الفيلد مارشال رومل

المنطقة العربية والحرب العالمية الثانية فى مذكرات ثعلب الصحراء رومل (2 من 2)

نواصل كتابة محاور رئيسة عن انطباعى بعد قراءة مذكرات رومل، وأوضحها بنقاط فى السطور التالية.

لكن قبل تقديم هذه الانطباعات يجدر بى الايضاح أن هذا المقال (بحلقتيه) ليس عرضا لمذكرات رومل ولكنه إلتقاط لدروس تكتيكية وإستراتيجية وأحيانا إدارية ونادرا سياسية اقتطعتها من كلام رومل تارة واستخلصتها من مرامى كلامه فى هذه المذكرات تارة أخرى.

-تظهر هذه المذكرات كيف أن سوء الإدارة والنزاعات بين الإيطاليين والألمان من جهة وأيضا سوء الإدارة والتحاسد والإهمال الإدارى داخل القيادة الألمانية نفسها لعب ذلك كله الدور الرئيسى فى هزيمة رومل في أفريقيا ومن ثم هزيمة ألمانيا بشكل كامل في الحرب العالمية الثانية لأن رومل كان يعانى من تقتير ألمانيا وإيطاليا في إمداده بالامدادات اللوجستية التى يحتاجها رغم قصر المسافة بينه وبين إيطاليا وكذا ألمانيا ورغم أنه كان مرصود لحملته بأفريقيا آلاف المركبات والدبابات والمدافع وعشرات آلاف الأطنان من الذخائر والبترول وكان بعضها مخزن لحساب رومل في إيطاليا والبعض الآخر في ألمانيا ولكن كل هذه الكميات لم تصل إلى رومل أبدا رغم إلحاحه ومقابلته المباشرة لموسيلينى وهتلر عدة مرات لهذا الغرض، وعاق وصولها سوء الإدارة وتنازع أقطابها وتحاسدهم فضلا عن الإهمال الإدارى والسياسي في هذا المجال.

-كشف رومل في بداية مذكراته أن نجاح الألمان (وكان هو من قادة الحملة الرئيسيين) فى احتلال فرنسا وبلجيكا ليس كما ظن ليدل هارت (أحد أبرز القادة وعلماء الإستراتيجية البريطانيين بالعصر الحديث وبالحرب العالمية) من أن قوات الألمان كانت متفوقة فى العدد والتسليح، وأثبت أن سبب النصر الألمانى هو سرعة الحركة واعتماد تكتيكات المباغتة والسرعة والمحافظة على استمرار الإمساك بالمبادرة مع انهيار معنويات الفرنسيين وارتفاع معنويات الألمان وذكر أدلة وتفاصيل هذا كما ذكر أرقام القوات حيث كانت القوات الألمانية مكونة من ١٣٦ فرقة بينما كان للفرنسيين وحلفاءهم البريطانيين ١٥٠ فرقة.. وربما ذكر إحسان الألمان لاستخدام النيران المركزة والقصف الجوى.

-من تحليلات رومل لانتصاراته على البريطانيين في أفريقيا أن أسلحة الألمان كانت أحدث وأقوى ونيرانها أقوى وأكثف ودبابتهم أعلى تدريعا كما اجاد الألمان تكتيكات حرب الدبابات الثقيلة وأبدعوا فيها بينما ظل البريطانيون لسنوات لا يجيدون ذلك فضلا عن خفة تدريع دباباتهم إلى أن صنعوا الدبابة “الجرانت” وجاءتهم الدبابة الامريكية “شيرمان” كما أشار بهذا الصدد أيضا إلى ضعف المدافع البريطانية والإيطالية.

-لاحظ رومل وأشار الى قلب سلاح الطيران الأمريكى والبريطانى للموازين في نهاية الحرب مما ساعد في هزيمة الألمان في أفريقيا ثم في إيطاليا ونورماندى وإلى نهاية الحرب حيث تمكنت أمريكا من صناعة كميات كبيرة من الطائرات وبمستوى يضاهى المستوى التقنى للطائرات الألمانية، كما وفرت الولايات المتحدة أعدادا أكبر حتى كانت توفر ٤٠٠ طائرة قاذفة تهاجم في وقت واحد القوات الألمانية بمعركة واحدة، وهكذا ضربت إستراتيجية القصف الجوى الكثيف والمركز الإستراتيجية الألمانية التى تميزوا بها لسنوات والمرتكزة على القوات المميكنة سريعة الحركة المكونة من البانزر والقوات المحمولة.

-أوضح رومل وعيه بأهمية المنطقة العربية لحسم الحرب كلها (ويسميها أفريقيا) ويؤكد على أنه لو احتلها الألمان لتمكنوا من هزيمة الحلفاء لأنها ستمكنهم من السيطرة عل البحر المتوسط وخنق الاتحاد السوفيتى فضلا عن توفيرها النفط بوفرة للألمان وهو لازم لحركة الدبابات والطائرات والمركبات مما سيمكنهم من شن هجمات أكثر والمناورة تكتيكيا بالقوات كما يشاءون (لأن المناورة تحتاج حركة بالدبابات والآليات والطائرات وهذه كلها تحتاج مزيدا من الوقود للقيام بهذه التحركات).

-أظهر روميل وعيا بأهمية وخطورة إستراتيجية القصف الجوى وأهمية احتلال القواعد اللازمة لتوفير السيطرة الجوية على مناطق المعارك وتوفير كميات كثيفة من الطائرات القاذفة وتوفير البترول اللازم لحركتها.

-أكد على أهمية حسم معركة الأطلنطى عبر الغواصات ليتمكن الألمان من منع الإمدادات الضخمة الآتية للحلفاء من أمريكا واعتبر أن هذا هو ما سيحدد نتيجة الحرب كلها.

-ظهر تقدير رومل البالغ لأهمية الموارد الاقتصادية وكونها حاسمة فى تحديد نتيجة الحرب عندما اعتبر أن فرصة ألمانيا فى الفوز بالنصر فيى الحرب العالمية الثانية أصبحت ضئيلة بعد دخول الولايات المتحدة للحرب بسبب الموارد الاقتصادية الضخمة لأمريكا خاصة فى الصناعة.

-أوضح رومل تحليله للطبيعة الشخصية للتفكير العسكرى عند “مونتجمرى” وسلوكه بالحرب فقال: “ومن مبادئه ألا يدخل معركة ما لم يتأكد من انتصاره فيها وبالطبع هذا أسلوب لا ينجح إلا إذا صحبه التفوق المادى مع إحرازه لهذا التفوق بالفعل.

وكان حذرا للغاية بل إنى أعتقد أنه كان مبالغا فى حذره ولكنه استطاع استخدام هذه الصفة لمصلحته وقد كان يتمتع بصفات استراتيجية أكثر منها تكتيكية، إلا أنه لم يكن ممتازا فى قيادة القوات فى المعارك الميكانيكية بالرغم من معرفته لأهمية تطبيق هذه المبادئ، اما فى مجال التخطيط الاستراتيجى فقد كان رائعا وخاصة فى معارك الغزو التى قادها، ومن الصعب أن نجد له خطأ إستراتيجيا واحد.

وفى الحقيقة كانت القاعدة العامة بالنسبة للقادة البريطانيين الكبار أن أغلبهم كانوا يفكرون بأسلوب استراتيجى أكثر منه تكتيكيا، وعند وضعهم للخطط وقعوا فى خطأ وهو أنهم كانوا يهدفون للحصول على ما يمكنهم القيام به تكتيكيا.”أ.هـ. بالنص كلام رومل. 

-من تحليل رومل السابق لمونتجمرى والقادة البريطانيين يظهر أن رومل يتبنى رؤية استراتيجية تجيز التحرك بامكانات قليلة لتحقيق أهداف كبرى والانتصار بمعارك كبرى اعتمادا على المناورة والابداع الاستراتيجي والتكتيكى كى تعوض كل من المناورة والابداع نقص الإمكانات المادية، فما رأيكم هل هذه رؤية صحيحة؟؟

إقرأ الحلقة الأولى من هذا الموضوع هنا..

 
 

روميل وهتلر

المنطقة العربية والحرب العالمية الثانية فى مذكرات ثعلب الصحراء رومل (1 من 2)

قرأت مؤخرا مذكرات ثعلب الصحراء الفيلد مارشال رومل، وكنت منذ سنوات طويلة قد قرأت وتأملت عبر العديد من المراجع الحرب العالمية الثانية ومشاريع هتلر والحلفاء من كل جوانبها السياسية والاقتصادية والإستراتيجية كما درست أغلب معاركها وإستراتيجيات هذه المعارك، ولكن قراءتى المتأخرة لمذكرات ثعلب الصحراء أوضحت لى أمورا عديدة ربما كنت غفلت عن بعضها من قبل وربما كنت نسيت بعضها الآخر، وأجد الآن أنه من المفيد كتابة محاور رئيسة عن انطباعى بعد قراءة مذكرات رومل، وأوضحها فى نقاط بالسطور التالية.

لكن قبل تقديم هذه الانطباعات يجدر بى الايضاح أن هذا المقال (بحلقتيه) ليس عرضا لمذكرات رومل ولكنه إلتقاط لدروس تكتيكية وإستراتيجية وأحيانا إدارية ونادرا سياسية اقتطعتها من كلام رومل تارة واستخلصتها من مرامى كلامه فى هذه المذكرات تارة أخرى.

-فى البداية أوضح أن هذه المذكرات هى مجموعة أوراق كتبها رومل أثناء حملته لاحتلال فرنسا ثم حملته فى أفريقيا ثم عودته لجبهة فرنسا، وطبعا كان رومل حرق أجزاء كثيرة من أوراقه عندما ساءت علاقته بـ”هتلر” كما ضاع جزء آخر من أوراقه التى لم يحرقها أثناء محاولات زوجته إخفاءها عن هتلر ثم إخفائها عن قوات الاحتلال الأمريكى لألمانيا.

-أكدت لى هذه المذكرات أن رومل كان ينتصر بمعاركه عبر موارد قليلة وأحيانا ضئيلة فقد كان ينطبق عليه المثل المصرى السائر “يصنع من الفسيخ شربات”، ووصل به الأمر فى معاركه الأخيرة بتونس أن واجه ألف دبابة بريطانية متقدمة بـ20 دبابة ألمانية فقط وتمكن من مواجهتها ثم التخلص منها والانسحاب بخسائر ضئيلة.

