضة هذه لقدراتها من الممكن أن يساعد و يشارك فيه الاخوان المسلمون بفاعلية و نجاح.

و بعد ذلك سيكون من السهل أن تستمر الشراكة حتى في حالة فوز الاخوان المسلمين بأغلبية مقاعد مجلس الشعب, فحتى في هذه الحالة من مصلحة نجاح اهداف و منهج الاخوان المسلمين ان يشركوا في مثل هذه الحكومة كل القوى المعارضة الحقيقية.

القوى المعارضة ترفض التعاون مع الاخوان

لكن تبقى هنا مشكلة أن بعض أو أكثر هذه القوى المعارضة ترفض التعاون مع الاخوان بشكل أو بآخر أو تشترط لقيام هذا التعاون شروطا يعجز الاخوان عن الوفاء بها, مثل رغبة هذه القوة أو تلك من قوى المعارضة في أن تضع جماعة الاخوان المسلمين كل امكاناتها تحت تصرف هذه القوة المعارضة في القيام بأعمال احتجاجية لا توافق عليها جماعة الاخون أو لا تقتنع بجدواها مثلما دعاها البعض للسعي لاسقاط النظام الحاكم عبر مظاهرة في القاهرة تزيد على المائة ألف و كان من المسلم به أن 99% من المتظاهرين مطلوب أن تحشدهم جماعة الاخوان لأنها هي الوحيدة التي يمكنها حشد مثل هذا العدد و هذا مجرد مثال على الأعباء التي كثيرا ما تطالب بها القوى الوطنية الاخوان المسلمين.

مزاج الشارع المصري

و غني عن البيان أن مزاج الشارع المصري يميل للناحية الاسلامية بدرجة أو بأخرى و من ثم فمستقبل النجاح السياسي الحقيقي تميل كفته للقوى الاسلامية أكثر من غيرها و بالتالي فمصلحة القوى الوطنية الليبرالية و القومية و اليسارية أن تدفع نحو تغيير سياسي متسامح يأخذ بعين الاعتبار خبرات و امكانات و علاقات هذه القوى في اطار من التنوع و التعددية حتى لو كان هذا التنوع و تلك التعددية في اطار من المرجعية الاسلامية التي يقودها الاخوان المسلمون.

و لا شك أن رفض هذه القوى للدور السياسي الاسلامى بدعوى الدفاع عن العلمانية أو الليبرالية ليس من شأنه أن يعرقل الاصلاح السياسي السلمي فقط بل إنه يهدد تطور هذه القوى الوطنية و يلقى بظلال قاتمة على مستقبل وجودها في الشارع السياسي المصري و بين صفوف القاعدة الجماهيرية العريضة و حينئذ سيقتصر وجودها على نخبة ضئيلة تتقابل في ردهات الفنادق المكيفة و تشرح أفكارها في الصالونات الفخمة في حراسة جنود الأمن المركزي بينما ستموج الشوارع حولها بصحوة لمعارضة اسلامية صلبة يكافحها النظام الحاكم و من ورائه من حلفائه الدوليين.

ان شراكة المعارضة الوطنية الجادة الصادقة مع الاخوان المسلمين ضرورة لكل من الاخوان المسلمين و المعارضة الوطنية بكافة أطيافها و هذا التحالف من المؤكد أنه سيكون في صالح انقاذ مصر من الحزب الديكتاتوري الحاكم, و يا ليت الوطنيون الحقيقيون من الحزب الحاكم نفسه يدركون ذلك و يدخلون في مثل هذه الشراكة للنهوض بمصر من الهاوية السحيقة التي تتردى فيها الآن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كتبت هذا الموضوع لجريدة الدستور المصرية.

قادة الحكم في مصر صورة ارشيفية

الفساد يقتل إذا حكم .. نموذج مصر

عندما يحكم الفساد فإنه يقتل بلا مبالاة كل من يقف في طريقه حتى لو كان هذا الواقف قد ألقاه حظه في طريقه مصادفة دون أي قصد منه.

و رغم أن ضحايا الفساد المذكورين يسقطون صرعى كل يوم بسيف الفساد و جنوده من المفسدين لكن أكثر الناس يهتمون بأنواع أخرى من القتلة دون أن يفطنوا للفساد القاتل ظنا منهم أن المفسدين يهتمون فقط بتحصيل شهواتهم من المال و السلطة دون ميل للقتل كهدف في حد ذاته.

و على كل فالفيصل في المسألة هو أحداث الواقع.

