من حكام العرب

فلسفة التعذيب هي حراسة الديكتاتورية

في حادثة مقتل خالد سعيد بأحد أقسام الشرطة بالاسكندرية مؤخرا تسائل كثيرون عن سبب تعنت حكومة الحزب الحاكم بشأن التحقيق مع المتهمين بالمسئولية عن مقتله و تقديمهم لمحاكمة عادلة, و قال المتسائلون: “حتى لو كان بعض المخبرين مدانين في هذه القضية فلماذا امتنعت الحكومة حتى الآن عن التضحية بهم من أجل تبييض وجهها اعلاميا، و لن تخسر شيئا فإنها ستجد بسهولة بدلاء عن الجلادين الذين ستضحي بهم” على حد تعبير هؤلاء المتسائلين المتعجبين من موقف الحكومة, و في الواقع فإن موقف الحكومة يبدو غريبا بالنسبة للنظرة العابرة لكنه ليس غريبا إذا نظرنا له في اطار فهم سليم في إطار فلسفة التعذيب وفلسفة الديكتاتورية لأن حكومة الحزب الحاكم هي نموذج صادق لكل معاني الديكتاتورية و الاستبداد.

تحتاج الديكتاتورية لمن يحميها من المعارضة و من كل ضحاياها, و لابد أن يكون حراس الديكتاتورية و الاستبداد ذوي ولاء شديد للحكومة الديكتاتورية ويدينون لها بطاعة عمياء لا نهاية لها, حتى لو كان القرار الصادر لهم بقتل أو تعذيب او اهانة أخا الحارس أو أباه, و كي يصنع الديكتاتور هذا الولاء و هذه الطاعة لدى حراس النظام الديكتاتوري لابد أن يخلق لديهم المصلحة في حراسة النظام الديكتاتوري و من ثم العمل على استمراره و بقاءه، وخلق هذه المصلحة عبر العقيدة ممكن إن كان للديكتاتوية الحاكمة عقيدة أو اطار فكري واضح و مقنع لا سيما لو تم تدعيم ذلك بمنح هؤلاء الحراس جانبا من المال و النفوذ، لكن لو لم يكن لدى الديكتاتورية اطارا فكريا فلن يكفى منح المال و النفوذ لكسب ولاء الحراس, إذ قد يعارض الديكتاتورية من يمكنه بذل مال أكثر أو من يمكنه تقديم فكر يتغلب به على الرغبة في المال, و من هنا فلابد أن تغذي الديكتاتورية في نفوس حراسها شهوة التسلط و الاستبداد و الديكتاتورية و الاستكبار و حب الانتقام و التلذذ بقهر الأخرين ممن هم خارج منظومة السلطة الديكتاتورية لأن هذه الشهوات أقوى من أي شئ اخر و لا يمكن لأحد أن يتيحها سوى الحكومة كما ان هذه الشهوات يمكنها معارضة أي فكر أو عقيدة، و لنا عبرة في فرعون الذي عارض هو و قومه نبي الله موسى لا لشئ الا لشهوة الاستكبار، بل إن ابليس عارض الله تعالى ذاته بكل وقاحة لمجرد الاستكبار.

و لذلك كله فإن حكومتنا الديكتاتورية لا يمكنها ايقاف ممارسات القمع و الاستكبار و التعذيب الوحشي التي يقوم بها جزء من منظومة حراستها لأنها لو اوقفتها فإنها توقف الدم الذي تضخه في عروق منظومة القمع التي تنفذ اوامر الديكتاتورية و تحميها، و من ثم ستضمر هذه المنظومة و تنزوي و تصير حكومة الحزب الحاكم ديكتاتورية بلا أنياب, فاستكبار و استبداد منظومة حراسة الديكتاتورية في بلدنا و حبها لقمع الآخرين و إهانتهم و تعذيبهم هي ضمانة ولائها للحزب الحاكم.

و من هنا فالتساؤل “لماذا لا تضحي الحكومة ببعض صغار الحراس من رجالها في هذه القضية التي أخذت حيزا كبيرا من اهتمام الرأى العام كي لا تورط نفسها اعلاميا على الأقل؟” اجابته بسيطة جدا و هو أنها لو فعلت ذلك لقيدت الوحش الموجود داخل كل حارس للديكتاتورية و الذي لا بد أن يكون مطلقا من كل قيد.. و حش الاستكبار و الاستبداد و التلذذ بقهر الآخرين, إذا عاقبت الحكومة قتلة “خالد سعيد” العقوبة العادلة و المناسبة لحجم و طبيعة جرمهم فإن كل واحد من حراس الديكتاتورية بعد ذلك سيتردد مليون مرة قبل أن يرفع يده ليصفع متظاهر أو معارض سياسي, و هذا ما لا يمكن أن يحدث في ظل نظام حكم ديكتاتوري.

البعض يتخيل أن خالد سعيد تم قتله بسبب نشره فيديو يفضح قسم الشرطة, لكنني أتخيل شيئا آخر, لقد تم قتل خالد سعيد لمجرد انه عارض المخبرين الذين جاءوا للنت كافيه الذي جلس فيه و أخذوا يتحققون من هوية الجالسين فيه بقدر لا بأس به من الاستكبار على الموجودين و اهانتهم و تحقيرهم , خالد سعيد رفض الاهانة و طالب بحقه كانسان , كان الأمر غريبا على مخبرين و ضباط اعتادوا اهانة الشعب دون أن يفتح احد فاه معترضا, كان لابد ان يصبح خالد سعيد عبرة لكل الموجودين لئلا تنتقل عدوى الكرامة الانسانية لأفراد الشعب الموجودين في هذه الواقعة فتم الامعان في اهانة خالد سعيد في النت كافيه لكي يعلم هو و الجميع أن المطالبة بالكرامة الانسانية تأتي بنتيجة عكسية فلا يطالبن بها أحد مرة أخرى, لكن خالد سعيد أصر على حقه, فانفلتت أعصاب السادة الحراس من فرط هذا التصميم على الكرامة الذي لم يألفوه في بلدنا المحترم فانطلقوا يعذبون خالد سعيد بلا أدني عقل فلقى الرجل مصرعه فأفاق السادة الحراس على حقيقة أنه من المهم اخفاء معالم الجريمة فتم تلفيق تمثلية لفافة البانجو و تلفيق التهم لشهيد الكرامة الانسانية.

و هنا تسائل البعض عن الغرض من محاولة تلويث سمعة قتيل الشرطة خالد سعيد بكونه مجرم سابق و نحو ذلك, و هذا مرتبط بفلسفة المجتمع الظالمة و هي فلسفة العقاب بالأساليب الهمجية فمن اتهم بجريمة صار في عرف الكثيرين مدانا و يجوز عقابه بلا قانون و لا محاكمة و لا فرصة للدفاع عن نفسه.

و ما جري في قضية قتيل الشرطة يتسق مع فلسفة التعذيب الموجودة في بلادنا التي هى حراسة الديكتاتورية تلك الحراسة التي لا تنطبق فقط على حراستها ضد الأعمال المادية المعارضة من مظاهرة أو اضراب أو نحوه بل و حراستها من الأفكار التي تخصم من رصيد الاستبداد و الديكتاتورية كفكرة الكرامة الانسانية أو حرية التعبير أو حتى مجرد أن تقول “لا” للحاكم أو حراسه.

محمد حسان .. السلفيون في مصر

السلفيون و ظاهرة البرادعي في مصر

السلفيون في مصر ما هو موقعهم من حركة الدكتور محمد البرادعي؟ وما موقف الدكتور البرادعي من السلفيين في مصر؟

عندما بدأ الدكتور محمد البرادعي تحركاته السياسية لتحقيق العديد من أهداف التغيير السياسي في مصر التقى بمعظم قادة الحركات السياسية المعارضة أو حتى شبه المعارضة بمختلف مشاربها السياسية، من أول الأقباط ذوي المطالب الفئوية وحتى الإخوان المسلمين ذوي المطالب العقائدية، ومرورًا بـ«شباب 6 أبريل» وشباب أحزاب المعارضة وحركة «كفاية» وحركة «ضد التوريث» وغيرها من الحركات السياسية التي أغلبها قوى سياسية توصف بأنها جديدة وصاعدة وغير حزبية، ومع ذلك كله لم يلتق الدكتور البرادعي بأي من قادة الحركة الإسلامية السلفية، رغم ما لهم من ثقل شعبي كبير في جميع أرجاء مصر، وما لهم من ثقل إعلامي كبير عبر استحواذهم على عدد كبير من برامج العديد من القنوات التليفزيونية الفضائية.

قد يقال: ولماذا لم يسع قادة السلفيين لمقابلة الدكتور محمد البرادعي كما سعى غيرهم؟ وهذا سؤال مشروع أيضًا، وسنحاول عبر هذا الموضوع الإجابة عن السؤالي:

أولاً – لماذا لم يسع الدكتور محمد البرادعي لمقابلة مشايخ السلفيين ويستمع لآمالهم وأهدافهم كما فعل مع غيرهم من قادة التيارات السياسية والاجتماعية المختلفة؟

الثاني- لماذا لم يسع قادة السلفيين لمقابلة البرادعي والاستماع إليه وبث آمالهم في التغيير؟

في الواقع فإن السعي للتغير السياسي في بلد في مثل ظروف مصر يستلزم من الدكتور البرادعي أن يسلك أحد طريقين:

الطريق الأول – العمل على بناء قاعدة شعبية ذات أطر تنظيمية محددة تقوم بتثقيف وتعبئة قطاع واسع جدًا من الجماهير المصرية كي يتمكن من تحريك هذه الجماهير في الاتجاه الذي يريده وحسب أهداف التغيير التي يحددها، وهذا الطريق لا يمكننا الجزم بعد بأن البرادعي سلكه، لأننا نميل لاعتباره لم يسلكه حتى الآن، رغم أنه بدأ جولات جماهيرية ناجحة في الشارع المصري، لكن ذلك لا يكفي للقول بأنه يسعى لتكوين قاعدة جماهيرية مسيّسة ومنظمة، ويمكن تعبئتها على نطاق واسع في أي وقت وأي مكان. الجولات مجرد خطوة لا تعني شيئاً ما لم تتبعها خطوات من التثقيف السياسي والتعبئة والتجنيد الجماهيري ومن ثم التنظيم، وهذه الخطوات جميعها لو سلكها البرادعي فسوف يتكون له حزب سياسي ذو قاعدة جماهيرية جيدة، سواء قام البرادعي بتسجيله كحزب قانوني أم لا، وحتى الآن لا يمكن القول بأن البرادعي فعل هذا أو حتى أظهر نية لفعل هذا.

الطريق الثاني- أن يسعى الدكتور محمد البرادعي للتحالف مع القوى السياسية المعارضة المتعددة، بحيث تؤلف بينها جبهة متحدة تسعى لتحقيق الحد الأدنى المتفق عليه من الأهداف الوطنية، وهذا ما يبدو أن البرادعي سعى إليه بتأسيسه «الجمعية الوطنية للتغيير الديمقراطي» التي ضمت كل ألوان الطيف السياسي المعارض في مصر من الشيوعيين وحتى الإخوان المسلمين.

ولا مانع في الحقيقة أن يجمع البرادعي بين الطريقين، فيكون لنفسه ولأهدافه قاعدة شعبية واسعة ذات كيان محدد ومنظم ومستقل عن القوى السياسية الأخرى، وفي الوقت نفسه يتحالف مع قوى المعارضة المتعددة حتى يعطي لعملية تحقيق أهدافه دفعة قوية ويكثف الضغط على الحزب الحاكم، لكن لم يتضح من عمله حتى الآن سوى سعيه عبر الطريق الثاني فقط.

وأيًا كان الأمر فإن البرادعي مع سعيه لتحقيق عملية تحالف سياسية واسعة لابد أن يدرك أنه لابد أن يُحدث اختراقًا للحالة السياسية المزمنة للمعارضة المصرية، فمنذ 2005 وحتى الآن وهناك أكثر من عشر جبهات سياسية معارضة قد تشكلت من أحزاب سياسية قائمة أو من قوى سياسية غير حزبية، ومع ذلك لم ينجح أي منها في دفع حكومة الحزب الحاكم لتغيير سياساتها الديكتاتورية والفاسدة، وهذا الاختراق لن يتم فيما يبدو إلا عبر النجاح في عمليتين:

العملية الأولى: إقناع الإخوان المسلمين بخوض ضغط كفاحي وحقيقي منتظم ومستمر بكل أوراقهم السياسية ضد حكومة الحزب الحاكم وسياساتها، مع تأمين مساندة كل القوى السياسية المعارضة للإخوان المسلمين في ذلك.

العملية الثانية: إقناع السلفيين بالمشاركة في العملية السياسية بشكل فعال ومباشر، على الأقل في المجالات التي تتوافق مع أفكارهم وأهدافهم وأولوياتهم.

وإنما حددنا الإخوان المسلمين والسلفيين باعتبار أنهما أكبر قوتين شعبيتين تتمتعان بحضور جماهيري واسع في الشارع المصري، وقواعدهما الشعبية تفوق بعشرات المرات مجموع القواعد الشعبية لجميع أطياف المعارضة المصرية غير الإسلامية مجتمعة.

