محمد بن زايد مع وزير خارجية إيران - صورة أرشيفية

مستقبل الصراع السياسي و العسكري في المنطقة العربية و أفريقيا و أفغانستان (3 من 5)

ذكرنا في الحلقة الأولى أننا نسعى للاجابة عن سؤال: ما هو مستقبل الصراع السياسي و العسكري في المنطقة العربية و أفريقيا و أفغانستان؟ و قلنا أنه كي نتمكن من الاجابة على هذا السؤال فلابد أولا أن نعيد توصيف هذه القوى و أهدافها لنعبر عنها بجوهر وصفها بدلا من الوقوف عند حد توصيفها بأسمائها فقط ، و شرحنا في الحلقة الأولى توصيف كل من المشروع التركي و مشاريع الجهاد العالمي و الجهاد المحلي و تنظيم الدولة الاسلامية كما ذكرنا في الحلقة الثانية المشروع السعودي و المشروع الاخواني و نواصل في هذه الحلقة توصيف بقية المشاريع بالمنطقة على النحو التالي:

-مشروع السيسي/الامارات

بغض النظر عن الكثيرمن التفاصيل فإن هذا المشروع يعبر عن غلاة العلمانية في المنطقة العربية، و لا شك أن صعود الاسلاميين سياسيا بعد الربيع العربي أوضح أن الغالبية العظمى من العلمانيين العرب خاصة في مصر هم غلاة جدا في علمانيتهم، و لا يقبلون الا بإقصاء كل ما هو إسلامي حتى و ان لم يكن سياسيا، و لم يتضح هذا الاتجاه بين كتاب و اعلامي العلمانية فقط بل برز أنه اتجاه مهيمن على الأجهزة الأمنية بشقيها العسكري و الشرطي، و قد أجج الصعود السياسي الاسلامي في مصر الأحقاد لدى هذه القوى تجاه الحركات الاسلامية، بل تجاه التدين الاجتماعي أيضا فأطلقوا حربا لا هوادة فيها تجاه الاسلاميين كما هو معروف و مشاهد لكل متابع للشئون العربية في السنوات الثلاث الأخيرة.

هذا المشروع الذي يقوده رئيس مصر الحالي المشير عبد الفتاح السيسي و رجل الامارات القوي ولي العهد الأمير محمد بن زايد يهدف الى اقصاء الاسلاميين بمختلف تياراتهم عن أي وجود سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو فكري ثقافي في الساحة العربية، و أدى هذا لصدامات مع المتظاهرين المعارضين في مصر، و كذلك اشتباكات مسلحة مع معارضين مسلحين بعضهم أعلن انتمائه لتنظيم الدولة، و بعضهم لم تعرف امتداداته التنظيمة بعد، كما حدثت صدامات مسلحة بين موالين للسيسي و بن زايد (قوات حفتر) و قوى اسلامية مسلحة في أنحاء متفرقة في ليبيا.

و أبرز إشكاليات هذا المشروع أنه كي يبلغ مداه فلابد له من أن يتصادم مع البنى الاجتماعية الأصلية في مواطن تمدده بما في ذلك أكبر دولة عربية سكانيا و هي مصر بجانب دول قبلية كاليمن و ليبيا و هي دول تدعم قبائل مهمة فيها تيارات اسلامية متعددة ، و كيف سيتصرف هذا المشروع مع بنى اجتماعية راسخة تؤمن بالخطاب الديني الذي يصمه بالارهاب مثل المؤسسة الدينية السعودية و قواعدها الاجتماعية التي تكاد تشمل كل قبائل و عائلات المملكة.

و من هنا فهذا المشروع يتصادم ليس مع كافة المشاريع الاسلامية (الاخوان ، الجهاد العالمي ، الجهاد المحلي) بالإضافة الى المشروع التركي و لكنه يسير إن عاجلا أو أجلا للصدام مع المشروع السعودي أيضا و لا يوجد من هو أقرب اليه الا المشروع الايراني المدعوم روسيا إلا انه حتى مع هذا المشروع سيكون مهددا لأن هذا المشروع لا يقبل الا التبعية المطلقة و هذا سيفتح عليه أبواب ضغوط أخرى تتعلق بخريطة التمدد المسموح به لايران أمريكيا و اسرائيليا كي لا تتطغى على النفوذ الاسرائيلي بالمنطقة.

و فضلا عن هذا كله فإن المحور الامارتي المصري لا يقوى وحده على تمويل مشروعه السياسي و الاستراتيجي اقتصاديا.

-مشروع إيران

مشروع ماكر جدا و يعمل بدهاء كبير جدا في العالم الإسلامي بكامله بل في العالم كله من أجل نشر التشيع بين جميع المسلمين السُنَّة و السيطرة على العالم العربي سياسيا.

و قد تمكنت إيران في الفترة الأخيرة من قطف كثير من ثمار ما زرعته منذ نحو أربعين عاما من العمل في المنطقة العربية من تمكين لحزب الله في لبنان و تمكين للحوثيين في اليمن و قبلها كان تمكين الشيعة في العراق و كادت تأخذ البحرين لولا تدخل القوات السعودية و الإماراتية كما نجحت إيران مع تابعها بشار في سوريا من تحجيم الثورة السورية بدرجة ما أو على الأقل عرقلة نجاحها الذي كان وشيكا في فترة ما.

و إذا كان أردوغان يعمل على خداع أمريكا و أوروبا ليفلت بمشروعه -بالتحول إلى دولة عظمى- إلى بر الأمان دون الاصطدام بأمريكا عبر إيهامها بأنه صديقها و انه معتدل و يحارب التطرف و الإرهاب الإسلامي فإن إيران تفعل نفس الشئ لكن عبر تصوير كل الحركات الإسلامية السنية بأنها إرهابية بل و تصوير أردوغان نفسه بأنه إرهابي و بأن إيران نفسها هي دولة معتدلة و متعاونة مع أميركا و أوروبا ضد الإرهاب الإسلامي.. و فرصة الثقة بين أميركا و إيران في هذا المجال أكبر من فرصة أردوغان.

و تأتي فرص إيران الأوفر لأسباب عديدة و منها على سبيل المثال التالي:

1-إيران عاونت أميركا كثيرا جدا في ضرب الإسلاميين في أفغانستان و باكستان بينما أردوغان رفض التعاون هناك.

2-نفس الشئ فعلته إيران في العراق بينما رفض أردوغان معاونة أميركا هناك بل و بعد ذلك ظل يساند التركمان و السنة العرب ضد شيعة العراق بدرجة ما كما وثق علاقاته الاقتصادية و السياسية و الأمنية مع أكراد العراق ضد شيعة العراق و ضد إرادة إيران.

3-إيران تضرب السنة من القبائل الحاضنة لأنصار الشريعة الآن في اليمن عبر الحوثيين و تجعلهم يعلنون أنهم بذلك يحاربون الإرهاب و تساندهم أميركا بطائراتها و عملائها اليمنيين.

و أهم شئ في العلاقة بين إيران و أمريكا من وجهة نظري هو ان أميركا تنخدع لإيران في كل هذه الأمور و غيرها لهدف أكبر من ذلك كله و هو هدف استراتيجي يتمثل في أن أميركا تريد لإيران أن تقوى بدرجة معينة و تتمدد في المنطقة لما هو “آتي” و هو أن أميركا تعلم جيدا أن خلافة أو دولة إسلامية سنية واعية و ناضجة و مدركة لطبيعة العصر الذي نعيشه سوف تنشأ خلال السنوات القادمة و بالتالي فهي تعد إيران من طرف خفي للتصدي لهذه الدولة عسكريا و سياسيا لتجهضها أو على الأقل تستنزفها.

و هذا نوع من اعادة ما جرى في التاريخ العثماني عندما أمدت ممالك أوروبا المملكة الصفوية بالمال ممولة لحروبها ضد العثمانيين مما أوقف الزحف و الفتوحات العثمانية في أوروبا بعد أن كانت القوات العثمانية قد حاصرت فيينا و قضمت نصف أوروبا الشرقي.. و نجحت بذلك أوروبا -وقتها- في إيقاف الزحف العثماني في اتجاه أوروبا لأن العثمانيين اضطروا لنقل مجهودهم الحربي كله الى الشرق للتصدي للهجمات الصفوية في المشرق العربي.

و تريد إيران توطيد نفوذ ذيولها في العراق و لبنان و اليمن و القضاء على معارضيهم هناك كما تسعى إلى تصعيد نشاط شيعة البحرين وصولا للاستحواذ على الحكم إذا سنحت الفرصة كما تريد أن تهزم الثورة السورية لتوطد حكم العلويين و تلجأ إيران لحيل عديدة في سوريا من أجل تحقيق هذا، فبجانب مجهودها العسكري فإنها قد تلجأ لحل سياسي ما بالتوافق مع المحور الخليجي و الولايات المتحدة .

و يضاف لذلك نشاطها الكبير عبر الشيعة داخل الكويت و السعودية و مصر و أفغانستان و باكستان و غيرها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

و نواصل التحليل في الحلقة التالية غدا إن شاء الله.

و إقرأ الحلقة الأولى هنا

و إقرأ الحلقة الثانية هنا

و إقرأ الحلقة الرابعة هنا

و إقرأ الحلقة الخامسة و الأخيرة هنا

اعتصام رابعة - صورة أرشيفية

مستقبل الصراع السياسي و العسكري في المنطقة العربية و أفريقيا و أفغانستان (2 من 5)

ذكرنا في الحلقة الأولى أننا نسعى للإجابة عن سؤال: ما هو مستقبل الصراع السياسي والعسكري في المنطقة العربية و أفريقيا و أفغانستان ؟

وقلنا أنه كي نتمكن من الاجابة على هذا السؤال فلابد أولاً أن نعيد توصيف هذه القوى وأهدافها لنعبرعنها بجوهر وصفها بدلاً من الوقوف عند حد توصيفها بأسمائها فقط، وشرحنا في الحلقة الأولى توصيف كل من المشروع التركي ومشاريع الجهاد العالمي والجهاد المحلي وتنظيم الدولة الاسلامية ونواصل في هذه الحلقة توصيف بقية المشاريع بالمنطقة على النحو التالي:

  • المشروع السعودي :

السعودية ترجع تركيبة نظامها السياسي أنه تحالف بين الوهابية وقيادة آل سعود كقيادة سياسية ثم حدث الصدام بين عبد العزيز آل سعود وجناح ما في الوهابية وهو الجناح الذي كان يريد أن يصطدم بالنظام الدولي عبر مواصلة فتوحات الدولة السعودية بالإقليم العربي مما يتصادم مع النظام الدولي الذي كانت تقوده انجلترا وفرنسا وقتها.

ورغم هذا الصدام فإن عبد العزيز لم يستغل هذا الحدث كي يقصي الحركة الاسلامية بشكل كامل لكنه أقصى فقط الجناح الذي يرغب في الصدام الدولي بينما أقر وجود ونفوذ الجناح الذي يترك الشؤون الدولية للملك ويركز على الشأن الداخلي.

