رفسنجاني و الثورة الايرانية

المحطات المهمة فى حياة رفسنجانى حارس الثورة الإيرانية وصانع الملوك

كتب- عبد المنعم منيب


رحل على أكبر هاشمى رفسنجانى عن عمر يناهز الـ 83 عاما بعدما صنع وقاد معظم الانعطافات الكبرى فى دولة الثورة الإيرانية منذ نجاح الثورة عام 1979 وحتى وفاته منذ أيام، بدءا من إقناعه الخمينى بإلغاء تحريمه تأسيس حزب مرورا بوقف الحرب مع العراق والتعاون مع الشيطان الأكبر “الولايات المتحدة” وروسيا والصين وصولا لتعيينه خامنيئ خليفة للخمينى بدون الانتخابات التى ينص عليها الدستور.

الذراع اليُمنى للخمينى

كان رفسنجانى أحد أذرع الخمينى المهمة (إن لم يكن الأهم) داخل إيران بعد نفي الخمينى للخارج، حتى يمكن القول بأنه صار دينامو الثورة منذ منتصف السبعينات، وعندما نجحت الثورة عام 1979 ضد شاه إيران وعاد الخمينى إلى إيران اتخذ رفسنجانى مقرا له ولزملائه الموالين للخمينى بالقرب من منزل الخمينى، وذلك بهدف حماية الخميني من ناحية وتسهيل التواصل معه حول قرارات الدولة والثورة من ناحية أخرى، ورغم أن رفسنجانى شهد رفض الخمينى طوال السنوات السابقة لإنشاء أى حزب أو تنظيم سياسى إلا أنه دخل على الخمينى فزعا وقال له “مش عارفين نمسك البلد لازم ننشئ منظمة”، فرد عليه الخمينى متجهما وقال له: اذهب واعمل حزب”، بحسب رواية رفسنجانى فى مذكراته الشخصية الصادرة فى 2005، وأسس ساعتها رفسنجانى حزبا يمثل خط الامام الخمينى قاد به الصراعات التى انتهت بالتمكين للخمينى ورجاله من الحكم المطلق فى إيران، ولا نعلم ما إذا كانت هذه هى أول مرة يدفع فيها رفسنجانى “إمامه الخمينى” لتغيير رأيه أم لا؟ ولكننا نعلم أنها لم تكن المرة الأخيرة.

فى عام 1988 عندما كان رفسنجانى يتولى رئاسة البرلمان الإيرانى ويتولى قيادة الجيش بأمر من الخمينى، خشى رفسنجانى أن يموت الخمينى دون إيقاف الحرب مع العراق فلا يمكن لأى خليفة له أن يوقفها، لأن الإمام مات وهو مصمم على استمرارها بحسب عقيدتهم وقتها، فتوجه للخمينى وأقنعه أن استمرار الحرب هو فى غير مصلحة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأنه ينبغى إيقافها على الفور، ووقتها ظهر صوت الخمينى واهنا عبر إذاعة طهران ليقول: “كان أهون على أن أتجرع السم بدلا من أن أوقف الحرب مع العراق ولكن إيثارا لمصلحة الجمهورية الإسلامية فقد قررت إيقافها” وبعد هذا الحدث بقليل مات الخمينى.

صانع الملوك

بموت الخمينى دخلت الجمهورية الإسلامية الإيرانية فى إشكالية من يخلف الإمام كمرشد أعلى للدولة، يقود الدولة بصلاحيات واسعة مدى حياته خلفا للخمينى وفقا للدستور الذى باركه وسار عليه الخمينى أصلا، وقبل أن تطبق إيران الآلية الدستورية التى تقضى بانتخاب المرشد الأعلى التالى للخمينى، برز هاشمى رفسنجانى الذراع اليمنى للخمينى ليعلن أن الخمينى أسر له بأن “على خامنيئ هو أولى شخص بتولى منصب المرشد الأعلى كخليفة له”، وأذعن الجميع لرواية رفسنجانى، وأصبح على خامنيئ المرشد الأعلى للدولة خلفا للخمينى بدون أن ينتخبه أحد، ليكتسب رفسنجانى لقبا جديدا هو لقب “صانع الملوك”.

صفقة مع الشيطان الأكبر بعهد ريجان

وفى حين تولى خامنئي منصب المرشد فاز رفسنجانى فى الإنتخابات، ليتولى منصب رئيس الجمهورية خلفا لخامنئي، واستمر “صانع الملوك” فى رئاسة الجمهورية لمدتين متتاليتين ليرسخ اتجاهات جديدة فى سياسة إيران الداخلية والخارجية، ففى السياسة الخارجية واصل رفسنجانى توطيد تعاون إيران مع كل من روسيا والصين منافستا الولايات المتحدة، ليعيد بناء الجيش ويسلحه بعد حرب الثمانى سنوات مع العراق، والتى عانى ايران فيها من حصار عالمى يمنع تسليح إيران، ولم يكن تعاونه مع كل من “الاتحاد السوفيتى/روسيا” والصين فى التسلح وفى صناعة السلاح سهلا، إذ كانت الثورة الإيرانية تعتبر الاتحاد السوفيتى والصين مثلهما مثل الولايات المتحدة مجرد شياطين، ولا يجوز التعامل معهم، ومن هنا كافح رفسنجانى منذ قيادته للبرلمان والجيش الإيرانى فى حياة الخمينى من أجل توجيه الدولة الإيرانية للتعامل مع الصين والاتحاد السوفيتى، خاصة بعدما توقفت الولايات المتحدة عن مسايرة رفسنجانى طويلا بعد فضيحة “إيران- كونترا” التى كشفت حصول رفسنجانى على سلاح أمريكى، وذلك ضمن صفقة سرية شاركت فيها “CIA” وتاجر سلاح إسرائيلى بعهد الرئيس الأمريكى ريجان، وكان هذا مقابل الافراج عن رهائن أمريكيين، رغم أن الاسم الرسمى لأمريكا وقتها فى إيران كان هو الشيطان الأكبر بحسب شعارات الخمينى والثورة الإيرانية.

تقارب مع السعودية وانتقد سب الصحابة

وفى مجال السياسة الخارجية أيضا، سعى رفسنجانى للتقارب مع السعودية وتحسين علاقاته بدول الجوار السنية، دون أن يخل بالتزامات الثورة الإيرانية تجاه المنظمات الشيعية العراقية واللبنانية واليمنية وغيرها، تلك المنظمات التى ظلت تنمو منذ عهد الخمينى، لنرى حصادها اليوم فى المحور الشيعى الممتد بالمنطقة العربية والعالم اليوم.

وفى السياسة الداخلية، عمل رفسنجانى على تطوير الاقتصاد الإيرانى، ليصبح إقتصادا مختلطا تتسع فيه رقعة القطاع الخاص، ليسير مساندا لإقتصاد الدولة الذى ظل بعد الثورة مهيمنا على أغلب القطاعات، وفى نفس الوقت أسس لصناعات مدنية وعسكرية، ولكن جاءت العسكرية أكثر لاسيما صناعة الصواريخ، كما سعى لتطوير برنامجا نوويا إيرانيا.

وذكر رفسنجانى فى مذكراته أنه دافع عن أهل السنة ذات مرة أيام شاه إيران عندما رد على علامة شيعى ذكر أن يهودى واحد أفضل من كل أهل السنة، فهاجمه رفسنجانى ورد عليه، كما أن رفسنجانى انتقد علنا فى العام الماضى قيام الشيعة بسب الصحابة، والاحتفال بمقتل عمر بن الخطاب (رضى الله عنه)، ودعا الشيعة لعدم استثارة أهل السنة بهذه الممارسات كما دعاهم للسعى لرأب الصدع بين الشيعة والسنة.

وكما ظل رفسنجانى زعيما للاصلاحيين الشيعة فقد ظل فى نفس الوقت قريبا من المحافظين، لذلك وصفه المراقبون بأنه إصلاحى بقلب محافظ، وعند اشتداد الصراع بين الجناحين كان ينفر المحافظون منه لدرجة أنه تم منعه من خوض الانتخابات الرئاسية عام 2013، بدعوى تقدم عمره لكن مساندته لروحانى أدت لفوز الأخير بمنصب رئيس الجمهورية.

ولكن هل فعلا تنقسم نخبة إيران الحاكمة لاصلاحيين ومحافظين؟؟ أم أنه مجرد توزيع أدوار؟؟.. وهذا موضوع آخر يمكنك قراءته هنا على هذا الرابط.

موازين القوى الاستراتيجية - صورة أرشيفية

موازين القوى الاستراتيجية بين الإفراط و التفريط عند أمتنا الإسلامية المعاصرة

مسألة توازن القوى أو الميزان الاستراتيجي أو موازين القوى الاستراتيجية هي ضحية شخص لديه افراط  أو آخر لديه تفريط من قادة و أبناء الحركة الإسلامية.

فهناك متهور ومندفع متجاهل لحقائق الميزان الاستراتيجي مدعيا أنه بالايمان وحده سيقلب كل الموازين، وهذا بينا فساده مرارا سابقا اذ سنة الله في خلقه الأخذ بالأسباب وإلا لما استغرق النبي صلى الله عليه واله و سلم 23 عاما للتمكين للإسلام في الجزيرة العربية ثم استغرق خليفته نحو السنتين لترسيخ هذا التمكين، ولم يخرق الله سنته الكونية في جهاد النبي صلى الله عليه و آله و سلم ولا في جهاد الصديق ولا أعفاهم من الأخذ بالاسباب الكونية.