الدكتور محمد البرادعي بدأ تنسيقًا ملحوظًا مع الإخوان المسلمين، لكن هذا التنسيق لم يصل حتى الآن لإقناع الإخوان المسلمين بخوض الصراع السياسي بثقل مناسب.

أما السلفيون فلم يتصل بهم البرادعي ولم يتصلوا به، ويخطئ من يظن أن السلفيين لا يهتمون بمتابعة الشئون السياسية أو أنهم تحديدًا لا يتابعون ظاهرة البرادعي وعملية الإصلاح السياسي، فالواقع أن مشايخ السلفية يتابعون أوضاع البلاد جيدًا ولهم فيها آراء محددة، وعدد غير قليل منهم يتناول العديد من مجريات الأحداث بالرأي والتحليل من حين لآخر إما في محاضراتهم في الفضائيات أو المساجد أو بشكل أوسع على شبكة الإنترنت، خاصة المشايخ؛ سعيد عبد العظيم وياسر برهامي وأبو إسحاق الحويني ومحمد حسان.

وإذا كان حال السلفيين هكذا فلماذا لم يتصل بهم البرادعي ولماذا لم يتصلوا به؟

بالنسبة للبرادعي هل مازال أسير الطرح الإعلامي غير الجاد الذي يعتبر السلفيين بعيدين عن السياسة ولا علاقة لهم بها أو أنهم صنيعة الحكومة المصرية أو السعودية؟

هل ينوي البرادعي الاتصال بالسلفيين مستقبلاً في إطار تحركاته الجماهيرية المستقبلية؟

وبالنسبة للسلفيين لماذا لم يسعوا للاتصال بالبرادعي على الأقل لاستكشاف ما عنده والاطلاع على أجندته السياسية؟ هل يستريبون منه بسبب علمانيته الواضحة أم بسبب أنه عاش فترة طويلة في الغرب وله علاقاته الوثيقة بالعديد من الدوائر الغربية بسبب منصبه الدولي المهم الذي شغله لسنوات طويلة؟

السلفيون قد يرون أن الأنسب لأجندتهم السياسية ألا يتورطوا في التحالف مع البرادعي أو غيره من القوى الوطنية العلمانية لئلا تهتز صفوفهم عبر الاختلاف حول الشرعية الدينية لمثل هذا التحالف، وفي الوقت نفسه فإنهم لا شك سيستفيدون من أي تغيير سياسي يسعى نحو مزيد من الحريات وصيانة حقوق الإنسان، لأنهم سوف يستغلون ذلك في توسيع دوائر نشاطهم ومجالات دعوتهم، لكنهم عندما يتحقق لهم ذلك دون التحالف مع شخص أو جهة لها أجندتها العلمانية ذات الطبيعة الموافقة للقيم الغربية يكون أفضل لهم، إلا أن هذا التقدير السياسي يكون سليمًا في حالة ضمان ما إذا كان البرادعي ودعاة التغيير سيحصدون النجاح في كل حال أو في أرجح الأحوال دون مشاركة السلفيين أو حتى مساندتهم، أما إن كان هذا النجاح غير مضمون للبرادعي ولقوى التغيير دون المشاركة السلفية فإنه يكون من مصلحة السلفيين العمل لإنجاح التغيير إن كان ذلك في إمكانهم، أي إن كان تدخلهم في عملية التغيير كفيلاً بإنجاحها.

أما البرادعي أو غيره من قادة قوى التغيير السياسي فإن من مصلحتهم إقناع رموز السلفيين بأهمية مشاركتهم في عملية التغيير السياسي، لما لذلك من أهمية إزاء نتائج المعادلة السياسية في مصر، ورغم أن كثيراً من السلفيين لا يؤيدون استخدام المظاهرات كوسيلة للعمل السياسي ويحرمون الاشتراك في انتخابات مجلس الشعب لأنه مجلس تشريعي يشرع من دون الله فإن السلفيين فيهم فصائل كثيرة لها موقف آخر في هذه الأمور، كما أن جميع السلفيين هم أصحاب جماهيرية عريضة، ويمثلون رقمًا مهمًا وصعبًا جدًّا في المعادلة السياسية المصرية.

ولا يمكن للسلفيين أن يحتجوا بأنهم لا يشتغلون بالسياسة ولا هم لهم إلا الإصلاح المجتمعي على أسس الإسلام لأنه إن لم تتم كفالة حرية العمل الدعوى في الحي والقرية والمسجد والمدرسة والجامعة والمصنع والنقابة فإن هذا الإصلاح المجتمعي سيكون مجرد سراب يسعى وراءه العطشان، فإذا جاءه لم يجده شيئًا, وحرية الدعوة لن تكون مكفولة بشكل مناسب في ظل ديكتاتورية بوليسية لا فكاك منها إلا بنضال سياسي حقيقي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر هذا الموضوع في موقع الاسلام اليوم.

سيد قطب رحمه الله

هل سيطر القطبيون على قيادة الاخوان المسلمين في مصر؟

عندما تم انتخاب الدكتور محمد بديع مرشدا عاما للاخوان المسلمين خلفا للمرشد السابق الأستاذ مهدي عاكف ذهبت أغلب التقارير الصحفية إلى أن د. بديع جاء لقيادة الاخوان بصفته ممثلا لسيطرة القطبيين على الجماعة.

و جاء ذلك استمرارا للنغمة التي سارت عليها الصحافة في متابعتها للأزمة الأخيرة في انتخابات مجلس إرشاد الاخوان المسلمين حيث ذهبت حينها إلى أن ما يسمى بـ “القطبيين” قد سيطروا على قيادة الاخوان المسلمين بينما لم تحدد هذه التحليلات ماهية ما تقصده بمصطلح القطبيين, كما أن أكثر القراء لم ينتبهوا للدلالات العميقة التي ينطلي عليها هذا المصطلح و كان الوحيدون الذين أدركوا أبعاد كلمة “قطبيين” بكل أبعادها هم المتهمون بذلك من قادة “الاخوان المسلمين” كالدكتور محمود عزت و غيره, و لذلك اهتموا بتحديد علاقتهم بفكر الأستاذ سيد قطب رحمه الله, فصرحوا لوسائل الاعلام أنهم يعتزون بأفكاره و يحترمونها لكنهم لا يكفرون الحاكم و غير ذلك من تصريحاتهم التي أظهرت أنهم متمسكون بمنهج الاخوان المسلمين رغم احترامهم الشديد للأستاذ سيد قطب مما يعني في التحليل النهائي أنهم ملتزمون بالخط الرسمي لجماعة الإخوان المسلمين, و نفس المنهج سار عليه المرشد الثامن للاخوان المسلمين د.محمد بديع حيث كان لزاما على الرجل في أول خطاب له كمرشد للاخوان ان يطمئن الحكومة و الغرب و الأقباط و القوى السياسية الوطنية المختلفة على أن المنهج الذي سيخطه هو نفس منهج الاخوان المسلمين المعروف و ليس منهج سيد قطب المشهور براديكاليته في قضايا عديدة و لكن دون التصريح باسم سيد أو منهجه.

و لكن لماذا اهتم قادة الاخوان بنفي تهمة القطبية عنهم؟ و قبل ذلك ما معني القطبية؟ و ما الفرق بينها و بين منهج الاخوان المسلمون؟ بل و لماذا و كيف افترق القطبيون عن الإخوان المسلمين رغم أن سيد قطب كان من قادة الاخوان المسلمين و مفكريها؟

الأطوار الفكرية التي مر بها سيد قطب

في البداية لابد أن نلاحظ الأطوار الفكرية التي مر بها سيد قطب (رحمه الله), فبعدما ترك حياة الأدب و التي كان مصاحبا فيها لعملاق الأدب العربي عباس العقاد اتجه سيد قطب للكتابة في الأدب من منظور اسلامي بحت فكان أشهر ما كتبه في هذه المرحلة:

“التصوير الفني في القرآن”: وهو أول كتاب له في موضوع إسلامي (ط 1945م).

“مشاهد القيامة في القرآن” : (ط 1947م).

“النقد الأدبي أصوله ومناهجه” : (ط 1948م)

“العدالة الإجتماعية في الإسلام” : (ط 1949م) قبل سفره لأمريكا. وهو أول من أطلق لفظ “العدالة الإجتماعية” بدل “الإشتراكية” التي كان يستخدمها الكُتّاب في عصره للدلالة على موافقة الإسلام للإشتراكية (في نظرهم).

و كانت هذه هي مرحلة سيد قطب الأولى مع التوجه الاسلامي, ثم جاءت المرحلة التالية بعد عودته من رحلته لأمريكا حيث توجه للانضمام لجماعة الاخوان المسلمين و كان لهذا الانضمام سببان:

السبب الأول: ما شاهده في الولايات المتحدة من فرح بمقتل الامام حسن البنا, حيث نشرت العديد من الصحف هناك, أن عدو الغرب الأول قد قتل.

السبب الثاني: مقابلة حدثت بين سيد قطب و ضابط مخابرات انجليزي اسمه “جون هيوورث دن” حيث حذّر “دن” سيّداً من الإخوان المسلمين ومن مغبة إمساكهم بزمام الأمور في مصر وقدّم له معلومات دقيقة عن التنظيم وأهاب به أن يقف وأمثاله من المثقفين المصريين في وجه الإخوان المسلمين !!

و لهذين السببين رأى سيّد قطب أن دعوة الإخوان المسلمين صادقة و أن أعداء الأمة يكيدون لها، و قد قرر سيّد قطب حينها الإنضمام للإخوان المسلمين .. و إثر عودته من الولايات المتحدة بدأت علاقته بالاخوان المسلمين فانضم إليهم و تبحر في العلوم الشرعية و ألف سلسلة من الكتب حملت فكره الاسلامي لكن مرحلته الاسلامية هذه انقسمت لطورين متميزين:

الطور الأول- اهتم فيه بتبيين محاسن الاسلام و أفضليته سياسيا و اجتماعيا على غيره من المذاهب السياسية الأخرى و استمرت هذه المرحلة حتى 1960, و أصدر في هذا الطور الأول الكتب التالية:

“معركة الإسلام والرأسمالية” : (ط 1951م) و هو أول ما ألفه بعد رجوعه من الولايات المتحدة.

“السلام العالمي والإسلام” : (ط 1951م) وقد وكان في آخر هذا الكتاب في الطبعة الأولى فصل بعنوان “الآن” بيّن فيه زيف الإدعاءات الأمريكية ، مما جعل الحكومة الأمريكية تتدخل لدى مصر لحذف الفصل في طبعات الكتاب التالية.

“في ظلال القرآن” : طبع الجزء الأول سنة 1952م ، وطبع الجزء الأول من الطبعة المنقّحة سنة 1960م ، واستطاع سيد أن ينقّح الكتاب إلى الجزء الثالث عشر عند نهاية سورة إبراهيم ، ثم أُعدم بعدها رحمه الله, و الكتاب بطبعته النهائية جاء في ستة أجزاء من القطع الكبيرة حوت أكثر من (4000) صفحة.

“دراسات إسلامية” : هو عبارة عن (35) مقالة إسلامية في نقد مظاهر الفساد والظلم والإنحراف في المجتمع (ط 1953م) .

“هذا الدين” : أصدره وهو في السجن (ط 1960م) و قد كتبه لإخوانه السجناء ليثبت به قلوبهم ، وبيّن فيه عظمة الاسلام وخصائصه التي تفرّد بها .

“المستقبل لهذا الدين” : (ط 1960م).

الطور الثاني- ركز فيه على العقيدة الاسلامية و على الصراع العقائدي بين الاسلام و الآخر من وجهة نظره و كان قمة هذه المرحلة كتابه “معالم في الطريق” و استمرت هذه المرحلة الفكرية معه حتى اعدامه رحمه الله, و لقد أصدر في هذه المرحلة الكتب التالية:

“خصائص التصور الإسلامي ومقوماته” : وهو كتاب في العقيدة أراد به سيد قطب تعليم الأجيال حقيقة العقيدة وأهميتها ، (ط 1962م)

“الإسلام ومشكلات الحضارة” : (ط 1962م) ، دخل هذا الكتاب من باب التعريف بكتاب “الإنسان ذلك المجهول” لألكسس كارل ، ثم أتى بما لم يخطر على بال “ألكسس كارل” ولا غيره.

“مقومات التصور الإسلامي” : طبع بعد عشرين سنة من وفاته (ط 1986م). وقد كتبه سيد في آخر أيام حياته كما قال أخوه محمد في مقدمة الكتاب ، وقال بأن سيداً كتب آخر الكتاب على أوراق الإدعاء التي أعطيت له قبل المحاكمة !! وهناك فصلان مفقودان من الكتاب ، وهما بعنوان “حقيقة الحياة” و”حقيقة الإنسان” وهذا الكتاب يتحدّث عن حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية وحقيقة الكون والحياة والإنسان.