ظلت السعودية كنظام حكم هي نظام حكم إسلامي يتماشى مع النظام الدولي ولا يصطدم به إلا في إطار المسموح به ولكنه نظام إسلامي سني تقليدي وليس ثورياً وتنبئنا خبرة التاريخ أنه يصعب (ولا يستحيل) على النظام السعودي التوافق مع القوى الإقليمية إذا كانت تعاند ثوابت الإسلام الكبرى فقد تعكرت الأجواء دائماً بينهم وبين قوى الحداثة اليسارية واليمينية حتى أواخر السبعينات (نماذج بورقيبة وناصر والبعث والقذافي).

وأيا كانت التفسيرات فإن النظام السعودي تأقلم مع التدين إقليميًا والعكس بالعكس ولكن كان لسان حاله أن الذنب جهة العرب مغفور لكنه تجاه ملوك الروم غير مغفور. أذكر الأثر في ذلك موجة السفاهة والحمق الأخيرة ضد كل ما هو اسلامي التي قادها وغذاها الإمارات وعلماني مصر تحالف معها عبدالله بن عبد العزيز وطاقمه الملكي وكان من الممكن أن يؤدي ذلك إلى تغير تاريخي في التوجهات السعودية إلا أنه سرعان ما عاد الملك سلمان بالدفة السعودية إلى توجهاتها المعتادة لكن الضغط الإماراتي والمصري المدعوم من الغرب (أمريكا وأوروبا) وإيران متواصل للدفع بالسعودية في اتجاه معاداة التيار الإسلامي وهو أمر يستحيل أن تسير عليه السعودية لأن البناء الاجتماعي وأغلبية هياكل القوة الاجتماعية (العائلات والقبائل) والاقتصادية (أصحاب المال) لا تقبل إقصاء كل ما هو إسلامي كما يريد غلاة العلمانية فضلاً عن أننا في زمن صعود سياسي وعسكري بالمنطقة للتيار الإسلامي وهو ما تريد أن تستفيد منه المملكة لمواجهة القوة الإيرانية الكاسحة بالمنطقة والمدعومة عسكريًا وسياسيًا من قبل روسيا والصين ومدعومة بغض طرف من أوروبا والولايات المتحدة، وقد وصل الملك سلمان وطاقمه إلى حقيقة مؤداها أنه لابد للمملكة أن تبرز أنيابها لحماية أمنها القومي.

ومن هنا فالسعودية تسعى لمواجهة النفوذ الايراني بقدراتها الذاتية وعبر التحالف مع المحور التركي القطري وكذلك التحالف مع الكثير من القوى الإسلامية خاصة الأقل خطورة مثل الإخوان المسلمون وتيار الجهاد المحلي، ولا تريد السعودية من ذلك السيطرة على المنطقة (بعكس إيران وتنظيم الدولة والقاعدة) وإنما يكفيها تأمين مناطق أمنها القومي التقليدية مثل الخليج وجنوب الجزيرة العربية (اليمن وبحر العرب وباب المندب) والبحر الأحمر والشام وجنوب العراق عبر وجود قوى صديقة مسيطرة على هذه المناطق وبعيدة عن نفوذ ايران.

  • مشروع الإخوان المسلمين :

وجوهره الإرتقاء بدوله اقتصاديًا واجتماعيًا مع تطبيق تدريجي على مدى بعيد للغاية للشريعة الإسلامية في الحكم بما لا يغضب النظام الدولي وقواه المتحكمة فيه ولا يسبب صدامًا معها (خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) وهم يفترقون مع أردوغان من حيث أنه يشد أحيانًا ويرخي أحياناً أخرى مع النظام  الدولي (بما في ذلك مع أمريكا والاتحاد الأوروبي وإسرائيل) لأنهم مهادنين دائمًا للنظام الدولي.

كما أن محور الإخوان المسلمون يختلف مع التيار الجهادي الدولي وداعش حيث تقوم استراتيجياتهما الدولية والإقليمية على الصدام مع النظام الدولي والإقليمي.

ويختلف الإخوان المسلمون مع التيار الجهادي المحلي لأنه يقوم على مخالفة النظامين الإقليمي والدولي لإيمانه أنهما لا يخدمانه ولا يسمحان له بالعمل وإن كان يبتعد قدر إمكانه عن الصدام معهما إلا إذا فرض عليه الصدام فهو حينئذ لا يتردد في الصدام معهما بينما يتهرب الإخوان من أي صدام كهذا بل ويتبرئون منه فضلاً عن كون تيار الإخوان لا يظهر أي خلاف مع النظامين الإقليمي والدولي بل ويسعى دائمًا للاندماج فيهما، كما أن تيار الإخوان يعمل وفق الآليات التي يتيحها النظام الدولي والإقليمي له للعمل ولا يتخطاها ورغم أن معارضة هذا التيار لانقلاب السيسي تخرج عن هذه القاعدة وكانت سابقة هي الأولى من نوعها لتيار الإخوان وكان من الممكن أن تؤسس لتطور جديد لدى جماعة الاخوان (وبلغت المعارضة ذروتها في اعتصام رابعة العدوية وميدان النهضة) إلا أن هذه المعارضة لم تأخذ مداها في التكتيكات الاحتجاجية لتكون كافية لتحقيق نتيجة مهمة أو على الاقل التأسيس لتطور ما جديد في سياسات الإخوان المسلمون.. لذلك ليس لمعارضتهم للسيسي تأثير في تغير قواعد التحرك لدى الجماعة حتى الآن بل هم في معارضته يتوسلون بالنظم الإقليمية والدولية لإزاحته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ونواصل التحليل في الحلقة التالية غدًا إن شاء الله.

و إقرأ الحلقة الأولى هنا.

و إقرأ الحلقة الثالثة هنا.

و إقرأ الحلقة الرابعة هنا.

و إقرأالحلقة الخامسة و الأخيرة هنا

الحرب في سوريا - صوررة أرشيفية

مستقبل الصراع السياسي و العسكري في المنطقة العربية و أفريقيا و أفغانستان (1من 5)

الكل يراقب و يترقب محاولا معرفة الاجابة عن سؤال: ما هو مستقبل الصراع السياسي و العسكري في المنطقة العربية و أفريقيا و أفغانستان؟..
و تأتي أهمية إجابة هذا السؤال من أن إجابته ستحدد مصائر ليس فقط  المنطقة و شعوبها و أفرادها فردا فردا بل و ستحدد مصير و شكل العالم و النظام الدولي كله.
لقد كتبنا سابقا هنا في ديسمبر 2014  عن “خريطة الصراع السياسي في المنطقة العربية الآن” و شرحنا أهداف أغلب القوى المتصارعة، و وعدنا بشرح أهداف بقية القوى في حلقة تالية و لكن قعد بنا ضيق الوقت عن الاكمال، كما أن بعض الأمور تغيرت بموت ملك السعودية عبد الله بن عبد العزيز و تولي الملك سليمان و فريقه للحكم بالمملكة، و إجراءه بعض التغيرات في تحالفات وسياسات المملكة، و موضوعنا اليوم ليس هو التكملة التي وعدنا بها و لكنه موضوع آخر و ان حمل في طياته – ضمن ما يحمل- التكملة.  
و ذكرنا في المقال السابق المذكور أن هناك احتدام للصراع بين عدة مشاريع للسيطرة بالمنطقة هي:
 
-المشروع التركي بقيادة أردوغان.
 
-المشروع الإيراني.
 
-المشروع الأمريكي.
 
-حلفاء المشروع الأمريكي و هم مصر و الأردن و دول الخليج العربي.
 
-مشروع شبكة القاعدة و التي تغيرت أسماء منظماتها الى جبهة النصرة في سوريا و أنصار الشريعة باليمن و ليبيا و تونس.
 
-مشروع داعش في المنطقة خاصة في سوريا و العراق.
 
-مشروع الاخوان المسلمون في مصر و تونس و اليمن و سوريا.
 
-مشاريع جهادية إسلامية محلية في سوريا (كأحرار الشام كمثال) و ليبيا (كفجر ليبيا و نحوها كمثال) و في أفغانستان حركة طالبان كمثال .

 
و لكن طرأ تغير الآن حيث بلور الملك سلمان و فريقه مشروعا سعوديا في المنطقة بالتحالف مع عدد من الحلفاء أبرزهم دول الخليج (عدا عُمان و الامارات) بالإضافة للمغرب و السودان و غيرهما.  
و كي نفهم مستقبل هذا الصراع لابد أن نعيد توصيف هذه القوى و أهدافها لنعبر عنها بجوهر وصفها بدلا من الوقوف عند حد توصيفها بأسمائها فقط و حينئذ سنجد هذه القوى هي:
 
-المشروع التركي بقيادة أردوغان
 
 و جوهره الارتقاء بتركيا لتصير قوة عظمى دوليا (هي الآن قوة عظمى اقليمية فقط) بجانب معارضة و افشال أو على الأقل حصار المشروعين الايراني و الاسرائيلي، و يتوسل لذلك بعدة وسائل هي:
-تنمية تركيا اقتصاديا لأقصى حد يمكنه تحقيقه و ذلك لحيازة القوة الشاملة كدولة و للحصول على تأييد الشعب التركي داخليا لحزب أردوغان بما يتيح له اطلاق يده في العمل السياسي و الاقتصادي داخليا و خارجيا.
-اكتساب التأييد الأمريكي و الأوروبي لخطواته الاقليمية و الدولية و يتوسل لهذا بحيل شتى آخرها محاربة ارهاب داعش.
-اقامة شراكات و تحالفات اقليمية مهمة تساعده على تحقيق سياسته الاقليمية و الدولية مثل تحالفه مع قطر و حماس و أكراد العراق و اخيرا السعودية.
-الحفاظ على شعرة معاوية مع أغلب غرمائه مثل علاقاته مع إيران و علاقته السرية مع إسرائيل و هدنته لسنتين متصلتين مع تنظيم العمال الكردي.
و يوثق أردوغان علاقاته بالقوى التي تناهض المشروعين الأمريكي و الإيراني بالمنطقة و يساندها لكنه يلعب في الملعب المأمون له فقط (بحسب ما استخلصته من المعلومات المعلنة) فيصعب أن يجازف بما يثبت علاقة له أو مساندة لقوى مصنفة أنها إرهابية بشكل قاطع لدى أميركا و أوروبا (باستثناء مساندته القوية العلنية و الخفية لحماس) و لكنه قوي و أداءه السياسي قوي فربما يغض الطرف عن دعم لهذا أو ذاك بشكل يصعب على خصومه إثباته عليه.
 