وكان صلى الله عليه و آله و سلم يلبس درعين ويحرص على تطوير جيشه ودولته، وفي مجال تطويره صلى الله عليه و آله و سلم للجيش فلنتأمل المقارنة بين جيش معركة بدر الكبرى، حيث كلهم مشاة وكثير منهم بلا دروع وبين جيش فتح مكة حيث كانت كتيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والأنصار كلهم فرسان ولايرى منهم إلا عيونهم من دروع الحديد التي غطت أجسامهم، وغير هذا كثير مثل استخدامه المنجنيق وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول من أدخله الجزيرة العربية.

ويكفي في هذا المجال أن علماء الإسلام قديما وحديثا اتفقوا على أن القيام بالواجب منوط بالإستطاعة وأن العاجز يسقط عنه الواجب، ولاشك أن الذي عليه تحديد مقياس الاستطاعة هو الاستراتيجي المدرك لأبعاد وطبيعة موازين القوى، وليس العوام ولا القادة الذين تنحصر قدراتهم الادارية أو السياسية أو العسكرية في المستوى التكتيكي.

وعلى الجانب الآخر نجد الإفراط والمبالغة في تصور طبيعة الميزان الاستراتيجي، ومن ثم الانبطاح إزاءه بحجة (ايش نعمل في ظرف كهذا.. كل الظروف والقوى ضدنا أو كانت ضدنا…الخ) و هنا دائما يحضرني واقع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد 13 عاما صبرا ودعوة في مكة وليس معه الا نحو 154 مؤمنا، و يهاجر للمدينة و يؤسس دولته هناك، فما كان الميزان الاستراتيجي حينئذ في الجزيرة العربية؟ وكيف كان وضع النبي صلى الله عليه و اله و سلم و صحبه؟ وكيف كان وضع مكة و قريش في هذا الميزان؟!…
ثم يحضرني حال الصديق أبي بكر عندما ارتد العرب و لم يعد مسلما معه سوى مكة والمدينة والطائف بينما كل الجزيرة العربية ضده هم والفرس والروم.. فكيف كان الميزان الاستراتيجي بينه و بين كل هؤلاء حينئذ؟! و هل انبطح أبو بكر أو لانت قناته بدعوى (ما فيش غير كده) او بدعوى (كل القوى ضدي و انا وحدي انا و الصحابة)؟!

قصف ثورة الشعب السوري

دعوة للتفكر في حال المسلمين اليوم

يتعطش المسلمون للانتصارات والبطولات، وذلك منذ الهزيمة المريعة التى أوقعتها دول أوربا بالعالم الإسلامى فى العصر الحديث، خاصة منذ القرن 19 الميلاد وحتى الآن، وهذا أدى لأزمة خطيرة، وهى أن أنواعا من متهورين وانتهازيين ومتاجرين بقضايا الإسلام والمسلمين ومتصدرين للقيادة بغير كفاءة ولا استحقاق استغلوا هذا التعطش لتحقيق رغباتهم الشخصية، وذلك عبر ركوب واستغلال مشاعر المسلمين وخداعهم بانتصارات أحيانًا وقتية قصيرة العمر، وفى أغلب الأحيان هى وهمية أو افتراضية ولا تمت للواقع الحقيقى بصلة.

لقد كان من الممكن أن تمثل دعوات الانضباط بالفقه، وبفقه السياسة الشرعية، والتعقل فى إدراك الواقع العملى طريقا بديلا يلوذ به المخلصون والصادقون، ذوو الاتزان النفسى من المسلمين، إلا أن الأمة الإسلامية كما ابتليت بالمتهورين والانتهازيين ومحبى الرياسة من غير الأكفاء، فقد ابتليت أيضا برموز متخاذلة أشربت قلوبها الجبن وحب الدنيا، استخدمت دعوات التعقل والتفكر التفقه والحكمة كستار لجبنها وتخاذلها وتعلقها بأهداب الدنيا، وهو أمر شوه وشوش الأمر فى عقول عامة المخلصين والصادقين من شباب الأمة، فصار بينهم وبين دعوات التعقل والتفقه والحكمة حاجز نفسى لارتباطها فى أذهانهم بالتخاذل والجبن، وانطلقوا يتسابقون على الهلكة تحت رايات الانتصارات الوهمية أو المؤقتة، أو حتى الافتراضية.
ولكن على كل حال فإنه لا سبيل صحيح إلا سبيل النبى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وهو سبيل كتبنا عنه مرارًا سابقًا، وسنستمر فى الكتابة عنه، إن شاء الله.

قال رسول الله صلى الله عليه و اله وسلم “انما العلم بالتعلم و الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتوق الشر يوقه” (حديث حسن) و قال تعالى “و لقد يسرنا القرآن الذكر فهل من مدكر “.. و قال تعالى “و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا”.

اعتصام رابعة - صورة أرشيفية

مستقبل الصراع السياسي و العسكري في المنطقة العربية و أفريقيا و أفغانستان (2 من 5)

ذكرنا في الحلقة الأولى أننا نسعى للإجابة عن سؤال: ما هو مستقبل الصراع السياسي والعسكري في المنطقة العربية و أفريقيا و أفغانستان ؟

وقلنا أنه كي نتمكن من الاجابة على هذا السؤال فلابد أولاً أن نعيد توصيف هذه القوى وأهدافها لنعبرعنها بجوهر وصفها بدلاً من الوقوف عند حد توصيفها بأسمائها فقط، وشرحنا في الحلقة الأولى توصيف كل من المشروع التركي ومشاريع الجهاد العالمي والجهاد المحلي وتنظيم الدولة الاسلامية ونواصل في هذه الحلقة توصيف بقية المشاريع بالمنطقة على النحو التالي:

  • المشروع السعودي :

السعودية ترجع تركيبة نظامها السياسي أنه تحالف بين الوهابية وقيادة آل سعود كقيادة سياسية ثم حدث الصدام بين عبد العزيز آل سعود وجناح ما في الوهابية وهو الجناح الذي كان يريد أن يصطدم بالنظام الدولي عبر مواصلة فتوحات الدولة السعودية بالإقليم العربي مما يتصادم مع النظام الدولي الذي كانت تقوده انجلترا وفرنسا وقتها.

ورغم هذا الصدام فإن عبد العزيز لم يستغل هذا الحدث كي يقصي الحركة الاسلامية بشكل كامل لكنه أقصى فقط الجناح الذي يرغب في الصدام الدولي بينما أقر وجود ونفوذ الجناح الذي يترك الشؤون الدولية للملك ويركز على الشأن الداخلي.

ظلت السعودية كنظام حكم هي نظام حكم إسلامي يتماشى مع النظام الدولي ولا يصطدم به إلا في إطار المسموح به ولكنه نظام إسلامي سني تقليدي وليس ثورياً وتنبئنا خبرة التاريخ أنه يصعب (ولا يستحيل) على النظام السعودي التوافق مع القوى الإقليمية إذا كانت تعاند ثوابت الإسلام الكبرى فقد تعكرت الأجواء دائماً بينهم وبين قوى الحداثة اليسارية واليمينية حتى أواخر السبعينات (نماذج بورقيبة وناصر والبعث والقذافي).

وأيا كانت التفسيرات فإن النظام السعودي تأقلم مع التدين إقليميًا والعكس بالعكس ولكن كان لسان حاله أن الذنب جهة العرب مغفور لكنه تجاه ملوك الروم غير مغفور. أذكر الأثر في ذلك موجة السفاهة والحمق الأخيرة ضد كل ما هو اسلامي التي قادها وغذاها الإمارات وعلماني مصر تحالف معها عبدالله بن عبد العزيز وطاقمه الملكي وكان من الممكن أن يؤدي ذلك إلى تغير تاريخي في التوجهات السعودية إلا أنه سرعان ما عاد الملك سلمان بالدفة السعودية إلى توجهاتها المعتادة لكن الضغط الإماراتي والمصري المدعوم من الغرب (أمريكا وأوروبا) وإيران متواصل للدفع بالسعودية في اتجاه معاداة التيار الإسلامي وهو أمر يستحيل أن تسير عليه السعودية لأن البناء الاجتماعي وأغلبية هياكل القوة الاجتماعية (العائلات والقبائل) والاقتصادية (أصحاب المال) لا تقبل إقصاء كل ما هو إسلامي كما يريد غلاة العلمانية فضلاً عن أننا في زمن صعود سياسي وعسكري بالمنطقة للتيار الإسلامي وهو ما تريد أن تستفيد منه المملكة لمواجهة القوة الإيرانية الكاسحة بالمنطقة والمدعومة عسكريًا وسياسيًا من قبل روسيا والصين ومدعومة بغض طرف من أوروبا والولايات المتحدة، وقد وصل الملك سلمان وطاقمه إلى حقيقة مؤداها أنه لابد للمملكة أن تبرز أنيابها لحماية أمنها القومي.

ومن هنا فالسعودية تسعى لمواجهة النفوذ الايراني بقدراتها الذاتية وعبر التحالف مع المحور التركي القطري وكذلك التحالف مع الكثير من القوى الإسلامية خاصة الأقل خطورة مثل الإخوان المسلمون وتيار الجهاد المحلي، ولا تريد السعودية من ذلك السيطرة على المنطقة (بعكس إيران وتنظيم الدولة والقاعدة) وإنما يكفيها تأمين مناطق أمنها القومي التقليدية مثل الخليج وجنوب الجزيرة العربية (اليمن وبحر العرب وباب المندب) والبحر الأحمر والشام وجنوب العراق عبر وجود قوى صديقة مسيطرة على هذه المناطق وبعيدة عن نفوذ ايران.