معالم في الطريق كتاب أعدم مؤلفه

لكن أشهر كتب سيد قطب بجانب “في ظلال القرآن” هو كتابه “معالم في الطريق” وهو آخر كتاب صدر في حياة سيد (ط 1964م). وهو من أكثر كتب سيد قطب إثارة للجدل حتى الآن ، و يقال أنه كان الذريعة الرئيسية لمحاكمة سيد والحكم عليه بالإعدام ، وقد كان بعض تلاميذ سيّد يرجونه ألّا يطبع الكتاب !! فكان يقول لهم “لا بد أن يتم البلاغ” ..

لذلك نرى أنه لعله هو الكتاب الذي أعدم صاحبه .. ويبدو أنه قد مُنع من التداول والطباعة في وقتنا هذا ، ولكنه موجود على شبكة الانترنت، وهذا الكتاب يمكن أن يقال بأنه خلاصة كتب سيّد قطب الإسلامية وقد أحدث دوياً هائلاً منذ صدوره و حتى الآن كما أنه يمثل البلورة النهائية لأفكار سيد قطب السياسية و التي فهمتها العديد من القوى الاسلامية كل على طريقته, فالبعض أخذ منها إشارة بتكفير المجتمعات الاسلامية و البعض أخذ منها إشارة أهمية التركيز على التربية الاسلامية للشعوب قبل الدخول في صراع مع الحكومات التي يرون أنها بعيدة عن الاسلام و البعض أخذ منها حتمية المفاصلة مع هذه الحكومات و خوض الصراع بكل أنواعه ضدها و بمختلف أدوات الصراع بما فيها الأساليب المسلحة, و لعل الايحاءات المتعددة التي أطلقها كتاب معالم في الطريق هي التي فجرت الخلافات بين الاخوان المسلمين في السجن بين أغلبية تؤيد القيادة الشرعية للاخوان و أقلية تؤيد أفكار سيد قطب في صورتها النهائية, و ألفت قيادة الاخوان وقتها الكتاب المشهور و المنسوب للاستاذ حسن الهضيبي (المرشد الثاني للاخوان) “دعاة لا قضاة” لا لترد على الفكر القطبي فقط بل أيضا لتحصن الاخوان ضد فكر التكفير الذي كان قد بدأ في إطلاقه شكري مصطفى و رفاقه في السجن.

و كان سيد حاضرا في السجن بين الاخوان قبل إعدامه إذ كان أول اعتقال له مطلع سنة (1954) ، ثم اعتقل بعدها في نفس السنة ، ثم حكمت عليه محكمة الثورة (سنة 1955) بالسجن خمسة عشر سنة ، وقال سيّد مستهزئاً بعد صدور الحكم “إنها مدّة قليلة ، فأين حكم الإعدام” !! ، وقضى معظم هذه الفترة في مستشفى سجن “ليمان طُرّة” لإصابته بأمراض كثيرة حتى أُفرج عنه بعفو صحي بعد تدخل الرئيس العراقي “عبد السلام عارف” سنة 1964، ثم أعيد مرة أخرى للسجن سنة 1965 بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم ، ولاقى أصناف التعذيب والتنكيل مع شدة المرض وكبر السنّ حتى صدر الحكم بإعدامه في 21 أغسطس 1966 ، وهنا أطلق سيد ابتسامة التقطتها عدسات المصورين.. و أُعدم – رحمه الله – فجر يوم الاثنين الثالث عشر من جمادى الأولى سنة 1386هـ الموافق 29أغسطس1966م ، أي بعد أسبوع من صدور الحكم عليه!!

جماعة القطبيين

و رغم وجود سيد قطب في السجن مع إخوانه حتى إعدامه إلا أن جماعة القطبيين لم تتبلور إلا في السجن بعد انتهاء محاكمات الإخوان المسلمين في عام 1966م و التي تعرف عند البعض بتنظيم سيد قطب, و قد تكونت من مجموعة صغيرة من قادة و أعضاء الإخوان المسلمين و كان على رأسهم الأستاذ محمد قطب شقيق سيد قطب, و كان من ضمنهم كل من الشيخ عبدالمجيد الشاذلي و الأستاذ مصطفى الخضيري و الدكتور محمد مأمون , و قد اختلفوا مع الإخوان في عدة قضايا و أهمها استراتيجية العمل الإسلامي.

إستراتيجية القطبيين للتغيير الإسلامي

و الإستراتيجية التي اعتمدها القطبيون للتغيير الإسلامي قد دونها بشكل متكامل الأستاذ محمد قطب في كتابه “واقعنا المعاصر” و تتلخص في أنه يتحتم تربية أغلبية الشعب على العقيدة الإسلامية الصحيحة حتى إذا قامت الدولة الإسلامية الحقيقية (من وجهة نظرهم) أيدها الشعب و تحمل الصعاب التي ستترتب على قيامها من قبل القوى الغربية التي ستقاوم أي نهضة اسلامية حقيقية في مصر و ستضرب حصارا ظالما (حسب رأيهم) على الدولة الإسلامية الناشئة يطال كل شئ من اول منع استيراد القمح و المواد الغذائية إلى منع استيراد أي مواد صناعية, بل و منع تدفق ماء النيل بطريقة أو أخرى حتى لو وصل الأمر إلى ضرب السد العالي بقنبلة نووية, و انطلاقا من هذه الرؤية فالقطبيون يرون أنه بجانب تربية الشعب قبل إقامة الدولة الإسلامية على الأفكار الاسلامية فإنه يتحتم أن يهتم أبناء الحركة الإسلامية بالتفوق في تعلم العلوم و التكنولوجيا الغربية الحديثة حتى تتوافر لهم فرص إيجاد الحلول العلمية و العملية الحديثة للتغلب على هذه الصعاب المترتبة على إقامة الدولة الإسلامية في مصر.

و رغم أن استراتيجية القطبيين في التغيير لها رونقها و وجاهتها عند البعض إلا أنهم لم يضعوا تكتيكات (أساليب) واضحة و مناسبة لتحقيقها مما جعلها تبدو و كأنها نوع من الترف الفكري.

كما أن القطبيين لا يؤيدون الدخول في إنتخابات مجلس الشعب أو الشورى أو المحليات.

الخلل في تكتيكات جماعة القطبيين

و بصفة عامة فإن القطبين عددهم صغير و معدل التجنيد عندهم بطئ جدا و ذلك كله يعكس الخلل في تكتيكات جماعة القطبيين, و لذلك فرغم أنهم بدأوا مسيرتهم الدعوية في نفس الوقت الذي بدأ فيه الإخوان المسلمون في منتصف السبعينات فإن عدد القطبيين الآن لا يزيد عن عدة آلاف بينما ربما يصل عدد الإخوان المسلمين إلى مئات الآلاف.

كما يُلاحظ أن القطبين ليس لهم نشاط في الجامعات و لا النقابات بعكس كل من الاخوان و السلفيين الآن و الجهاد و الجماعة الاسلامية سابقا, و هذا أيضا يعد مظهر من مظاهر الخلل في أساليب عمل جماعة القطبيين.

و رغم ذلك كله فإن التيار القطبي مازال تيارا موجودا في معظم دول العالم خاصة أقطار العالم العربي, لكنهم في كل مكان لهم نفس الخصائص الموجودة فيهم في مصر من حيث البطء و عدم الفاعلية و التركيز على تكوين نخبة عقائدية صلبة, و قد أدى ذلك في بعض الحالات إلى تململ عناصر فاعلة داخل جماعة القطبيين و من ثم الانشقاق عليها مللا من جمود منهجها الحركي.

الفكر القطبي ليس له صلة بجماعة الاخوان المسلمين

و بذلك كله نعلم أن الفكر القطبي هو فكر جماعة أخرى ليس لها صلة بجماعة الاخوان المسلمين بل إنها تنافس الاخوان المسلمين فكريا و تنظيميا, و لذلك رد الاخوان المسلمون عليها بكتاب “دعاة لا قضاة” في الستينات ثم ردوا مرة ثانية عبر الدكتور يوسف القرضاوي الذي رد على عدد من أطروحات سيد قطب في سلسلة مقالات نشرتها جريدة حزب العمل (الشعب) في الثمانينات أيام تحالف الاخوان مع الحزب.

و ذلك يشير إلى أن قادة الاخوان المسلمين الذين عاصروا نشأة جماعة القطبين في السجن مثل د.محمد بديع و د. محمود عزت أبعد الناس عن أن يكونوا قطبيين لأنهم رفضوا الانضمام لجماعة القطبيين لما تأسست و انحازوا لجماعة الاخوان المسلمين بقيادة الأستاذ حسن الهضيبي وقتها ثم استمروا على ذلك حتى اليوم.

و لكن على كل حال فإن التقارير الصحفية التي نعتت محمود عزت و محمد بديع و من على شاكلتهم بأنهم قطبيون ربما قدمت فائدة لهم في انتخابات مكتب الارشاد, لأن الانتساب لقامة كقامة سيد قطب قطعا أمر له رونقه بين التيارات الاسلامية بكافة اتجاهاتها الفكرية بما في ذلك الاخوان المسلمين و ان اختلفوا مع سيد رحمه الله في العديد من القضايا.

________________________

نشر هذا الموضوع في جريدة الدستور المصرية.

قادة الاخوان المسلمون و صراع الأجيال

الإخوان المسلمون .. بين صراع الأجيال وصراع الأفكار

في إطار حملة الاعتقالات الأخيرة التي شنتها الأجهزة الأمنية في مصر ضد العديد من كوادر جماعة الإخوان المسلمين هل يمكن القول بأن القوة والقدرة السياسية لجماعة الإخوان المسلمين في مصر قد اهتزت؛ بسبب الخلافات العديدة على مستوى قيادة الجماعة ومكتب الإرشاد بين المحافظين والإصلاحيين التي أُشيع عنها الكثير منذ فترة قصيرة.. الأمر الذي جرَّأ الأجهزة الأمنية على شنّ مثل هذه الحملة القاسية ضد عدد من قادة وكوادر الجماعة.

د.محمود عزت وبعده د. محمد بديع هما أشهر من تناولتهم التقارير الصحفية وقصص الأخبار أيام الخلافات التي شهدتها قيادة جماعة الإخوان المسلمين، وخاصة انتخابات مجلس الإرشاد، وبعدها انتخاب ومبايعة المرشد الثامن للجماعة، ذلك المنصب الذي تولاه منذ فترة قصيرة د. محمد بديع, ولكن هل هذان الرجلان هما أبرز اللاعبين بين قادة الجماعة؟ أم أنهم مجرد رمزين لعدد أكبر من اللاعبين؟ وبصفة عامة هل ما تم إعلانه من خلافات تمثِّل الأبعاد الحقيقية للعبة القيادة داخل جماعة الإخوان المسلمين؟ أم أن هناك أبعادًا عديدة أخرى للعبة السياسية داخل الجماعة لم تتكشف أبعادها بعد؟

لقد تفجرت الخلافاتُ بشكل علني وبأسلوب يعتبر الأكثر حدَّة منذ أكثر من خمسين عامًا داخل جماعة الإخوان المسلمين, وقد تسببت قسوة وحدة هذه الخلافات في أكبر جماعة معارضة في مصر وأعرق وأكبر حركة إسلامية سياسية في العالم في إطلاق دخان كثيف صرف بصر أكثر المراقبين عن تحولات كبرى شهدتها جماعة الإخوان المسلمين في خِضَمّ هذه الخلافات.

و رغم الجدل الشديد الذي تشهده ساحات المراقبين السياسيين المهتمين بالحركات الإسلامية إلا أن منهجًا عميقًا ومناسبًا لفهم هذه الحركات الإسلامية لم يتبلورْ بعدُ، واكتفى أغلبية المراقبين بتحليل سطحي وتبسيطي من قبيل القسمة التقليدية إلى محافظين وإصلاحيين.

فهل فعلًا لا تعكس خلافات الإخوان الأخيرة سوى الصراع بين الإصلاح والمحافظة كما يردِّد الجميع؟ أم أن هناك مرحلة جديدة كما قال د. عصام العريان؟ وإذا كان الإخوان قد انتقلوا إلى مرحلة جديدة فما ملامح هذه المرحلة؟

إن نظرةً شاملةً لتطور أوضاع القيادة داخل جماعة الإخوان المسلمين منذ أعاد الأستاذ عمر التلمساني تأسيسها في منتصف السبعينيات، وحتى الآن تشير إلى مرورها بمرحلة واحدة منذئذٍ وحتى يوم انتخاب د. محمد بديع كمرشد ثامن لجماعة الإخوان مؤخرًا، هذه المرحلة تختص بمستوى وجيل مَن يحتل منصب المرشد العام، حيث كان منصب المرشد العام حكرًا على الباقين من مكتب الإرشاد القديم الذي كان متوليًا القيادة حتى تَمَّ حلّ الجماعة أثناء صدامها مع نظام عبد الناصر, فتولى التلمساني ثم حامد أبو النصر ثم مصطفى مشهور ثم مأمون الهضيبي ثم مهدي عاكف, وكل هؤلاء كانوا من الجيل الذي عاصر الإخوان في الأربعينيات من القرن العشرين وحتى وفاة كل منهم عدا الأستاذ عاكف الذي امتنع عن الترشح لمنصب المرشد لفترة تالية، واعتزل المنصب وهو على قيد الحياة (أطال الله عمره), إذن فالملمح الأول من ملامح المرحلة الجديدة هو انتقال منصب المرشد من جيل إخوان الأربعينيات إلى جيل إخوان الستينيات ممثَّلين في المرشد الثامن وهو الدكتور محمد بديع.