-المشروع الجهادي العالمي
 
تيار الجهاد العالمي متمثل في منظمة القاعدة و فروعها ، و قد مر بثلاثة أطوار و آخرها هو طور رأت فيه الفروع المحلية لشبكة القاعدة أن ضغوط الواقع و مقتضياته (من حيث زيادة أعداد أعضائها في بقاع جغرافية محددة و حاجة هذا العدد لحيز جغرافي يأمن فيه على نفسه و أسرته و يخزن فيه معداته و يستقبل فيه الوافدين و المتعاطفين الجدد و لا يمكن أن يتأتى له ذلك في بيت أو مزرعة فقط كما كان الحال سابقا) تجعله محتاجا الى التحيز جغرافيا لبقعة من الأرض يحميها و يتحصن بها و تكون معروفة ليلوذ بها داعموه و من هنا نشأت امارات تابعة للقاعدة بعضها معلن و بعضها غير معلن مثلما حدث في العراق أيام أبو أيوب المصري و أبو حمزة المهاجر و في اليمن و الصومال و مالي و غيرها.
و من هنا تظهر استراتيجية التنظيمات التابعة للقاعدة في الصراع الحالي
و هو سعيها لتكوين دولة اسلامية في مكان ما في المنطقة العربية أو أفريقيا كي تتمكن أن تأمن على نفسها فيها و تحقق النموذج الاسلامي في الحكم الذي طال انتظاره منذ بداية حربهم مع أمريكا (بداية من الصومال في بداية التسعينات من القرن العشرين و حتى الآن) ، و رغم أن مثل هذه الدولة قد تكون قاعدة و منطلقا لمواصلة الحرب ضد الولايات المتحدة الا أنها قد تلين موقفها من الولايات المتحدة كما فعلت النصرة مؤخرا أو قد تهدئ من اطلاق الهجمات كما هو الحال في الصحراء الأفريقية و الصومال و اليمن مؤخرا و غيرها.
و هكذا بات الهدف العملي و الأقرب للتطبيق في الصراع الدائر بالمنطقة بالنسبة لفروع القاعدة هو إقامة الدولة الاسلامية في بقعة جغرافية ما كلما أمكن و سوف يستمرون في الحرب حتى يتحقق لهم ذلك.
 
-مشروع تنظيم الدولة
 
نشأ تنظيم الدولة عبر الاستقلال عن القاعدة و هذا الاستقلال و ما واكبه من تغير فكري له أسبابه و طبيعته و ليس هنا مناسبة تفصيله و لكن على كل حال فتنظيم الدولة خرج من عباءة القاعدة بعد طورها الأخير و هو طور اقامة الدولة لكن تنظيم الدولة أخذ يعطي اقامة الدولة زخما إعلاميا كبيرا كي يلعب على وتر المشاعر الجياشة للمسلمين الذين يعانون من الظلم و الاستضعاف أو الاغتراب و يتشوقون لدولة تجسد مبادئهم يعيشون في ظلها آمنين، و من هنا فتنظيم الدولة قاتل و يقاتل للحفاظ على صورته كدولة لأنه جعلها مبرر وجوده و مصدر شرعيته و أعلن أن أمير التنظيم هو خليفة المسلمين.
 
-المشروع الجهادي المحلي
 
هو تيار اسلامي جهادي رأى أن من الصعب الدخول في حرب مع النظامين الاقليمي و الدولي بجانب حربه مع النظام المحلي الحاكم و لذلك فهو لا يعلن مشروعا أو أهدافا لا اقليمية و لا دولية و إنما يركز على أهداف و مشروع محلي قائم على اقامة حكم إسلامي محلي داخل دولته مستخدما الجهاد المسلح لتحقيق مشروعه و قد رأينا تبلور هذا الاتجاه في عدد من المنظمات المهمة بكل من سوريا و ليبيا و أفغانستان و غيرها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

و نواصل التحليل في الحلقة التالية غدا إن شاء الله.

إقرأ الحلقة الثانية هنا

و إقرأ الحلقة الثالثة هنا

و إقرأ الحلقة الرابعة هنا

و إقرأ الحلقة الخامسة و الأخيرة هنا

الحرب في سوريا - صورة أرشيفية

التقليد هو الأوجب الآن قبل الهجرة الى ساحات الجهاد

نشر العلم مع تقليد الأكفاء الثقات كلا في تخصصه في الأمور الدقيقة التي يصعب فهمها هو الحل و الأوجب الآن للقضاء على فتن الغلو و الانحلال و الكفر و محاربة الدين جميعا، بمعنى أن نمتنع عن الهجرة الفردية للساحات المنتشرة الآن، و يبحث كل أهل بلد أو مدينة عن من يعرفونه من أهل الدين و الصلاح و العلم و الثقة في بلدهم أو مدينتهم فيقلدونه في مجال تخصصه في الأمور التي يصعب عليهم فهمها ، لأن كل أهل مدينة يصعب عليهم الانخداع بأي من مواطنيهم لطول المعايشة و معرفة تاريخ و سلوك بعضهم البعض، و لعل مما يلمح لتأييد هذه الفكرة قول جعفر بن أبي طالب رضى الله عنه للنجاشي : “جعفر بن أبي طالب فقال له : أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار يأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله” ..الخ الحديث (رواه أحمد و صحح أحمد شاكر و الألباني سنده)  و الشاهد فيه قوله ” منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه”.

أما الهجرة للساحات الآن فرديا فتفتح باب الافتتان لأن الشخص يدخل على من لا يعرفهم و يتوجب عليه أن يسمع لهم و يطيع في أمور يصعب عليه هو نفسه تقييمها و تقديرها لقلة العلم العميق بين المسلمين في هذا الزمان في مجالات الفقه و السياسة الشرعية و الاستراتيجية و الاقتصاد و الادارة العامة فضلا عن العلم بالواقع الجديد الذي انتقل اليه و جغرافيته السياسية و العسكرية و الاسلامية، إن اكتساب العلم في هذه الأشياء بدرجة عميقة و راسخة قد يأخذ من 3 سنوات الى 10 في التخصص الواحد اذا توافرت المناهج و المراجع و المعلمين، فالحل العاجل هو تقليد من هو معروف و موثوق في علمه و صلاحه و هذه الموثوقية يعرفها كل أهل بلد عن بعضهم البعض.

استخدام عالمية العمل الإسلامي بشكل فردي الآن تتيح لأهل الجهل و الغلو أن يقودوا الشباب الى المهالك و يستنزفوا موارد الأمة البشرية و الاقتصادية ليس فقط في عبث بل و في تمزيق الأمة نفسها و نشر الفتن فيها، فينبغي أن تكون “عالمية العمل الإسلامي” الآن عملية لها معايير و ضوابط محددة و محدودة الى أن تنصلح الأمور و يصير للمسلمين مرجعية عالمية متفق عليها و لا يختلف عليها أي من أهل الصلاح.

و بجانب هذا يجب نشر العلم بين الشباب و بين جميع الناس لأنه من المؤسف أن أبجديات الاسلام في الفقه و العقيدة شبه منعدمة الآن فضلا عن انعدام العلم في أدوات التفكير العلمي الاسلامي المتمثل في أصول الفقه و القواعد الفقهية و علوم الحديث… و هذا بين نشطاء الاسلاميين و الحركيين المهتمين منهم (الا من رحم الله) فما بالنا بغير ذلك.

هامش

تعريف التقليد لدى علماء أصول الفقه هو : اتباع قول الغير بغير حجة ، و انما قالوا به لأن العوام أو من هم من غير أهل العلم يصعب أو أحيانا يستحيل عليهم فهم الدليل أو فهم دلالته على الحكم ، و رغم اختلاف العلماء سلفا و خلفا على حكم التقليد بين من يجيزه و من يحرمه و من يوجبه إلا أنهم أجمعوا على أشياء فيه منها تقليد المستفتي للمفتي في حادثة نزلت به ، و منها من تحقق عجزه عن إدراك دلالة الدليل على الحكم فإنه يقلد المجتهد فيه و حتى من حرموا التقليد كالشوكاني اتفقوا على جواز التقليد في هذه الحالة ، و نحن نرى أن التقليد الذي اعتبرناه حلا الآن هو من هذا النوع الآخير.

صورة أرشيفية لقوات داعش

الإطار العام للنظر في الظاهرة السياسية أو الإستراتيجية

هذا المقال يوضح الإطار العام الذي أحلل به ظاهرة سياسة او إستراتيجية ما لأن بعض من لم يعرفوني لا يظهر لهم هذا الإطار بوضوح..

أول قاعدة عندي هي النظرة الكلية الشاملة للموضوع و الى مآلاته فمثلا عندما انتقدت داعش .. البعض هاجمني إذ كيف أهاجم نكايتهم للرافضة ..الخ، و في الواقع أنا لم أحكم على معركة أو اثنتين أو عشرة انتصرت فيها داعش على هذا أو ذلك و إنما أنظر و أقيم ما سيؤل إليه الوضع بعد عدة سنوات..و نفس الشئ ينطبق على نقدي لأداء الاخوان في الحكم بمصر مع الشهر الأول لحكم مرسي و وقتها شتمني البعض على صفحتي على الفيس بوك..

و ثاني قاعدة تحكم نظرتي عند التحليل هو المقارنة بالقوى المناظرة او المشابهة أو المرجو الوصول لمستواها في جانب ما .. فمثلا عندما تبث داعش أو القاعدة فيديو يظهر عشرات من مقاتليها يحملون أسلحة متوسطة (مدفع 14 بوصة مثلا أو جرينوف ثقيل أو بيكا أو غيره أيا كانت الأسماء) و يمتطون سيارات دفع رباعي فأنا لا أنتشي كما ينتشي الكثيرون.. لماذا؟؟

 لأن طموحي و تطلعاتي هي أن تكون دار الإسلام الحقيقية تمتلك تسليحا متقدما و رادعا استراتيجيا في مستوى فرنسا أو الصين أو بريطانيا (الدول الثالثة و الرابعة و الخامسة في الردع الاستراتيجي حول العالم)، فلا أنتشي لمدفع 14 بوصة لا لطموحي في 24 بوصة، و لكن في صاروخ بالستي أو طائرة بدون طيار تصل لأي نقطة في العالم متى تشاء دار الإسلام، و لا أنتشي لسيارة دفع رباعي لطموحي في سرب قاذفات إستراتيجية مثل البي 52 تمتلكها دار الإسلام..

 و أيضا من ضمن المقارنات المقارنة الجزئية أي المقارنة بجزئية واحدة ما عند جهة ما أنت تنتقدها في جزئيات أخرى لكن ترى انها ناجحة في هذا الجانب الذي تقارن به أو تستشهد ب،ه و هذه قاعدة علمية و موضوعية و مشروعة في هدي النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقد قال عن الغيلة “لو ضرت لضرت فارس و الروم” رغم أنه يكفر و يعادي و ينتقد فارس و الروم، في جوانب أخرى كما قال للصحابة عن الرمي “لكنهم أرمى منكم” يقصد فارس.

فعندما أستشهد أحيانا بأن القاعدة أو داعش تمكنت من انجاز أشياء معينة رغم معاداة العالم كله لها لا يعني أني أنتقدهم بمزاجي، و أستشهد بهم بمزاجي، و لكن يعني أني أنتقدهم في جوانب و أمدحهم و أستشهد بهم في جوانب أخرى غير الأولي، و نفس الشئ فعندما استشهد بشئ فعلته إيران او الحوثيون أو حزب الله أو أمريكا ، فهذا كله ليس هوى و لكنه موضوعية قال تعالى ” وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ” المائدة 8، لكن الهوى أن أنتقدهم في شئ ثم استدل بنفس الشئ الذي انتقدتهم فيه.