-كان روميل يخوض معاركه معتمدا على سرعة تحريك قواته وخفة حركتها فى ظل إجادته لتكتيكات حرب الدبابات الثقيلة واستخدامه المتميز للدبابات الألمانية التى كانت وقتها الأكثر تقدما وتفوقا فى العالم كله. (إلى أن تمكنت بريطانيا فى آخر سنوات الحرب من تصنيع دبابات ثقيلة “الجرانت” كما أن أمريكا صنعت دبابات أخرى قوية ومتقدمة أيضا بنفس التوقيت أبرزها “شيرمان”، علما أن وصول الحلفاء لتصنيع دبابات تضاهى نظيرتها الألمانية بنهايات الحرب هو من الأسباب التى مكنت الحلفاء من الانتصار فى الحرب).

-سرعة وخفة حركة القوات التى يقودها روميل لم تأت من فكر رومل الإستراتيجى هو وأغلب القادة الألمان فقط ولكنهم حققوا ذلك بفعل ميكنة قوات المشاة عبر حملها على السيارات والدبابات الخفيفة، بجانب فرق البانزر التى اعتمدت أصلا على الدبابات الألمانية الثقيلة المتقدمة بمقياس ذلك الوقت.

-أجاد رومل استخدام قوة الصدمة المتولدة من تشكيل القوات الألمانية التى دائما ما اعتمدت على فرق البانزر والمدفعية الثقيلة سواء الهاوتزر أو المضادة للطائرات أو المضادة للدبابات.

-اعتمد رومل دائما على تثبيت جبهة العدو بإيهامه بالهجوم بالمواجهة وفى نفس الوقت يحرك قواته بسرعة وخفية للالتفاف على قوات العدو ومباغتتها بسرعة وقوة من ظهرها أو أجنابها.

-حرص رومل دائما على مهاجمة العدو وملاحقته عندما يكون هذا العدو بأسوأ حالاته سواء عقب تكبده خسائر كبيرة أو قبل اكتمال قدرات هذا العدو أو اذا كان فى موقع سيئ غير محصن أو فى حالة نقص الإمدادات أو انقطاعها أو تأخرها أوبطئها عن ذلك العدو.

-كان رومل يحرص دائما على ألا تكون أجنابه أو ظهره مكشوفا غير محصن وألا يكون سهل لهجوم العدو، فكان دائما يحذر من مباغتة أجنابه أو ظهره فضلا عن جبهته، كما كان يحذر أن يضرب العدو خطوط إمداداه.

-عندما تقرأ مذكرات رومل هذه تجده يشرح دور الموارد بالتفصيل فى عملية النصر بالمعارك التى خاضها ويحلل كل مفردات هذه الموارد سواء من حيث الكميات ككميات البترول اللازم لتسيير المركبات والدبابات والطائرات وكميات الذخيرة وكميات الأسلحة المختلفة كالمدفعية والمركبات والدبابات والطائرات وذخائرها..الخ، كما يحللها من حيث النوع من حيث مدى تقدم الأسلحة التقنى ومدى غزارة نيرانها ومدى فاعلية وتأثير أنواع ذخائرها، ورغم أن هذا أمر بديهى بالنسبة للعسكريين المحترفين من أمثاله إلا أنه أمر من المهم أن نتعلمه نحن العرب بعد أن أفسد خطاب الناصريين والقوميين (وتبعهم في هذا بعض الاسلاميين) عقول العرب بمختلف توجهاتهم السياسية والدينية فصاروا لا يفكرون بالمنطق بل بالشعارات الرنانة فارغة المضمون وهو أمر يوقعنا فى نكسات وهزائم يومية نتردى فيها ونحن نتبجح بالشعارات الفارغة بكل صفاقة وكأننا لا نتكبد الهزائم والخسائر  يوميا.

-ومن الموارد المهمة التى اهتم رومل بتحليلها وشرح دورها فى عملية النصر أو الهزيمة بمعارك الحرب العالمية الثانية موارد غير مادية مثل المعنويات وخبرات القادة وطريقة تفكيرهم وتركيبتهم النفسية والإهمال الإدارى أو الفاعلية الإدارية والتحاسد الإدارى وإن كانت هذه الأمور الثلاثة الأخيرة تعرض لها بحرص أحيانا لأنه كان يكتب وهو جزء من مواطنى ألمانيا تحت حكم هتلر ولم يصلنا أو هو لم يكتب شيئا بعدما ساءت علاقته بهتلر ولا بعدما أمره هتلر بأن يتجرع السم طواعية وسرا مقابل أن يترك هتلر زوجة رومل وابنه أحياء.

واقرأ الحلقة الثانية على الرابط التالي:

المنطقة العربية والحرب العالمية الثانية فى مذكرات ثعلب الصحراء رومل (2 من 2)

قصف سوريا

أزمة الأمة الإسلامية بين سندان الإخوان المسلمين ومطرقة السلفية الجهادية

يشن كثير من الأخوة ورموز ما يسمى بتيار السلفية الجهادية حملة واسعة من الانتقاد لفصائل من المعارضة السورية المسلحة التى تقبل التعاون مع ما تسميه السلفية الجهادية بالطاغوت التركى والطاغوت السعودى والدخول فى ما أطلقوا عليه “التحالف التركى الصليبى”، وفى الواقع فإن ما يهمنا فى هذا المقال هو تبيان الخطأ المنهجى الشرعى فى الدعاوى التى يطلقها هؤلاء الأخوة، لأن هؤلاء الأخوة ورموزهم الفقهية (بجانب تيار الاخوان المسلمين) هم من أشاعوا السطحية فى الفكر السياسى الإسلامى لشباب الحركات الاسلامية المعاصرة.

السلفية الجهادية و الإخوان المسلمون

فرموز السلفية الجهادية وعلى رأسهم أبو محمد المقدسى وأبو قتادة ومن لف لفهم يأخذون أدلة الجهاد والبراءة من الشرك والمشركين وتحريم الموالاة ونحو ذلك ليجعلوها حالة عامة لا يجوز غيرها تحت أى ظروف.
ورموز الإخوان المسلمين يأخذون أدلة مراعاة المصالح والمفاسد وتقدير المآل والأحكام الشرعية المستنبطة من صلح الحديبية وعرض النبى صلى الله عليه وآله وسلم ثلث ثمار المدينة على غطفان فى غزوة الخندق ليجعلوا هذا حالة عامة تبرر التمييع الدائم والعام وأحيانا الانبطاح التام للعدو (كما فى حالة العراق وأفغانستان مثلا).
وهو خطأ منهجى قديم، فالجبرية أخذوا بأدلة قدرة الله وتقديره الكونى ليعمومها على كل شئ بينما عكسهم المعتزلة بأخذهم الطرف الآخر من الأدلة وهى الخاصة بإرادة الله الشرعية وإثبات إرادة الانسان لينفوا إرادة الله الكونية.
ولكن الاسلام الصحيح (أهل السنة) يأخذ بطرفى الأدلة ويثبت إرادة الله الكونية والشرعية وإرادة الانسان.
ونفس الخطأ فعله الخوارج بأخذهم أدلة الوعيد وتعميمها مع إهمال أدلة الوعد والمغفرة فكفروا بالمعصية، وعكسهم المرجئة أخذوا بأدلة المغفرة فأخرجوا الأعمال من مسمى الإيمان ونفوا زيادة الإيمان ونقصانه.
وهنا أيضا يبرز صحة منهج أهل السنة بالاسلام الصحيح الآخذ بجميع الأدلة دون إهمال طرف منها، فأجروا حكم أدلة الوعد والوعيد معا، دون إخلال بأى منها فلم يكفروا بالمعصية ولم يقولوا “لايضر مع الايمان ذنب لمن عمله”.

السياسة الشرعية

واليوم لدينا مشكلة أكبر بسبب هذين الفصيلين العظيمين من المسلمين “الإخوان المسلمون” و “السلفية الجهادية”، إذ كل منهما اكتفى بالأخذ بأحد طرفى الاسلام فى السياسة الشرعية ونبذ الطرف الآخر، وبجانب هذا فإن الميوعة السياسية (بل والانبطاح أحيانا) التى مارسها ومازال يصر على ممارستها الإخوان المسلمون دفعت متهورين لأن يدعوا للكفر بقواعد شرعية ثابتة ولا خلاف عليها فى فقه السياسة الشرعية من مثل تقدير المصالح والمفاسد والموازنة بينها، ومن مثل تقدير المآل ونحو هذا فأصبحت الشجاعة المفرطة التى تصل للتهور بل وأحيانا تصل للحمق هى الجهاد الشرعى الحقيقى عندهم ولا جهاد غيره وذلك لكى يباينوا منهج وطريقة الإخوان التى افتضح فسادها التطبيقى فى العديد الأماكن والمناسبات.

المولاة والمعاداة والجهاد والشهادة

والجانب الآخر من المشكلة أن إعلاء أدلة المولاة والمعاداة (الولاء والبراء) والجهاد والشهادة دون ضوابطها أظهرها بصورة التهور والحمق لدى كثيرين فجعلهم لا يبحثون ولايميلون للخيارات الجهادية والكفاحية فى سلوكهم السياسى، وهذا أيضا خطأ ضخم.
وباتت شعارات كثيرة ترفع من كلا الطرفين لا تمثل حقيقة أحكام السياسة الشرعية كما كان هدى النبى صلى الله عليه وآله وسلم، ففريق ليس عنده غير القتال ثم القتال ثم القتال والفريق الأخر ليس لديه سوى الهدنة والمصالحة والتمييع دائما وأبدا ولا خيار آخر عنده.

هدى النبى صلى الله عليه وآله وسلم في السياسة والحرب

وهنا نريد أن نوضح بصراحة أن كلا الفريقين لم يصب هدى النبى صلى الله عليه وآله وسلم.
فالنبى صلى الله عليه وآله وسلم سلك مع المشركين الوثنيين خمس حالات هى:
السكوت عنهم (لفترة ما) دون هدنة ولا صلح ولا قتال.
القتال المنتهى بهدنة أو صلح.
القتال المنتهى بفتح للإسلام واستسلام العدو.
عقد اتفاقية هدنة أو صلح دون أن يسبقها قتال.
عقد اتفاقية هدنة أو صلح وتلاها قتال.
كما أن النبى النبى صلى الله عليه وآله وسلم سلك نفس السلوك مع أهل الكتاب بنفس الحالات السابقة.
فمن يحق له أن يضيق واسعا فيرجح حالة القتال المنتهى بفتح إسلامى واستسلام العدو وينفى الحالات الأخرى؟
لا أحد يحق له هذا لكن السلفية الجهادية ومشايخها مصرون على ذلك.
ومن يحق له أن يضيق واسعا فيرجح حالة الصلح والمهادنة على بقية الحالات؟ 
نعم الإخوان المسلمون وتيارهم يفعلون ذلك.