لكن هل هذا يعني سيطرة جيل الستينيات أو ما يُعرف بجيل سيد قطب (باعتبار سيد قطب كان أشهر رموز هذا الجيل) على مكتب الإرشاد ومن ثَمَّ على الجماعة لهذا السبب؟

في الواقع أن جيل الستينيات لا يوجد منه في عضوية مجلس الإرشاد الجديد (الثمانية عشر) سوى ثلاثة هم د. محمد بديع ود. محمود عزت والأستاذ جمعة أمين, بينما يوجد ثلاثة عشر عضوًا من جيل السبعينيات الذين هم جيل د. عبد المنعم أبو الفتوح (الذي لم يدخل مكتب الإرشاد هذه المرة) ود. عصام العريان, إذن فمن أبرز التحولات التي مرت بها جماعة الإخوان في خضم خلافاتها الأخيرة أيضًا هو نقل الثقل في مركز الإرشاد من جيل الأربعينيات والستينيات إلى جيل السبعينيات مع إدخال واحد من جيل الثمانينيات إلى مكتب الإرشاد ربما لأول مرة وهو الدكتور عبد الرحمن البرّ, هذا كله مع عدم وقوع أي قطيعة مع جيل الأربعينيات؛ إذ أن هناك عضوًا واحدًا من هذا الجيل في مكتب الإرشاد هو الدكتور رشاد البيومي، فضلًا عن أن مهندس كل هذه التغيرات هو الأستاذ مهدي عاكف الذي قاد هذا التحول هو من جيل الأربعينيات.

صحيح أن دخول جيل السبعينيات لمكتب الإرشاد بدأ بدخول د.عبد المنعم أبو الفتوح عام 1987، لكن مع ذلك احتاج الأمر نحو عشرين عامًا لتصير الغلبة المطلقة في مكتب الإرشاد لجيل السبعينيات، سواء في الانتخابات السابقة أم في آخر انتخابات.

ولكن كيف تكون الغلبة في مكتب الإرشاد لجيل السبعينيات بينما المرشد هو من جيل الستينيات؟

من الواضح أن الجماعة تسير بخطًى ثابتة نحو نقل القيادة في الجماعة لجيلي السبعينيات والثمانينيات, إذ سيصعب على قامة تالية لمهدي عاكف أن لا تترسم خطاه وتتأسى بخطته في ضخّ دماء جديدة في جسم قيادة الإخوان, وسيصعب على أي مرشد قادم أن يتشبث بالمنصب فترةً طويلة.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن انتقال القيادة من جيلي الأربعينيات والستينيات إلى جيلي السبعينيات والثمانينيات سيؤدي إلى درجة أكبر من شيوع أو توزع القوة المؤثرة في صناعة القرار داخل جماعة الإخوان المسلمين, لأن الرمزية التاريخية التي تمتع بها جيلا الأربعينيات والستينيات لا يمكن أن يدّعيها أي من جيل السبعينيات أو الثمانينيات, ولذلك نرى أن مكتب الإرشاد السابق تصدى بسهولة لرأي المرشد بتصعيد د. العريان رغم الرمزية التاريخية التي يمثلها مهدي عاكف، وذلك في أول إشارة واضحة لتحول الإخوان إلى المؤسسية في صنع القرار بغضّ النظر عن المكانات التاريخية لرموز الأربعينيات والستينيات التي كانت تحسم القرار في اتجاهٍ أو آخر, لقد انساق الكتَّابُ والمراقبون للتحليل في اتجاه صراع المحافظين والإصلاحيين دون أن يفطنوا لهذه النقطة، وهي أنه حدث المزيد من توزع القوة بين قادة الإخوان، إذ لم يعد يمكن لفرد أن يمسك بكل خيوط لعبة صنع القرار حتى لو كان المرشد السابع مهدي عاكف ذا الشرعية التاريخية وكاريزما التنظيم الخاص، ولا حتى نائبه الأول محمد حبيب رغم ثقافته السياسية, ومن المدهش في هذا التحول أن الذي غضب من بعض آثاره (في قضية تصعيد العريان بدون انتخاب) هو قائد هذا التحول أصلًا الأستاذ مهدي عاكف (أحد أعظم مرشدي الإخوان عبر تاريخهم) وذلك عندما أعفى كثيرًا من قادة الجماعة من بعض قيود السلطة المركزية الموكولة للمرشد، وأعطى للكثيرين حرية الحركة والكلام بل واتخاذ القرار في إطار “شفافية وانفتاح” منظم بدقة، وهذا نقل الجماعة لمرحلة جديدة هامة وواعدة، وليس كما يظن البعض أنها مرحلة انغلاق أو تفكُّك.

في المرحلة الجديدة أغلب القادة من جيل واحد أو من جيلين متقاربين، ولا يفضل أحدهم على الآخر بأي رمزية أو شرعية تاريخية أو نحوها, فالقرار سيخضع لنقاش وأخذ ورد من الجميع على قدم المساواة.

ورغم كل هذا فلا يمكن اعتبار أن التحول الجديد في جماعة الإخوان هو مجرد صراع أجيال، بل بالعكس، فما أثاره الكثيرون من خلافات ذات طبيعة سياسية وفكرية له وجه من الصحة، لكنَّ فيه شيًا من التخبط, نعم هناك فريق له خبرات سياسية واسعة يرفع شعارات التغيير والإصلاح في الإخوان، ويدلي لوسائل الإعلام بأفكار راقت للكثيرين خارج الإخوان، ولم ترُقْ لكثيرين داخل الإخوان، لكن هذا الصراع هو صراع يعكس تعدُّد اتجاهات الاجتهاد السياسي داخل الإخوان، ولا يعكس صراعًا بين الأجيال؛ لأن مثلًا عبد المنعم أبو الفتوح ومحمد حبيب هما من جيل السبعينيات، بينما الأغلبية من مجلس الإرشاد الجديد هم أيضًا من نفس الجيل، بل هناك اسم ما زال البعض يشن عليه حربًا لا هوادة فيها، باعتباره من المحافظين والقطبين و….الخ هو د محمود غزلان، ومع ذلك فمحمود غزلان من نفس جيل السبعينيات وزميل للدكتور عبد المنعم أبو الفتوح, وهذا يعني أنه إذا كانت الجماعة نقلت قيادتها في مرحلتها الجديدة إلى جيل السبعينيات، فإن هذا الجيل ليس شيئًا واحدًا، بل إن هناك خلافات في الاجتهادات السياسية والفكرية لدى هذا الجيل، وإن توزع القوة في الجماعة واعتمادها على الآليات المؤسسية في صنع القرار سوف يثري روح الشورى، (بلغة الحركات الإسلامية) أو روح الديمقراطية (بلغة السياسة المعاصرة) داخل الجماعة, وما أزمة الانتخابات الأخيرة في الجماعة ومواقف وانتقادات د.عبد المنعم أبو الفتوح ود. محمد حبيب وتعليقات د. عصام العريان ود. محمود غزلان، ما كل هذا إلا المخاض العسير الذي ستولد على إثره آليات مناسبة داخل الجماعة؛ لإدارة اللعبة السياسية داخلها، وسيكون من أهم قواعد هذه الآليات الاحتكام لنتائج الانتخابات لحلّ الخلافات بعد تعديل اللوائح الداخلية والرضا برأي الأغلبية والالتزام به والاكتفاء في أغلب عمليات النقد والاعتراض على القنوات الداخلية للجماعة, أما مَن سيعاند هذه التحولات الجديدة فإنه لن يجد له مكانًا إلا في زوايا النسيان، مهما كان تاريخه؛ لأن عجلة التاريخ إذا دارت فإنها تدور للأمام نحو المستقبل، فلا تلتفت حينئذٍ لتاريخ أحد كائنًا من كان .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كتبت هذا الموضوع لموقع اسلام تودي و تم نشره به.

أسامة بن لادن

هل اتجهت منظمة القاعدة للواقعية السياسية؟

رسالة للعالم أجمع, هكذا حدد أسامة بن لادن الهدف من كلمته الأخيرة التي بثتها قناة الجزيرة أول أمس الجمعة, فقد وجه بن لادن خطابه للعالم اجمع و تكلم فيه عن التغيرات المناخية و الاحتباس الحراري بشكل أساسي و أشار فيه للأزمة المالية العالمية, فقال في أولها: “أما بعد فهذه رسالة إلى العالم أجمع عن المتسببين في التغير المناخي وأخطاره بقصد أو بغير قصد، وما يجب علينا فعله”.

و تعتبر هذه اللغة جديدة على قائد القاعدة الذي سبق و قسم العالم كله إلى فسطاط الايمان و فسطاط الكفر, فضلا عن أن كلمة بن لادن الأخيرة لم يذكر فيها آية قرآنية واحدة و لا حديثا نبويا واحدا, كما أنه لم يعد يقصر دفاعه عن المسلمين المظلومين بل إنه قدم القاعدة على أنها تدافع عن ” المستضعفين والمنكوبين في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، الذين لا حول لهم ولا قوة”.

لغة التركيز على مخاطبة العالم كله و دعوته للوقوف مع القاعدة ضد الولايات المتحدة كانت واضحة جدا بشكل لا لبس فيه إذ يقول على المثال “فيا أيها الناس أهل الأرض جميعا، ليس من الإنصاف والعدل ولا من الحكمة والعقل أن يترك العبء على المجاهدين وحدهم في قضية يعم ضررها العالم أجمع، فالمطلوب منكم يسير، وهو أن تحكموا عليهم الحصار، فجدوا وبادروا في مقاطعتهم لتنقذوا أنفسكم وأموالكم وأطفالكم من التغير المناخي وتعيشوا أعزة أحرارا بعيدا عن أعتاب المؤتمرات وتوسل الحياة، فلا خير في حياة تريق ماء المحيا”, و هو في ذلك كله لا يستثنى الدول الكبرى بل يدعوها بصراحة لحصار الولايا المتحدة فيقول: ” ويجب على الدول الغنية أن تتوقف عن إقراض أميركا لأن في ذلك تمويلا لحروبها الظالمة على المستضعفين”.

لهجة الخطاب واضحة جدا و غريبة على القاعدة, و المحللون المتسرعون سيتسابقون للقول بكل سطحية أن هذا الخطاب يعكس ضعف القاعدة إذ لولا ضعفها لما طلب قائدها من العالم أجمع أن يقف مع القاعدة ضد الولايات المتحدة, لكن حقيقة الأمر ليست كذلك, فالولايات المتحدة و حلفائها يتكبدون خسائر فادحة يوميا أمام مقاتلي القاعدة في كل الجبهات المفتوحة في أفغانستان و العراق و الصومال و غيرها, صحيح أن القاعدة منذ فترة طويلة أعجزتها التدابير الأمنية في أوروبا و أمريكا الشمالية عن القيام بعمليات كبيرة هناك, لكنها جعلت من أفغانستان و العراق فيتناما صغرى للولايات المتحدة و حلفائها, و باتت الولايات المتحدة و حلفائها يبحثون عن مخرج من هناك, إذن فما الجديد الذي دفع أسامة بن لادن لتغيير خطابه السياسي لهذه الدرجة من الانفتاح على العالم و بدل من الاقتصار على محاولة كسب المسلمين و العرب عبر تبني قضاياهم الساخنة (كقضايا فلسطين و العراق و افغانستان و الشيشان و غيرها) فإنه بدأ في تبنى قضايا كونية تهم العالم أجمع مثل الاحتباس الحراري و الأزمة المالية العالمية؟

حقيقة هذه مرحلة جديدة في تطور الفكر السياسي للقاعدة و قد سبقتها تطورات أخرى سبق و أشرنا لبعضها هنا على صفحات الدستور منها محاولة الظواهري و بن لادن التوجه بخطابهم لعامة جماهير اليسار العالمي و مناوءي العولمة و كذلك تحريض أتباعهم على استخدام اساليب المظاهرات و العصيان المدني, و أخيرا جاءت هذه الكلمة يوم الجمعة الماضية بالتوجه للعالم اجمع بما في ذلك الدول الرأسمالية للتوحد ضد الولايات المتحدة, و هذا لا يعكس ضعفا لدي القاعدة بل بالعكس فهو يعكس احساسها بقرب تحقيق النصر في أفغانستان و من ثم السعى للعب دور سياسي دولي يستثمر سياسيا ثمار نصرها العسكري, فهل ستنجح القاعدة في ذلك؟

ــــــــــــــــــــــــــ

كتبت هذا الموضوع يوم 30 يناير 2010  و  نشر في جريدة الدستور المصرية اليومية الورقية.