  • مشروع الإخوان المسلمين :

وجوهره الإرتقاء بدوله اقتصاديًا واجتماعيًا مع تطبيق تدريجي على مدى بعيد للغاية للشريعة الإسلامية في الحكم بما لا يغضب النظام الدولي وقواه المتحكمة فيه ولا يسبب صدامًا معها (خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) وهم يفترقون مع أردوغان من حيث أنه يشد أحيانًا ويرخي أحياناً أخرى مع النظام  الدولي (بما في ذلك مع أمريكا والاتحاد الأوروبي وإسرائيل) لأنهم مهادنين دائمًا للنظام الدولي.

كما أن محور الإخوان المسلمون يختلف مع التيار الجهادي الدولي وداعش حيث تقوم استراتيجياتهما الدولية والإقليمية على الصدام مع النظام الدولي والإقليمي.

ويختلف الإخوان المسلمون مع التيار الجهادي المحلي لأنه يقوم على مخالفة النظامين الإقليمي والدولي لإيمانه أنهما لا يخدمانه ولا يسمحان له بالعمل وإن كان يبتعد قدر إمكانه عن الصدام معهما إلا إذا فرض عليه الصدام فهو حينئذ لا يتردد في الصدام معهما بينما يتهرب الإخوان من أي صدام كهذا بل ويتبرئون منه فضلاً عن كون تيار الإخوان لا يظهر أي خلاف مع النظامين الإقليمي والدولي بل ويسعى دائمًا للاندماج فيهما، كما أن تيار الإخوان يعمل وفق الآليات التي يتيحها النظام الدولي والإقليمي له للعمل ولا يتخطاها ورغم أن معارضة هذا التيار لانقلاب السيسي تخرج عن هذه القاعدة وكانت سابقة هي الأولى من نوعها لتيار الإخوان وكان من الممكن أن تؤسس لتطور جديد لدى جماعة الاخوان (وبلغت المعارضة ذروتها في اعتصام رابعة العدوية وميدان النهضة) إلا أن هذه المعارضة لم تأخذ مداها في التكتيكات الاحتجاجية لتكون كافية لتحقيق نتيجة مهمة أو على الاقل التأسيس لتطور ما جديد في سياسات الإخوان المسلمون.. لذلك ليس لمعارضتهم للسيسي تأثير في تغير قواعد التحرك لدى الجماعة حتى الآن بل هم في معارضته يتوسلون بالنظم الإقليمية والدولية لإزاحته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ونواصل التحليل في الحلقة التالية غدًا إن شاء الله.

و إقرأ الحلقة الأولى هنا.

و إقرأ الحلقة الثالثة هنا.

و إقرأ الحلقة الرابعة هنا.

و إقرأالحلقة الخامسة و الأخيرة هنا

الحرب في سوريا - صوررة أرشيفية

مستقبل الصراع السياسي و العسكري في المنطقة العربية و أفريقيا و أفغانستان (1من 5)

الكل يراقب و يترقب محاولا معرفة الاجابة عن سؤال: ما هو مستقبل الصراع السياسي و العسكري في المنطقة العربية و أفريقيا و أفغانستان؟..
و تأتي أهمية إجابة هذا السؤال من أن إجابته ستحدد مصائر ليس فقط  المنطقة و شعوبها و أفرادها فردا فردا بل و ستحدد مصير و شكل العالم و النظام الدولي كله.
لقد كتبنا سابقا هنا في ديسمبر 2014  عن “خريطة الصراع السياسي في المنطقة العربية الآن” و شرحنا أهداف أغلب القوى المتصارعة، و وعدنا بشرح أهداف بقية القوى في حلقة تالية و لكن قعد بنا ضيق الوقت عن الاكمال، كما أن بعض الأمور تغيرت بموت ملك السعودية عبد الله بن عبد العزيز و تولي الملك سليمان و فريقه للحكم بالمملكة، و إجراءه بعض التغيرات في تحالفات وسياسات المملكة، و موضوعنا اليوم ليس هو التكملة التي وعدنا بها و لكنه موضوع آخر و ان حمل في طياته – ضمن ما يحمل- التكملة.  
و ذكرنا في المقال السابق المذكور أن هناك احتدام للصراع بين عدة مشاريع للسيطرة بالمنطقة هي:
 
-المشروع التركي بقيادة أردوغان.
 
-المشروع الإيراني.
 
-المشروع الأمريكي.
 
-حلفاء المشروع الأمريكي و هم مصر و الأردن و دول الخليج العربي.
 
-مشروع شبكة القاعدة و التي تغيرت أسماء منظماتها الى جبهة النصرة في سوريا و أنصار الشريعة باليمن و ليبيا و تونس.
 
-مشروع داعش في المنطقة خاصة في سوريا و العراق.
 
-مشروع الاخوان المسلمون في مصر و تونس و اليمن و سوريا.
 
-مشاريع جهادية إسلامية محلية في سوريا (كأحرار الشام كمثال) و ليبيا (كفجر ليبيا و نحوها كمثال) و في أفغانستان حركة طالبان كمثال .

 
و لكن طرأ تغير الآن حيث بلور الملك سلمان و فريقه مشروعا سعوديا في المنطقة بالتحالف مع عدد من الحلفاء أبرزهم دول الخليج (عدا عُمان و الامارات) بالإضافة للمغرب و السودان و غيرهما.  
و كي نفهم مستقبل هذا الصراع لابد أن نعيد توصيف هذه القوى و أهدافها لنعبر عنها بجوهر وصفها بدلا من الوقوف عند حد توصيفها بأسمائها فقط و حينئذ سنجد هذه القوى هي:
 
-المشروع التركي بقيادة أردوغان
 
 و جوهره الارتقاء بتركيا لتصير قوة عظمى دوليا (هي الآن قوة عظمى اقليمية فقط) بجانب معارضة و افشال أو على الأقل حصار المشروعين الايراني و الاسرائيلي، و يتوسل لذلك بعدة وسائل هي:
-تنمية تركيا اقتصاديا لأقصى حد يمكنه تحقيقه و ذلك لحيازة القوة الشاملة كدولة و للحصول على تأييد الشعب التركي داخليا لحزب أردوغان بما يتيح له اطلاق يده في العمل السياسي و الاقتصادي داخليا و خارجيا.
-اكتساب التأييد الأمريكي و الأوروبي لخطواته الاقليمية و الدولية و يتوسل لهذا بحيل شتى آخرها محاربة ارهاب داعش.
-اقامة شراكات و تحالفات اقليمية مهمة تساعده على تحقيق سياسته الاقليمية و الدولية مثل تحالفه مع قطر و حماس و أكراد العراق و اخيرا السعودية.
-الحفاظ على شعرة معاوية مع أغلب غرمائه مثل علاقاته مع إيران و علاقته السرية مع إسرائيل و هدنته لسنتين متصلتين مع تنظيم العمال الكردي.
و يوثق أردوغان علاقاته بالقوى التي تناهض المشروعين الأمريكي و الإيراني بالمنطقة و يساندها لكنه يلعب في الملعب المأمون له فقط (بحسب ما استخلصته من المعلومات المعلنة) فيصعب أن يجازف بما يثبت علاقة له أو مساندة لقوى مصنفة أنها إرهابية بشكل قاطع لدى أميركا و أوروبا (باستثناء مساندته القوية العلنية و الخفية لحماس) و لكنه قوي و أداءه السياسي قوي فربما يغض الطرف عن دعم لهذا أو ذاك بشكل يصعب على خصومه إثباته عليه.
 
-المشروع الجهادي العالمي
 
تيار الجهاد العالمي متمثل في منظمة القاعدة و فروعها ، و قد مر بثلاثة أطوار و آخرها هو طور رأت فيه الفروع المحلية لشبكة القاعدة أن ضغوط الواقع و مقتضياته (من حيث زيادة أعداد أعضائها في بقاع جغرافية محددة و حاجة هذا العدد لحيز جغرافي يأمن فيه على نفسه و أسرته و يخزن فيه معداته و يستقبل فيه الوافدين و المتعاطفين الجدد و لا يمكن أن يتأتى له ذلك في بيت أو مزرعة فقط كما كان الحال سابقا) تجعله محتاجا الى التحيز جغرافيا لبقعة من الأرض يحميها و يتحصن بها و تكون معروفة ليلوذ بها داعموه و من هنا نشأت امارات تابعة للقاعدة بعضها معلن و بعضها غير معلن مثلما حدث في العراق أيام أبو أيوب المصري و أبو حمزة المهاجر و في اليمن و الصومال و مالي و غيرها.
و من هنا تظهر استراتيجية التنظيمات التابعة للقاعدة في الصراع الحالي
و هو سعيها لتكوين دولة اسلامية في مكان ما في المنطقة العربية أو أفريقيا كي تتمكن أن تأمن على نفسها فيها و تحقق النموذج الاسلامي في الحكم الذي طال انتظاره منذ بداية حربهم مع أمريكا (بداية من الصومال في بداية التسعينات من القرن العشرين و حتى الآن) ، و رغم أن مثل هذه الدولة قد تكون قاعدة و منطلقا لمواصلة الحرب ضد الولايات المتحدة الا أنها قد تلين موقفها من الولايات المتحدة كما فعلت النصرة مؤخرا أو قد تهدئ من اطلاق الهجمات كما هو الحال في الصحراء الأفريقية و الصومال و اليمن مؤخرا و غيرها.
و هكذا بات الهدف العملي و الأقرب للتطبيق في الصراع الدائر بالمنطقة بالنسبة لفروع القاعدة هو إقامة الدولة الاسلامية في بقعة جغرافية ما كلما أمكن و سوف يستمرون في الحرب حتى يتحقق لهم ذلك.
 