ومن المضحكات المبكيات أنهم لا يستعملون حالة السكوت بل يبادرون دائما لإطلاق الخطابات التميعية، ويستدلون بالمصالح وتقدير المآل ونحو هذا، فيشوشون عقول الشباب بشأن الفهم الصحيح لأحكام الإسلام السياسية.
ويأتى هذا ليفقد الأتباع أى رؤى سياسية وعسكرية وإستراتيجية لأن هذه العلوم تقتضى تنوع الأدوات، واستخدام وحشد وتعبئة كل الأدوات والاختيار من بين أوسع طيف من الخيارات، إلا أن أصحاب هذين المنهجين مصرون على تكبيل عقول أتباعهم ومنعها من التفكير والابداع للخروج بالأمة من أزمتها.
أعرف أن هؤلاء وهؤلاء سيقولون نحن نتخذ هذا التوجه بضوابطه الشرعية..الخ، ولا أريد الدخول فى تفصيلات تبعدنا عن لب المشكلة التى تعيشها الأمة الاسلامية بسبب سيطرة هذين الفصيلين على العقول، ولم يعد ينافسهم سوى بعض الأغرار الذين يستغلون هذه الأزمة لنقد الواقع وادعاء امتلاك الحل السحرى، رغم أنهم ليس لديهم تجربة ولا علم ولا يسعون للارتقاء بأنفسهم علميا وعمليا كى يكونوا متأهلين للتصدر، وقد كتبنا عنهم سابقاوسنكتب عنهم ان شاء الله لاحقا.
نحن نعلم أن هذين المذهبين فى العمل الاسلامى قد ترسخا ولن يقتنع أئمتهم بإصلاح الخطأ، كما نعلم أن الأغرار الذين يحاولون استغلال الأزمة للتصدر لن يتوبوا ولن يفيدوا أو يستفيدوا، ولكننا نكتب لمن يريد أن يحل الأزمة متجردا للدليل الشرعى والفهم الصحيح للواقع المعاصر.

حلب تحت القصف

بعد حرق حلب.. إلى أى مدى يمكن أن يعتمد المسلمون على النظام الدولى؟؟

يثير حرق حلب وقبلها إدلب وكافة سوريا وقبلهم فلسطين وأفغناستان والعراق، سؤالا مهما وهو إلى أى مدى يمكن أن يعتمد المسلمون على النظام الدولى؟؟ إجابة هذا السؤال مهمة لأنها سيترتب عليها الجزء الأكبر لطبيعة الاستراتيجية الاسلامية لاستعادة عزة وكرامة واستقلال العرب والأمة الاسلامية (لأنه لا عز للعرب بدون الإسلام).

حقيقة النظام الدولي وتطوراته

النظام الدولى ما هو إلا النظام الأوروبى للتحكم والهيمنة على العالم وهذا النظام ترجع نشأته الحالية إلى صلح وستفاليا 1648م وما تلاه من معاهدات بالسنوات التالية لأنه هو الذى أرسى دعائم نظام “ما” ينظم طبيعة وآليات العلاقة بين الدول الأوروبية بما فيها بابا الكنيسة الكاثولوكية (وما يتبعه من أملاك) وهذا النظام الأوروبى (بما حمله من تعاون وصراع وفق آليات ارتضوها) هو الذى أدار تاليا عملية تصفية الوجود السياسى الاسلامى كقوة دولية عظمى ممثلا فى الدولة العثمانية، واحتل كل العالم الاسلامى بدوله وممالكه وإماراته المتفرقة بأشكال مختلفة، هذا النظام شهد اختلالات متعددة بسبب احتدام التنافس بينهم ليخرج عن المستوى المسموح به بينهم فى ثلاثة حروب هى العالمية الأولى والثانية ثم الحرب الباردة، لكنه ظل إزاء المسلمين موحد الأهداف.

وهذا النظام الدولى تغيرت رؤوسه على مر التاريخ من دول أوروبية لأخرى إلى أن استقرت أخيرا منذ 1990 فى الولايات المتحدة الأمريكية (وهى وإن كانت خارج اوروبا إلا أنها ابنة أوروبا ثقافة وحضارة ودينا وشعبا) وحتى الآن.

البعد الشعبي في النظام الدولي

هذا النظام هو النظام الرسمى النظامى الذى يملك صنع الحدث فى العالم، ولكن لتكتمل الصورة لابد أن نعى أن هناك نظاما شعبيا يظهر وكأنه موازى لهذه النظام لأنه له مزاجه المختلف أحيانا ولأن صوته عالى جدا.

 هذا النظام الشعبى يتمثل فى حركات شعبية غير حكومية تدافع عن حقوق الانسان أو الحيوان أو البيئة أو عن قيم إنسانية أو الضعفاء والمظلومين، وهؤلاء صوتهم عالى لحد كبير فى أوروبا والولايات المتحدة بسبب طبيعة الحريات المتاحة هناك لكن تأثيرهم بشأن تعديل أو تحسين (فضلا عن تغيير) ثوابت النظام الدولى منعدمة، فقد رأينا عشرات الملايين منهم يتظاهرون فى أوروبا وأمريكا ضد غزو العراق ومع هذا تم احتلال العراق واستمروا بالتظاهر لوقف الاحتلال ولكن الاحتلال استمر حتى حققت أمريكا وأوروبا ما أردا هناك، ورأينا الملايين يتظاهرون ويحتجون ضد ممارسات الصهاينة فى فلسطين منذ عشرات السنين ومع هذا استمرت هذه الممارسات حتى اليوم بل تصاعدت وتعمقت.

كما أن هذه الحركات الشعبية كثيرا ما يتم اختراقها وتوجيهها بشكل أوبآخر من قبل النظام الرسمى (الحكومى) ولكن هذا له حديث آخر إن شاء الله.

وهذا يطرح سؤالين هما:

ما هى ثوابت النظام الدولى بشأننا؟

ما هى آليات عمل النظام الدولى تجاهنا؟

ثوابت النظام الدولي تجاه أمة الإسلام 

وبالنسبة للسؤال الأول فلا يمكن أن نفصل كل ثوابت النظام الدولى فى مقال واحد كهذا ولكن يمكننا أن نذكر ما يخصنا وهو ثوابت النظام الدولى تجاه المسلمين ومنطقتهم، ولئلا يطول الكلام نذكر التصريحات التالية التى توضح الصورة باختصار ولا تدع مجالا للشك لدى القارئ:

يقول “دزرائيلى” رئيس وزراء بريطانيا فى خطاب له فى عام 1872: “إن من الواجب على من صنعوا المدنية أن ينقلوها إلى الآخرين على شروطهم الغربية”

ويقول “هنرى كيسنجر” عقب إعلانه توقيع الانفراج مع الاتحاد السوفيتى فى 1972: “إن السياسة الخارجية  الأمريكية فى القرن القادم سوف تقوم على تهيئة نظام عالمى مستقر تحيا فيه القيم الأمريكية وتزدهر”.. وقد تم وضع هذا النص كما هو كهدف قومى فى عهد “ريجان” فجاء كما يلى: “رابعا- إقامة والحفاظ على نظام عالمى مناسب لا يحقق بقاء القيم الأمريكية فحسب بل وازدهارها”.

وتقول “مارجريت تاتشر” رئيسة وزراء بريطانيا 1988: “إن الامبريالية الأوروبية -نعم ولا أعتذر عن هذا- هى التى نقلت الحضارة إلى كثير من شعوب العالم، لقد كانت هذه هى حكاية مواهبهم وفروسيتهم”.

ويقول “فرانسوا ميتران” رئيس فرنسا فى 1990: “إن وحدة الأيديولوجية فى دول العالم بأن تسود قيم الديمقراطية الغربية هى الطريق الوحيد للتفاهم والتعاون الدولى ولأن يسود الاستقرار والسلام فى العالم”

وقال بيل كلينتون يوم تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية 1993: “إن أمريكا تؤمن أن قيمها صالحة لكل الجنس البشرى وإننا نستشعر أن علينا إلتزاما مقدسا لتحويل العالم إلى صورتنا”.

(راجع: فوزى محمد طايل، كيف نفكر استراتيجيا ، ص 298)

وخلال حملته الانتخابية ألقى رونارد ريغان خطابا بسبتمبر 1980 قال فيه: “إن إسرائيل ليست أمة فقط بل هي رمز ففي دفاعنا عن حق إسرائيل في الوجود إنما ندافع عن ذات القيم التي بنيت على أساسها أمتنا”.

ولاحظوا كلمة القيم المتكررة فى كل الأقوال الآنفة.

ويقول اللواء أ.ح – فوزى محمد طايل: “بنيت الاستراتيجية الأمريكية منذ عهد جيمى كارتر على ثلاث ركائز : نزع إرادة الجهاد من المسلمين، من خلال فرض السلام بينهم وبين إسرائيل، والحيلولة دون تحول الصحوة الاسلامية إلى نهضة حقيقية، وإحداث تشوه ثقافى واجتماعى يحول دون استعادة المسلمين لمنظومة قيمهم،وتبنت الولايات المتحدة خيار استخدام القوة فى منطقة الخليج لهذا الغرض” أ.هـ من كتابه كيف نفكر استراتيجا ص 273.

ويشير فوزى طايل إلى المبدأ الخامس والسادس من الأهداف القومية الأمريكية التى أعلنت بعهد ريجان والتى تنص على:

“- الحفاظ على النظم العلمانية الحاكمة فى المنطقة من المغرب حتى باكستانن ومنع انتقال الحماس الثورى لها والاطاحة بها.

–  إيقاف خطر الارهاب.” أ.هـ من كتاب كيف نفكر استراتيجيا ص 280.