اسياس أفورقي رئيس إريتريا

أريتريا واللعب مع الكبار في الشرق الأوسط

الكلام عن أريتريا ودورها الإقليمي سيَجُرُّنا للكلام عن أطراف عديدة، مثل إسرائيل وإيران وأثيوبيا والغرب، والعديد من الدول العربية، والعديد من المنظمات الدولية، كالأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي، وكثرة هذا الأطراف رغم صغر مساحة وموارد أريتريا تقودُنَا لحقيقة واضحة، هي أن أريتريا تريد أن تلعب دورًا أكبر من إمكاناتها الجيوسياسية، وهي بذلك تريد أن تلعب مع الكبار في جزء من العالم الإسلامي، تَمَّتْ تسميته دوليًّا بمنطقة الشرق الأوسط، وخاصة في شرق إفريقيا أو القرن الإفريقي.

جوانب من تاريخ تحرير أريتريا وأثرها في التحليل السياسي

استقلت أريتريا عن أثيوبيا في 23 من مايو 1993م ولن نقف كثيرًا عند التفاصيل التاريخية، لكنّ هناك أربعَ جوانب من تاريخ تحرير أريتريا لها دلالة مهمة في مجال التحليل السياسي، لا بد لنا في البداية من الإشارة إليها:

الجانب الأول: أن حركة التحرير هذه نشأتْ أوَّلَ أمرها في السودان عام 1961م، ولم تكن تملك مقاتلين داخل أريتريا سوى 13 مقاتلًا، ولم تملك كوادِرَ خارج السودان سوى أقل من عشرةٍ، أكثر من ثلثهم هم من السودانيين. وأعطى هذا الجانب الثوار الأريتريين ثقةً كبيرة في أنفسهم ومكانتهم، حتى بعد وصولهم للحكم، بسبب تحقيقهم إنجازَ التحريرِ من العدم- إن جاز التعبير- على الأقلِّ حسب رأْيِهِم هم!

كما أن تجربتهم الثورية هذه منحتهم خبرةَ ممارسةِ السياسة بأسلوبها الكفاحي, ومن ثَمَّ نرى لجوءَهُم المتكرِّرَ للأساليب العسكرية في علاقاتهم مع الأطراف الأخرى، كما حدث مع اليمن وأثيوبيا السودان.

الجانب الثاني- أن المساندة الأهَمَّ لحركة التحرير هذه منذ البداية وحتى بعد إقامة الدولة الأريترية المستقلةِ كانتْ من الدول العربية، خاصةً سوريا ولبنان والسودان والسعودية، لاسيما أن أثيوبيا التي اعتُبِرَتْ دولة محتلة لأريتريا، هي دولةٌ حليفة بشكل أساسي لإسرائيل، كما كانت بجانب ذلك حليفةً للاتحاد السوفيتي السابق.

ويعكس هذا الجانب أهميةَ منطقة القرن الإفريقي، وكذلك السواحل الإفريقية للبحر الأحمر بالنسبة للدول العربية, كما يعكس قلقَ العرب من الوجود الإسرائيلي، سواء في أثيوبيا (مُهَدِّدًا بذلك مصر، والسودان، والصومال، واليمن، وغرب وجنوب السعودية) أم في الساحل الشرقي لإفريقيا؛ حيث يُطِلُّ على بحرٍ، كُلُّ المطلين عليه من العرب، عدا هذا الجزء من ساحل البحر الأحمر الذي أصبح الآن أريتريا.

الجانب الثالث- أنه قد تحالَفَ الثوار الأريتريون مع ثوار التجراي الأثيوبين، ابتداءً من عام 1975م, وكان الأخيرون يَسْعَوْن لاستقلال إقليم التجراي عن أثيوبيا (يمثل التجراي 7 % من سكان أثيوبيا) لكنهم تحت ضغط ثوار أريتريا غيَّرُوا وُجْهَتَهم لحكم كُلِّ أثيوبيا.. وقد وصل هذا الضغط الأريتري ذِرْوَتَهُ بحصار عسكري، وتصفياتٍ دمويَّةٍ قادها أسياس أفورقي ضدهم عام 1985م, كما دعم هذا التوجُّهَ ضغطٌ سياسي أمريكي في نفس الاتجاه، بهدف إسقاط نظام “منجستو هيلامريام” المتحالفِ مع السوفيت في ذلك الوقت.

وفي هذا الجانب نضع يَدَنَا على العُقْدَةِ التي ربما تكون نفسيَّةً بين كُلٍّ من “ملس زيناوي” (أحد قادة التيجراي وقتها، ورئيس وزراء أثيوبيا الآن)، و”أسياس أفورقي” (الأمين العام المساعد لجبهة تحرير أريتريا وقتها، والرئيس الحالي لأريتريا)؛ حيث كانت جبهة أفورقي لها اليَدُ العليا والفضل على التيجراي الإثيوبيين في دَفْعِهِم لحُكْمِ كُلِّ أثيوبيا، كما كانت جبهة أفورقي بمثابة السيد على منظمة زيناوي (جبهة تجراي أثيوبيا)، بما لها من خِبْرَاتٍ وعلاقات وموارِدَ، وقوةٍ عسكريةٍ، بينما كانت منظمة زيناوي أشبهَ بالتابع لها بدرجةٍ ما, لكن بعد حكم زيناوي لأثيوبيا بكامل مواردها الاقتصادية والبشرية (تعداد أثيوبيا نحو 70 مليون نسمة، وجيشها نحو نصف مليون).. تغَيَّرَ الوضع، وتغيَّرَت موازين القوى إزاء دولة أريتريا التي لا تملك أيّ موارد اقتصادية ذات بال، كما أن تعدادها لا يزيد عن 4 مليون نسمة، ولا تملك جيشًا بحجمِ ولا تسليح الجيش الأثيوبي, ومن هنا ثارت المشاكل بين الدولَتَيْنِ، تُغَلِّفُها مشاكل ومنازعات الحدود؛ حيث بدا أنّ كُلًّا من الدولتين يسعى لاستِتْبَاع الأخرى، والاستئثار بالدور الإقليمي الأكبر في شرق إفريقيا، وفي القرن الإفريقي ذي الأهمية الاستراتيجية البالغة.

الرابع- تحالُفُ ثوار أريتريا مع أوروبا والولايات المتحدة وإسرائيل قَبْلَ التحرير, ومن الطبيعي أنّ تَحَالُفَ نظام “منجستو هيلامريام” مع السوفيت سَهَّلَ على معارضيه الحصولَ على الدعم الغربي, ومصادر جبهة التحرير الأريترية تزعم أنهم لم يستطيعوا الحصولَ على الدعم الغربي، لولا الدخولُ من البوابة الإسرائيلية, وهذا هو تبريرهُم الدائِمُ لعلاقاتهم الوثيقة مع الكيان الصهيوني منذئذ, ومن هنا نرى التناقُضَ بين علاقات الأريتريين بإسرائيل وعلاقاتهم بالعرب.

نعم، قد تغيَّرَ موقف العرب من مسألة العلاقة مع الكيان الصهيوني، نظرًا لوجود علاقاتٍ لعدد من الدول العربية والإسلامية مع الكيان الغاصب، لكنْ لا شك أن أريتريا وأثيوبيا حتى الآن تتنافسان في الحصول على رضا إسرائيل, وفي واقع الأمر فإن إسرائيل لا يمكنها الاستغناءُ عن أريتريا بموقعها على البحر الأحمر، من حيث إنها الدولةُ الوحيدة التي لا تنتمي للجامعة العربية، وتُطِلُّ على البحر الأحمر؛ إذ كل الدول المطلة عليه عربية, وفي نفس الوقت لا يمكن لإسرائيل الاستغناءُ عن أحد أكبر دول إفريقيا من حيث القوة الشاملة، كأثيوبيا، ولاسيما أن لها حدودًا لصيقةً مع العالم العربي, وهكذا تعتبر علاقة أريتريا مع الغرب بعامةٍ، وإسرائيل بخاصةٍ أمرًا جوهريًّا وأساسيًّا حتى الآن, ومن هنا ليس مستغربًا أن الغواصاتِ الإسرائيليةَ التي أعدَّتْهَا إسرائيل لتوجيه ضربة نووية ثانية للعرب، ترتكز في جزءٍ أساسي من إمداداتها على موانئ أريتريا، إن لم تكن أريتريا هي قاعدتها الوحيدة في المنطقة.

انحياز الغرب وإسرائيل لأثيوبيا

انحاز الغرب وإسرائيل بشكلٍ كبيرٍ لأثيوبيا في نِزَاعِها ضد أريتريا، منذ الحرب التي دارت بينهما عام 1998م, وهذا أضْفَى شيئًا من التوتُّرِ على علاقة أريتريا مع الغرب، والمفترض أن يسري هذا الأمر على إسرائيل أيضًا، لكنّ كل الدلائل تشير إلى أن العلاقاتِ بينهما ما زالت استراتيجيةً لحاجة كُلٍّ منهما للآخر, وإن كانت إسرائيل تميل أكثرَ لأثيوبيا، بسبب قيمتها من ناحية الجغرافيا السياسية والعسكرية, هذا إذا تعارضتْ علاقتها بإثيوبيا مع علاقتها بأريتريا.

وأريتريا دولةٌ فقيرةٌ جِدًّا، سواء من حيث مواردها الاقتصادية، أم من حيث اقتصادُهَا الكلي, كما أنها لا تتمتَّعُ بتاريخ خاص عريقٍ، لا في الماضي القريب، ولا البعيد, ورُغْمَ ذلك فلدى قادَتِها طُمُوح ضَخْمٌ في لَعِبِ دور كبير في شرق إفريقيا، وفي الشرق الأوسط على حَدٍّ سواء، يفوق كثيرًا من أدوار القوى الإقليمية الكبرى في المنطقة.

وقد استغل قادة أريتريا أهمية موقعها على البحر الأحمر بالنسبة للاستراتيجية الإسرائيلية؛ كي يقيموا علاقاتٍ قويَّةً مع إسرائيل، ويحصلوا منها على دعم اقتصادي وعسكريٍّ هام, كما استغلوا موقعهم الجغرافي كمَنْفَذٍ شِبْهِ وحيدٍ لأثيوبيا على البحر؛ كي يضغطوا عليها، ويحوزوا قُدْرَةَ توجيه السياسة الخارجية الأثيوبية كما يشاءون، لكن أثيوبيا لم تَرْضَخْ لهم، ودخلتْ معهم حربين ساخنتين عامي 1998 و2000 , والحرب الباردة مندلعةٌ بينهما منذئذ وحتى الآن، خاصةً عبر الساحة الصومالية؛ إذْ تدعم أثيوبيا الحكومة الانتقالية، بينما تدعم أريتريا معارضي الحكومة.

وفي نفس الوقت استخدمت أريتريا قُوَّةَ التحالف الأثيوبي مع إسرائيل لِتُسَوِّقَ نفسها لدى الدول العربية، خاصةً الغنية منها على أن أريتريا هي حليفٌ للعرب، لاسيما أن العديد من أعراق أريتريا يَرْجِع إلى العرب، أو على الأقل اختلطَ بالعرب، كما أن أغلب الأريترين هم من المسلمين (أكثر من 75%), وتحتاج أريتريا للدول العربية النفطية لانقاذ اقتصادها المتداعي, ورُغْمَ حُسْنِ علاقات عددٍ من الدول العربية بأريتريا، إلا أنها ليست بالقوة، ولا الفوائد التي كانت تأملها أريتريا.

ضغط أريتريا على مصر والسودان

ومن ناحيةٍ أخرى مارست أريتريا ضغْطًا عسكريًّا غير مباشر على كلٍّ من السودان ومصر, فبالنسبة لمصر دأبتْ على احتجازِ سفن الصيد المصرية لفترات طويلة، أو مَنْعِهَا من الصيد أمام سواحلها، رُغْمَ وجود فائضٍ لديها من الأسماك، وعدم وجود سُفُنِ صيد أريترية قادرةٍ على صيد هذا الفائض, وكان الغرض من هذا الضغط تحصيلَ ضريبةٍ باهظةٍ من الصيادين المصريين.

أما بالنسبة للسودان، فقد دعمتْ أريتريا سياسيًّا وعسكريًّا منظماتِ التمرُّدِ في جنوب السودان وشَرْقِهِ وغَرْبِهِ (دارفور)، وما زالت حتى الآن, وهدفها في ذلك المساهمةُ في المخطط الغربي والصهيوني لإضعاف السودان وتفتيته، والتقَرُّب بذلك لإسرائيل والغربِ بعامة.

إريتريا تضغط على اليمن

كما مارست أريتريا ضَغْطًا عسكريًّا على اليمن عبر استيلائها بالقوةِ على جزيرة أبو حنيش الاستراتيجية في البحر الأحمر، وادِّعَاءِ امتلاكها, وأرادتْ من ذلك تعزيزَ مكانتها الاستراتيجية في البحر الأحمر بهدف المساومة بهذه المكانة مع قوة كبرى إقليمية (كإسرائيل مثلًا) أو دولية (كفرنسا والولايات المتحدة مثلًا) كي تُقَدِّمَ هي التسهيلات الاستراتيجيةَ في البحر الأحمر لهذه القوة، في مُقَابِلِ تقديم هذه القوة الْمُقَابِلَ في شكلِ دَعْمٍ سياسِيٍّ واقتصادي لأريتريا.