-مشروع تنظيم الدولة
 
نشأ تنظيم الدولة عبر الاستقلال عن القاعدة و هذا الاستقلال و ما واكبه من تغير فكري له أسبابه و طبيعته و ليس هنا مناسبة تفصيله و لكن على كل حال فتنظيم الدولة خرج من عباءة القاعدة بعد طورها الأخير و هو طور اقامة الدولة لكن تنظيم الدولة أخذ يعطي اقامة الدولة زخما إعلاميا كبيرا كي يلعب على وتر المشاعر الجياشة للمسلمين الذين يعانون من الظلم و الاستضعاف أو الاغتراب و يتشوقون لدولة تجسد مبادئهم يعيشون في ظلها آمنين، و من هنا فتنظيم الدولة قاتل و يقاتل للحفاظ على صورته كدولة لأنه جعلها مبرر وجوده و مصدر شرعيته و أعلن أن أمير التنظيم هو خليفة المسلمين.
 
-المشروع الجهادي المحلي
 
هو تيار اسلامي جهادي رأى أن من الصعب الدخول في حرب مع النظامين الاقليمي و الدولي بجانب حربه مع النظام المحلي الحاكم و لذلك فهو لا يعلن مشروعا أو أهدافا لا اقليمية و لا دولية و إنما يركز على أهداف و مشروع محلي قائم على اقامة حكم إسلامي محلي داخل دولته مستخدما الجهاد المسلح لتحقيق مشروعه و قد رأينا تبلور هذا الاتجاه في عدد من المنظمات المهمة بكل من سوريا و ليبيا و أفغانستان و غيرها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

و نواصل التحليل في الحلقة التالية غدا إن شاء الله.

إقرأ الحلقة الثانية هنا

و إقرأ الحلقة الثالثة هنا

و إقرأ الحلقة الرابعة هنا

و إقرأ الحلقة الخامسة و الأخيرة هنا

الحرب في سوريا - صورة أرشيفية

التقليد هو الأوجب الآن قبل الهجرة الى ساحات الجهاد

نشر العلم مع تقليد الأكفاء الثقات كلا في تخصصه في الأمور الدقيقة التي يصعب فهمها هو الحل و الأوجب الآن للقضاء على فتن الغلو و الانحلال و الكفر و محاربة الدين جميعا، بمعنى أن نمتنع عن الهجرة الفردية للساحات المنتشرة الآن، و يبحث كل أهل بلد أو مدينة عن من يعرفونه من أهل الدين و الصلاح و العلم و الثقة في بلدهم أو مدينتهم فيقلدونه في مجال تخصصه في الأمور التي يصعب عليهم فهمها ، لأن كل أهل مدينة يصعب عليهم الانخداع بأي من مواطنيهم لطول المعايشة و معرفة تاريخ و سلوك بعضهم البعض، و لعل مما يلمح لتأييد هذه الفكرة قول جعفر بن أبي طالب رضى الله عنه للنجاشي : “جعفر بن أبي طالب فقال له : أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار يأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله” ..الخ الحديث (رواه أحمد و صحح أحمد شاكر و الألباني سنده)  و الشاهد فيه قوله ” منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه”.

أما الهجرة للساحات الآن فرديا فتفتح باب الافتتان لأن الشخص يدخل على من لا يعرفهم و يتوجب عليه أن يسمع لهم و يطيع في أمور يصعب عليه هو نفسه تقييمها و تقديرها لقلة العلم العميق بين المسلمين في هذا الزمان في مجالات الفقه و السياسة الشرعية و الاستراتيجية و الاقتصاد و الادارة العامة فضلا عن العلم بالواقع الجديد الذي انتقل اليه و جغرافيته السياسية و العسكرية و الاسلامية، إن اكتساب العلم في هذه الأشياء بدرجة عميقة و راسخة قد يأخذ من 3 سنوات الى 10 في التخصص الواحد اذا توافرت المناهج و المراجع و المعلمين، فالحل العاجل هو تقليد من هو معروف و موثوق في علمه و صلاحه و هذه الموثوقية يعرفها كل أهل بلد عن بعضهم البعض.

استخدام عالمية العمل الإسلامي بشكل فردي الآن تتيح لأهل الجهل و الغلو أن يقودوا الشباب الى المهالك و يستنزفوا موارد الأمة البشرية و الاقتصادية ليس فقط في عبث بل و في تمزيق الأمة نفسها و نشر الفتن فيها، فينبغي أن تكون “عالمية العمل الإسلامي” الآن عملية لها معايير و ضوابط محددة و محدودة الى أن تنصلح الأمور و يصير للمسلمين مرجعية عالمية متفق عليها و لا يختلف عليها أي من أهل الصلاح.

و بجانب هذا يجب نشر العلم بين الشباب و بين جميع الناس لأنه من المؤسف أن أبجديات الاسلام في الفقه و العقيدة شبه منعدمة الآن فضلا عن انعدام العلم في أدوات التفكير العلمي الاسلامي المتمثل في أصول الفقه و القواعد الفقهية و علوم الحديث… و هذا بين نشطاء الاسلاميين و الحركيين المهتمين منهم (الا من رحم الله) فما بالنا بغير ذلك.

هامش

تعريف التقليد لدى علماء أصول الفقه هو : اتباع قول الغير بغير حجة ، و انما قالوا به لأن العوام أو من هم من غير أهل العلم يصعب أو أحيانا يستحيل عليهم فهم الدليل أو فهم دلالته على الحكم ، و رغم اختلاف العلماء سلفا و خلفا على حكم التقليد بين من يجيزه و من يحرمه و من يوجبه إلا أنهم أجمعوا على أشياء فيه منها تقليد المستفتي للمفتي في حادثة نزلت به ، و منها من تحقق عجزه عن إدراك دلالة الدليل على الحكم فإنه يقلد المجتهد فيه و حتى من حرموا التقليد كالشوكاني اتفقوا على جواز التقليد في هذه الحالة ، و نحن نرى أن التقليد الذي اعتبرناه حلا الآن هو من هذا النوع الآخير.

القلعة صورة ارشيفية

لماذا ينهزم المسلمون ؟ و كيف ينتصرون ؟ (2-2)

كتب- عبد المنعم منيب

كانت الحلقة الأولى من هذا المقال بمثابة توطئة و مقدمات كي نتوصل بها للاجابة عن السؤال الأساسي لهذا المقال و هو:
لماذا ينهزم المسلمون الآن ولايحققون النصر الذي حققه أسلافهم العظام؟
و كي نجيب على هذا السؤال لابد أن نفككه أولا..
وأهم تفكيك في البداية هو أن نعرف أن الصراع الحالي الذي ينهزم فيه المسلمون هو صراع سياسي بالأساس ، لأن الصراعات العسكرية وكل مايتعلق بالإستراتيجية العليا و الإستراتيجية الشاملة فإن الصواب فيها أن يديرها ويقودها القائد السياسي الاستراتيجي لا العسكري وحده أو الدعوي وحده..
إذا فهزائمنا يقف خلفها عجز أو إخفاق لقادتنا السياسيين فلماذا يخفق سياسيونا في إحراز النصر و يفشلون حتى الآن؟
دعونا نرجع للوراء.. نرجع للتاريخ فنأخذ منه زادا يعيننا على فهم مشكلتنا الحالية.. فإذا فهمنا المشكلة بحقيقتها فسوف نتمكن من معرفة حلها الصحيح.