ومن هنا فمسألة فرض القيم الغربية على العالم بعامة والاسلامى منه بخاصة وفرض حكومات ترعى هذا الأمر هو من أبرز ثوابت هذا “الغرب”، لكن قد يميل بعضهم بتلبيس الأمر على عوام الأمة الإسلامية باسم الإسلام كما فعل نيكسون فى كتابه “الفرصة السانحة” عندما دعا إلى “تعريف المسلمين بماهية الإسلام وأنه إسلام متعايش مع الغرب وقيمه الديمقراطية ويطبقها”، وكما دعى تقرير راند لتعزيز ما أسماه الاسلام  الديمقراطى، وهذا هو ما انتقده كثير من الدعاة الإسلاميين وسموه بالاسلام الأمريكى، لأنه يبرر كل قيم الغرب من رأسمالية وإباحية وتأليه الإنسان بدعواى وشعارات إسلامية (باطلة شرعا طبعا).

وقد نقلت الاقتباسات الآنفة بطولها لأقنع من لم يطلعوا على المراجع المهمة المطولة من مثل “الاتجاهات الوطنية” و”الاسلام والحضارة الغربية” لمحمد محمد حسين، و”أساليب الغزو الفكرى” و”مذاهب فكرية” لعلى جريشة، و”واقعنا المعاصر” لمحمد قطب، و”دخلت الخيل الأزهر” لجلال كشك، وغيرها.

آليات عمل النظام الدولى تجاه أمة الإسلام

ثم نأتى لإجابة السؤال الثانى وهو: ما هى آليات عمل النظام الدولى تجاهنا؟

وإجابة هذا السؤال تحتاج كتابا كاملا (وبالمثل كان سابقه) ولكننا سنوجز الأمر، فالهدف القومى الأمريكى المعلن عنه بعصر ريجان كما ذكرناه فى السطور السابقة جاء صريحا ” الحفاظ على النظم العلمانية الحاكمة فى المنطقة من المغرب حتى باكستان ومنع انتقال الحماس الثورى لها والاطاحة بها”، ولنا فى الانقلاب الأمريكى ضد مصدق فى ايران لتثبيت الشاه (عملية أجاكس 1953) عبرة لآلية قديمة، كما لنا فى الانقلاب على الربيع العربى (2011) فى تونس بأسلوب ناعم عبرة بآلية ثانية، وفى مصر بأسلوب خشن بديكور ناعم كانت آلية ثالثة، أما احتلال أفغانستان وحصار عراق صدام ثم احتلاله وتقسيم السودان وإحراق سوريا الآن فكلها آليات أخرى تمتلأ بها جعبة الغرب لاستعمالها ضدنا.

وكى نلقى الضوء على أسلوب عملهم الداخلى فى أوطاننا والشرائح الاجتماعية التى يستندون عليها نختم الموضوع بالاقتباس التالى من مذكرات مايلز كوبلاند ضابط الـCIA الذى نفذ عملية أجاكس عام 1953 التى بموجبها أطيح بحكومة مصدق بإيران وتم إعادة الشاه بموجبها، ولكنه فى الاقتباس التالى يتكلم عن حدث جرى معه أثناء إعداده لعملية مشابهة فى إيران عام 1979 لاجهاض ثورة الخمينى قبل اندلاعها بشهور: “لم أر بغايا ولكن صفوة مجتمع الجريمة الإيرانى أو يمكن القول المافيا الايرانية، لقد أدخلت إلى منزلها فرادى وجماعات من اثنين أو ثلاثة من زمر السفاحين واللصوص والمهربين ومشعلى النيران والفتن ولك أن تسمى ما شئت، وكزملائهم من المجرمين المنتعشين ماليا فى أمريكا وبريطانيا، فهم يتمتعون بعقلية الرأسمالى اليمينى لهذا كانوا يؤيدون الشاه دون تحفظ. قالت كاثى: إذا كنت تخطط لشئ ما فإن هؤلاء الرجال هم مدافعك الثقيلة” أ.هـ. من “حياة مايلز كوبلاند”، ص 360.

لكن التحليل الاجتماعى والاقتصادى المفصل للقوى الاجتماعية التى تنفذ مرامى الغرب بأرضنا له حديث آخر إن شاء الله.

ثورة 25 يناير

الغضب الشعبى فى مصر .. إلى أين؟

يتوقع كثيرون اندلاع احتجاجات عارمة تفضى لثورة شعبية فى مصر إثر الارتفاع الجنونى فى أسعار السلع والخدمات مع التدهور المتسارع للقوة الشرائية للجنيه المصرى، ويتوقع هؤلاء أن يكون موعد مثل هذه الاحتجاجات الأيام التالية لرفع الدعم عن سلع أساسية كوقود السيارات وما سيتبعه من إرتفاع بأسعار كافة السلع والخدمات لارتباطها جميعها بخدمة النقل بالسيارات، معارضو النظام الذين يحلمون بثورة تطيح به يأملون بوقوع هذا الحدث قريبا، بينما لم تقدم الحكومة خطة مقنعة لكبح جماح الأسعار وتأمين المواطنين اقتصاديا واجتماعيا ضد مخاطر التضخم الذى وصل لمعدلات غير مسبوقة، فهل معنى هذا أن النظام الحاكم لم يتحسب لمثل هذه الاحتجاجات ولم يضع خططا لمواجهتها؟؟ ثم ما هى خطط المعارضة لتفجير هذه الاحتجاجات أو إدارتها فور اندلاعها؟؟

سيناريوهات اندلاع احتجاجات في مصر

ليس هناك أى شك بأن أجهزة الدولة المعنية قد وضعت سيناريوهات متعددة لاندلاع احتجاجات كهذه ووضعت خططا “ما” للتعامل معها، لأنها تعمل بأسلوب علمى وموضوعى ومؤسسى فى مثل هذه المجالات، ويمكننا تخمين معالم رئيسة لهذه الخطط فى السطور التالية.

أى احتجاجات لابد أن يكون لها قوى اجتماعية تدعمها ومن المنتظر فى احتجاجات سببها ارتفاع الأسعار أن تكون الشرائح الاجتماعية الفقيرة هى عمادها ومن هنا نرى أن الحكومة بادرت منذ شهور طويلة بتخدير وتقليل غضب هذه الفئة عبر نشر منافذ توزيع السلع الرخيصة بالأماكن الفقيرة والريفية بجانب التخدير الاعلامى، ويضاف إلى ذلك النشاط الواسع فى إبعاد أذرع هذه الفئة (ممثلة فى الباعة الجائلين ونحوهم) عن الميادين الكبرى فى المدن بدءا من القاهرة الكبرى ثم نزولا للعديد من المحافظات، وإحكام السيطرة الأمنية على هذه الميدان.

مارست الحكومة سياسة قمعية ضد أى احتجاجات قامت بها المعارضة منذ 2013 وحتى الآن، وقد نجحت هذه السياسة رغم دمويتها فى تثبيت أركان النظام الحاكم حتى الآن، ولم تتمكن أى قوة معارضة من الإفلات من الأثر السلبى لهذه السياسة القمعية حتى الآن، فلم تعد جماعة الاخوان المسلمين وأنصارها من الإسلاميين قادرة على حشد احتجاجات كبيرة فى شوارع أو ميادين رئيسة وبات أغلب كوادرها المهمين إما مطارد وإما مقتول أو محبوس، كما أن القوى العلمانية واليسارية التى فجرت فاعليات احتجاجية أيام اتفاقية تيران وصنافير لم تكن لتصمد أكثر من شهر أو شهرين على الأكثر أمام صولة الآلة القمعية للنظام، وبعدها أصبحت هذه القوى شبه مشلولة عن أى حركة، أما شباب الاسلاميين الذين ظنوا أن حملهم السلاح يمكن أن يهزم النظام أو على الأقل يوقف دوران آلته الأمنية الباطشة فإنه أيضا لم يصمد كثيرا و بعد عام من تتابع أعمال مسلحة متناثرة بالقاهرة وما حولها تمكنت اليد الأمنية للحكومة من تقليم أظافر هؤلاء الشباب ولم يعد يسمع صوت قعقعة سلاحهم إلا كل عام مرة أو مرتين، وأدى هذا كله لأن يثق النظام بقدرته على السيطرة على الأوضاع أيا كانت سياساته الاقتصادية والاجتماعية فضلا عن سياساته السياسية، كما وثق به داعموه وحلفاؤه بالداخل والخارج وأيقنوا أنه لا خطر عليه من أى قوى معارضة.

ولكن هل هذا الاطمئنان فى محله وكيف ستسير الأوضاع فى الشهور القادمة؟؟

الانتفاضة الشعبية

وفى الواقع فإن إنفجار انتفاضة شعبية عارمة تخرج عن السيطرة الحكومية وتعجز أجهزتها الأمنية والسياسية أمر لا يمكن توقع توقيته وإلا لما خرجت مثل هذه الانتفاضة عن السيطرة، وهو أمر حدث فى مصر مرات عديدة كما فى مظاهرات الطلبة والعمال 1968 ردا على محاكمات قادة طيران هزيمة يونيو، ثم انتفاضة الأسعار يناير 1977 وانتفاضة جنود الأمن المركزى 1986 وأخيرا ثورة 25 يناير 2011، فكل هذه الأحداث لم يتحسبها أحد قبلها واندلعت فجأة دون توقع من أى جهاز حكومى أو قوة معارضة، ومن هنا فمن الوارد انفجار الغضب الشعبى فجأة دون موعد محدد.

وفى هذه الحالة فالدوافع والمطالب ستكون اقتصادية واجتماعية وأى مطلب سياسى سيكون مرتبطا بهذه المطالب الاقتصادية الاجتماعية، وطبعا ستحاول قوى سياسية معارضة ركوب موجة الغضب هذه بعد اندلاعها وتصاعدها ولكن حجم نجاحها فى ركوب هذه الموجة واستجابة الجماهير الغاضبة لها سيكون مرتبطا بمدى فهم هذه القوة السياسية لمطالب الجماهير وتبنيها لها وتبنى شعارات تمس عقل ووجدان الجماهير الثائرة.