إريتريا وإيران

و ربما يمكننا في هذا الإطار فَهْمُ ما يُقَالُ عن وجود تسهيلاتٍ عسكرية لإيران في موانئ أريتريا، سواءٌ صَحَّتْ هذه المعلومات أم لا.

ومن ذلك كُلِّهِ يمكننا أن نفهم كيف تلعب أريتريا مع الكبار في الشرق الأوسط ،وفي شرق إفريقيا، وفي القرن الإفريقي.

أسس استراتيجية في تجربة اريتريا

ورُغْمَ خلافنا مع عقيدة أريتريا وأهدافها السياسية، فإنه لا بُدَّ من التأمل في الكيفية التي تمكَّنَتْ بها أريتريا من اكتساب مكانةٍ ودورٍ إقليميٍّ، واللعب مع الكبار في الشرق الأوسط، والقرن الإفريقي، بل والتفوق عليهم في هذا اللعب في بعض الأوقات، وتتلخَّصُ هذه الكيفية في عدةِ أُسُسٍ، نوجزها على النحو التالي:

أولا- الإدراك الكامل لمكامن القوة الذاتية أو المميزات الذاتية التي يملكها الكيان السياسي، واستخدامها لتحقيق أهدافه العليا, وهذا ما فعلته أريتريا، فهي- رُغْمَ فَقْرِهَا في الموارد الاقتصادية والبشرية- قد أدركت أنّ موقعها الجغرافي له مميزاتٌ من الممكن استغلالها في علاقاتها مع العديد من القوى الكبرى، سواءٌ سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو استراتيجيًّا, وللأسف فالعديد من القوى العربية والإسلامية لها العديدُ من المميزات، ولكنها لا تُدْرِكُها أو لا تستخدمها.

ثانيا- التصميم على تحقيق الأهداف، وسلوكُ أسلوب السياسة الكفاحِيَّةِ لتحقيق هذا الغرض، وتَحَمُّل مخاطِرِ هذا السلوك، والتعامُل مع هذه المخاطِرِ بثبات.

ثالثا- ابتكارُ الوسائل والأساليب المناسبة لتحقيقِ ذلك كُلِّه، مهما كانت هذه الأساليب جديدةً وغيرَ معتادةٍ، فأريتريا- رُغْمَ صِغَرِ جيشِهَا وضَعْفِ تسليحِه، وضَعْفِهَا الاقتصادي- تمكَنَتْ من التَصَدِّي عسكريًّا بشكل أو بآخر للعديد من القوى الأكبر منها في المنطقة، عبر حروبٍ مباشرة حِينًا، وعبر حروبٍ بالوَكَالَةِ في أحيان أخرى.

وهكذا تَمَكَّنَتْ أريتريا من اللَّعِبِ مع الكبار.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

نشر في موقع الاسلام اليوم و كذلك في مدونتي القديمة وعدد من مواقع الانترنت و أثار جدلا واسعا و تعليقات كثيرة وقتها.

القمة العربية صورة أرشيفية

القمة العربية بالدوحة.. مصر من «الدولة الزعيمة» إلي «الدولة المقموصة»

تابع الجميع مؤتمر القمة العربية في الدوحة، ومحاولات قادة العرب قبل وأثناء القمة في مجال لم الشمل وإعادة الاعتبار للتضامن العربي المفقود وللجامعة العربية المأسوف عليها، فعلا لقد سعي حكام الدول العربية لذلك لسبب أو لآخر.

وفي هذا الوقت العصيب الذي تتعلق فيه قلوب الشعوب العربية بهذه المحاولات كما يتعلق الغريق بقشة، سارع العديد من القادة العرب للقيام بدور ما لإنقاذ ما تبقي من آمال بشأن الجامعة العربية أو علي الأقل لصناعة دور لبلادهم علي الساحة العربية،

وبينما سعت دولة صغيرة كقطر للعب دور كبير في المنطقة فقد اضطلعت دولة كبيرة كالسعودية بإنجاح قدر ما من المصالحة العربية فبدأت بنفسها فصالحت بشار الأسد ـ رئيس سورياـ ودعاه ملك السعودية لزيارة الرياض قبل القمة لتدشين هذه المصالحة، كما تمت مصالحة مماثلة بين الملك السعودي عبدالله بن عبدالعزيز والزعيم الليبي معمر القذافي في الدوحة لدرجة أن تعانقا وطلب القذافي من العاهل السعودي نسيان الماضي ودعاه لزيارة ليبيا.

حضرت السعودية وتصالحت مع سوريا رغم أن كلا منهما يمثل رأسا لمحور مناوئ للآخر، فسوريا رأس محور الممانعة والتشدد العربي بينما السعودية هي رأس محور الاعتدال العربي مع مصر والأردن وغيرهما.

وحضرت السعودية وتصالحت مع القذافي الذي كان متهما بتحريك مؤامرة لاغتيال العاهل السعودي نفسه.

ورتبت وحضرت قطر لذلك كله لتحقق لنفسها دورا سياسيا عربيا رائدا، بعدما حققت لنفسها دورا إعلاميا عربيا بارزا عبر قناة الجزيرة، قطر فعلت هذا وهي الدولة العربية صغيرة المساحة قليلة السكان حديثة التاريخ.

لكن في خضم كل محاولات القادة العرب لرأب الصدع العربي المتفاقم غابت مصر ولم يشاهد أحد لها دوراً لا كبيراً ولا صغيراً، مصر زعيمة الوطن العربي (سابقا) غابت عن قمة الدوحة وهي التي كانت قد أسست فكرة القمم العربية قديما وفكرة دورية هذه القمم حديثا، وليس هذا هو الأمر الغريب الوحيد بشأن غياب مصر بل هناك ما هو أغرب منه وهو سبب هذا الغياب الغريب.. الرسميون المصريون صرحوا بأن غياب مصر جاء بسبب قناة الجزيرة الفضائية القطرية، وأخبار أخري تشير إلي أن الغيرة والعناد المصريين إزاء قطر ليسا بسبب فضائية الجزيرة فقط بل بسبب الأدوار التي تسعي قطر للعبها في الساحة الفلسطينية خاصة بشأن ملف الأسير الإسرائيلي جلعاد شاليط، وكذلك الأدوار التي تلعبها في الساحة السودانية بشأن ملف دارفور.

ما ذكرته المصادر الحكومية التي أشارت لدور الجزيرة في توتر العلاقات مع دولة قطر أيده بقدر ما الاتهام الذي وجهته قناة الجزيرة- يوم الاثنين الماضي- من أن إدارة النايل سات 101 شوشت علي بث القناة لوقائع القمة العربية بالدوحة مما أدي لانقطاع الإرسال نحو عشر مرات، ورغم نفي إدارة النايل سات لذلك (نفت التهمة في التشويش لكن التشويش كان واقعاً أمام الجميع) فإن غضب مصر الرسمية من قناة الجزيرة لا يخفي علي أحد وكذلك غضبها من الدور المتنامي والمتزايد لدولة قطر في الساحة السياسية العربية.

والنتيجة النهائية للتوتر المصري الرسمي من مواقف قناة الجزيرة ودور دولة قطر هو غياب مصر عن قمة المصالحات العربية، وهكذا لم تعد المسألة علي ساحة الخلافات العربية هي بين محور التشدد والممانعة من ناحية ومحور الاعتدال من ناحية أخري بل صار الجو العام متصالحاً ولو شكلا علي الأقل مع بروز أدوار سياسية متنامية للعديد من الدول العربية علي مسرح المنطقة العربية والشرق أوسطية ككل، بينما مصر تقاطع القمم والاجتماعات والفعاليات العربية، و تقف منفردة غاضبة بجانب الحائط محاولة إثارة المشاكل لتثبت وجودها الذي هو غير موجود أصلا، فمصر كانت توالي وتعادي كبري الدول العربية (كالعراق والسعودية) في الماضي من أجل قضايا ومواقف سياسية كبري هي اليوم تغضب من قناة فضائية (الجزيرة) وتعادي دولة صغيرة كقطر لأنها حاولت أن تحل جانبا من المشاكل العربية التي تخلت مصر عن حلها، فتحولت مصر من «الدولة الزعيمة» إلي «الدولة المقموصة».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر بالعدد الأسبوعي لجريدة الدستور.

عمر حسن البشير

مذكرة توقيف البشير..الأبعاد والمشاهد والنتائج

عند التأمل في المذكرة الدولية بتوقيف الفريق عمر البشير رئيس الجمهورية السودانية والتي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية هذا الشهر؛ لابد وأن يتوقف العقل عند ثلاث محطات، محطة أبعاد هذا القرار القضائي الدولي، ثم المشاهد المتوقعة بناءً على هذا القرار، وأخيرًا النتائج التي قد تتمخض عنها العملية برمتها.

أولًا ـ أبعاد قرار توقيف البشير

نظرًا لسيطرة المفاهيم الغربية على التحليل السياسي في العالم كله؛ فإن هذه الأبعاد سوف تنقسم إلى البعد الدولي والبعد الإقليمي والبعد المحلي، سنجد أن البعد الدولي يشير إلى الأمم المتحدة وتحديدًا مجلس الأمن، الذي وقف خلف هذا القرار بهدف تحقيق أهداف معينة للغرب إزاء السودان، والبعد الإقليمي سيشير إلى العامل “الإسرائيلي” والإثيوبي في المنطقة، أما البعد المحلي فسيشير إلى المنافع المتحققة لمتمردي جنوب السودان “الحركة الشعبية” وغرب السودان “متمردي دارفور”.

لكن لو أردنا أن نشير لإطار إسلامي في التحليل السياسي فسوف تنقسم الأبعاد إلى بعدين فقط:1- الهيمنة الاستغلالية للغرب على العالم بصفة عامة، والعالم الإسلامي بصفة خاصة، وتقودها حاليًا الولايات المتحدة.2- العالم الإسلامي ككتلة مستهدفة ومتأثرة بقرار توقيف البشير.

وإذا تأملنا في البعد الأول وهو الهيمنة الاستغلالية للغرب؛ سنجد أن هذه الهيمنة فرضها الغرب على معظم أنحاء العالم الإسلامي منذ عصر الاستعمار الغربي في القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، ولكنها صارت هيمنة محكمة ومطلقة على كل أنحاء العالم الإسلامي منذ تم القضاء تمامًا على الدولة العثمانية، التي كانت آخر معاقل العالم الإسلامي سقوطًا في براثن الهيمنة الغربية بشكل كامل.

والغرب بوقوفه وراء مذكرة اعتقال البشير إنما يهدف إلى دعم مسارات إضعاف السودان عبر تفكيكه لعدة دويلات يهيمن الغرب على أغناها ويستغل ثرواتها جميعًا، ويمنع قيام دولة إسلامية بحجم وثروة السودان؛ فالسودان أكبر دولة أفريقية، ومن أكثر دول العالم الإسلامي ثراءً في مجالات الموارد الزراعية وموارد المياه والثروة المعدنية والثروة الحيوانية، ونظام حكم عمر البشير_ رغم ما عليه من تحفظات_ فإنه سار ويسير في التنمية بكل مجالاتها بخطى لا بأس بها، ففي عهده دخل التصنيع على نطاق واسع للسودان بما في ذلك تصنيع السلاح والدواء والمواد الغذائية وغيرها، كما تحسنت البنية التحتية والأداء الاقتصادي بشكل عام، فضلًا عن ازدياد قوة الجيش وأجهزة الأمن بشكل مكَّن هذا النظام من الصمود في وجه موجات طاغية من التآمر الدولي آتية من العديد من الأجهزة الأمنية الدولية العاتية؛ كأجهزة “إسرائيل” والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وغيرها، فضلًا عن أذرعهم الداخلية من المتمردين في الجنوب والشرق والغرب.وتأتي هذه المذكرة لتؤدي عملها بمساندة القوى الغربية و”إسرائيل”، وبأذرع ربما محلية من خلال المتمردين المعروفين أو غير المعروفين.

أما البعد الثاني وهو المتعلق بالعالم الإسلامي، فهو لا يشمل فقط إضعاف السودان في المدى القريب والبعيد، ولكن يشمل حرمان العالم الإسلامي من ثروات السودان التي قد تصبح في يوم من الأيام عونًا لأيٍّ من دول العالم الإسلامي ـ وفي قلبه مصر ـ على النهضة والقوة الاقتصادية، ليس هذا فقط بل ونقل هذه الثروات لأعداء العالم الإسلامي؛ “كإسرائيل” أو الغرب من خلال عملائهم في السودان ـ الحركة المتمردة في دارفور وفي جنوب السودان ـ هذا كله فضلًا عن تطويق دولة قوية كمصر ليس من جنوبها فقط، بل أيضًا من عنقها حيث أن نهر النيل شريان الحياة في مصر، وبتفكيك السودان وسيطرة “إسرائيل” والغرب على حكوماته تصبح كل دول حوض النيل تقريبًا واقعة تحت هيمنة الولايات المتحدة و”إسرائيل” بطريقة أو بأخرى.وإذا كانت السودان تمثل جسرًا عربيًّا إسلاميًّا بين مسلمي وعرب شمال أفريقيا، وبين أفريقيا السوداء، فإن من شأن الهيمنة الغربية عليها أن تقيم سدًا منيعًا أمام تواصل عرب شمال أفريقيا مع مسلمي أفريقيا السوداء.