دور العرب في عصر الخلفاء الراشدين وحتى نهاية الدولة الأموية


في البداية شارك العرب في حكم الدولة العربية الإسلامية منذ حكم الخلفاء الراشدين وحتى نهاية الدولة الأموية (132هـ) وحينئذ كان العرب هم أغلبية المواطنين المسلمين في الدولة وعندما أراد العباسيون الإطاحة بالأمويين استعانوا بعدد ضخم من الفرس حديثي العهد بالإسلام كي يمكنهم ضرب الأمويين وركيزتهم الاجتماعية وهي العرب، ومن هنا صار كثير من القادة و الوزراء هم من الفرس وإن قاسمهم عدد من العرب العديد من المناصب ومع مرور وقت قصير انفرد الفرس بالمناصب خاصة بعد انتصار الخليفة المأمون بن هارون الرشيد بقواته وقادته الفرس على أخيه الأمين الذي كانت قواته وقادتها من العرب (198هـ)، وبعد سنوات قليلة ضاق الخلفاء العباسيون بطموحات ومؤامرات الفرس فأقصوهم عن الحكم والجيش والسياسة وأحلوا محلهم عسكريين محترفين أشبه بالمرتزقة، و هم عجم (من الأتراك غالبا) حديثو عهد بالإسلام من قبائل على أطراف الدولة والهدف هو ألا يكونوا ذوي طموحات للاستيلاء على الحكم أو الاستئثار به أو المشاركة في المؤامرات السياسية ضد الخليفة ، لكن بعد فترة قصيرة انغمس هؤلاء الغرباء في المؤامرات حتى حجروا على الخليفة العباسي نفسه و صار يملك ولا يحكم لكن الملاحظة المهمة هي أن هؤلاء الحكام الجدد صاروا نخبة منعزلة عن مجتمع المواطنين فهم من عرق غريب ويعيشون في طبقة اجتماعية مختلفة ولاعمل لهم سوى الحكم والسياسة والحرب وتعاقبت الحقب من أول أتراك حكموا منذ عهد المعتصم (تولى الخلافة سنة218 هـ – 833 م) ، وحتى المماليك الذين أقرهم العثمانيون في الحكم في مصر و الشام حتى الحملة الفرنسية بالقرن الـ 19 الميلادي، وأيا كانت أجناسهم “ترك أو أكراد أو شركس أو صقالبة أو فرس أو غيرهم” فهم نخبة منعزلة عن المجتمع و إرتضي الشعب لها أن تختص هي بالحكم والسياسة و الحرب والإستراتيجية الشاملة و نجد إقرارا من العلماء بهذا، و نجد أن احتجاجات الشعب عليهم اتسمت بالمطلبية في معظمها كالإضرابات أوالمظاهرات أوبيانات الاحتجاج على المظالم و كانت شكاوى الاحتجاج تقدم للنخبة الحاكمة على لسان العلماء وبذا انقسم المجتمع والدولة إلى مواطنين مدنين لايحملون سلاحا ولايمتطون خيلا ولايشاركون في لعبة الحكم و السياسة ولايعلمون شيئا عن خباياها و قواعدها بينما القسم الأخر هم الحكام أرباب السيف والحكم وحرص أرباب الحكم على عزل المواطنين بل و الخلفاء العباسيين أنفسهم عن السيف والحكم والسياسة فلا دخل لهم بها ومنعوهم من تعلم قواعد الحرب و الفروسية وحمل السلاح ليأمنوا بعدم قدرتهم على التدخل في شئون الحكم.

الخلافة العثمانية استلمت الراية
وظل الوضع هكذا حتى بعد استلام العثمانيين للخلافة من العباسيين مع الفارق أن الخليفة العثماني هو الذي تولي الحكم بدلا من السلطان التركي او الكردي او الشركسي و استمر في عزل الشعب وقادته الذين هم علماء الدين عن السياسة و الحرب ، و استمر في منعهم من المشاركة في الحكم أو حمل السلاح مع استعانته بنخبة العسكر القديمة من المماليك ومن شابههم في مختلف الولايات العربية الأخرى.
ويوضح هذا الموقف بشكل جلي واقعة حدثت مع نابليون بونابرت في مصر، إذ دخل عليه العلامة الأزهري الشيخ محمد السادات فكلمه برهة ثم خرج، فقال بونابرت لرفيقه الجنرال كليبر: “الشيخ السادات هذا هو زعيم الثوار المصريين”.
فقال له كليبر: “و لماذا تتركه اقبض عليه وأعدمه فورا”.
فرد عليه نابليون قائلا : “لا.. أنا أفضل أن يكون خصمي هو شيخ بعمامة كهذا بدلا من أن يكون زعيمهم يركب حصانا و يحمل سيفا مثل مراد بك”.
ومن هنا نفهم كيف أن الشعب صار لايفهم من لعبة الحكم و السياسة سوى الاحتجاجات المطلبية والتوسل للحاكم القائم لتقليل المظالم فان استجاب لهم فبها ونعمة وإن رفض فلا حيلة لهم، لأنهم لايفهمون بقية خبايا لعبة الحكم و السياسة لا المحلية و لا الإقليمية و لا الدولية.
و عندما جاء محمد على لحكم مصر حرص على استمرار عزل غالبية الشعب عن الحكم و الجيش ، وعندما اضطر لإدخال المواطنين المصريين للجيش لحاجته لتكبيره و عدم قدرته على استيراد مماليك جدد فان هؤلاء المصريين هم من فجروا ثورة عرابي ضد أبناء محمد على و هنا تسلم الاحتلال الانجليزي الحكم ليتولى الانجليز المحتلون عزل الشعب مرة أخرى عن الحكم والجيش، و لكن الانجليز كان لعزلهم الشعب هدف آخر غير مجرد السيطرة على الحكم، إذ كانت سيطرتهم المرجوة سيطرة بأهداف جديدة و هذه الأهداف عمل عليها الاحتلال الغربي في كل الأقطار الإسلامية التي احتلها ، و هي خلق شريحة إجتماعية جديدة هي من أهل البلد و تنتمي شكلا الى الثقافة السائدة في البلد و هي الثقافة الاسلامية و لكنها في حقيقة الأمر تربت على الفكر الأوروبي و دانت لمفاهيمه و طريقته في التفكير و اعتنقت مواقفه من العقيدة و التاريخ العربي و الاسلامي ، فهذه الشريحة الاجتماعية التي أعدها الاحتلال لتولي مناصب الحكم و السياسية و ما يتبعه من أجهزة مسيطرة في الفن و الثقافة و الأمن و التعليم و الاعلام هي أبناء البلاد العربية و الاسلامية لكنها تربت على المناهج الأوروبية في الفكر و العلم فصارت تفكر كالأوروبي و تتخذ مواقفها وفقا للمعايير الأوروبية في الفكر و الفن و الأمن و الثقافة و التعليم، و من هنا أصبح القادة و الساسة و المفكرون يأتون من هذه الشريحة الاجتماعية الجديدة التي صارت هي النخبة و يحكمون بالمعايير الأوروبية و كأن الاحتلال الأوروبي لم يخرج من عالمنا الاسلامي بينما مظهرهم و شكلهم و أسماؤهم هي أشكال و أسماء محلية ، ثم جاءت الصحوة الاسلامية و كشفت هذا التغير الفكري و الاجتماعي في كتابات و محاضرات عديدة تحت عنوان الغزو الفكري.

مناهج الصحوة للعمل السياسي و الاجتماعي


و خطت الصحوة لنفسها مناهج للعمل السياسي و الاجتماعي من منطلق خبراتها الذاتية التي كانت و مازالت معزولة عن تجربة الحكم و السياسة فجاءت مناهج الصحوة ضعيفة للغاية في مجالات السياسة و الاستراتيجية و من هنا عجز قادة الصحوة عن الارتفاع الى مستوى التحديات السياسية و الاستراتيجية التي تواجهها الأمة الاسلامية و صاروا يقارعون هذه التحديات بمستوى ضحل و كأن حامل عصا يتصدى بها لطائرة شبحية من طائرات الجيل الخامس ، فكل قادة الصحوة يتغنون بانجازات نور الدين محمود و صلاح الدين الأيوبي بينما لا أحد منهم يتأسى بنور الدين و صلاح الدين فيكتسب خبرات السياسة و الحكم و الاستراتيجية التي قد تمكنهم من ابتداع استراتيجة شاملة مناسبة تتيح للأمة الإنتصار على التحديات الراهنة.
و الخلاصة أننا معزولون عن خبرات الحكم و السياسة و الاستراتيجية و ممنوعون عن ممارستها منذ القرن الثالث الهجري و حتى الآن (القرن الخامس عشر هجريا) ثم مع هذا وضعنا مناهج للتغيير الاسلامي من منطلق خبراتنا الذاتية القاصرة في العديد من جوانبها و نتمسك بهذه المناهج بكل جمود و تعصب ، فصرنا بين قيدين:
قيد عزلنا تاريخيا عن خبرات السياسة و الحكم و الاستراتيجية
و قيد مناهج بشرية قاصرة في التغيير الاسلامي و الحركة الدعوية قيدنا بها أنفسنا و اعتبرنا الجمود عليها هو ثبات على المبادئ.
و لا حل لنا الا باكتساب خبرات معاصرة في السياسة و الحكم و الإستراتيجية بشكل عميق و في إطار التزام كامل بالكتاب و صحيح السنة و فقه السلف الصالح لنرتكز على ذلك كله في مواجهة التحديات المعاصرة التي توقع بنا الهزيمة في كل موطن.

اقرأ الحلقة الأولى هنا..

لماذا ينهزم المسلمون

لماذا ينهزم المسلمون ؟ و كيف ينتصرون ؟ (1-2)

من أعظم آفات التفكير في ظواهر الواقع ومشكلاته: آفة الذاتية، وعكسها تمامًا سمة (الموضوعية) ومعناها دراسة موضوع الظاهرة كما هو حقيقة، والتفكر في منطق الظاهرة الذي تختص به دون أي إسقاطات شخصية من الباحث.

وهذه الآفة الفكرية هي من أعظم ما ابتلينا به في العمل الإسلامي المعاصر، حيث نصف أي ظاهرة سياسية أو استراتيجية أو اجتماعية أو اقتصادية وفقًا لتخيلاتنا الشخصية أو الحزبية لها، وليس وفق ما هي عليه حقيقة في الواقع، وينعكس هذا سلبًا على بحثنا عن الطرق المناسبة للتعامل مع هذه الظاهرة.

وتغلغلت هذه الآفة الفكرية لتصل لدراستنا للتاريخ فصار البعض يفسرون ويفهمون أحداث التاريخ وفقًا لتوجهاتهم الشخصية أو الحزبية.