و النظر الشامل و النظر الى المآلات و المقارنة بين الظاهرة ومثيلاتها أو شبيهاتها هذه الثلاثة ونحوها تمثل الفرق بين نظرة المتفرج العادي و نظرة التحليل العلمي للظاهرة.

و هناك أمر آخر و هو خاص بكتابتي في الفيسبوك أو أي مقالة قصيرة و هو أنه من المستحيل أنني سأناقش و أقوم كافة جوانب ظاهرة ما (خاصة ان كانت كبيرة مثل الإخوان او داعش أو القاعدة أو ايران أو الحوثيون) في مقال قصير، فعادة تكون أغلب جوانبها في ذهني و لكن تسطيرها كاملة يحتاج وقت و كتابة كتاب، و لكن أسطر جانب واحد منها باختصار لمناسبة هذا للمقال القصير، فمن يرد تفتيش ذهني و الحكم على شخصي الضعيف بشأن كافة جوانب الظاهرة عليه أن يتابع كافة ما اكتبه حتى يتمكن من وضع يده على رؤيتي الكاملة بشأنها.

و الله المستعان.

أردوغان في شبابه بجانب أستاذه نجم الدين أربكان

تجربة ” أردوغان “.. إسلامية أم علمانية ؟ و ما علاقتها بـ”الإخوان”؟ (2)

قبل أن نتابع معا ما فعله أردوغان عبر تجربته في تركيا فإننا محتاجون لتذكر السياسة الخارجية لنجم الدين أربكان كزعيم سياسي إسلامي، و خاصة أثناء توليه الحكم عندما كان رئيسا للوزراء في منتصف التسعينات، قبل إطاحة الجيش به في انقلاب 1997 ..

كان نجم الدين أربكان غير مهتم بل ربما رافض لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، و كان يسعى ليبتعد بتركيا عن الولايات المتحدة و إسرائيل، كما سعى لتوثيق علاقة تركيا بالعالم الإسلامي، و أقام منظمة “الدول الإسلامية السبع الكبرى”، لتضم أكبر سبع دول إسلامية من حيث عدد السكان، بهدف تكوين تكتل اقتصادي إسلامي قوي يواجه تكتل الدول السبع الكبرى الذي تقوده الولايات المتحدة، و يضم أكبر سبع اقتصاديات في العالم و كلها أوروبية، بجانب الولايات المتحدة و اليابان و كندا..

(وطبعا منظمة أربكان هذه تدهورت بعد تركه الحكم فسموها أولا مجموعة الدول السبع فحذفوا لفظ “إسلامية” و لفظ “كبرى” لئلا يغضبوا الغرب، و بعدها لم يعودوا يجتمعون أو يتعاونون لأن حكام هذه الدول هم بالطبع أذناب للغرب).

 عندما أسس أردوغان حزبه أعلن أنه حزب تركي، و ابتعد به قليلا عن القوالب التي اتسمت بها كل أحزاب أربكان التي كان مصيرها جميعا الحل، و قال إن الالتزام الإسلامي لحزبه لا يعني مخالفة التقاليد العلمانية للدولة التركية، كما أعلن أن تركيا دولة أوروبية و مستقبلها أوروبي، و يجب أن تنضم للاتحاد الأوروبي كدولة كاملة العضوية، و أكد أن هذا الهدف سيكون أولويته الخارجية الأولى و الأهم لو فاز حزبه في الانتخابات، بجانب هدفه الداخلي و هو النهوض بالاقتصاد التركي الذي كان وصل عشية انتخابات نوفمبر 2002 إلى حالة تردي خطيرة، إذ بلغت نسبة التضخم 65% كما بلغ الدين الخارجي 23.5 مليار دولار.

عندما فاز حزب أردوغان بالانتخابات (38%) شكل الحكومة برئاسة عبد الله جول، لحين إصدار البرلمان قانون يتيح إسقاط عقوبة أردوغان، ليتمكن من خوض الانتخابات التكميلية ليتولى رئاسة الوزراء و قد كان، و تولى رئاسة الوزراء ، بينما تولى جول فيما بعد رئاسة الجمهورية.

أردوغان والسعي للانضمام للاتحاد الأوروبي

بجانب اهتمام أردوغان بالاقتصاد (و سنرى بعد سطور نتيجة هذا الاهتمام) فإنه كثف مباحثاته مع القادة الأوروبيين كي تنضم تركيا للاتحاد الأوروبي ، و طبعا أوروبا لم و لن تكون في يوم من الأيام راغبة في ضم 100 مليون مسلم تركي إلى الاتحاد الأوروبي ، و في الوقت الذي تسارعت وتيرة ضم دول أوروبا الشرقية للاتحاد فإن محاولات أردوغان للانضمام باءت بالفشل فشن عليهم حربا دبلوماسية بأنكم بهذا الرفض تعلنون أن الاتحاد الأوروبي هو نادي مسيحي ..الخ كما أعطى أردوغان إشارات خلف الكواليس إلى الولايات المتحدة حليفة تركيا الكبرى بأن تركيا لو انضمت إلى الاتحاد الأوروبي فإنها ستكون رجل أمريكا في الاتحاد …صحيح أن بريطانيا هي ذيل أمريكا في قلب الاتحاد.. لكن أمريكا التي تخشى أن يتطور الاتحاد و يصبح منافسا دوليا لها تحتاج مزيدا من الأوراق لتقييد هذا الاتحاد و وضعه تحت سيطرتها.. و من هنا جاءت ضغوطها المعلنة و السرية على الاتحاد لقبول تركيا ..

اضطر الاتحاد للتذرع بأن تركيا لا يمكن ضمها لأنها لا تتوفر فيها شروط الديمقراطية و احترام حقوق الإنسان بحسب المعايير الأوروبية و بدأ الاتحاد منذئذ تكتيكا جديدا للرفض و هو : يجب على تركيا أن تتحول للنمط الأوروبي في الديمقراطية و حقوق الإنسان .. و هذا ما كان يريده أردوغان..

التعديلات الدستورية لتلبية شروط الاتحاد الأوربي

أعلن أردوغان أنه سيفعل أي شئ لضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، و توجه لإجراء التعديلات الدستورية التي تحول تركيا للنمط الأوروبي في الديمقراطية و حقوق الإنسان و كان أول و أصعب شئ في ذلك هو تقليص الدور السياسي للجيش في الدستور.. عبر عدة تعديلات دستورية متتالية بحجة تحويل تركيا إلى النمط الديمقراطي الأوروبي كي يقبل الاتحاد ضمها له ، و بهذه التعديلات قلص دور مجلس الأمن القومي التركي (الذي كان يهيمن عليه العسكريون) و يسيطر على كل شئ في السياسة و الإدارة التركية حتى صار دوره مجرد مستشار للحكومة يشير عليها و يأتمر بأمرها كما جعل أمين المجلس شخصا مدنيا لأول مرة و جعل عدد العسكريين فيه أقل من نصف المدنيين ، و حرم على العسكريين التحدث للإعلام إلا في القضايا العسكرية و الأمنية على أن يكون ذلك تحت إشراف القيادة المدنية و منع محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية و بسط الرقابة المحاسبية على العسكريين بحيث يمكن محاسبتهم و محاكمتهم على أي سلوك من سلوكيات الفساد المالي بعد أن كانوا لا يخضعون لأي رقابة مدنية، و في نفس الوقت أجرى عدة محاكمات لعدد من قيادات الجيش و منهم رئيس أركان سابق  و نائب قائد الجيش و قادة جيوش و فرق و العديد من الجنرالات بجانب قادة سياسيين حزبيين و إعلاميين بتهمة محاولة قلب نظام الحكم و تم ذلك في أوقات مختلفة منذ 2003 و حتى 2013 و كان ذلك في عدة قضايا أشهرها القضية المعروفة بـ “أرغينيكون” و كذلك قضية عرفت بـ”المطرقة” و غيرهما… و عند بداية هذه المسيرة تحدثت تقارير عدة أن قائد الجيش يفكر في القيام بانقلاب لمنع التعديلات الدستورية إلا انه سافر لواشنطن لأخذ الإذن بالانقلاب و ردت عليه واشنطن بأنه يجب عليه دعم أردوغان كي ينجح في ضم تركيا للاتحاد الأوروبي … و طبعا تمت التعديلات و تعززت سيطرة أردوغان و حزبه على الحكم في مواجهة الجيش الذي قلمت أظافره بينما لم تنضم تركيا للاتحاد الأوروبي لأن أوروبا لا تريد تركيا.  

نهضة تركيا اقتصاديا على يد أردوغان

أما في المجال الاقتصادي فقد رفع أردوغان الدخل الوطني لتركيا من 230 مليار دولار عشية حكمه إلى 820 هذا العام بينما رفع إجمالي الصادرات من 36 مليار إلى 153، وخفض فائدة الدين من 63 في المئة إلى 9.3 فقط ، كما سدد الدين الخارجي بالكامل و الذي كان 23.5 مليار دولار عشية توليه الحكم كما ارتفع احتياطي البنك المركزي التركي من العملة الصعبة من 27.5 مليار دولار في 2002  الى 136 مليار دولار الآن، و إرتفع متوسط دخل الفرد التركي من 3.492 دولار إلى أكثر من 10.744 دولار سنويا، و تم إنشاء 17 ألف كيلومتر من الطرق، كما ارتفع عدد المطارات في عموم البلاد خلال هذه الفترة من 26 إلى 52 مطارا، و بذلك كله و غيره انتقل الاقتصاد التركي من المرتبة 26 إلى المرتبة 16 عالميا، كما احتلت تركيا المرتبة السادسة على المستوى الأوروبي في المجال الاقتصادي.

إنجازات أردوغان السياسية

و بجانب الانجازات الاقتصادية لأردوغان فقد قام بعدة انجازات سياسية لعل ابرزها حله لجزء كبير من المشكلة الكردية التي تؤرق تركيا منذ عشرات السنين فضلا عن انجازاته السياسية التي حققها في مجال العلاقات الخارجية خاصة فيما يتعلق بالدول الإسلامية و العربية.. و لكن مما يهمنا جدا في تجربته هو ممارسته السياسية باحترافية عالية.. و قصدنا بمفهوم الاحترافية في السياسة كتبنا عنه سابقا.. لكن لدينا مثالين عن تطبيق أردوغان لهذا المفهوم :

المثال الأول – في الغزو الأمريكي على العراق عام 2004 حيث طلبت الولايات المتحدة من أردوغان أن يسمح للقوات الأمريكية لاستخدام قاعدة أمريكية ضخمة موجودة في تركيا (تابعة للناتو) لتكون منطلقا لغزو شمال العراق و ذكرت أمريكا أردوغان بأن ذلك من مقتضيات التحالف التركي الأمريكي و من مقتضيات عضوية و شراكة تركيا في حلف الناتو، لكن أردوغان رد قائلا : نحن دولة ديمقراطية و لدينا برلمان و لا يمكنني اتخاذ هذا القرار قبل عرضه على البرلمان لأخذ موافقته ، و عرض الأمر على البرلمان التركي الذي يتمتع فيه حزب العدالة و التنمية بالأكثرية ، و لكن البرلمان التركي اتخذ قرارا برفض استخدام الأراضي التركية لغزو العراق.. و قد كان .. و عندما عبرت أمريكا عن غضبها رد أردوغان: ألم تطالبونا بالديمقراطية ؟ هذه هي الديمقراطية .. ممثلو الشعب التركي رفضوا طلبكم.