ثانيًا ـ المشاهد المتوقعة

كثر اللغط حول المشاهد المتوقعة بشأن السودان والبشير معًا بعد قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقاله، وفي الواقع فإن المشاهد كلها مطروحة على مسرح الأحداث الدولية بشأن السودان.

فتدويل حكم السودان ككل عبر تقدم قوات المتمردين من الجنوب ومن دارفور إلى العاصمة، واحتلالها عبر دعم أمريكي غربي عسكري وسياسي أمر وارد في الفترة القادمة، قد لا تقدر بالأيام أو الأسابيع لكنها لن تزيد عن سنتين أو ثلاث سنوات على الأكثر.

وفي حالة استمرار قدرة الأجهزة الأمنية والجيش على حفظ استقرار الحكم في الخرطوم، فخنق نظام الخرطوم سياسيًّا واقتصاديًّا عبر الولايات المتحدة وحلفائها أمر وارد بقوة، يصحبه تقطيع أوصال السودان عبر استقلال دارفور بعدما تحصل على حكم ذاتي، واستقلال الجنوب في الاستفتاء المزمع بعد سنتين، كما أن قبائل شرق السودان قد لا تمانع من أن تحظى بالدعم الأمريكي والغربي والإسرائيلي الذي تحظى به دارفور وجنوب السودان مقابل التمرد وإحياء جبهة الشرق ومن ثَمَّ الاستقلال، وحينئذٍ لن يكون هناك مانع لدى الولايات المتحدة وحلفائها من ترك البشير يهنأ مع أجهزته الأمنية القوية بحكم ولاية الخرطوم المخنوقة باسم سودان لا وجود له، إلى أن يركع أو تطلق عليه الولايات المتحدة وحلفاؤها رصاصة الرحمة كما أطلقتها على عراق صدام حسين.

ثالثًا ـ نتائج العملية كلها

طبعًا النتائج كلها واضحة، وأبرزها ضياع السودان من جعبة العالم الإسلامي في هذه الفترة، وذهاب مواردها الضخمة لخدمة أعداء الأمة الإسلامية، وخنق أكبر دولة عربية وهي مصر تمهيدًا لتقطيع أوصالها هي الأخرى.

ولكن هناك نتائج جزئية خاصة بالتحليل السياسي أظهرتها هذه الأزمة؛ منها أن الصين وروسيا تواطأتا مع الولايات المتحدة وحلفائها في مجلس الأمن إذ كان وما زال في إمكانهما عرقلة صدور القرار أو تجميده بعد صدوره ولم يفعلا.

وكذلك أظهرت العملية برمتها تصميم الغرب على استمرار إضعاف العالم الإسلامي دون كلل ولا ملل؛ للحفاظ على استمرار هيمنتهم عليه واستغلاله لصالحهم، في الوقت الذي ما زال يتغنى فيه المستغربون عندنا بصداقتهم للغرب، ونقصد هنا الحكومات الغربية لأن للشعوب الغربية شأنًا آخر لا مجال لتفصيله هنا.وعلى كل حال، فإننا لا نصاب باليأس بسبب تقطيع أوصال العالم الإسلامي المتواصل من قِبل الجيوش الغربية وحلفائهم في الداخل والخارج، لأننا ننظر للمستقبل في ضوء تاريخنا التليد إذ مر بالعالم الإسلامي أوقات حالكة الظلمة مثل هذه لكنه نهض بعدها من كبوته، وثاب إلى رشده، واسترد انتصاراته {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر هذا الموضوع في موقع الاسلام اليوم.

مجلس الشعب المصري صورة أرشيفية

تأميم الفتوى لصالح رئيس الجمهورية في مصر

وافقت لجنة الاقتراحات بمجلس الشعب المصري على مشروع بقانون يعاقب من يفتي بدون أن يحمل ترخيصا رسميا خاصا و قد أثار ذلك جدلا واسعا ، فأيد البعض هذا القانون المقترح و طالبوا بحتمية قصر الإفتاء على الأزهريين فقط معتبرين أنهم المؤهلون دون غيرهم لتلك العملية، بينما عارض آخرون القانون المقترح؛ و رأوا أنه مجرد وسيلة قمعية لتكميم الأفواه.