وكلنا نذكر في السبعينات ما تردد عن إستيراد توفيق عبد الحي و غيره من رجال الأعمال لآلاف الأطنان من اللحوم و الدواجن الفاسدة و تم بيعها بشكل كامل في السوق المصرية الأمر الذي أدى للعديد من الإصابات لدى المستهلكين و إذا كانت لم تسجل حالات من الموت بشكل مباشر إلا أنه لاشك قد سجلت حالات عديدة من التسمم مجهولة السبب و ربما توفى عدد من الفقراء الذين لا يدري أحد عنهم شيئا.

ثم جاء عقد الثمانيات و التسعينات لنرى العديد من ظواهر القتل الجماعي أو شبه الجماعي و الفاعل الوحيد فيها كان دئما هو الفساد و المفسدون.

و من الملاحظ أن معظم الفاعلين في هذه الأحداث هم من المرتبطين بالسلطة أو ببعض قوى السلطة.

ولذلك أمكنهم دائما الإفلات من العقاب.

في الثمانينات سقطت عدة عمارات على رؤس سكانها و تبين أن هناك فسادا في الدوائر التي أعطت تراخيص البناء و المكاتب الهندسية التي أشرفت على عمليات البناء, و رغم أن العديد من المواطنيين الأبرياء قد ماتوا تحت أنقاضها و رغم أن من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا كما جاء في القرآن الكريم, فإن من لقى مصرعه أو أصيب و شرد بعد ذلك في التسعينات من جراء انهيار العمارات السكنية أكثر ممن لقى حتفه لنفس السبب في الثمانينات و ذلك يشير إلى تزايد الفساد في المحليات مع تقادم العمارات السكنية نسبيا بالإضافة لزلزال 1991م الذي عرى هؤلاء المسئولين الفاسدين و إن ظلت هذه التعرية دون جدوى حتى الآن.

عشرات الألاف بين قتيل و جريح و مشرد بسبب الزلزال وحده , و الفاسد الذي أخذ الرشوة كي يجيز أو يسكت عن بنايات مخالفة للقواعد القانونية لم يكن يدور في خلده أنه سيقتل أحدا لكنه لم و لن يبالي أقتل أو لم يقتل ما دام يحصل على الجنيهات التى قررها كأجر محدد على مماراسته الفاسدة.

نفس الشئ بالنسبة للمسئولين عن حوادث القطارات حيث قتل في حوادث القطارات فقط أكثر من 6 ألاف قتيل بالإضافة إلى 21ألف مصاب في 59 حادث قطار في الفترة من سنة 2000م و حتى 2006 فقط بمعدل حادث واحد كل شهر تقريبا, حتى صدرت دراسة ألمانية تقول أن مصر هي الأولى عالميا في معدلات حوادث القطارات و معدلات قتلى القطارات, و الفاسدون الذين نهبوا عوائد و مداخيل قطاع السكة الحديد لم يدر في خلدهم أنهم بهذا النهب يقتلون الآلاف و يشردون و يعذبون الآلاف ولكنهم أيضا لم يبالوا أقتلوا و شردوا أم لا فكل ما ظل يهمهم حتى الآن هو نهب هذا القطاع ذا العائد الإقتصادى الضخم.

أما حوادث الطرق التي وصلت في مصر إلى 25 ضعفا زيادة عن المعدلات العالمية و التي حصدت حتى الآن 69 ألف قتيل و جريح سنويا فإن الفاسدين الذين يتحملون مسئوليتها هم أكثر خسة من غيرهم لأنهم يتكسبون من موت هؤلاء الآلاف جنيهات قليلة , صحيح أن مجموعها يقدر بالملايين لكنه موزع على ألاف المسئولين من أول جندي المرور الذي يقبض خمسة جنيهات فقط ليمرر صاحب المخالفة التي تؤدي لمزيد من حوادث الطرق و الحاصل أنه ثمن زهيد لقتل نفس أو عدة أنفس و الفاسد لا يبالي أي عدد قتله بفساده في حادثة طريق أو أكثر انما كل ما يهمه الخمسة حنيهات.

و حريق مسرح بني سويف و نتيجة التحقيق في سبب التسيب و الإهمال الذي أدى لهذا الحريق و العدد الكبير من القتلى الذين تفحمت جثثهم بفعل التسيب و الأهمال الجسيم مثال واضح على هذا الفساد الذي لا يبالي بالمواطنين مهما قتل منهم بالعشرات أو بالآلاف بالحرق أو بالغرق أو بالفرم عل الأسفلت المهم الحصول على عائد الفساد من جنيهات مهما كانت ضئيلة أو كبيرة و تأتي نتيجة التحقيق في سبب التسيب و الإهمال الذي أدى لهذا الحريق المروع كبرهان واضح على دور الدولة الرسمي في مساندة الفساد و المفسدين مهما كانت النتيجة , لذلك اتهم الكثيرون نظام الحكم بأنه أول نظام يحكم مصر يستهدف المصريين بالقتل و التعذيب و الحرق و الغرق و السرطان و الفيروسات و ذلك منذ الفراعنة مرورا بالمماليك و العثمانيين و حتى الآن.