الغضب الثورى

ستنفجر شرارة الغضب الثورى من الشرائح الاجتماعية الدنيا وستلحق بها كثير من الشرائح الاجتماعية والفئات السياسية المعارضة الأخرى، ولكن طبيعة الجنوح للعنف التى باتت سمة سائدة بالمجتمع المصرى مع الدرجة العالية من القمع التى باتت تتعامل بها أجهزة حكومية مع المعارضة كل هذا سوف يصبغ انفجار الغضب الشعبى القادم بمصر بقدر غير مسبوق من الممارسات الشعبية العنيفة وإذا أضيف له طبيعة عبثية بسبب طبيعة الشرائح الاجتماعية البادئة بالغضب فإن هذا كله قد يفقد هذه الانتفاضة تعاطف كثير من أبناء الطبقة الوسطى التى هى عماد أى ثورة بمصر، لكن من الوارد أيضا أن يقتصر هذا العنف على التوجه لرموز الدولة وهنا فستأخذ الانتفاضة شكل آخر فإما أن تخضع لها الدولة فينتصر الغضب الشعبى ويحدث تغيير “ما” وإما أن تصمد الحكومة وهنا يحدث صراع طويل يشبه ما فى دول أخرى كسوريا وليبيا والعراق ونحوها، وإن كانت خبرات تاريخ مصر تقول أن الانتفاضات الشعبية العارمة عادة ما تخضع لها الحكومة بدرجات مختلفة.

خطط الحكومة.. و استشراف مستقبل مصر

ومن المؤكد أن الحكومة أعدت لكل هذه الاحتمالات ووضعت خطط مناسبة لاحتواءها عبر التراجع قليلا أمام الضغط الشعبى بغرض احتوائه وتبريده ثم عودة السيطرة على الأوضاع، كما حدث إثر تنحى مبارك فى 11 فبراير 2011، ويشمل هذا تشكيل حكومة تشارك فيها قوى معارضة والتصالح مع كل قوى المعارضة بما فى ذلك الإخوان.. الخ، فهى خطط احتواء وتبريد دون الإطاحة بالركائز الاجتماعية والاقتصادية وركائز السيطرة الأمنية لنظام الحكم الذى تأسس منذ يوليو 1952 والذى قام باعادة بناءه وتغيير شكله نظام “السادات/مبارك” فى الأربعين سنة 1971-2011 (وهو نفس النظام المستمر حتى الآن).

هذا هو استشراف لمستقبل الأحداث بمصر بضوء معطيات الواقع ومتغيراته وبضوء تاريخ مصر المعاصر، وهو أمر يبين أن دفة الأحداث باتت بمهب الريح نظرا لضعف قوى المعارضة وافلاس فكرها السياسى وقدراتها العملية والتراجع البالغ لتأثيرها بالأحداث.

المسلمون حول الكعبة المشرفة

أبواب مهجورة من العمل في سبيل الله

يتساءل كثيرون -وهم محقون- ماذا نفعل عمليا الآن؟

وإجابة هذا السؤال تفتح الباب للكلام عن أبواب مهجورة من العمل في سبيل الله أو العمل الاسلامي، لأنه في الواقع فإن كل مسلم اليوم هو على ثغر من ثغور الأمة هو مسئول عنه، علم ذلك من علمه وجهله من جهله، ويتحدد هذا الثغر بحسب الطبيعة الشخصية لكل مسلم أو مسلمة وطبيعة الفرص والامكانات المتاحة له، فمن كان محبا للعلم ولديه التكوين الشخصي الذي يؤهله لذلك فهو على ثغر العلم، ويجب عليه ان يتولاه، وصار هذا فرض عين عليه بحسب التفصيل الذي سنذكره بالسطور التالية.

الأمة الاسلامية الآن منكوبة في العلم بكل فروعه الشرعي والدنيوي، فمن لديه ميل لأي من فروع العلم الشرعي فعليه المبادرة بالطلب حتى يصل لأعلى المراتب فيه، وإن كانت فروع الفقه والعقيدة والتفسير أكثر إلحاحا بجانب تحصيل أدوات كل منها من علوم الآلة، وكذلك نحن محتاجون لعلماء نابغين في كل العلوم الدنيوية الاجتماعية منها والطبيعية.

العلوم الطبيعية

ففي العلوم الطبيعية نقلت أوروبا تقدمنا العلمي في العصور الوسطى، وطورت فيه وبنت عليه ثم تكتمت على الكثير من جوانبه الهامة، خاصة الجوانب الاكثر حداثة منه ودقة فجعلتها سرا تحرم منه منافسيها وتحرم منه بشكل صارم ابناء الدول الاسلامية والعربية، وفي نفس الوقت يقوم عملاؤها من حكام العالم الاسلامي بتجهيل المسلمين والسعي لتجريف البيئة التعليمية وعرقلة عمليات البحث العلمي كي لا نتمكن من التطور ولا اللحاق بمعارف الغرب في العلوم والتكنولوجيا، ومن ثم نتخلف في الصناعة والزراعة ويزداد اقتصادنا تدهورا ونظل رهينة لهيمنة أوروبا وأمريكا على العالم، ومن هنا فكل مسلم أو مسلمة قادر على الترقي والتقدم والنبوغ في أي من فروع العلوم الطبيعية عليه فعل هذا لكسر جزء من هذا الاحتكار العلمي والتكنولوجي والصناعي الغربي، وهو فرض عين عليه ان يركز في مجاله ليبلغ فيه منتهاه.

العلوم الاجتماعية والانسانية

اما العلوم الاجتماعية والانسانية فلدينا فيها أيضا عجز لعدة أسباب، ومن أبرز أسباب العجز أن الغرب سبقنا فيها وصبغها بعقائده ومنطلقاته الفكرية وهذه العلوم بطبيعتها تتأثر بالعقيدة والمنطلقات الفكرية والبيئة التي تنشأ فيها، وعندما نقلها العرب والمسلمون عن أوروبا وأمريكا نقلوها كما هي دون أن يحذفوا منها مؤثرات بيئة وعقيدة من طوروها، لأن كثيرا منها ابتكره المسلمون أولا كعلوم الاجتماع والاقتصاد والنفس والتربية ثم أخذتها أوروبا وطورتها، فصارت مبنية على نسق مخالف في بعض جوانبه عن عقيدة ورؤية الاسلام بقضايا هذا العلم أو ذاك، كما أن من أسباب العجز والخلل لدينا في هذه العلوم أن وضعها الاساسي هو للاستفادة في التطبيق العملي، وذلك في عمليات تطوير الواقع المعاش إلا أن أكثر من نقلها في بلادنا ساقوها مساق الترف الفكري والتشدق بالمصطلحات وركزوا على النقل والترجمة أكثر من الابداع والتطوير فيها، كما كرسوا نسبها الأوروبي والأمريكي بدلا من مفاعلتها مع واقع بيئتنا العربية والاسلامية لتستفيد منها بيئتنا وتتطور بها، ولتستفيد هذه العلوم من هذا التفاعل فتتوطن بأرضنا وفقا لخصوصياتنا الدينية والحضارية والثقافية وطبيعة مشاكلنا، وهذه الأمور تفاقم من عجزنا في العلوم الاجتماعية والسياسية وتجعل فرض كفاية على الجميع سد أوجه العجز هذه، وتجعل الأمر فرض عين على من كانت ظروفه وميوله وامكاناته تتيح له التخصص بأحد هذه العلوم والبلوغ فيها مبلغ العلماء الراسخين في أحدها.

ثغور الأمة الاسلامية

وسواء تخصص المسلم أو المسلمة في فرع من فروع العلم الشرعي أو الطبيعي أوالاجتماعي والانساني فليعلم أنه بذلك على ثغر من ثغور الأمة الاسلامية، فهو يعمل في سبيل الله، وينطبق عليه المقولة التي رددها كثير من السلف من أن مداد العلماء يساوي دماء الشهداء لأن من القواعد الفقهية المتفق عليها أنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ولن يتم واجب إعزاز المسلمين وحماية بيضة الإسلام إلا بالقدرة، والقدرة لن تكون إلا بهذه العلوم بجانب ما سنذكره في السطور التالية.

طبعا من الوارد أن مسلم أو مسلمة تكون طبيعته النفسية وتكوينه العقلي لا يميل أو لا يتوافق مع طلب العلم المتخصص والاشتغال بالبحث العلمي الذي ذكرناه، وهذه النوعية من المسلمين والمسلمات سيلقى على عاتقها واجب آخر تجاه أمتها وستكون مسئولة عن ثغر آخر من ثغور الأمة الإسلامية وعليها ألا يؤتى المسلمون من قبلها وهذا الثغر هو ثغر المال، فكما كل مجد وقدرة وقوة تحتاج علما شرعيا وطبيعيا واجتماعيا فإن كل مجد وقدرة وقوة تحتاج مالا أيضا، فمن لم يجد نفسه في العلم فعليه أن يحاول أن يسد ثغر المال بأن يجتهد في العمل الدنيوي الحلال ويحاول أن ينتهز كل ما يتاح له من فرص للثراء الحلال ليستخدم هذا الثراء لرفعة ومجد الاسلام والمسلمين، وينبغي أن تكون هذه نيته وعزيمته وديدنه وليكن قدوته في البذل والعطاء الصحابة الكرام خاصة الاثرياء منهم كعبد الرحمن بن عوف الذي خرج من ماله كله لله عدة مرات (أي تصدق بثروته كلها دفعة واحدة عدة مرات) ومثل عثمان بن عفان الذي جهز جيش العسرة، وينبغي أن يدرس سلوكيات أهل الثراء المعاصرين الذين وظفوا ثراءهم لخدمة قضايا كبرى (بغض النظر عن موقفنا منهم) مثل ال روتشيلد الذين كان لهم دور محوري ورئيس في تأسيس الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة ودعمه بل مازالوا يدعمونه حتى الآن، وكذلك روبرت مردوخ الذي سيطر بالمال على جزء مهم من اعلام استراليا ثم تمدد الى اعلام الولايات المتحدة وأوروبا وغيرها، ومن المهم أن نعي أن كثيرا من أثرياء المسلمين ينفقون عشرات او ربما مئات الملايين شهريا فيما يعتبرونه أبواب بر وخير كل شهر، ولكن هذه النفقات كثير منها يذهب الى المكان او الهدف الخطأ لأسباب كثيرة يطول شرحها وليس موضعها هنا الآن، ولكن لنعلم أن الصواب هو إدارك ودراسة تجارب الصحابة رضوان الله عليهم وعلماء السلف في النفقة والتجارب المعاصرة لتوظيف المال لتحقيق الأهداف الكبرى، وعلى من وظف نفسه لثغر المال أن يعلم أنه إن كان لم يتمكن من التفرغ للعلم والدعوة فعليه مساعدة العلماء وطلبة العلم والعلماء والجامعات ومراكز البحث العلمي ومراكز التعليم والدعاة والعمل الدعوى والإعلامي، فهو سيقوم بنفس ما يقوم به العلماء او الباحثون أو الدعاة ولكن بواسطة المال، كما ان توطين التكنولوجيا المتقدمة والصناعات والزراعات المتقدمة بافئدة وبلاد المسلمين ليس عمل العلماء والباحثين فقط لكنه عمل مالي أيضا.