مشروع القانون الجديد تقدم به النائب عن الحزب الوطني د. مصطفي الجندي، وتضمن حبس من يفتي في الشئون الدينية عبر وسائل الإعلام بدون رخصة رسمية من سنة إلى ثلاث سنوات.وفي تصريحات صحفية أوضح الجندي أنه سيتم إضافة مادة لقانون العقوبات في جرائم اختلاس الألقاب والوظائف والاتصاف بها دون حق، وتنص المادة المقترحة على أن: “كل من أفتى فتوى في أمور دينية عبر أي وسيلة من وسائل الإعلام سواء المسموعة أو المقروءة أو المرئية، بدون أن تكون له صفة رسمية كجهة اختصاص، يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد عن ثلاث”.وأشار إلى أن “عقوبة الحبس تكون وجوبا على كل من يدلي بفتوى عبر أي وسيلة إعلامية، أو أي طريق آخر دون أن يكون حاصلا على شهادة معتمدة من دار الإفتاء، وموقعة من فضيلة المفتي نفسه بالترخيص لحاملها بالفتوى”.وكان د.مصطفى الجندي قد ذكر دوافعه للتقدم بمشروع ذلك القانون في تصريحات صحفية فقال: إن تحريض حسن نصر الله للمصريين أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة، ضد قيادتهم السياسية وحكومتهم، وتحريضه للجيش، متسترا بخطاب ديني ومدعوما بدعاة فضائيات موالين لفكره بحماس، أطلق موجة من الفتاوى الدينية التي لم تجد من يتصدى لها ويقوم بتفنيدها.و أضاف: إن “من أهم أسباب مشروع القانون الذي تقدمت به لمنع فوضى الفتاوى في الفضائيات الدينية، هو مقاومة مد الفتاوى الشيعية الذي استشرى خلال الحرب الإسرائيلية على غزة وجعل شعوبنا فريسة للخطب الشيعية الحمساوية”و إعتبر أن “حزب الله حاول خلال حرب إسرائيل على غزة تحت ستار فتاوى الجهاد، أن يشعل الثورة في مصر بدعوى مساندة حماس في حربها ضد إسرائيل”.و قد ذكر الدكتور مصطفى الجندي آلية ضبط من يفتي بدون ترخيص، فقال إن لجنة الاقتراحات والشكاوى بمجلس الشعب حددت لجنة لاختبار كل من يريد الإفتاء، يتكون أعضاؤها من مفتى الجمهورية وشيخ الأزهر ورئيس مجمع البحوث الإسلامية ورئيس محكمة النقض”.وأشار إلى أن : ” مهمة هذه اللجنة ستكون اختبار كل من يريد الإفتاء للناس في الفضائيات وتقدير مدى صلاحيته للإفتاء”جدير بالذكر أن كل من مفتي الجمهورية و رئيس مجمع البحوث الاسلامية و شيخ الأزهر و رئيس محكمة النقض الذين تتكون منهم اللجنة كلهم يتم تعينهم بقرار منفرد من رئيس الجمهورية دون أي قيد أو شرط, و بالتالي فنحن أمام لجنة معينة من رئيس الجمهورية شخصيا تملك منع أو منح المواطن حق الإعلان عن رأيه بدعوى أنه مؤهل أو غير مؤهل, إذن نحن أمام لجنة تشبه لجنة الأحزاب تلك اللجنة التي منعت نشوء أي حزب جديد بدعاوى عدم أهلية البرامج الحزبية المقدمة فلم تسمح بنشوء أي حزب جديد, أو أننا أمام تصاريح جديدة تصدر ظاهريا من مؤسسة دينية بينما أن قرارها الأساسي يصدر من مباحث أمن الدولة كما يحدث في تصريحات الخطابة بالمساجد التي منعت أي أحد لا ترضى عنه أمن الدولة من القاء أي كلمة في مسجد حتى لو كان من كبار الفقهاء الأكاديميين خريجي الأزهر.و قد اعتبر البعض أن المشروع الحالي هو امتداد لمطالبة سابقة من الدكتور علي جمعة مفتي مصر بأن يتم إنشاء مجلس أعلى للإفتاء؛ لمراقبة فتاوى الفضائيات، والدعوة إلى استبعاد غير المؤهلين.و قد رددت مصادر صحفية أن الدافع لتحريك هذا القانون الآن هو مواقف الدعاة المستقلين في الفضائيات أيام أزمة غزة تلك المواقف التي كانت معارضة للموقف الحكومي من الأزمة.وانقسم الأزهريون أنفسهم إزاء القانون المقترح فأيده بعضهم و من أشهر المؤيدين مفتي الجمهورية الدكتور على جمعة ووزير الأوقاف الدكتور محمود زقزوق الذي قال: “كل من هب ودب أصبح يصدر فتوى، ومنهم علماء الفضائيات، ولابد من سرعة إصدار ذلك القانون لردع هؤلاء الذين يصدرون فتاوى تصرف المسلمين عن قضاياهم الأساسية، وتأخذهم للانشغال بقضايا تافهة وفرعية”و في نفس الوقت رفض القانون المقترح العديد من الأزهرين و على رأسهم الدكتور سيد طنطاوي شيخ الأزهر الذي قال في تصريحات صحفية: “لا أستطيع أن أكمم الأفواه، وكل من يريد كلمة حق من فتواه يتحمل حسنتها أو وزرها، ومن يقل فتوى سليمة أشكره ومن يخطئ أنصحه، ولا يمكننى أن أصدر قانوناً يحرم شخصاً من إبداء رأيه، وكل عالم من حقه الاجتهاد، ولكن علينا كمؤسسات دينية، وكعلماء، أن نقدم النصح لمن يصدر الفتوى وأن نرده إلى الدين الصحيح”, كما رفضه الشيخ “السيّد عسكر” عضو مجلس الشعب والأمين العام المساعد السابق لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر مؤكداً أنه وزملاءه أعضاء الكتلة البرلمانية للإخوان، والنواب المستقلين سيقومون بالطعن في دستورية ما وصفه بـ”القانون المشبوه”.وشكّك “عسكر” في نوايا الحكومة من وراء تمرير مشروع القانون، وقال في تصريحات صحفية: “إنها تسعى من وراء إقراره إلى تحقيق أهداف سياسية، وإنه لا يهمها ولا يشغلها على الإطلاق حماية الدين أو الدفاع عنه”.وأضاف: “إن الهدف من ذلك هو تأميم الفتوى، وحصرها في مشايخ السلطة والعلماء الذين يدورون في فلكها ويتقرّبون إليها، بعدما ضاق صدر الحكومة من آراء الفقهاء أو الفتاوى التي تخالف سياستها”.و يثير القانون المقترح العديد من الاشكاليات الواقعية و القانونية و السياسية و الفقهية. فعلى صعيد الإشكاليات الواقعية كانت أبرز الفتاوى التي أثارت استياء الرأي العام في العامين الآخيرين هي:1- “فتوى تحريم الخروج في المظاهرات” و التي أفتت بها الدكتورة سعاد صالح عميدة إحدي كليات جامعة الازهر. 2- “فتوي ارضاع المرأة زميلها في العمل” أفتى بها الدكتور عزت عطية رئيس قسم الحديث بجامعة الأزهر.3- “فتوي التبرك ببول النبي صلى الله عليه و آله و سلم” أفتى بها مفتي الجمهورية الدكتور على جمعة.4- “فتوي جواز افتتاح الفنادق لحمامات سباحة تخصص لاستحمام المرأة باللبن” أفتى بها مفتي الجمهورية الدكتور على جمعة أيضا.و كلها مصدرها علماء من كبار الأكاديميين في الأزهر الشريف و ليس دعاة الفضائيات الذين يسن القانون الجديد لإسكاتهم.أما على صعيد الإشكاليات القانونية فإن القانون المقترح يخالف الدستور المصري, فالدستور المصري يؤكد على حرية التعبير عن الرأي وعدم جواز تقييد هذه الحرية مهما كانت الأسباب؛ حيث تنص المادة 47 من الباب الثالث من الدستور تحت عنوان “الحريات والحقوق والواجبات العامة” على أن “حرية الرأي مكفولة، ولكل إنسان التعبير عن رأيه ونشره بالأقوال أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير في حدود القانون؛ لأن النقد الذاتي والنقد البناء ضمانة لسلامة البناء الوطني”.كما يخالف هذا القانون المواثيق الدولية لحقوق الانسان و هي مواثيق ملزمة لكل دول العالم بما فيها مصر, حيث تنص المادة 18 من الميثاق العالمي لحقوق الإنسان على أن لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنها بالتعليم أو الممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها، سواء أكان ذلك سرا أو مع جماعة.أكما تنص المادة 19 منه على أن لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق آراء دون أي تدخل واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأي وسيلة كانت، ودون تقيد بالحدود الجغرافية”.و بناء على ذلك فيمكن لأي متضرر من هذا القانون أن يطعن بعدم دستوريته أمام المحكمة الدستورية العليا في حال صدوره لمخالفته للدستور و للمواثيق الدولية لحقوق الانسان التي وقعت عليها مصر فصارت في قوة الدستور.أما الإشكاليات السياسية التي يثيرها القانون فهي كثيرة فمنها أن كل المعارضين للقانون سينظرون له على أنه تكميم للأفواه لمصلحة الحكومة مما سيعني معارضة شديدة للقانون على أرض الواقع عبر كسر الدعاة و العلماء الذين يستهدفهم القانون للحظر الذي تريد الحكومة فرضه, فهذا القانون في حال السعي لتطبيقه سيصطدم بواقع مستقر على نطاق واسع جدا واقع إجتماعي و سياسي و ديني, ففئات إجتماعية واسعة ترتبط بمئات الدعاة و العلماء من غير الأزهريين و تتواصل معهم عبر الإنترنت و الفضائيات و شرائط الكاسيت بعدما أغلقت أجهزة الأمن المساجد في وجوههم بدعوى عدم الحصول على تصريح وزارة الأوقاف, و هذه الفئات تصم آذانها إزاء كل ما هو حكومي في مجال الفتوى و شئون الدين و لن تستسلم لأي حظر حكومي إزاء من يثقون فيهم من الدعاة, فماذا ستفعل الحكومة لو أصدرت القانون؟؟من المرجح أن هذا القانون ستصدره الحكومة و من المرجح أيضا أنها لن تطبقه حرفيا خاصة في البداية بل سينضم إلى ترسانة القوانين سيئة السمعة كقانون الإشتباه و قانون العيب و غيرهما, و تظل الحكومة محتفظة به في غمده مع سائر القوانين القمعية لتشهره من حين لآخر بشكل انتقائي ضد الحالات الأخطر بالنسبة لها من الدعاة المعارضين لها, و من ثم يتحسس بقية الدعاة رقابهم أثناء إصدارهم الفتاوى خشية أن تطالها صولة هذا القانون, فيتم تدجينهم (لا قدر الله) بالتدريج فينحسر بالتالي الواقع الاجتماعي الحالي المرتبط بالدعاة و يضعف فتتمكن الحكومة حينئذ من السيطرة عليه, و هكذا ستلتف الحكومة على فورة حماس المعارضين حاليا للقانون و الذين هدد بعضهم بالإعتصام أمام مجلس الشعب بينما هدد أكثرهم بكسر الحظر الذي سيفرضه هذا القانون و لو أدى بهم ذلك إلى السجن.أما الإشكاليات الفقهية أمام هذا القانون فهي كثيرة جدا و جوهرية, و منها أن الاسلام دين فيه قدر كبير من الحرية الدينية و التسامح مع الخلاف الديني و الفقهي فلم يحدد جهة واحدة تحتكر هي الكلام في الدين و الفقه و تحجر على غيرها ذلك, صحيح أن هناك مقومات و شروط للفتوى و المفتي لكن هذه الشروط و المقومات ليست بالضيق و الحجر الإحتكار الذي تهدف إليه الحكومة من سن هذا القانون.و لابد أولا أن نفرق بين الفتوى و بين مطلق الكلام في الدين أو في الشئون العامة انطلاقا من الدين, فالفتوى هي رأي فقهي في واقعة جديدة ليس لها مثيل في نصوص القرآن أو نصوص السنة, و هذا ما يسمى إجتهادا في الفقه أو في الدين و هو له شروطه و مقوماته العلمية الي ينبغي توافرها في المجتهد أو الفقيه الذي يقوم بعملية الإفتاء هذه و سنأتي لتفصيل ذلك فيما بعد.أما لو أن للواقعة مثيل في القرآن أو في الحديث فإن المتكلم أو المبلغ لحكم الدين فيها لا يعتبر مفتيا لأنه مجرد ناقل لآية قرآنية أو حديث نبوي, و هذا ليس له شروط ذات بال لأن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال “بلغوا عني و لو آية” و قال صلى الله عليه و آله و سلم أيضا: “نَضَّرَ اللَّهُ امْرَءًا ، سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا ، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لاَ فِقْهَ لَهُ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ”, فتبليغ شئون الدين الثابتة في الكتاب و السنة لا شروط لها إلا جودة الذاكرة أي القدرة على الحفظ فقط, فهل يحتاج أحد لتصريح ليعمل بهذين الحديثين اللذين يأمران بتبليغ تعاليم الاسلام؟؟و كذلك الكلام في الشئون العامة كأزمة غزة و فلسطين أو حقوق الإنسان و الحريات وغيرها من القضايا العامة السياسية, و كذلك القضايا الاقتصادية كأزمة إحتكار رجال الأعمال للعديد من السلع, أو القضايا الثقافية كهبوط مستوى العديد من الأعمال الفنية و إسفافها أو تدني مستوى التعليم و غير ذلك من القضايا العامة لا يمكن القول أن على من يتعرض للكلام بشأنها من منطلق ديني لابد أن يكون مستجمعا شروط المفتي و حاصلا على إجازة الإفتاء أو تصريح وزارة الأوقاف الذي هو تصريح مباحث أمن الدولة, فهذا شئ لم يحدث أبدا عبر التاريخ الاسلامي بكل عصوره سواء منها العصور المزدهرة أو العصور المظلمة على حد سواء. وحتى الإفتاء في الأمور التي لم يرد فيها نص من قرآن أو سنة فهذا فيه نوع من النقل أيضا, ذلك أن كتب الفقه القديمة و الحديثة فيها ملايين الفاتوى الجاهزة بشأن العديد من الأمور التي حدثت منذ موت النبي صلى الله عليه و آله و سلم و حتى الآن, و كل الفقهاء مجمعين منذ القدم و حتى الآن (بما في ذلك الدكتور على جمعة مفتي الجمهورية) على أنه يجوز لكل أحد عنده القدرة على قراءة هذه الفتاوى و نقلها أن يقرأها و ينقلها لمن سأل عن حكم أمر تتعلق به هذه الفتوى الموجودة في كتاب, و لا يشترط في هذا الذي ينقل أن يكون مفتيا مستجمعا شروط المفتي و لا مقومات المجتهد.و بذا تنحصر الفتيا التي تستلزم شخصا ذا سمات معينة و شروط محددة في مجالات ضيقة, و لا تستلزم إصدار قانون قمعي بوليسي لحصرها, ليس فقط لأنها مجالات محدودة و لكن أيضا لأن الحكام في العالم الاسلامي منذ عصر الخلفاء الراشدين و مرورا بعصور الأمويين و العباسيين و المماليك و العثمانيين و الطوائف و الأيوبيين و جميع الملوك و الأمراء و الحكام الذين حكموا العالم الإسلامي على مر العصور لم يجرؤ أحد منهم على العصف بحرية التعبير الفقهي و الديني عبر آلية محكمة مثل هذا القانون المزمع إصداره.و لابد أن نلاحظ أن التسامح مع التنوع و الحرية الفقهية التي تمثل الفتوى أبرز صورها لا تعني الفوضى, و إصدار الفتوى من قبل كل من هب و دب, و لكن الضابط الذي حدده أكثر الفقهاء لضبط إيقاع الفتوى هو ضابط الرأي العام …. الرأي العام لدى الفقهاء الذين يلفظون بأرائهم كل من أفتى بغير علم أو كثر خطأه أو غفلته و سوء تقديره للأمور….. و الرأي العام للمجتمع ككل الذي يترقب رأى الفقهاء العام و يتلقفه ليتمكن من تمييز الطيب من الخبيث من بين المتكلمين في الفقه و الدين.أما الآلية التي يريد أن يحددها القانون المزمع إصداره فهي آلية لا تتفق مع جوهر و و مقصد الفقهاء من إطلاق حرية التعبير و البحث الفقهي, لأن الفقهاء عندما ذكروا ضابط الرأي العام ذكروا أن هناك طريق آخر لتحديد الفقيه الذي تتوفر فيه شروط الإفتاء و هو طريق إمتحان المفتي و إجازته من قبل العلماء الأقدم منه, و لكنهم مع ذلك حددوا طريق الرأي العام بين مجتمع العلماء كطريق أخر, فلو قال أنصار القانون المزمع أن العصر تقدم و لابد من الإمتحان و الإجازة فيقال لهم لقد كان الإمتحان و الإجازة موجودان في الماضي و مع ذلك أباح الفقهاء ظهور المفتي عبر قبول الرأي العام لمجتمع العلماء له و ذلك حفاظا على حرية البحث الفقهي و حرية التعبير عن الرأي الفقهي لئلا يصبح الفقه فقه حاكم أو صاحب سطوة. صحيح أن بعض الفقهاء الأحناف قد نصوا قديما على جواز منع إفتاء من أسموه بالفقيه الماجن أي الذي يفتي بغير علم, و لكن هذا رأي فريق محدود أولا, و ثانيا ما هي الضمانات التي تكفل سلامة التطبيق في ظل الإتجاه القمعي البوليسي الذي يسير وفقه نظامنا الحاكم و الكثير من النظم الحاكمة في العالم الاسلامي و التي تريد عبره مصادرة الدين و احتكاره لصالحها و تكميم أفواه كل معارضيها بدعاوى متعددة.ثم إذا حجر نظامنا الحاكم على الفقيه الماجن فمن يحجر على مجون نظامنا الحاكم الذي ولى نفسه هذا الحكم بالقمع و التزوير؟؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر في العدد الأسبوعي من جريدة الدستور بالقاهرة 18 فبراير 2009 .

صواريخ المقاومة في غزة .. صورة أرشيفية

في غزة .. الأرقام تدحض حديث المرجفين

مازال المرجفون يهونون من إنجازات المقاومة الفلسطينية المحاصرة بشكل كامل منذ ثلاث سنوات و يطعنون في حقيقة النصر الكبير الذي حققته بقدر الله تعالى و فضله و إلى أعداء و أحباب المقاومة الفلسطينية على حد سواء نقرأ معا الأرقام التالية فالأرقام كما يقال لا تكذب:

أعلنت كتائب القسام (و هي الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس) أنها تمكنت من إطلاق 980 صاروخاً وقذيفة، خلال الحرب، منها: 345 صاروخ قسام و 213 صاروخ جراد، و 422 قذيفة هاون.

و تصدت كتائب القسام للدبابات والآليات الصهيونية التي توغلت بـ 98 قذيفة وصاروخاً مضاداً للآليات، وتم استخدم بعض الصواريخ المضادة للدروع لأول مرة في قطاع غزة.كما فجرت كتائب القسام 79 عبوة ناسفة في الجنود الصهاينة والآليات المتوغلة.

ونفذت القسام 53 عملية قنص لجنود، وتم توثيق العديد من هذه العمليات وشوهد الجنود الصهاينة وهم يتساقطون أمام كل العالم.

و تم تنفيذ 12 كمينا محكما في مناطق التوغل، تم فيها مهاجمة جنود الاحتلال وقواتهم الخاصة، إضافة إلى 19 اشتباك مسلح مباشر مع قوات العدو وجها لوجه.و أيضا تم تنفيذ عملية استشهادية تفجيرية واحدة ضد قوات العدو.كما دمرت كتائب القسام بشكل كلي أو جزئي 47 دبابة وجرّافة وناقلة جند متوغلة في غزة.

و أيضا تمكنت كتائب القسام من إصابة أربع طائرات مروحية وطائرة استطلاع واحدة”.

و من ناحية أخرى قالت كتائب الشهيد أبو علي مصطفى و هي الجناح العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أنها تمكنت من استهداف الاحتلال الصهيوني خلال فترة العدوان بحوالي 174 صاروخًا، بالإضافة إلى 62 قذيفة هاون , و خاض مقاتلو كتائب الشهيد أبو علي مصطفى 11 مواجهة مسلحة مع جنود الاحتلال الصهيوني، بالإضافة إلى نجاح عناصرها في تفجير سيارة مفخخة بالتعاون مع كتائب شهداء الأقصى.

كما أن كتائب أبو على مصطفى شنوا 35 عملية استهداف لجنود وآليات الاحتلال من دبابات وجرافات بصواريخ وعبوات ناسفة وقذائف بي7 وبي 27 و آر بي جي.

و في نفس السياق ذكرت سرايا القدس الجناح العسكري لتنظيم الجهاد الإسلامي الفلسطيني أنها نجحت في إطلاق 235صاروخ من طراز “قدس” وقذيفة “هاون” باتجاه المواقع والتجمعات والمغتصبات الصهيونية.

وقد أطلقت سرايا القدس 77 قذيفة “هاون” استهدفت موقع ميجن العسكري وكوسوفيم وتجمعات للآليات في شمال ووسط وشرق وجنوب القطاع، حيث أدت لإصابة عدد من الجنود الصهاينة.

و نجح مقاتلو السرايا في إطلاق 27 قذيفة (أر بي جي)، وتفجير 35 عبوة ناسفة بآليات وناقلات الاحتلال، وقواته الخاصة، وقنص سبعة جنود وخوض اشتباكات عنيفة في عدة محاور، مما نجم عنه مقتل 18 جنديًا وإصابة 56 آخرين.