كيف انتصر (صلاح الدين الأيوبي) على الصليبيين

ومن هذا مثلاً ما فعله كاتب مشهور عندما ألف كتابًا أراد به أن يشرح كيف انتصر (صلاح الدين الأيوبي) على الصليبيين وحرر القدس، ملوحًا برؤيته الشخصية أو الحزبية لكيفية ظهور قائد معاصر كصلاح الدين الأيوبي كي يحرر القدس من جديد كما حررها صلاح الدين من قبل، فهو في هذا الكتاب زعم أن هناك صحوة إسلامية دعوية روحية قام بها متصوفون وعلماء أدت لظهور ما أسماه هو “جيل صلاح الدين”.

والحقيقة أن هذا لم يكن واقع الأمر بالنسبة لظهور صلاح الدين وانتصاره على الصليبيين وتحريره للقدس، لكن الكاتب أراد تصويره هكذا ليمهد أو ليروج لنظرية جماعته عن كيفية التمكين للصحوة الإسلامية المعاصرة وعودتها للقيادة من جديد، ومن ثم الانتصار على الصهاينة وكل الأعداء وتحرير القدس.

المعرفة الاستراتيجية الواعية ضرورية لفهم الأحداث

ما حدث أيام الهجمة الصليبية على قلب العالم الإسلامي بالشام (ثم مصر) وقبلها بقليل لا بد أن نقرأه بموضوعية مع خلفية من المعرفة الاستراتيجية الراقية والواعية لنفهم ماذا حدث، وسنجد أن الخلل لم يكن لا حضاري ولا أخلاقي، فالمسلمون كانوا أكثر تقدمًا حضاريًا واقتصاديًا وفكريًا وعلميًا وأخلاقيًا من الصليبيين، وهذا بلا خلاف بين المؤرخين المعاصرين للحدث -بل ومن تلاهم من المؤرخين غير الحزبيين- سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، إذًا فلماذا انهزم المسلمون في البداية واحتل الصليبيون الشام بل وهيمنوا على مصر ومعظم المشرق العربي لفترة ما؟!

السبب كان خللاً أمنيًا -بالمعنى الشامل لمفهوم الأمن الدولي والإقليمي والمحلي- نتج عنه خلل استراتيجي أو فراغ استراتيجي في الشام، بل في المشرق العربي كله، وهو تفرق وتشرذم المسلمين إلى إمارات صغيرة متنازعة عسكريًا رغم وفرة موارد المسلمين الاقتصادية والعسكرية، وتزامن ذلك مع انهيار سياسي في الإمبراطورية الفاطمية أنتج ضعفًا عسكريًا، رغم أنها كانت قوة كبيرة موحدة في المشرق تضم مصر واليمن والحجاز وجزء كبير من الشام، ولديها موارد اقتصادية وعسكرية ضخمة..

عماد الدين زنكي وبداية المقاومة والتحرير

ولذلك من يقرأ تفاصيل المعارك بين المسلمين والصليبيين منذ بدئها وحتى بداية استراتيجية التحرير التي أسسها وقادها عماد الدين زنكي -وتابعها ابنه نور الدين محمود وتلميذه صلاح الدين الأيوبي- يجد أن جيش الصليبيين في كثير من المعارك لم يتجاوز بضع مئات، بل أحيانًا كان من مائة إلى خمسمائة مقاتل فقط، ويهزم مسلمين ويحتل إمارات أو ولايات إسلامية، بينما كان المسلمون قادرون على حشد عشرات الآلاف من الجنود بمعدات عسكرية متطورة، لكنهم كانوا سرعان ما يتفرقون قبل دخول المعركة! بسبب خلافات الأمراء والتنافس بينهم وبين بعضهم البعض.

من يقرأ أحداث التاريخ الإسلامي قبيل قدوم الصليبيين للمنطقة سيجد كل يوم حروب بين أمراء الولايات الإسلامية المختلفة، ونزاعات ساخنة بسبب تصارعهم على السيطرة على هذه الجهة أو تلك، وتحصيل مواردها المالية لصالح المنتصر، فهناك وفرة اقتصادية وتقدم علمي وصناعي، ولكن! هناك فرقة وتنازع سياسي لم يضعف قدرتهم العسكرية بل فرق هذه القدرة، بحيث جاء الصليبيون لينفردوا بكل منهم على حدة، ويلتهمون أرضه أو نفوذه الواحد تلو الآخر..

بل عماد الدين زنكي نفسه الذي بدأ رحلة التحرير لو قرأنا تاريخه سنجده متورط في كل هذه النزاعات والحروب الشخصية ضد إخوانه من أمراء الولايات الإسلامية الأخرى، التي على حدوده قبل أن يتجه إلى مجابهة الصليبيين، ويضع استراتيجية التحرير التي تكللت بعد موته بتحرير صلاح الدين للقدس.

استراتيجية التحرير قامت على أمرين

إذًا فقد أدرك أحد الأمراء المتنازعين وهو (عماد الدين زنكي) أن المشكلة التي خلقت فراغًا استراتيجيًا بالمنطقة استغله الصليبيون لاحتلال الشام والهيمنة على ما حولها سياسيًا وعسكريًا ليست إلا في تفرق المسلمين، فقرر توحيد الإمارات المحيطة بمنطقة الاحتلال الصليبي ليتمكن من توجيه الموارد الموحدة لمجابهة هذا الاحتلال والقضاء عليه، فوضع لذلك استراتيجية قائمة على أمرين رئيسين:

الأول-السعي لهذا التوحيد بالسياسة والسلاح على حد سواء، مع تهيئة إمكاناته الذاتية لتحقيق هذه الوحدة بهذه الطريقة.
الثاني- التصدي المؤقت للوجود الصليبي في المنطقة عبر أمرين أيضًا:

1- شن حرب استنزاف ضدهم لإنهاكهم، لحين إنجازه للوحدة التي سيشن عبرها حرب التحرير الشاملة.
2- التصدي لمحاولات تمددهم الجغرافي أو السياسي بأعمال سياسية وعمليات عسكرية، لمنع تمددهم حتى تحين لحظة حرب التحرير الشاملة بعد إتمام الوحدة.

حرب التحرير الشاملة لن تنجح بدون توحيد كل الشام ومعها مصر

وكان هذا التصدي المؤقت ينطلق من قناعته بأن حرب التحرير الشاملة لن تنجح إلا بعد توحيد كل الشام، بالإضافة إلى مصر، حتى يشكل طوقًا كاملاً حول المستعمرات الصليبية التي انتشرت في الشام وباتت تهدد مصر نفسها، والتصدي المؤقت كان يهدف لإيقاف تعاظم قدرات الصليبيين فهو يعظم قدرة المعسكر الإسلامي عبر الوحدة مدركًا أن هذا يستلزم وقتًا ولكنه لا يريد للصليبيين أن يستفيدوا بهذا الوقت بتعظيم قدراتهم هم أيضًا، وزيادة رقعة ممتلكاتهم في المشرق الإسلامي فصار يستنزفهم ليضعف قواهم ويمنع تمددهم السياسي والعسكري.

كلام الكاتب الفاضل عن ما أسماه بجيل صلاح الدين لا يمت لما حدث فعلاً بأي صلة، بدليل بسيط جدًا وهو أن جيوش المسلمين في هذا العصر لم تكن من الشعوب الإسلامية المحكومة حتى تؤثر أخلاقياتها وتدينها على أداء الجيش، ونزول النصر عليه، فالجيوش كانت في هذا العصر مكونة من جنود محترفين يأتون من خارج المنطقة من الأكراد والأتراك ونحوهم من القبائل الحديثة عهد بالإسلام، والمحترفة للعمل العسكري، والتي كانت تعيش شبه منعزلة اجتماعيًا عن الشعب بعد مجيئها للمنطقة، فالجيوش لم تكن من الشعب كي ينعكس عليها تدين وتصوف الشعب أو عدم تدينه فتنهزم أو تنتصر.

والخلاصة: أنه كان هناك خللاً في الأمن والاستراتيجية عند حكام المسلمين قبيل الهجمة الصليبية، وعندما نجح الصليبيون في احتلال المنطقة فكر قادة مسلمون تفكيرًا استراتيجيًا سليمًا فاستجابوا للتحدي الاستراتيجي الصليبي استجابة صحيحة فانتصروا.

واليوم نعيش نكسات وهزائم إسلامية عديدة تحتاج استجابة صحيحة، فما الذي منعنا حتى الآن من تقديم هذه الاستجابة الصحيحة للتحديات المفروضة؟

إجابة هذا السؤال خصصنا لها الحلقة التالية هنا..