و كانت دعوات بوش لتطبيق الديمقراطية في العالم الاسلامي و العربي و لو بالقوة على أشدها في ذلك الوقت .. و انبرى صحفيون و كتاب أمريكيون و أوروبيون وقتها للدفاع عن موقف أردوغان مستنكرين أن يغضب الغرب من نتيجة الديمقراطية اذا خالفت هوى الغرب..

و بذا لم ينطلق غزو العراق من أراضي تركيا بينما انطلق من أراضي و أجواء عربية و إيرانية و دول إسلامية في أسيا الوسطى.     

المثال الثاني – ابان حرب غزة عام 2008 كان أردوغان يشارك في مؤتمر دافوس في مناظرة مع شيمون بيريز الزعيم الإسرائيلي و وجه أردوغان نقدا لاذعا لإسرائيل و بيريز ثم افتعل مشكلة معه على الهواء معتبرا أنه يهين تركيا (باعتبار أردوغان يمثل تركيا) و متهما مدير المناظرة انه منحاز لبيريز و قام منسحبا من المناظرة قائلا لن أحضر دافوس مرة أخرى .. و روجت وسائل الإعلام الموالية لأردوغان أنه انما فعل ذلك حفاظا على كرامة تركيا و الشعب التركي و رجع أردوغان ليجد آلاف الأتراك ينتظرونه في المطار يحيونه على موقفه و خطب فيهم قائلا: أنا لن أسمح أبدا أن تهان تركيا أو الشعب التركي و لذلك انسحبت .. فهتفت الجماهير له ..

و هنا نجده أذل إسرائيل و بيريز على مرأى من العالم كله و انتصر لغزة و الفلسطينيين و في نفس الوقت صور الأمر للشعب التركي على أنه انتصار للقومية التركية و كرامتها.

هذا التحليل لا يهدف لسرد تفاصيل تجربة أردوغان السياسية و الاقتصادية و إلا لاحتجنا لكتاب و ليس مقالا و إنما يهدف هذا التحليل لفهم الخطوط العامة المهمة لهذه التجربة فالتحليل يهتم بما وراء ما حدث لا بتفاصيل ما حدث و من شاء التفاصيل فيمكنه البحث عنها على الويب و سيجدها.

و لنعد معا ما سبق ببطء و نفهم معا أبعاده… 

لقد تأمل أردوغان واقعه السياسي فوجد أن خصمه هم العلمانيون و وجد أن قوتهم في أمور هي

1-الشريحة الشعبية الكبيرة: التي تؤيدهم لأنها تلوثت فكريا أو سلوكبا ( أو كلاهما) بالعلمانية أو ارتبطت مصالحها بها و بمؤسساتها و هؤلاء تترجم قدراتهم إلى أصوات في الانتخابات .. و هؤلاء واجههم بالعمل الجماهيري الناجح و تحقيق الانجازات الاقتصادية لكسب أعداد أكبر من الشعب التركي لصفه و صف حزبه.

2-مؤسسات القضاء و الإعلام و أساتذة الجامعات: و هؤلاء وجد أنهم لا يمكنهم فعل شئ إلا في إطار الظهير الشعبي المذكور في (1) كما أدراك أن رأس حربتهم و أداتهم في التنفيذ هي الجيش .. لكنه مع ذلك عالج المؤسسة القضائية بالعديد من الإصلاحات الدستورية كي تستقيم بدرجة ما و إلا لما استطاع القبض على العديد من قادة الجيش و محاكمتهم و إحباط العديد من مؤامرات الانقلاب العسكري

3-مؤسسة الجيش: و هذه لم يكن يمكنه مواجهتها بالتعديلات الدستورية فقط و إلا لانقلبت عليه و منعته من إتمام التعديلات و لألغت البرلمان و الحزب نفسه بمساندة القوى المذكورة في (1-2) لكنه ألزمها تقبل التغيير عبر عمل سياسي مهم و هو حيلة الانضمام للاتحاد الأوروبي و وعد أمريكا بأن يكون حصان طروادة بالنسبة لأمريكا في الاتحاد و من ثم ضغطت أمريكا على الجيش ليتقبل التغيرات الديمقراطية و استمرار الحياة الديمقراطية في تركيا.

متغيرات دولية واقليمية ساهمت في نجاح أردوغان

هناك عوامل مساعدة كثيرة ساعدت أردوغان منها ارتفاع الأصوات التي دعت الغرب بالسماح بإسلام معتدل ليحكم، كي يكون بديلا لإسلام طالبان و القاعدة عشية هجمات 11 سبتمبر، و كذلك ذيوع القول بخطأ اعتماد الأمريكان على ديكتاتوريات الشرق الوسط على حساب الديمقراطية مما أفرز الإرهاب و التشدد و نحو ذلك من دعوات مراكز الأبحاث الغربية .. و في الواقع فإن أردوغان استفاد من ذلك و كله و استغله حتى إذا مالت التوجهات الغربية لشئ من التغير بفعل انقلاب السيسي و توجه التحالف العربي المساند للسيسي (الذي اتخذ من السيسي رأس حربة له لضرب عصفوري الربيع العربي و الحركة الإسلامية في المنطقة)، فإن أردوغان كان قد وصل لأرض صلبة يرتكز عليها ليصير أقل تأثرا بالتقلبات الإقليمية و الدولية .. حيث استقرت الأوضاع الدستورية في حالة أقل خطرا على وجود حزبه، كما أن انجازاته الاقتصادية الضخمة لا تسانده اقتصاديا فقط و لكنها حققت له تمكنا سياسيا فبينما فاز الحزب عام 2002 بـ 38% فإن الحزب منذ شهرين فاز في المحليات بـ42% ثم فاز أردوغان منذ أسبوع بـ56% من أول جولة .. و هكذا تشير الأرقام لتصاعد في شعبية الحزب بشكل منتظم..

هذا ما فعله أردوغان في تجربته و انا أرى أن ما فعله هذا حتى الآن تنطبق عليه مقولة كيسنجر : “ما هو الشخص الثوري؟
 إذا كان الجواب عن هذا السؤال ليس غامضا لما كان الثوريون الناجحون قلة ، لأن الثوريين دائما ما يبدأون من موقف أدنى ، و ينتصرون لأن النظام القائم لا يكون في مقدوره أن يدرك مدى وهنه ، و يصبح هذا بصفة خاصة عندما يظهر التحدي الثوري ليس بمسيرة على الباستيل، بل مرتديا زى المحافظين ، إن قلة من المؤسسات هي التي تستطيع أن تدافع عن نفسها ضد أولئك الذين يدعون أنهم سيحافظون على تلك المؤسسات” (الدبلوماسية جـ1 ص 133 ط روز اليوسف ، القاهرة 2001م).

و إذا كان هذا هو ما فعله أردوغان سياسيا فما هو حكمه الشرعي في فقه السياسة الشرعية في الإسلام؟؟ و إجابة هذا السؤال هي موضوع الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

رجب طيب أردوغان

تجربة ” أردوغان “.. إسلامية أم علمانية ؟ و ما علاقتها بـ”الإخوان”؟ (1)

ما هو التقييم الصحيح لتجربة أردوغان في تركيا ؟

لا شك أن التقييم ليكون صحيحا يجب أن يرتكز على عدة محاور هي ..

الأول –هو واقع تركيا قبل تولي أردوغان و حزبه الحكم.

الثاني –فهم ما حدث فعلا في الواقع العملي لتجربة أردوغان في الحكم.

الثالث –تقييم هذا الواقع وفقا لفقه و قواعد السياسة الشرعية.

هذا إذا كنا نريد أن نقول عن تقيمنا أنه وجهة نظر إسلامية.. إذ لا يعقل أن نقول أننا نتكلم وفقا للإسلام و نحن نتكلم كلاما لم يراع فقه السياسة الشرعية و قواعدها أو دون أن ندرك الواقع الحقيقي للتجربة.

و كثير من الأخوة كلما ذكروا تجربة رجب طيب أردوغان في تركيا يستدعون ما يعتبرونه علاقة هذه التجربة أو تبعيتها لجماعة الإخوان المسلمون و لذلك فإننا مضطرون لتناول هذه النقطة بالتحليل في محور رابع.

و سوف ننشر هذه المحاور الأربعة عبر عدة مقالات (ان شاء الله) ليسهل قراءتها و لئلا نطيل على القارئ فيشعر بالملل.

عندما ألغى أتاتورك الخلافة الإسلامية أقام دولة علمانية شديدة العداء للإسلام و منع كافة المظاهر الإسلامية و حول مسجد أيا صوفيا الى متحف و فرض العلمنة و الإنسلاخ من الاسلام بالحديد و النار و في سبيل ذلك حاصر و ضيق على أي مظاهر أو شعائر اسلامية و منع أي أنشطة اسلامية حتى لو كانت لا تمت للعمل السياسي بأي صلة .. و دور و أفاعيل كمال أتاتورك في إزالة ليس الجانب السياسي للاسلام في تركيا فقط بل و كل ما يمت للاسلام بصلة أمر مشهور و يطول وصفه و يمكن لمن شاء التوسع في قراءتها أن يرجع الى عدد من المراجع الموثوقة (مثل: محمد قطب ، واقعنا المعاصر. محمد محمد حسين ، الاتجاهات الوطنية في الأدب العربي المعاصر. عبد الله عبد الرحمن “مترجم” ، الرجل الصنم .. و غيرها) لكننا هنا نود أن ننظر الى ما آلت اليه الأوضاع في تركيا عشية تولي أردوغان للحكم..

دولة أتاتورك

 تحولت دولة الخلافة الى دولة علمانية متعصبة تحظر أي نشاط إسلامي سياسي، و تضيق و تحاصر أي نشاط إسلامي أخلاقي حتى لو كان بعيدا عن السياسة، و أصبح منتشرا فيها الانحلال الفكري و الأخلاقي و باتت تعادي المسلمين و قضاياهم، و توالي اليهود و الأمريكيين و الأوروبيين على الساحة الدولية و الاقليمة..