يبقى أمر آخر وهو ما إذا كان المسلم أو المسلمة لا يمكنه أن يكون عالما ولا باحثا ولا متعلما ولا معلما ولا ثريا فماذا يفعل؟

فهذا النوع من المسلمين والمسلمات عليه عدة واجبات أخرى مهمة لعل أبرزها ما يلي:

-أن يبلغ ما يعرفه من الخير للآخرين فكما ورد بالحديث النبوي الصحيح (رب مبلغ اوعى من سامع ورب حامل فقه لمن هو أفقه منه).

-أن يبذل ما في وسعه لمساعدة ومساندة كل الفئات الني ذكرناها في السطور السابقة.

-أن يربي أولاده وأسرته على الإسلام والخلق القويم والمفاهيم الصحيحة قدر ما يستطيع فلعل يخرج منهم من يكون من الفئات السابقة (علماء، معلمون ، باحثون، دعاة، أصحاب أموال ينفقونها في سبيل الله).

-أن يجتهد في الدعاء للأمة ففي الحديث الصحيح (إنما تنصرون بضعفائكم).

القوات الأمريكية في العراق

الوجود العسكري الأمريكي والتركي في العراق وسوريا وموضعه من السنة الربانية

منذ عدة أيام لاحظت خبر وصول قطع بحرية روسية إلى قرب سواحل سوريا وتحمل صواريخ كروز يزيد مداها عن ألفي كم، وقالت روسيا أن هدفها دفاعي وما أن رجعت للبيت حتى وجدت خبر وصول قوات أمريكية الى العراق يصل عددها لأكثر من 1800 مقاتل بمعداتهم، أول تساؤل كان قفز لذهني مع الوصول الصاروخي الروسي ولكن سرعان ما جاء اول طرف للاجابة مع الوصول الامريكي، فروسيا عرفت نية الولايات المتحدة للتواجد العسكري لمزاحمة الاجندة الروسية وربما جانب من الاجندة الايرانية/الشيعية فعززت روسيا وجودها لتحد من مخاطر هذه المزاحمة، وتتابعت بعد ذلك بيوم او يومين الأخبار لتؤكد هذا الظن، فأمريكا تقرر ارسال الفرقة ١٠١ للعراق وهي فرقة محمولة جوا لها خبرة بالعراق وشاركت بدور فعال في غزو العراق أيام بوش الابن، ونجد جون بايدن يعلن من تركيا أنه إذا لم ينجح الحل السياسي في ‫سوريا‬ فإن الولايات المتحدة وتركيا‬ لن تسكتا وستتدخلان عسكريا لضرب الارهاب في سوريا وأردوغان يعلن ان ‫‏أكراد‬ سوريا وتركيا هم كداعش سواء وان تركيا وأمريكا وفرنسا وألمانيا و ‫قطر‬ لن تسمح للإرهاب بالتمدد في سوريا وأن تركيا لن تسمح بتموضع روسي في شمال سوريا.
ليس هدفي هنا سوق التحليل السياسي وانما هدفي أن أتخذه مدخلا لذكر قاعدة مهمة في مجال فهم فلسفة حركة الأحداث أو ماهو القانون الذي تتحرك الأحداث وفقه (وهي نفسها ما تسمى بفلسفة التاريخ) ومن ثم نفهم مستقبل أي أحداث او نتوقع مسارها العام على الأقل، فعندما دخلت روسيا بغشمها وإجرامها الى سوريا وسفكت دماء اهلنا هناك اسودت الدنيا في أعيننا جميعا ولكنني كنت أعلم بل أيقن أن أمرهم وأمر إيران/الشيعة لن يتم و سوف تسحقهم عجلة التاريخ وربما كتبت عن هذا كثيرا وقتها، الآن تتضح صورة سنن الله الثابتة التي لا تتبدل في مجال حركة الأحداث وأول معلم من معالم هذه السنة هي قوله تعالى: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [سورة آل عمران ١٤٠- ١٤١]
فلا مناص من هذه المداولة (بغض النظر عن تفاصيل حكمة وأسباب المداولة).
ولعل مما يوضح المدوالة هذه أيضا قوله صلى الله عليه وآله وسلم (حق على الله أن لا يرتفع شئ من الدنيا إلا وضعه) [رواه البخاري وأبوداود والنسائي].
وهنا يبرز سؤال مهم وهو: ما هي آليات تحقق هذه المداولة؟
ولا شك انه توجود عدد من الآليات التفصيلية في هذا المجال وردت في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية إلا أن أبرز هذه الآليات وأكثرها كلية هي آلية المدافعة (أي الصراع)، قال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [سورة البقرة 251].
وقال سبحانه أيضا: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [سورة الحج 40].
وقد كتبنا تفصيلا عن مفهوم هذا التدافع أو الصراع و ركائزه أو أنساقه الفرعية في مقال سابق هنا.
وبعيدا عن أي تفصيلات اخرى فإننا نريد أن نشير إلى أنه اذا شاهدنا علوا للظلم أو الظالم فلا ينبغي أن نظن أن هذه هي نهاية المطاف فالأيام دول، وما ارتفع شئ إلا وضعه الله، فإن نازعتنا أنفسنا متسائلة: كيف؟ فلنرد عليها بقوله تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) وقوله تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).

موازين القوى الاستراتيجية - صورة أرشيفية

موازين القوى الاستراتيجية بين الإفراط و التفريط عند أمتنا الإسلامية المعاصرة

مسألة توازن القوى أو الميزان الاستراتيجي أو موازين القوى الاستراتيجية هي ضحية شخص لديه افراط  أو آخر لديه تفريط من قادة و أبناء الحركة الإسلامية.

فهناك متهور ومندفع متجاهل لحقائق الميزان الاستراتيجي مدعيا أنه بالايمان وحده سيقلب كل الموازين، وهذا بينا فساده مرارا سابقا اذ سنة الله في خلقه الأخذ بالأسباب وإلا لما استغرق النبي صلى الله عليه واله و سلم 23 عاما للتمكين للإسلام في الجزيرة العربية ثم استغرق خليفته نحو السنتين لترسيخ هذا التمكين، ولم يخرق الله سنته الكونية في جهاد النبي صلى الله عليه و آله و سلم ولا في جهاد الصديق ولا أعفاهم من الأخذ بالاسباب الكونية.

وكان صلى الله عليه و آله و سلم يلبس درعين ويحرص على تطوير جيشه ودولته، وفي مجال تطويره صلى الله عليه و آله و سلم للجيش فلنتأمل المقارنة بين جيش معركة بدر الكبرى، حيث كلهم مشاة وكثير منهم بلا دروع وبين جيش فتح مكة حيث كانت كتيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والأنصار كلهم فرسان ولايرى منهم إلا عيونهم من دروع الحديد التي غطت أجسامهم، وغير هذا كثير مثل استخدامه المنجنيق وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول من أدخله الجزيرة العربية.

ويكفي في هذا المجال أن علماء الإسلام قديما وحديثا اتفقوا على أن القيام بالواجب منوط بالإستطاعة وأن العاجز يسقط عنه الواجب، ولاشك أن الذي عليه تحديد مقياس الاستطاعة هو الاستراتيجي المدرك لأبعاد وطبيعة موازين القوى، وليس العوام ولا القادة الذين تنحصر قدراتهم الادارية أو السياسية أو العسكرية في المستوى التكتيكي.

وعلى الجانب الآخر نجد الإفراط والمبالغة في تصور طبيعة الميزان الاستراتيجي، ومن ثم الانبطاح إزاءه بحجة (ايش نعمل في ظرف كهذا.. كل الظروف والقوى ضدنا أو كانت ضدنا…الخ) و هنا دائما يحضرني واقع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد 13 عاما صبرا ودعوة في مكة وليس معه الا نحو 154 مؤمنا، و يهاجر للمدينة و يؤسس دولته هناك، فما كان الميزان الاستراتيجي حينئذ في الجزيرة العربية؟ وكيف كان وضع النبي صلى الله عليه و اله و سلم و صحبه؟ وكيف كان وضع مكة و قريش في هذا الميزان؟!…
ثم يحضرني حال الصديق أبي بكر عندما ارتد العرب و لم يعد مسلما معه سوى مكة والمدينة والطائف بينما كل الجزيرة العربية ضده هم والفرس والروم.. فكيف كان الميزان الاستراتيجي بينه و بين كل هؤلاء حينئذ؟! و هل انبطح أبو بكر أو لانت قناته بدعوى (ما فيش غير كده) او بدعوى (كل القوى ضدي و انا وحدي انا و الصحابة)؟!

معركة - صورة أرشيفية

كيف نكسر الجمود في أي موقف سياسي ونحقق اختراقا ناجحا ضد الخصوم؟

أحيانًا يَحدث جمود في الموقف السِّياسي أو العسكري، ولا يستطيع أي من الفريقين المتصارعَين تحقيق نصرٍ حاسم، وعادة يكون سبب هذا الجمود هو قدرًا “ما” من توازن القوى بين الفريقين يَمنع من حَسم أحدهما الصِّراع لصالحه، وفي أحيان أخرى يَحدث الجمود في حالة الصِّراع بسبب التفوُّق الطَّفيف جدًّا لصالح طرف مع صمود الطَّرف الآخر وإصراره على عدم الهزيمة، وهنا يتَّسم الموقف بالجمود الكامل؛ بحيث يظل الصراع قائمًا دون قدرة أيٍّ من الطرفين على حسم الموقف الصِّراعي لصالحه وتحقيق نصرٍ صريح وواضح.

وكي نفهم طرق حلحَلة الوضع عندما يَصل إلى هذه الحالة؛ فعلينا تفكيك الموقف كالتالي:

التفوُّق على خصمٍ قد يكون عَبر تفوُّق عددي أو تفوق في الموارد الاقتصادية، أو تفوق نوعي (وهو الأغلب)، والنَّوعي قد يكون نوعَ سلاحٍ، أو درجة تدرب وكفاءة عناصره، أو تحصُّنًا بحصون يستحيل اقتحامها أو تعدِّيها بالطرق المعتادة، أو تفوقًا في الفِكر السياسي والإستراتيجي يمكِّنه من إجراء تحالفاتٍ ومعاهدات مهمَّة تغيِّر موازين القوى بحصوله على مزيد من الموارد المتميزة كمًّا أو كَيفًا أو كليهما، كما أنَّ التفوُّق في الفِكر السياسي والإستراتيجي يتيح له تحرُّكات فعَّالة ومؤثِّرة تحقِّق له ضغطًا مهمًّا على خصمه.