اسباب النصر

ما هي أسباب نصر و هزيمة المسلمين؟ رد على مقال مهم

كتبت المقال التالي تعليقا على مقال لأحد الاخوة يبرز دور القيادة و الأسباب المادية في النصر و ينتقد التعويل على اعمال البر و الطاعات و الدعاء فقط لتحصيل النصر، و هو بوست طويل جدا لا يمكنني اعادته هنا، و حفل بأمثلة تاريخية من الفتوحات و حروب الردة.. فإلى نص تعليقي عليه:
 
لقد كتبت كثيرا من قبل عن أن الأخذ بالأسباب الدنيوية هو سنة الله القدرية بشأن حركة التاريخ فبها النصر أو الهزيمة بحسب مقاييس الواقع الذي نعيشه، و انتقدت ما أسميته بالدراسة الملحمية للتاريخ الاسلامي التي تجعل النصر رهين الدعاء و اخلاص القلب فقط، و لا تلقي الضوء على أسباب النصر المادية العملية الواقعية في تاريخنا.
(أخر مقال لي عن هذا هنا)
 
و لكن رغم هذا كله فانني اخالف الكاتب في مقاله هذا في أمرين:
 
الأمر الأول- أنه أناط النصر بالقائد في جزء كبير من مقاله، وذلك رغم أن الدراسة الدقيقة في حالة خالد بن الوليد التي استشهد بها و غيرها تقول ان النصر كان بسبب استراتيجية الاقتراب غير المباشر، و هي ما استخدمها خالد دائما منذ كان كافرا (في غزوة أحد ضد المسلمين)، و استخدمها أغلب قادة الفتوحات الاسلامية بسبب أنها الأنسب لقلة عدد جيوش المسلمين، و ضعف أو قلة معداتهم.
 
كما ان نجاح محمد الفاتح في فتح القسطنطينية (الذي استدل به على فيصلية القيادة في تحقيق النصر) لم يكن لبراعة القيادة بقدر ما كان لتحصيله لتقدم تكنولوجي غير مسبوق، و غير موجود عند أحد آخر في عصره في مجال المدفعية، فضلا عن حيلة تقريب المدفعية من سور القسطنطينية.
 
و احراز النصر بسبب سبق صناعي في مجال السلاح متكرر في حروب كبرى كثيرة، مثلما نجح ليو الاسيوري في صد هجوم بحري خطير للمسلمين كاد يفتح القسطنطينية قبل محمد الفاتح بمئات السنين بسبب اختراع النار الاغريقية.
 
و الشاهد انني لا أوافق على اختزال الأمر في القائد كشخصية ستحل مشاكلنا، و إن كنت لا أنكر أهميتها في مجال الأخذ بالاسباب، لكنها ليست السبب الوحيد بل هي أحد الأسباب، فينبغي التعمق في فهم تفاصيل اسباب النصر الواقعية العملية المادية كي نعيد النسج على منوالها و نطور و نبتكر منطلقين من خبراتها.
 
اما خلافي الثاني مع المقال فهو: تقليله من التأثير السلبي لسيئات الشهوات على تحصيل النصر، فأنا أرى أن لها تأثيرا سلبيا بالغا، ليس بدليل ذكر آيات الربا قريبة من آيات أسباب هزيمة أحد في سورة ال عمران فقط، و لا فقط لمقولة عمر بن الخطاب لو استويتم مع عدوكم في الذنوب لغلبوكم لأنهم أكثر منكم عددا و عدة، و لكن أيضا لأن الكفار لهم نسق سلوكي و أخلاقي متعايش مع الشهوات و ذنوبها، فيقل تأثيرها السلبي على مجال اسبابهم الدنيوية للنصر، وذلك بعكس المسلمين، فنسق المسلمين السلوكي و الأخلاقي غير متوافق مع الشهوات و ذنوبها، فاذا انغمسوا فيها اضطربت منظومتهم السلوكية و الأخلاقية بقدر درجة ومستوى هذا الانغماس، فيضطرب انتفاعهم بالأسباب المادية للنصر، و على كل حال فالله ربط النصر و التمكين بالاستقامة الايمانية بقوله تعالى ” الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ”، فيكون الأدق أن نقول أن كلاهما مهم السبب المادي و السبب الايماني و الاخلاقي و لكن إن نقص احدهما كان هناك خلل. 
 

الصراع السياسي في منظور التحليل

خريطة الصراع السياسي في منظور التحليل الإسلامي

كتب- عبد المنعم منيب

تقسيم خريطة الصراع إلى فسطاطين هما فسطاط الكفر وفسطاط الإيمان هو تقسيم عقائدي مجمل، لكن عند إجراء تحليل وتعامل سياسي إسلامي صحيح لايمكن الارتكاز على هذا التقسيم بإجماله، لأن التحليل السياسي ومن ثم العمل السياسي يحتاجان تفصيلا لأن التحليل والعمل السياسي لا يتعاملان مع إجمال ولكن مع تفصيل.

 والتفصيل إنما يأتي بتتبع هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سيرته حيث نجد أن الكفار فيهم المطعم بن عدي بما له من نموذج في التفكير والسلوك السياسي دفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يطلب حمايته في مكة، ودفعه لأن يقول بعد بدر لو كان المطعم حيًا وسألني هؤلاء النتنى لدفعتهم له (يقصد أسري قريش في بدر).

والكفار كان فيهم أبو سفيان بن حرب الذي هرب بالقافلة، ولم يرد قتالًا فأرسل إلى أبي جهل أن قد سلمت القافلة فعودوا بالجيش.

 وفي الكفار عتبة بن ربيعة بما يمثله من نموذج للتفكير والسلوك لدي نوع من الكفار وهو أمرٌ دفعَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن يقول عنه يوم بدر: «إن يكنْ عندَ أحدٍ من القومِ خيرٌ فهو عندَ صاحبِ الجملِ الأحمرِ إن يطيعوه يَرشدوا» (صحيح/ مجمع الزوائد)، وهو من دعا قريشا في بدر لترك محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتركه وشأنه مع بقية الجزيرة العربية، وكان معه في رأيه حكيم بن حزام حينئذ قبل أن يسلم.

 وفي الكفار أيضًا أمثال أبو جهل وأبو لهب وأم جميل، وضمن الكفار أيضًا أمثال ملاعب الأسنة الذي أراد أن يؤمن رسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليبلغوا دعوة الإسلام رغم أنه كان وقتها كافرًا.

وفي فسطاط الكفار من هو مثل النجاشي قبل إسلامه حين قال عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم «مَلِكًا لا يُظلمُ عندَه أَحَدٌ» (السلسلة الصحيحة)، وفي فسطاط الكفر مثل كسرى الذي مزق رسالة النبي صلى الله عليه وآله و سلم له فدعا عليه صلى الله عليه وآله وسلم عنه حينئذ أن يمزق الله ملكه.

وفي فسطاط الكفر من هو مثل أمير اليمن من قبل كسرى الذي أرسل له كسرى ليقبض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فآمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وسلم اليمن إلى ولاية الإسلام.

معسكر الكفر من الناحية السياسية يشهد اختلافات شتى

والمحصلة أن معسكر الكفر من الناحية السياسية يشهد اختلافات شتى تبدأ من العدل وحماية الضعيف ورفع الظلم (مثل النجاشي والمطعم بن عدي وملاعب الأسنة وغيرهم)، و تمر بمن لا يرفع الظلم لكنه عاقل فيدعو لسياسة كفرية عاقلة تقلل الصدام مع الحق (مثل عتبة بن ربيعة)، ومنهم من هو قريب من الإسلام لو وجد دعوة مناسبة كوالي كسرى في اليمن، ومنهم من هو محارب بحمق وحقد وغل مثل أبي لهب وأبي جهل، ومنهم من هو محارب بروية وتمهل مثل أبي سفيان قبل أن يسلم (دعاهم في بدر للرجوع وفي الخندق لما وجد مس الضرر أمر بالرجوع).

هم معسكر واحد من حيث عقيدة الكفر لكنهم ليسوا سواء من حيث النسق والسلوك السياسي فإذا تعاملت معهم سياسيًا وفقًا لكونهم واحد في العقيدة فقد أهملت واقعهم السياسي، وهذا موجود الآن أيضًا في الواقع الكفري الراهن.

حركة التاريخ والسياسة قائمة على الصراع

الدنيا كلها دار مشقة لأنها دار للابتلاء ففي الحديث: «لما خلقَ اللهُ الجنةَ قال لجبريلَ: اذهبْ فانظرْ إليها ، فذهبَ فنظرَ إليها ثم جاء فقال: أيْ ربِّ وعزتِك لا يسمعُ بها أحدٌ إلا دخلَها، ثم حفَّها بالمكارِهِ، ثم قال: يا جبريلُ اذهبْ فانظرْ إليها، فذهبَ فنظرَ إليها، ثم جاء فقال: أيْ ربِّ وعزتِك لقد خشيتُ أن لا يدخلَها أحدٌ، قال: فلما خلقَ اللهُ النارَ قال: يا جبريلُ اذهبْ فانظرْ إليها، فذهبَ فنظرَ إليها، ثم جاء فقال: أيْ ربِّ وعزتِك لا يسمعُ بها أحدٌ فيدخلُها، فحفَّها بالشهواتِ ثم قال: يا جبريلُ اذهبْ فانظرْ إليها، فذهبَ فنظرَ إليها، ثم جاء فقال: أيْ ربِّ وعزتِك لقد خشيتُ أن لا يبقَى أحدٌ إلا دخلَها» (صحيح أبي داوود:4744). ومن ضمن هذه المشقة والابتلاء أن سنة الله في حركة التاريخ والأحداث أنها تقوم على الصراع قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251].

البعض يسطح الأمور ويعتبر أن الصراع هو بين الحق والباطل فقط، ولكن الأمر فيه تفصيل أوسع من هذا، وهذا التفصيل مهم جدًا للتحليل السياسي الإسلامي والممارسة السياسية الإسلامية المنضبطة بالشرع الحنيف وخاصة هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلفائه الراشدين، لعل أهم ما يساعدنا على فهم هذا التفصيل هو أن نفهم أن الصرع هو بين الإسلام الكامل الصحيح وبين إبليس، وهنا يأتي السؤال من يمثل الإسلام الكامل الصحيح؟

وللإجابة على هذا السؤال نجد أن ليس كل المسلمين كاملي الإيمان لأن الإيمان بحسب عقيدة أهل السنة يزيد وينقص، كما أنه قد يكون انحرافًا ما في الفكر أو العقيدة لدى مسلم لكن هذا لا يقدح في أصل إسلامه.