و أمسى فيها ممنوع رفع الآذان بغير اللغة التركية، و أحيانا كان يمنع إعلان الآذان أصلا ،و منعت الدولة اللحية و الحجاب في مؤسسات الدولة، بما في ذلك الجامعات فلا يدخلها ملتحي و لا محجبة، حتى لو كان داخلا لمرة واحدة لقضاء شئ عابر، كما يجري منع أي شخص لديه ميول إسلامية من دخول أجهزة الدولة المؤثرة كالجيش و الأجهزة الأمنية و القضائية و نحوها، و كل من يظهر عليه أي ميول إسلامي في هذه الأجهزة يتم فصله منها ، و كان كل ذلك مقنن بالقانون و الدستور و لا يمكن لأحد تغييره، و في نفس الوقت فإن أشكال الفسق و الفجور و الانحلال و الانحرافات الخلقية و الفكرية مباحة بالقانون و الدستور، وفوق ذلك كله فإن الدستور يوجب وضع مؤسسة الجيش فوق كل مؤسسات الدولة، بما في ذلك فوق رئيس الجمهورية، و رئيس الوزراء المنتخب، بدعوى حماية تراث أتاتورك و تقاليد و أسس الدولة العلمانية، فيمكن لقائد الجيش أن يوجه انذارا علنيا الى رئيس الجمهورية، أو إلى رئيس الوزراء المنتخب في أي وقت لدفعه للتراجع عن قرار ما أو توجه ما، و استعمل العلمانيون أيضا مؤسسة القضاء لضرب أي أحزاب إسلامية عبر أحكام قضائية تصدر بحلها، كلما قامت و حاولت العمل في ظل النظام الحزبي الذي يدعي الليبرالية.

إذن فنحن أمام وضع علماني متطرف جدا في معاداته للإسلام و متحالف مع الولايات المتحدة و إسرائيل و عضو بحلف الناتو (لاحظ كانت سماء تركيا هي ساحة تدريب دائمة للقوات الجوية الإسرائيلية بسبب ضيق مساحة الكيان الصهيويني و حاجتها لمساحة اوسع للتدريب)، و في النظام التركي يسهر على حفظ استمرار الحكم العلماني كل من الجيش و القضاء و أغلب وسائل الإعلام ، و لم يكن هذا الوضع يتم الحفاظ عليه ضد رغبة ذوي التوجه الإسلامي فقط، بل كان يتم الحفاظ عليه ضد ارادة الشعب في الكثير من المواقف التي لا يقبلها عامة الشعب لمصادمتها لبعض توجهاته الإسلامية، او لمصادمتها للحرية الحقيقية ، كان الوضع مفروضا بالحديد و النار ، فانقلب الجيش على رئيس علماني ليبرالي هو عدنان مندريس عام 1960 بسبب أنه خاض حملته الانتخابية على أساس وعود بإلغاء الإجراءات العلمانية الصارمة بالبلاد، و كان من بين هذه الاجراءات التى تعهد بالغائها : الأذان بالتركية و منع قراءة القرآن وإغلاق المدارس الدينية، وحينما فاز قام مندريس بإلغاء هذه الإجراءات حيث أعاد الآذان إلى العربية، وأدخل الدروس الدينية إلى المدارس العامة، وفتح أول معهد ديني عال إلى جانب افتتاحه مراكز تعليم القرآن الكريم، و لكن الجيش اطاح به و أعدمه هو و اثنين من وزراءه و سجن آخرين.

 نجم الدين أربكان وقوة الإسلاميين في تركيا

و في عام 1980 استعرض نجم الدين أربكان قوة الاسلاميين بحشد مظاهرة مليونية في قلب استانبول ضد اسرائيل، و كان قبلها قد حصل على نسبة لا بأس بها من مقاعد البرلمان التركي، مما أرعب عسكر تركيا العلمانيين فقاموا بانقلاب بقيادة الجنرال كنعان إيفرين، و حلوا حزب أربكان و اعتقلوا العديد من الزعماء السياسيين، وحلوا البرلمان والأحزاب السياسية والنقابات العمالية، وفرضوا دستورا منح قادة الجيش سلطات غير محدودة.

و بعد ذلك شكل أربكان حزبه باسم آخر ليتحايل على قرار حل حزبه الأول، و حصد نسبة كبيرة من مقاعد البرلمان أهلته لتولي رئاسة الحكومة، لكن الجيش التركي تدخل مرة أخرى عام 1997 ليطيح بحكومة نجم الدين أربكان و يحل حزبه “حزب الفضيلة”..

و من هنا بدأ رجب طيب أردوغان و عبد الله جول (و هما من أبرز القادة الصاعدين وقتها الذين تربوا في أحزاب أربكان منذ 1972) يفكران تفكيرا آخر لمواجهة الوضع، فشكلا حزب العدالة و التنمية عام 2001 ، و خاضا به أول انتخابات قابلتهم بعد تشكله و هي انتخابات نوفمبر 2002، حيث اكتسح الحزب الانتخابات بنسبة أهلته لتولي الحكم و هنا بدأ العمل الضخم الذي قام به أردوغان و حزبه…

و هو ما سنتناوله في الحلقة التالية ان شاء الله.

الرئيس الأمريكي أوباما

من هم اللاعبون الجدد في الشرق الأوسط ؟

أشارت المصافحة الشهيرة بين هيلاري كلينتون ـ وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأمريكية ـ ووزير خارجية سوريا وليد المعلم في المؤتمر الدولي لإعمار غزة في شرم الشيخ بمصر مؤخرًا إلى الخريطة الجديدة لللاعبين في الشرق الأوسط.

فسياسة القطيعة الأمريكية ضد عدد من القوى السياسية المؤثرة في المنطقة بهدف الضغط عليها لإخضاعها لم تأت للولايات المتحدة بالنتيجة التي هدفت إليها، وجاء باراك أوباما على رأس الحزب الديمقراطي لحكم الولايات المتحدة ليحاول اعتماد سياسة جديدة قائمة على الاعتراف بدور ما لعدد من القوى بالمنطقة؛ بهدف إخراج أمريكا وحلفائها من ورطتهم في عدد من الملفات الساخنة بالمنطقة، التي صارت كلها ساخنة ضد الولايات المتحدة وحلفائها.

من الصومال التي نجح فيها المجاهدون في طرد أثيوبيا حليفة الولايات المتحدة، إلى العراق التي غاصت في مستنقعه القوات الأمريكية وحلفاؤها حتى الركب، إلى لبنان التي تصدر فيها حزب الله وحلفاؤه المشهد السياسي والعسكري، إلى فلسطين الذي استعصت فيها حماس على الكسر أو التطويع أمام آلة الحرب الإسرائيلية العملاقة، وأخيرًا أفغانستان التي يجمع المراقبون على أنها في طور التحول إلى فيتنام جديدة بالنسبة لقوات الناتو التي تقودها الولايات المتحدة هناك ضد حركة طالبان وحلفائها.

جاء أوباما ليعترف لأغلب القوى التي أحرجت الولايات المتحدة وقواتها في المنطقة بدور ما، مقابل دخولها في النسق السياسي العام الذي رسمته الولايات المتحدة للمنطقة.

فهو يعرض إمكانية الاعتراف بدور سوريا الإقليمي مقابل الحد من تحالفها مع إيران وحزب الله والمقاومة الفلسطينية، أو حتى مجرد حث إيران وحزب الله والمقاومة الفلسطينية بقوة على التفاهم مع أمريكا لدخول النسق الأمريكي للمنطقة، كما يمكن التفاهم مع حزب الله والسماح له بدور قوي في لبنان مقابل تخفيفه للعداء مع “إسرائيل”، ونفس الشيء سيحدث مع إيران، الاعتراف والسماح لها بممارسة دور إقليمي مقابل التفاهم في ملفات المنطقة الهامة؛ كالنووي والعراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان.

أما المنظمات التي يستحيل تقديم تنازلات لها مثل طالبان_ التي تسعى لاسترداد حكمها لأفغانستان_ والمنظمات الإسلامية المجاهدة، التي تريد حكمًا إسلاميًّا خالصًا في الصومال، فهذه لا يمكن أن تتساهل معها الولايات المتحدة بشكل مباشر الآن؛ لأنها لن تسمح بتحقيق مثل هذه الأهداف بسهولة؛ ولذلك فهي_ أي الولايات المتحدة الأمريكية_ بحثت في الصومال عن بديل اعتبرته معتدلًا، وهو رئيس المحاكم الإسلامية السابق “شيخ شريف شيخ أحمد”، وستحاول من خلاله احتواء بقية القوى الإسلامية الأكثر تمسكًا بالشريعة.

طالبان أفغانستان

ونفس الشيء تحاوله مع طالبان في أفغانستان، وهو إحداث انشقاق في الصف الطالباني يتيح لأمريكا بديلًا لطالبان من داخلها، يمكنه أن يقدم نسقًا سياسيًّا مقبولًا لدى أمريكا، وفي نفس الوقت قادر على احتواء طالبان والقوى الإسلامية الأفغانية، وهذا الخيار هو ما أسماه أوباما في خطاب له مؤخرًا بـ “الحوار مع القوى المعتدلة في طالبان”.

على كل حال، فنحن هنا لسنا بصدد الكلام عن تفصيلات السياسة الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط، إنما يعنينا الكلام عن اللاعبين الجدد الذين من المحتمل أن تدشنهم ـ مع أشياء أخرى ـ هذه السياسة.

إيران

وأول وأقوى اللاعبين الجدد الذين ستعترف بهم السياسة الأمريكية ـ ومن ورائها سياسة الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو ـ في المنطقة هو إيران بقوتها العسكرية، وعلاقاتها السياسية المتشابكة، لكن بشرط أن تكف أو على الأقل تقلل من إثارة المتاعب في وجه “إسرائيل” وفي وجه النفوذ الأمريكي بالمنطقة، وربما يصبح الشكل الجديد قائم على أن تظل معاداة إيران للغرب و”إسرائيل” على المستوى النظري فقط وليس على المستوى العملي، ولكن ذلك مرهون بالتفاهم على شكل للبرنامج النووي الإيراني يكون مقبولًا لدى أمريكا وإيران و”إسرائيل”.

سوريا

أما ثاني اللاعبين الذين ستعترف لهم الولايات المتحدة بدور بارز في الشرق الأوسط فهي سوريا، ولكن لا بد وأن يتم ذلك طبعًا في إطار النسق الأمريكي التي تزمع الولايات المتحدة إرساءه في المنطقة بالتعاون مع حلفائها، وفي هذا الإطار يمكن إدراك المغزى من سعي الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة لمد الجسور مرة أخرى مع سوريا تحت دعاوى مختلفة.

حزب الله اللبناني

ويأتي حزب الله اللبناني كثالث اللاعبين الجدد في النسق الأمريكي في المنطقة، بعدما أضنت سياساته حلفاء أمريكا في لبنان و”إسرائيل”، وبعدما ظهر للولايات المتحدة ارتباطه العضوي بإيران.

وعلى كل حال، فإذا كانت هذه رغبة الولايات المتحدة بشأن هؤلاء اللاعبين الجدد، فإن لهؤلاء اللاعبين رغبات ومطالب، ونجاح الصياغة الأمريكية الجديدة في المنطقة مرهون بقدرة كل من الولايات المتحدة وهؤلاء اللاعبين على التوافق على سقف موحد للمطالب، التي سيتم الوفاء بها لهؤلاء اللاعبين الطموحين.