وطرق كسر هذا الجمود عدَّة، ونذكر جانبًا منها ممثِّلين بالحركة في معركة حربيَّة لتسهيل التوضيح:

♦ التضحية لكسر الجمود كسرًا؛ لأن بعد كسر الحصن الذي يسدُّ الطريقَ سينفتح الطريق.

♦ الالتفاف من على الأجناب لمهاجمة الأجناب وصولاً للعمق، أو الالتفاف الكامل للوصول إلى المؤخِّرة ومهاجمة المؤخِّرة بما يربك العمق والقيادة.

ودرس مهاجمة الأجناب أو المؤخرة حصيلتُه أو مؤدَّاه أو جوهره هو اختيار الأماكن الرخوة للضَّغط عليها؛ لأنَّ الضَّغط فيها يؤدِّي لاختراقها وصولاً للعمق، وهو على كلِّ حال يضعف ويربك العمق حتى ولو لم تصل له.

وبذا يكون دائمًا – وفقًا لهذه الإستراتيجية المقترحة – أنَّه إما أن نكسر العقبَة الصَّعبة التي تسد طريقَ الوصول لعمق ورأسِ العدو عبر ثمنٍ مرتفع من أجل فتح الطريق ليصبح سهلاً لنندفع فيه بقوة وسرعة بعدها.

وإمَّا أن نختار الأماكن الرخوة فنضغط عليها، وغالبًا ما تكون المؤخرةَ والأجناب وخطوط الإمداد، أو مخازن التموين أو مصدر الإمداد.

عمليات الالتفاف أو الضَّغط على النِّقاط الرخوة للنفوذ عبرها للعمق؛ هذه تَعتمد على حيازتك جهاز معلوماتٍ ذا قدرة مناسبة على جَمع المعلومات وتحليلها تحليلاً علميًّا موضوعيًّا سليمًا.

♦ وهناك محور آخر لكسر الجمود في حالة ما إذا كان الجمود ناتجًا عن تعادل القوى لدى طرفَي الصِّراع، فحينها هناك أسلوب المطاولة، بشرط أن تَسعى لتطوير قدراتك وترقيتِها، مع منع الخصم من تطوير قواه وترقيتها في نفس الفترة، وصولاً منك للقدرة على الفوز عليه والإيقاع به بقدراتك المطورة.

وتطبيق ذلك كله على الصراع السياسي له أمثلةٌ عديدة، نذكر جانبًا منها للتوضيح على النحو التالي:

إنَّ الحصن الذي ذكرناه في الأمثلة السَّابقة قد يكون في السياسة الدَّاخليَّة هو قانون أو آليَّات إدارية بالغة التأثير تتَّخذها الحكومة لمنع حريَّة المعارضة في العمل الجماهيري أو اكتساح انتخابات، أو حريَّة العمل الإعلامي وتوصيل المعلومات الحقيقية ومواقف المعارَضة إلى عامَّة الشَّعب، وحينئذٍ يُعتبر إلغاء هذا القانون أو هذه الآليات الإداريَّة هو كَسرًا للجمود الحادث في الصراع.

أمَّا بشأن الضَّغط على الأماكن الرخوة، فإنَّ تجسيدها السياسي قد يكون أخطاء وإخفاقات فادِحة ترتكبها الحكومةُ، فتستغلها المعارضة لفضحِها وجذبِ غالبيَّة الجماهير لها، وتعبئتِهم وتنظيمهم ضدها.

وقد يكون الموقع الرخو هو انقسامًا في الحزب الحاكِم أو صراعًا داخله، فتستغل المعارضة هذا بشكلٍ أو بآخر.

وقد تكون الأماكن الرخوة هي فسادًا ضخمًا مستترًا، فتفضحه المعارضة، أو قد تكون معاناة طبقة أو فِئة من الشَّعب من سياسات الحكومة، فتستقطبها المعارضة.

وقد تكون المواقع الرخوة هي وجود أحزاب وحركات معارضة أخرى يمكن التحالُف معها ضد الحزب الحاكم.

وهنا قد يقول قائل: إنَّ هذا كله يَحدث بلا جدوى، ولكن أقول له: حقيقة الأمر أنَّ هذا لا يحدث؛ لأنَّ الذي يَحدث هو عمل إعلامي فقط، وليس عملاً سياسيًّا متكاملاً، فالإعلام خطوة أولى لا بدَّ أن يتلوها خطوات عديدة تَحصد ثمرةَ هذا العمل الإعلامي، فضلاً عن أنَّ العمل الإعلامي نفسه يَجب أن يكون فعَّالاً ومؤثرًا؛ بمعنى أن تصل الرِّسالة الإعلاميَّة إلى جمهورها المستهدَف، لا أن تكون الرِّسالة الإعلاميَّة هي مجرد نشرةٍ داخليَّة لا تصل إلاَّ للأتباع والأنصار المتعاطِفين أصلاً معك ومع كلِّ ما تقوله.

وبشكلٍ عام فالإستراتيجية التي نَقترحها قائمة على كَسر الجمود عبر اختراق ما، وهذا الاختراق قائم على إبداع حلولٍ تحل المشاكلَ وتُزيل الجمودَ، وتعتمد فقط على الموارد الموجودة أو على تطوير الموارد الموجودة، وتكمن قوَّتها في قوَّة الفِكر والخيال الإبداعي الذي يَقف خلفها.
 
وهناك أمثلة كثيرة في العمل السِّياسي المعاصِر لعمليَّة اختيار المَواطِن الرخوة واستغلالها، ونذكر الأمثلة التالية للتوضيح:

♦ عندما نشأ الاتحادُ السوفيتي كان يروِّج الماركسيَّة في العالَم، وأراد نشرَها في مصر، وبينما تعتمد الماركسية على تنظيم وتعبئة العمال (نظريًّا)، فإنَّها وجدَت فرصتَها بتجنيد أولاد الذَّوات من أبناء باشوات مصر الذين يدرسون في أوروبا، ثمَّ عَبْرهم نشرَت الماركسيَّة عندما عادوا إلى مصر.
 
♦ عندما وضع “ماركس” نظريَّتَه اعتمد فيها على أنَّ من سيفجِّر الثورةَ هم عمَّال المصانع، وبالتالي توقَّع أن تكون أول ثورةٍ ماركسيَّة في ألمانيا وبريطانيا لأنَّهما الأكثر تقدُّمًا صناعيًّا، وبهما مصانع وعمالة كثيفة (في القرن الـ19 م)، لكن في القرن العشرين أراد “لينين” أن يفجِّر الثورةَ في روسيا، وكانت روسيا دولةً زراعيَّة ليس بها عمَّال، فارتكزت ثورته على عمَّال المواني والجنود.
 
♦ وشيء مشابه فعلَه “ماو” في الصين ؛ إذ لا عمَّال مصانع ولا مواني، فماذا يفعل؟ لقد توجَّه بعمله الثَّوري للعاملين بالزِّراعة، وارتكزت ثورته عليهم ونجح أخيرًا عام 1949.
 
♦ عندما أرادت إيران اختراقَ لبنان والسيطرة عليها، بدأت عبر الشِّيعة الإماميَّة هناك، وهم على نفس المذهب الإيراني، ولكن عندما أرادَت اختراقَ اليمن اعتمدَت على الشيعة الزيديَّة؛ وهم مذهب شيعيٌّ آخر، لكنَّه الأقرب لها بدلاً من الأغلبيَّة السنيَّة، وعندما أراد أتباعُها الحوثيون التوسُّعَ في اليمن واحتواء بقيَّة الشَّعب تبنَّوا قضايا شعبيَّة؛ مثل غلاء الأسعار ورفع الدعم… إلخ، وفي سوريا اعتمدَت إيران فيما اعتمدَت على العلويِّين، وهم شيعة إسماعيلية، وهو مذهب ثالث مختلِف عن الإمامية والزيديَّة، وعندما أرادت التوسُّعَ في الشام واحتواء الشَّعب هناك تبنَّت هي وأتباعها شعارات مواجهَة إسرائيل وأمريكا؛ لسخونَة الصِّراع العربي الصهيوني في الشام والأردن.. ثمَّ نجد إيران تتواصَل في التسعينيات من القرن الماضي مع السلَفيَّة الجهاديَّة في أكثر من مكانٍ لتحقق نفوذًا في أماكن لا يوجد فيها شيعة، بل تتواصل الآن مع طالِبان في أفغانستان (رغم أنَّ لها شيعةً إماميَّة أتباعًا لها هناك)، ولكن المؤشِّرات أثبتَت أنَّ طالبان ستكون لها اليد الطولى في مستقبل أفغانستان السياسي فسعَت لها إيران.
 
وهكذا، فباختلاف الزَّمان والمكان تَختلف الفرصةُ أو المَوطن الرخو الذي يمكن عبره تحقيق الاختراق وكسر الجمود.

الصراع في المنطقة العربية - صورة أرشيفية

مستقبل الصراع السياسي و العسكري في المنطقة العربية و أفريقيا و أفغانستان (5 من 5)

ذكرنا في الحلقة الأولى أننا نسعى للاجابة عن سؤال: ما هو مستقبل الصراع السياسي و العسكري في المنطقة العربية و أفريقيا و أفغانستان؟ و قلنا أنه كي نتمكن من الاجابة على هذا السؤال فلابد أولا أن نعيد توصيف هذه القوى و أهدافها لنعبر عنها بجوهر وصفها بدلا من الوقوف عند حد توصيفها بأسمائها فقط  ، و شرحنا في الحلقة الأولى توصيف كل من المشروع التركي و مشاريع الجهاد العالمي و الجهاد المحلي و تنظيم الدولة الاسلامية كما ذكرنا في الحلقة الثانية المشروع السعودي و المشروع الاخواني و ذكرنا فيالحلقة الثالثة مشروع الامارات-السيسي و مشروع إيران ثم ذكرنا في الحلقة الرابعة مشاريع الولايات المتحدة و اسرائيل و روسيا و الصين في المنطقة  و نختم هذه السلسلة بهذه الحلقة الخامسة و التي نذكر فيها توقعاتنا بشأن مستقبل المنطقة فيما يتعلق بأغلب المشاريع المذكورة في الحلقات السابقة.