إذن ليس كل معسكر المسلمين ممثلًا لطرف الصراع ضد إبليس بشكل كامل وصحيح.

ثم يأتي السؤال الآخر وهو من يمثل إبليس في الصراع؟

هل لا يوجد أي أحد من الإنس يطيع إبليس وينفذ مخططاته سوى الكفار؟

بالطبع لا، فهناك من الإنس من يتبعه في الكفر كما أن هناك من الإنس من بين صفوف المسلمين من يتبعه في الشهوات والشبهات بل ويحارب من أجل نشر الفاحشة والشهوات والانحرافات؛ قال تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور:19].

إذن فهناك تنوعات سلوكية وعقيدية داخل الصف الإسلامي نفسه تعطي الفرصة ليتعامل إبليس مع بعضها لتدعيمه في معركته ضد الإسلام الصحيح الكامل وأهله. وهذه التنويعات سوف نتكلم عنها بقدر من التفصيل في السطور القادمة إن شاء الله تعالى، ولكن يجب هنا أن ننبه أن حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] لا يعارض هذا فسبل الشيطان منها ما هو عقدي يقدح في أصل الإيمان، ومنها ما هو سلوكي يقدح في كمال الإيمان فقط ولا يقدح في أصله، وإلا لكان المرجئ أو الغارق في الشهوات حتى مماته مستقيمًا على السبيل الواحد المستقيم وهذا لا يقول به أحد من أهل السنة.

أنماط الصراع داخل مجتمع المؤمنين

في الدولة الإسلامية (وبشكل عام في أي مجتمع إسلامي حتى لو لم يكن داخل دولة إسلامية، لكن الدولة الإسلامية هي الواقع الأمثل لنا كمسلمين) هناك عدة أنساق من الصراع لكن في البداية سنقابل نسقًا عامًا يشمل الكثيرين أيًا كانت درجة إيمانهم وهو الحسد، والبعض قد يقلل من أثر هذه العملية في الواقع السياسي لكن أحداث التاريخ من أبينا آدم وحتى اليوم تثبت أن الكثير من الصراعات المهمة بكل أنواعها لم يحركها سوى الحسد. ولعل الحسد هو أحد محركات الصراع الرئيسية داخل الأمة التي أشار إليها الحديث النبوي «وسألتُه أن لا يجعلَ بأسَهم بينهم فمنَعَنيها» (مسلم:2890).

أما نسق الصراع الأخر المهم جدًا والذي ينبغي التعامل معه باهتمام شديد لأن عبره يتكون مجد الأمة أو يندثر فهو نسق الصراع بين أهل العدالة من المسلمين وبين أهل الفسق وأهل الظلم من المسلمين، فالمسلمون إما (عدول) بمفهوم العدالة المعروف في الفقه وفي علم الحديث (وهو من لم يرتكب كبيرة ولم يصر على صغيرة)، وإما مسلم فاسق (وهو من يصر على الصغيرة ويرتكب الكبائر ربما في مجال الانحراف الشخصي فيما دون حقوق الناس)، أو ظالم (وهو من يجور على حقوق الناس مرتكبًا بذلك كبائر تتعلق بالجور على حقوق الآخرين).

والصراع دائر بين أهل العدالة وأهل الفسق والظلم في إطار قوله تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النسلء:27]، وقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41]. فأهل الشهوات من جهتهم يصارعون ليكون المجتمع الإسلامي كله مثلهم وأهل العدالة يجب عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن هذه العملية هي مناط خيرية الأمة على غيرها من الأمم كما أنها أحد أبرز أهداف التمكين كما في الآية الأخيرة، ومن هنا فالصراع قائم بين أهل الفسق والظلم من المسلمين من جهة، وأهل العدالة من المؤمنين على قضية الاستقامة على تعاليم وشريعة السلام {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112].

ففريق الفسق والظلم يريد انحراف المجتمع إلى مسلكهم وأهل الإيمان يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ليستقيم المجتمع على شرع الله، وهكذا فداخل معسكر أو فسطاط الإيمان عدة صراعات صراع بين أهل العدالة وأهل الفسق، وصراع بين أهل العدالة وأهل الظلم بالإضافة لصراع عام قائم على الحسد تتغير خريطته من حين لآخر ولكنه قد يصل إلى البغي فيقف في وجهه أهل العدالة تطبيقًا لقوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9].

وهناك محور أو نسق آخر من أنساق الصراع وهو متعلق بالصراع بين أهل العدالة وأصحاب الشبهات والبدع في الدين وكذلك أصحاب التأويل الخاطئ وما ينتج عن ذلك كله من آثار في الواقع، إما مذهب فقهي غير مقبول أو مذهب عقدي كالخوارج بفرقهم والمعتزلة والمرجئة والشيعة بفرقهم جميعًا. وبذا يتضح ما ذكرناه في بداية هذا المقال من أن فسطاط الإيمان ليس كله واحدًا بل داخله أنساق عدة للصراع ينبغي فهمها والتعامل معها وفقًا للسياسة الشرعية.

آليات الصراع داخل المجتمع أو الدولة الإسلامية

ولنختم الآن بنظرة سريعة على الفكرة العامة لآليات إدارة الصراع داخل المجتمع الإسلامي مع أهل الفسق وأهل الظلم وأهل البدع والشبهات (غلو أو إرجاء أو غيرهما) وهذه الفكرة العامة ترتكز على عدة أشياء أبرزها التالي:

– الأصل هو التربية والتقويم ونشر العلم الشرعي الصحيح عبر توفير البيئة الإيمانية العامة بشكل سليم بعيدًا عن أي دعوة أو إثارة للفسق أو الظلم أو البدع أو أي تحبيذ لهم.

– وهذه البيئة تتشكل من الأسرة والعائلة والمدرسة والجامعة والمسجد والنادي وأماكن العمل والشارع ووسائل الإعلام والثقافة والترفيه المختلفة.

– تعمل سياسات الدولة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على مكافأة ورفع العدول والتضييق وخفض أهل الفسق والظلم والبدع في كافة المجالات (هناك أمثلة عديدة لذلك في التاريخ والفقه الإسلامي وعلى سبيل المثال والإيضاح نتذكر معًا الدعاء الذي دعاه العز بن عبد السلام على المنبر قائلًا: “اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك و يؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر”. ونذكر هنا أيضا أعظم مثال تطبيقي تاريخي وهو أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما حدد العطاء أي المرتبات التي قررها للمسلمين فقد ميز الصحابة وميز من الصحابة أهل بدر وميز المهاجرين والأنصار على من بعدهم من المسلمين وقال والله لا أساوي من قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع من قاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا في الاقتصاد. أما في السياسة فقد كان عمر يجمع أهل بدر ليشاورهم مقدمًا لهم على غيرهم وعندما حضرته الوفاة جعل الخلافة محصورة في الستة الذين توفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو راضٍ عنهم وهذا ليس بدعة من عمر بل هو أمرٌ بدا مستقرًا في فقه الصحابة إذ عندما حدثت الفتنة الكبرى بين الإمام علي ومعاوية رضي الله عنهما وأثناء الجدل قبل وبعد مقتل علي رضي الله عنه كان يكثر القول بإرجاع الخلافة إلى من بقي من الصحابة ممن توفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو راض عنهم. والشاهد أنه ليس السبق لمجرد السبق لأن السبق يكمن فيه معنى جوهري وهو العدالة وارتفاع درجة الإيمان بين أهل العدالة).

– النظام العقابي في الدولة الإسلامية قائم على أن الفسق الشخصي الذي لا يتسبب في الاعتداء على حقوق آخرين يندب فيه لأفراد المجتمع الستر على أصحابه ونصحهم في السر لا سيما لو كانوا نادمين وجنحوا للتوبة لكن إذا وصلت جريمة الفسق لمعرفة المسؤولين فلا يسعهم سوى تطبيق نظام العقوبات الإسلامي.

– النظام العقابي الإسلامي لا يسمح بالتغاضي عن الظلم الذي يمس حقوق الناس ويجب على أفراد الرعية والمسؤولين أن يسعوا إلى رفع هذا الظلم ولا يسع مسؤول بالدولة منع عقوبة الظالم أو التغاضي عن رد الحقوق لأهلها تحت أي مسمى.

– تقوم الدولة والأفراد بنصح ووعظ أهل الشبهات الفقهية أو العقدية لكن الدولة يجب عليها بشكل أكبر السعي لإزالة شبهاتهم بشكل منتظم ومنع انتشارها ومنعهم من الدعوة إلى البدع العقدية ونشرها.

– يلاحظ امتناع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن قتال الخوارج إلى أن قتلوا صحابيًا وزوجته وامتنعوا عن تقديم القتلة للإمام وامتنعوا بالسلاح فقاتلهم حينئذ. كما أنه من قبل هذا رد على شبهاتهم بنفسه وأرسل إليهم ابن عباس فناظرهم ورجع منهم الآلاف إلى الرشد بسبب هذه الردود.