تركيا وقطر

أما تركيا التي ظهرت على مسرح أحداث الشرق الأوسط بقوة في الفترة الأخيرة، ويليها دولة قطر فهما قد انتزعتا دورًا ما بارزًا بالمنطقة لكنه تم تحت سمع وبصر الحليف الأمريكي و”الإسرائيلي”، كما أن الولايات المتحدة تقبل هذا الدور وستعمل على استغلاله في ترويض سوريا وإيران وغيرهما بهدف تحقيق السياسات الأمريكية الجديدة بالمنطقة.

وإذا كان هؤلاء جميعًا هم أبرز اللاعبين الجدد الذين تعمل السياسة الأمريكية الجديدة في عهد أوباما على إدخالهم في الصياغة الأمريكية للمنطقة مقابل الاعتراف بأدوارهم الإقليمية، فإن هناك لاعبَيْن آخرَيْن من خارج المنطقة دخلا لحلبة الصراع لكن بقوتهما الذاتية السياسية والاقتصادية والعسكرية، بجانب إرادتهما وتصميمهما على لعب دور بارز في إقليم الشرق الأوسط، وهذان اللاعبان هما روسيا الاتحادية والصين الشعبية، لكن تأتي قضية قرار الجنائية الدولية باعتقال البشير أحد أبرز حلفاء الصين في إفريقيا كاختبار قوي لصدق الرغبة الصينية في لعب دور قوي في المنطقة.

ولاشك أن للولايات المتحدة هدفًا من صياغتها الجديدة للشرق الأوسط، والتي ترغب في إرسائها في عهد أوباما، وهو كما قلنا في صدر المقال: الخروج من أزماتها المختلفة في المنطقة، وهذا يعني أنها تنشئ تحالفات جديدة لتواجه بها صراعاتها في أفغانستان وفلسطين والصومال والعراق والسودان وغيرها من ملفات المنطقة الساخنة.

إسرائيل تقصف غزة - صورة أرشيفية

إسرائيل أغرقت العرب فى بحر من نار و ذل و دم .. فما هو الحل؟

(1)

إسرائيل تحرق غزة و العالم كله يتفرج بلا حراك.. شئ طبيعي فإسرائيل لها نفوذ بالغ على العالم كله بما يمنع أي حكومة في العالم من أن تفتح فمها بكلمة لوم واحدة على الإجرام الإسرائيلي.

إذن فما الذي يجعل العالم الاسلامي ساكتا كغيره؟

الاجابة بسيطة فحكوماته رهينة أيضا لتأثير النفوذ الاسرائيلي، فلا أمل فيها.

أما شعوب الأمة الاسلامية فهي الأمل الوحيد و هي موضوعنا الذي سنتكلم فيه، و لكن قبل أن نتكلم عن الأمة لا بد من الاشارة لأمر هام جدا و هو أن المذابح و المحارق الاسرائيلية للعرب عامة و الفلسطينيين بصفة خاصة بلاء مزمن بدأ منذ 1948م و حتى الآن، و لم تنجح كل الطرق و الأساليب العربية منذئذ و حتى الآن في التصدي للمشروع الصهيوني و منعه من تحقيق أهدافه، و من هنا كانت أهمية رفض كل الوسائل التي سلكها كل من تصدي لاسرائيل من القادة العرب منذئذ و حتى الآن، من مثل الاعتماد على الأمم المتحدة أو مجلس الأمن أو الدول الكبرى أو المجتمع الدولي أو المنظمات الدولية أو الاقليمية بما في ذلك جامعة الدول العربية و القمم العربية و مبادرات السلام، و القرارات الدولية و …الخ، فكل ذلك لم يجد نفعا طوال ستين عاما أغرقت فيها اسرائيل العرب في بحر من نار و ذل و دم.

و هذا لا يعني أن نقبل فقط ما طرحته و تطرحه القوى الشعبية العربية من تحركات معتادة كالمظاهرات و الهتافات و الخطب و الشجب والتنديد و نحو ذلك، لأن ذلك كله جربناه أيضا طوال ستين عاما دون جدوى اللهم الا مزيدا من الذل و القهر نترجعهما صباح مساء بطعم العلقم.

اذن فما الحل؟

الحل بيد الشعوب العربية و الاسلامية لكنه حل مختلف عن كل ماسبق، اذ يجب أن تسفعنا النار التي تصلاها غزة لنستيقظ و ننخلع من نمطيتنا التي اعتادت العجز، فننطلق في آفاق التغيير و الاصلاح و من ثَمَ إيقاف المحرقة و المقصود ليس المحرقة الدائرة منذ أيام بل الدائرة منذ 60 عاما ليس في غزة وحدها بل في كل أنحاء العالم الاسلامي.

(2)

الأمة الاسلامية ليست فقيرة في مقومات القوة بل بالعكس هي ثرية في هذه المقومات، لكنها تعيش عصر تدهور سياسي كالذي عاشته أيام الحقبة الصليبية، فعندما هاجم الصليبيون المشرق العربي لم تكن الأمة فقيرة لكنها كانت مبتلاة بحكام مبددين و مستبدين و فاشلين، فهم مبددون بددوا ثروات الأمة و نهبوها، و هم مستبدون انفردوا بالحكم بعيدا عن إرادة الأمة و اختيارها، و هم فاشلون لأنهم فشلوا في كل شئ عدا قمعهم شعوبهم.

كانت الأمة الاسلامية في عصر الهجمة الصليبية وافرة العدد و العدة تملك المال و الرجال و السلاح و الحصون لكنها لم تملك القيادة التي يمكنها أن توظف هذا كله في أي شئ مفيد لأمتها، لقد اقتصرت مهاراتهم فقط على قهر شعوبهم و قمعها و الاستئثار بالحكم دونها.

نفس الشئ نجده اليوم.. الأمة الاسلامية غنية بمقومات القوة لكنها ابتليت بحكام يجثمون على صدورها و لا وظيفة لهم الا قمع شعوبهم و الاستئثار بثروات بلادهم و حراسة المشروع الصهيوني و الغربي في المنطقة بل في العالم، فحكامنا حائط الصد الأول ضد الشعوب الاسلامية المناهضة للمشروع الصهيوني و الغربي.

حكامنا المتشددون

و من لا يصدق هذا فليتفحص مواقف حكامنا المتشددين و ليس المتهمين بالتواطؤ مع اسرائيل، سنجد أن متشددي حكامنا اليوم جل جهدهم الآن هو الدعوة لعقد قمة عربية طارئة، و دعوة مجلس الأمن الدولي لادانة العدوان الاسرائيلي على غزة، و دعوة الدول العربية المطبعة مع اسرائيل لقطع علاقتها معها أو سحب سفيرها منها!!

بل إن حاكم سوريا زعيم التشدد العربي المزعوم منذ 35 عاما لم تطلق قواته طلقة واحدة تجاه اسرائيل، رغم عربدة قوات اسرائيل مرارا في أرضه و سمائه حتى أن الطائرات الحربية الاسرائيلية اعتادت التنزه فوق القصر الجمهوري السوري من حين لآخر دون أن يطلق عليها طلقة واحدة!!

هذا هو حال حكامنا المتشددين و منه تتبين حال غيرهم من المتنازلين أو المعتدلين أو الموالسين أو ….الخ.

و من هنا يظهر جانب من الأزمة و هي أزمة القيادة، و لكن ليس الأزمة كلها أزمة قيادة، فهناك أزمة في الشعوب نفسها، كما أن حل أزمة القيادة هو مسئولية الشعوب نفسها، فلا بد أن تخرج من الشعوب قيادة جديدة.

(3)

أزمة القيادة في العالم العربي

إذا كنا تبينا أننا نعيش أزمة قيادة، فلابد أن نلاحظ أنها ليست أزمة قيادة في النظام الحاكم فقط بل هي أيضا أزمة قيادة بين علماء الإسلام ، و أزمة قيادة داخل الحركة الإسلامية الواسعة بكل تياراتها، و أزمة قيادة داخل تيارات المعارضة بكل أطيافها فالقيادة في هذه التجمعات كلها عاجزة عن التعامل بشكل ناجح مع التحديات المفروضة، هم يحاولون و يجتهدون، لكن حتى الآن لم تظهر القيادة المبدعة التي تستطيع أن تتغلب على العقبات و التحديات المفروضة على امتنا العربية و الإسلامية، نعم هناك تآمر دولي و إقليمي و محلي لمنع هذه الأمة من أن تنهض من جديد و لكن هذا التآمر هو أحد التحديات الكبرى التي يتوجب على القيادة الفذة أن تواجهها و تتغلب عليها.

و إذا كنا نتكلم عن أزمة القيادة و القيادات فينبغي أن نلاحظ أيضا أزمة الأمة أو الشعب أو الجنود، فالله تعالى سيحاسب كل شخص بمفرده عن عمله الشخصي، صحيح أن الحساب يكون بقدر الامكانات و القدرات فحساب العالم ليس كحساب الجاهل و حساب الصحيح ليس كحساب المريض، و لكن في النهاية فالكل سيحاسب عن العمل الشخصي و عن العمل العام، و هناك واجبات عامة على كل مسلم ينبغي أن يقوم بها في الفضاء العام و ذلك من شعب الإيمان التي ذكر النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله و أدناها إماطة الأذى عن الطريق، ومن العمل العام رفع الظلم و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بما في ذلك المنكر السياسي و الاقتصادي و المعروف السياسي و الاقتصادي، لا سيما أن المسلم مفروض عليه حفظ مقاصد الإسلام الضرورية الستة و هي بالترتيب:

الدين.

و النفس.

و العقل.

و العرض.

و المال.

والنسل.

و من هنا يمكننا أن ندرك حجم الأزمة في صفوف الشعب المتمثلة في السلبية العامة و عدم السعي للاشتغال بالعمل العام خاصة ما كان منه مختص بالعمل الديني أو السياسي الإصلاحي.

و لكن حتى لا نغالي في تحديد حجم خطيئة الشعب في سلوكه مسلك السلبية تجاه الشأن العام لابد أن نشير لحجم القمع السياسي الذي تعرض له الشعب عبر سنوات طويلة، و من هنا نعود مرة أخرى لدور النخبة (أي القيادة و الناشطين البارزين) التي ينبغي عليها تجاوز هذا التحدي.

(4)

كيف نوقف محرقة غزة؟

الحاصل فيما يتعلق بموضوعنا الراهن و هو محرقة غزة أننا نحتاج لعمل ذي أهداف بعيدة المدى بجانب الأعمال قريبة المدى، لأن الأعمال قصيرة المدى أثبت الواقع و التاريخ أنها غير مؤئرة فالمحارق و المصائب مازالت تحيق بالمسلمين منذ مئات السنين و لم تجد المواقف و الأعمال قصيرة المدى شيئا، و ما أكثر الاحتجاجات الجماهيرية المناصرة لقضايا المسلمين الدولية و الاقليمية و المحلية و مع ذلك يسير أعداء الأمة بخطى ثابته و يحققون أهدافهم باطراد يحسدون عليه.