لقد وصل حجم الإصابة بفيروس الكبد الوبائي (c) إلى 25 % من المصريين.

كما وصلت الإصابة بالفيروس الكبدي (b) في مصر إلى 15 % علما بأنه أخطر من (c) لأن المصاب به يلقى مصرعه في غضون سنوات قليلة بينما المصاب بـفيروس (c) ربما يعيش أكثر من عشرين سنة قبل أن يلقى حتفه, و إن كان الظلم قد لعب دورا كبيرا في تدهور الرعاية الصحية عن طريق تخفيض مخصصات الصحة في الميزانية لصالح أشياء أخرى أقل أهمية و أقل نفعا للشعب مثل وزارة الداخلية و جلاديها, لكن الفساد المستشري في حكومات الحزب الوطني المتعاقبة كان له نصيب الأسد من الإستفادة من تخفيض مخصصات وزارة الصحة في الميزانية, فمن زيادة المصروفات النثرية المخصصة لكل وزير ينفقها كما يشاء بدون رقيب و قدرها البعض بنحو مليار جنيه في الشهر, إلى توريد أكياس الدم الملوثة إلى وزارة الصحة حتى زعم البعض أن كل من غسل كليته في المستشفيات العامة فقد أصيب بفيروس (c).

يضاف إلى ذلك استئثار قادة الحزب الوطني و محاسيبهم بمعظم أموال العلاج على نفقة الدولة.

و الدستور تتحدى الحكومة أن تنشر قائمة بجميع أسماء المنتفعين بالعلاج على نفقة الدولة من المستفدين بمائة ألف جنيه أو أكثر كي يعرف الشعب أين تذهب أموال الصحة التي هي قليلة أصلا, و كذلك نتحداهم أن ينشروا مفردات المصروفات النثرية الخاصة بكل وزير.

و القتل لا يقتصر على الفيروسات بل هناك القتل بالسرطان عبر المبيدات المسرطنة التي سمح يوسف والي لورد الحزب الوطني المعروف باستيراد ألاف الأطنان منها من أجل سواد عيون يوسف عبد الرحمن سكرتيره الحميم حتى وصل معدل الإصابة بالسرطان 100 ألف حالة سنويا.

و إذا كان نظام حكم الحزب الوطني قد قتل بفساده المصريين هدما ومرضا و حرقا فإنه قتلهم أيضا غرقا في مرات عديدة, و لا نقصد بذلك المهاجرين غرقا في البحر المتوسط هربا من فساد السلطة في مصر فقط بل نقصد أيضا العبارة سالم اكسبرس التي غرقت عام 1991م و كانت فرق الإنقاذ قد اتصلت بالعديد من ركاب السفينة و هي تغرق و علمت أنهم أحياء ووضعت خطتها لشق العبارة و استنقاذ الركاب قبل أن يختنقوا لكن مالك العبارة أصر على عدم شقها و قال إما تعوموها سليمة أو تتركوها و كان مالك العبارة على علاقة بمسئول كبير و اتصل به ليمنع شق العبارة و تعويمها لأن ذلك سيمنع عنه نسبة كبيرة من التأمين الذي ستصرفه له شركة التأمين, و أعطى المسئول أوامره بعدم الشق وقد كان ما أراد فتركوها تغرق و على متنها 1600 راكب اختنقوا داخل كبائنها و ما زالت السفينة حتى اليوم رابضة في قاع البحر الأحمر.

وبعد ذلك جاء عام 2006م عندما غرقت العبارة السلام 98 لمالكها صديق المسئول الكبير و ترك الناس تغرق كي يخفي المخالفات الجسيمة التى كان انقاذ العبارة سيفضحها ومنها على سبيل المثال لا الحصر أنها كانت سفينة ايطالية متهالكة خرجت من الخدمة لسوء حالتها لكن ممدوح اسماعيل اشتراها و ضاعف من حجمها ثلاث مرات إذ أضاف لها ثلاثة طوابق بالمخالفة لأية معايير للسلامة و قام بتسجيلها في بنما لسهولة الإجراءات هناك كما قام هنا باجازتها بسبب منصبه و علاقاته بالمسئول الكبير.

و هكذا يقتل الفساد إذا حكم.