مستقبل الصراع في المنطقة

 

سوف يستمر الصراع في المنطقة بين كل هذه القوى التي ذكرناها في الحلقات السابقة وفقا للتحالفات القائمة الآن و ان كان البعض منها قد يتغير مع تطور الأحداث و على كل حال فسوف يستمر الصراع السياسي و الحروب حتى يحدث التوازن بين من يصمد منها و يستمر باقيا و لا يفنى حتى لحظة حدوث التوازن، و التوازن يحدثه احد ثلاث عمليات:

العملية الأولى: يطور الضعيف من هذه القوى نفسه ليتمكن من التوازن مع   الاخرين الأقوى منه فلا يصبح هناك اي طرف ضعيف بل يستمروا كلهم بقدرة متوازنة مع بعضهم البعض فتقتنع كل قوة منهم بألا قدرة لها على افناء خصومها فتختار تكريس الوضع القائم أي الأمر الواقع إما باتفاقات مقننة او بصمت و إقرار ضمني بلا تقنين قانوني أو إعلان صريح.

العملية الثانية: يحدث انهاك للجميع فيتساوى الجميع في الضعف فتحدث نفس النتيجة السابقة و هي توازن القوى و ما يصحبه من قناعة بألا قدرة لأحد على إفناء الآخر.

العملية الثالثة: يُنهك الأقوى بدرجة تقربه من درجة ضعف الضعيف و يتطور الاضعف فيرتقي لدرجة تجعله في مستوى الاقوى بعدما انهك فيتوازنان و نصل لنفس النتيجة السابقة.

و رغم هذا كله فهناك قوى ستمحق و تزول و اخرى ستبقى فمن هي؟؟؟    

 ربما يزول طرفا الغلو يمينا و يسارا و لكن من يزل لا يتحتم أن يكون زواله فيزيائي أو واقعي و انما قد يعدل نفسه ليصير كأنه قوة اخرى جديدة لها خصائص سياسية و فكرية جديدة فيصبح قد زال شكله الفكري و السياسي و قدر من الجغرافي السابق على التعديل و ظهر بكينونة جديدة.

الي ماذا ستؤول الاتجاهات الموجودة الآن؟؟؟

سيتحول تنظيم الدولة و تنظيمات القاعدة الى توجه يشبه توجه الجهاد المحلي و إن لم يفعلا ذلك فسوف يزولون تماما أو يضعفون جدا بحيث لا يبقى لهم أي وجود حقيقي لكن ربما يبقى لهم مجرد وجود رمزي و شكلى عند نهاية مرحلة الصراع الحالية بوصول المنطقة لدرجة كبيرة من الاستقرار عبر توازن القوى .

و سيتحول غلاة العلمانية لموقف التظاهر بالاسلام التقليدي لكنه في جوهره علماني جدا لكنه يظهر هذا المظهر ليتعايش مع الحركات الاسلامية بغية كسب ودها كي تكف عن معارضته.

 الاخوان المسلمون لو ظلوا على نفس منهجهم السياسي و الاستراتيجي دون أي تغير فقد يستفيدون من بعض الصفقات السياسية التي ستعقد بعد نهايات الصراع في كل دولة من الدول، لكن أرباحهم ستقتصر على السماح لهم بحرية ما للتواجد عبر حركة سياسية و دعوية في كل دولة على حدة، و مع هذا سيفقدون قدرا كبيرا من أنصارهم كما سيفقدون الزخم الجماهيري الذي كان يصحبهم في العقود الثلاثة الأخيرة لأن كل تمدد جهادي أو علماني أو شيعي فهو يخصم من رصيدهم الجماهيري لأن جماعة الاخوان المسلمون جعلت منهجها السياسي و الاستراتيجي على النقيض من هذه المشروعات الأخرى كلها منذ أربعين عاما تقريبا و لم تبن أي جسور تعاون أو تحالف حقيقي مع أي منها.

و من المتوقع أن يكون الكاسب الأكبر في نهاية المرحلة هو قوى الجهاد المحلي كأحرار الشام و فجر ليبيا و حماس و نحوهم لأنهم يعدون بديلا عن تنظيم الدولة و القاعدة و في نفس الوقت فإن قدراتهم و سيطرتهم على الأرض ستمنع القوى الدولية و الاقليمية من ازاحتهم و إحلال الإخوان أو الإسلام التقليدي (السعودي) كبديل لهم ، هذا إن توحدوا و تعاونوا و لم تضربهم سوسة الشقاق و الخلاف الداخلي الذي لو حدث فسوف يقضي عليهم و ينصر خصومهم.

و سيسعى خصوم التيار الاسلامي بعامة و الجهادي منه بخاصة الى اختراق الحركات الاسلامية ليس فقط للحصول على المعلومات من قلب قيادتها و لكن أيضا لتوجيهها وفقا لأجندات القوى الاقليمية و الدولية و تمزيقها ببذر بذور الشقاق بينها و ضرب بعضها ببعض و سوف يستغلون حب الرياسة و التعصب الحزبي لتحقيق ذلك و لن تنجح أي حركة إسلامية إلا بتجاوز هذه العقبة.

و سيظل لايران أماكن نفوذها خاصة بأجزاء من كل من العراق و لبنان و سوريا و اليمن.

كما ستتمتع السعودية بنفوذ ذي شأن بعد أن تكسر النفوذ الايراني و تقلل من قدراته و تمدده و ذلك بشرط ان يظل ال سعود متحدين و لا يتنازعوا و يظلوا مصرين على المبادرة بالمنطقة.                                                                      

وماذا عن القوى غير المتحيزة جغرافيا مثل الاسلامين في مصر؟؟؟

هؤلاء يرتبط مصيرهم بمصير التغيرات الشاملة في المنطقة ككل اذ ما يحصل في سوريا و العراق و أفغانستان و اليمن و ليبيا و الخليج و تركيا سيؤثر على مصر و نتيجة الصراع في كل هذه البقاع سوف تحدد نتيجة الصراع في مصر.

ما الشكل الجغرافي المتوقع في كل بقاع المنطقة؟؟؟

من المتوقع أن تتغير الجغرافيا السياسية في المنطقة و تتحول الكيانات الى دول صغيرة بانقسام سوريا و العراق و ربما اليمن و ليبيا و الصومال و مالي و نيجيريا و ربما العديد من الدول الأخرى ، و سيصير هناك دولا تحكمها قوى الجهاد المحلي و اخرى تحكمها تنظيمات تابعة للقاعدة أو تنظيم الدولة بعد تعديل في موقفهما كما ذكرنا، بجانب استمرار الدولة السعودية و إيران و ستعود طالبان لحكم أفغانستان ، وسوف يتغير نظام الحكم في مصر و يتحول أولا لنظام يشبه لنظام مبارك عام 2005 و ربما يتحول في مرحلة تالية لنظام حكم يحكمه تحالف من الاخوان و العسكر لكنه سيظل في صراع مرير و طويل مع فصائل إسلامية تابعة لقوى الجهاد المحلي أو العالمي.

ما موقف اسرائيل من هذا و ما مستقبلها؟؟؟

ستستغل اسرائيل الصراعات لبسط هيمنتها أكثر و اكثر على الفلسطينين في الضفة الغربية و القدس الشريف و الضغط على غزة، كما ستستجم قوتها لانشغال المنطقة عنها فضلا عن تحقيق العديد من المكاسب السياسية و الاقتصادية بفعل زيادة تعاونها مع مزيد من القوى بالمنطقة.

ما هو موقف الولايات المتحدة و أوروبا من أحداث المنطقة؟؟

المشروع الأقرب لقلب و عقل الولايات المتحدة و أوروبا و إسرائيل هو مشروع الامارات-السيسي (و يليه مشروع إيران، أما المشروع الصهيوني فهو مشروع الولايات المتحدة نفسها) لكن مشروع الامارات-السيسي هو الأبعد و الأغرب عن طبيعة المنطقة الفكرية و الاجتماعية بل و السياسية و مع هذا فستظل الولايات المتحدة تساند مشروع الامارات-السيسي ، و تراقب ما يحدث و سوف تنتهز الفرص المختلفة لانجاحه او الضغط على خصومه لكن دون تورط في شئ واضح أي دون تدخل عسكري بري و سوف تتفاهم بشكل أو بآخر في النهاية مع من يحكم على الأرض و يتحكم في الواقع و يصير هو نفسه أمرا واقعا لا مناص عن التعامل معه و ان ظلت تتربص به الدوائر ما لم يكن على هواها.

و ما تأثير هذه الأحداث علينا سلبا و ايجابا؟

لقد أوضحت السطور السابقة ما نتوقع أن تسير عليه الأحداث الى أن يهدأ الصراع السياسي و العسكري في المنطقة ، و يمكن تدبر هذا التوضيح لمعرفة ما المصالح و ما المفاسد التي ستترتب على سير الأحداث و معرفة كيف نستغل الفرص التي تكمن في هذه الأحداث و كيف نتجنب المخاطر التي تحملها هذه الأحداث ، و نتبين موقع أقدامنا و نتلمس سبل النصر و أسبابه و كما قال بعض السلف الصالح “و تختلف الاستفادة بالعلوم بحسب القرائح و الفهوم” و كما في الحديث النبوي الصحيح “رب حامل فقه ليس بفقيه و رب حامل فقه لمن هو أفقه منه”.

و على كل حال فبعد نشر هذه السلسلة من المقالات فسوف ننشر إن شاء الله سلسة أخرى أظن أنها لابد أن تكون قرينا لهذه دائما فيصير هذا الزوج لا غنى عن دراستهما معا لكل من يريد النصر و العز لهذه الأمة.

ماذا علينا تجاه هذه الأحداث عملا فيها و تجهزا لمراحلها المختلفة؟؟

هذا هو موضوع السلسلة الأخرى التي أشرنا إليها آنفا و سوف نكتبها عن “العمل الاسلامي” ان شاء الله لتكون قرينا لهذه السلسلة التي انتهت بفضل الله و منته ، و نسأل الله تعالى أن ييسر لنا هذا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

 إقرأ الحلقة الأولى هنا

و إقرأ الحلقة الثانية هنا

و إقرأ الحلقة الثالثة هنا

و إقرأ الحلقة الرابعة هنا