أما نحن فنصيبنا الهزيمة و الصياح… نعم لابد من العمل العام و لا بد من الاحتجاج و لابد من السعي للضغط من أجل مناصرة اخواننا المسلمين في كل مكان، و لكن يتحتم ألا يشغلنا ذلك عن العمل طويل المدى بخطى راسخة من أجل النهوض بالأمة نهضة حضارية كبرى تستعيد بها أمجادها التليدة، و لن يتم ذلك الا بأن نجهز اجهازا تاما على أمراضنا الحضارية و الدينية، فنتخلص من قابليتنا للاستعمار و قابليتنا للاستبداد و قابليتنا للظلم و قابليتنا للجهل.

و ذلك لأن أحد أمراضنا الكبرى أن العمل اليومي يستغرقنا و يعوقنا عن العمل بعيد المدى أو العمل الاستراتيجي، و بذا يستنزفنا أعداؤنا باطراد.

و لنتذكر جميعا ما يحدث لنا مع كل حادث أليم تصاب به أمتنا فنجد منا الغضب و الصياح و التظاهر و بعد قليل من أيام أو شهور نمرض بمرض التعود على الألم و التعايش معه و نهدأ و ينتهي صياحنا و مظاهرتنا و في نفس الوقت يترسخ الألم و تتعمق المصيبة و تصبح جزءا من كياننا، فالأراضي المحتلة محتلة و الحكام المستبدون يزدادون استبدادا و قمعا لشعوبهم، فلنحطم التعود و التعايش مع المشاكل و المصائب كي نوجد لها حلولا جذرية و حقيقية و لا نكتفي بالمحاولات الاحتجاجية و الاصلاحية قصيرة المدى قصيرة النفس كيلا تحترق غزة و فسطين و العراق و أفغانستان و كل بلاد الاسلام مرات أخرى في الأعوام القادمة.

العالم الاسلامي

في آفاق التفكير الاستراتيجي و السياسى الإسلامى

يعتبر التفكير الاستراتيجي من أصعب أنواع التفكير ليس لكثرة قوانينه و قواعده وتشعبها و تشابكها مع العديد من العلوم الإجتماعية الأخرى و لكن بسبب أنه يحتاج قدرة كبيرة على التخيل الواقعي لمدى زمني و جغرافي كبير، بجانب استلهامه دروس التاريخ على مدى زمني كبير يشمل كل الزمن و على مدى جغرافي كبير يشمل كل العالم.

و السياسة و فكرها تلي التفكير الاستراتيجي في الصعوبة فهي رغم صعوبتها تمثل صعوبة أقل قليلا من التفكير الاستراتيجي، و هذا الفرق البسيط يتلاشى لأنه كثيرا ما تندمج السياسة بالاستراتيجية.

التأمل السياسي والاستراتيجي

على كل حال فهذه كانت مقدمة لابد منها للدخول لموضوعنا الذي هو عدد من الأفكار هدفها الدفع للتأمل السياسي والاستراتيجي من منطلق المعايير الفقهية المستقرة في مجال السياسة الشرعية، إنها دعوة لإطلاق الفكر للتأمل في آفاق السياسة و الاستراتيجية الإسلامية بأسلوب سهل يستفيد منه الجميع و يدركه و يتفاعل معه غير المتخصص ان شاء الله.

و مما يسهل عملية التفكير الاستراتيجي أن يتخيل المتفكر ما هي أهدافه و تصوراته النهائية التي يريد أن يصل اليها، و في حالة الحركة الاسلامية بكافة فصائلها الحيوية فالهدف هو إعادة الخلافة على منهاج النبوة، و التصور النهائي هو دولة إسلامية واحدة تضم كافة الأراضي الاسلامية التي يمثل فيها المسلمون أغلبية الآن.

و هذا التصور سيفرض عليك تخيل شكل هذه الدولة، و الذي سنتعرض له في هذا المقال جانب من الشكل السياسي و ليس كل الجوانب السياسية و نقصد به البناء السكاني للدولة إن جاز التعبير.

و المتأمل للرقعة الإسلامية المرجو توحيدها تحت راية خلافة راشدة على منهاج النبوة يجد أنها تضم أجناسا و أعراقا شتى و أديانا شتى و مذاهب فقهية متعددة و عقائد ومذاهب متنوعة داخل الدين الواحد.

أجناس و أعراق المسلمين

فمن حيث الأجناس و الأعراق سنجد تمثيل لمعظم الأجناس و الأعراق الاثنية المختلفة الموجودة في العالم، نعم سنجدها كلها موجودة و ممثلة في العالم الاسلامي (الدولة الاسلامية الواحدة)، كما سنجد الأديان السماوية كاليهودية و النصرانية موجودة بنسب كبيرة من عدد السكان بجانب الأغلبية المسلمة، و سنجد الأديان غير السماوية كالمجوسية و الصابئة (و ان كان لبعض الفقهاء رأي بأنهم من أصول سماوية محرفة)، كما سنجد الوثنيات المختلفة كما في جنوب السودان و في أجزاء اخرى من أفريقيا و أسيا (عباد البقر و البوذية و التاوية و غيرها).

مذاهب المسلمين

اما المسلمون فسنجد جميع مذاهبهم الفقهية كالشافعية و الأحناف و الحنابلة و المالكية و الظاهرية و غيرهم، كما سنجد جميع فرقهم العقيدية كالسنة و الشيعة و الخوارج و الصوفية و المعتزلة و الاشاعرة، سنجد هذه المذاهب و الفرق الاسلامية بكثرة و بنسب كبيرة جدا من عدد السكان.

و سنجد الكثيرين من المسلمين المخلصين الذين تلوثت عقولهم بأفكار غريبة عن الاسلام بسبب الغزو الفكري الغربي السابق.

فكيف تكون علاقة كل هذه الأعراق و الملل و النحل و المذاهب ببعضهم البعض من ناحية و بالدولة التي تحكمهم من ناحية أخرى (دولة الخلافة النبوية)؟؟

الخبرة الإسلامية التاريخية

من يرد تصور هذا المشهد بطوله و عرضه و عمقه سيحتاج استدعاء الخبرة الإسلامية التاريخية حول ذلك في عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم و عصر الخلفاء الراشدين الأربعة رضي الله عنهم أجمعين، كما أنه سيمر مرورا سريعا بقدر قليل من التريث على الخبرة الاسلامية في العصر الأموي و العصر العباسي الأول لكن مروره على هذين العصرين سيكون مرورا حذرا باستثناء عصر عمر بن عبدالعزيز الذي يشبه عصر الراشدين في التزامه بالأسس و المعايير الإسلامية.

و في هذا التأمل سنلاحظ التسامح الإسلامي مع التنوع الديني و العرقي و المذهبي في إطار من الحزم و الوحدة، و سيتأمل حرية الرأي و حرية الفكر و حرية التعبير الكبيرة، سيجد وحدة مقترنة بالتنوع و حزما مقترنا بالتسامح و حرية منضبطة بالثوابت الإسلامية.

زيارة الى المستقبل

و لسنا بصدد تفصيل هذا الآن و لكن نريد فقط أن نتحرك بأفكارنا في رحلة الى المستقبل يصحبها عبق الماضي التليد بأمجاده الموضوعية العملية و ليست فقط أمجاده الوجدانية و الحماسية كي يمكننا أن نتغلب على الفكر القاصر الذي يبتعد كثيرا عن أدنى أبجديات التفكير الاستراتيجي و السياسي المنضبط بضوابط الشرع الاسلامي.

لابد في هذه الرحلة أو الزيارة الى المستقبل أن نتخيل متطلبات الدولة الإسلامية الناجحة من تجانس و تعايش اجتماعي و شعبي و من استقرار سياسي و اقتصادي و من تكاتف و تكافل اجتماعي و اقتصادي شامل ومن تقدم و تنمية و تطور مستمر في كافة المجالات.

و بعدما نتخيل كل هذا و نحدد معالمه الرئيسة لابد أن نعود إلى واقعنا المعاش و نرتب خططا و تصورات و مناهج و مواقف تنبني على مقتضيات التفكير المستقبلي الذي حددناه بزيارتنا للمستقبل بعقولنا على النحو المذكور آنفا، و مجموع هذا كله سيمثل البناء المتكامل لفكرنا السياسي و الاستراتيجي.

الضوابط و القواعد الفقهية

و عندما نتم ذلك كله في إطار من الضوابط و القواعد الفقهية، سنتمكن من الوصول الى مستوى ناضج من التفكير السياسي و الاستراتيجي الإسلامي، كما سنستطيع أن نرتقي بوجداننا الى مواكبة هذا النضج السياسي والاستراتيجي مما يساهم في جعل أعمالنا في نفس مستوى تفكيرنا من النضج و العمق، لأنه أحيانا يكون تفكيرنا منضبطا شرعيا و إستراتيجيا و لكن وجداننا و مشاعرنا تكون على حالة مختلفة، لذلك لابد من التوحد بين التفكير و الوجدان.

 و هذا المستوى من الفكر و الوجدان سيغير من طبيعة أعمالنا و أنشطتنا المعاصرة لأنه سيكون منطلقا جديدا من أرض جديدة عقليا و وجدانيا، ليست جديدة فقط في صلابتها و لكن أيضا جديدة في طبيعة و أنواع مكوناتها.

و اذا كنا فيما مضى من سطور قد بسطنا سبيلا للتفكير السياسي و الاستراتيجي، فان سؤالا يطرح نفسه بشكل طبيعي بعد كل هذا الكلام و هو:

كيف يتمكن المرء من ممارسة هذا النوع من التفكير أو بتعبير أدق ما هي الأدوات العلمية التي تساعد المرء على سلوك هذا المسلك من التفكير؟

أول هذه الأدوات هو فقه السياسة الشرعية فهو القاعدة الأساسية في ضبط التفكير بالمعايير الشرعية في السياسة و الإستراتيجية خاصة فيما يتعلق بالقواعد و الضوابط الفقهية في مجال السياسة و الاقتصاد و الإستراتيجية، و ينبغي الاهتمام بأصول الفقه لأنه منهج الفهم و الاستنباط لكل ما ذكرناه من موضوعات شرعية كما أن التركيز على باب مقاصد الشريعة أمر هام جدا في مجال الاستفادة بعلم أصول الفقه كأداة من أدوات التفكير السياسي و الاستراتيجي.

 و يلزم الذي يبحث في السياسة و الإستراتيجية أن يلم الماما مناسبا بفهم صحيح لعلوم العقيدة و الملل و النحل، و التاريخ الاسلامي و التاريخ بعامة، بالاضافة لعلوم الاقتصاد السياسي والاجتماع و جانب من الجغرافيا البشرية.

هذا كله فضلا عن علمي السياسة و الإستراتيجة الذين هما لب تخصصه.

لكن هذا كله لا يشغلنا عن أمر مهم و هو القدرة العالية على التخيل و التوقع من خلال الأطر العلمية المذكورة.