محمد بن زايد مع وزير خارجية إيران - صورة أرشيفية

مستقبل الصراع السياسي و العسكري في المنطقة العربية و أفريقيا و أفغانستان (3 من 5)

ذكرنا في الحلقة الأولى أننا نسعى للاجابة عن سؤال: ما هو مستقبل الصراع السياسي و العسكري في المنطقة العربية و أفريقيا و أفغانستان؟ و قلنا أنه كي نتمكن من الاجابة على هذا السؤال فلابد أولا أن نعيد توصيف هذه القوى و أهدافها لنعبر عنها بجوهر وصفها بدلا من الوقوف عند حد توصيفها بأسمائها فقط ، و شرحنا في الحلقة الأولى توصيف كل من المشروع التركي و مشاريع الجهاد العالمي و الجهاد المحلي و تنظيم الدولة الاسلامية كما ذكرنا في الحلقة الثانية المشروع السعودي و المشروع الاخواني و نواصل في هذه الحلقة توصيف بقية المشاريع بالمنطقة على النحو التالي:

-مشروع السيسي/الامارات

بغض النظر عن الكثيرمن التفاصيل فإن هذا المشروع يعبر عن غلاة العلمانية في المنطقة العربية، و لا شك أن صعود الاسلاميين سياسيا بعد الربيع العربي أوضح أن الغالبية العظمى من العلمانيين العرب خاصة في مصر هم غلاة جدا في علمانيتهم، و لا يقبلون الا بإقصاء كل ما هو إسلامي حتى و ان لم يكن سياسيا، و لم يتضح هذا الاتجاه بين كتاب و اعلامي العلمانية فقط بل برز أنه اتجاه مهيمن على الأجهزة الأمنية بشقيها العسكري و الشرطي، و قد أجج الصعود السياسي الاسلامي في مصر الأحقاد لدى هذه القوى تجاه الحركات الاسلامية، بل تجاه التدين الاجتماعي أيضا فأطلقوا حربا لا هوادة فيها تجاه الاسلاميين كما هو معروف و مشاهد لكل متابع للشئون العربية في السنوات الثلاث الأخيرة.

هذا المشروع الذي يقوده رئيس مصر الحالي المشير عبد الفتاح السيسي و رجل الامارات القوي ولي العهد الأمير محمد بن زايد يهدف الى اقصاء الاسلاميين بمختلف تياراتهم عن أي وجود سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو فكري ثقافي في الساحة العربية، و أدى هذا لصدامات مع المتظاهرين المعارضين في مصر، و كذلك اشتباكات مسلحة مع معارضين مسلحين بعضهم أعلن انتمائه لتنظيم الدولة، و بعضهم لم تعرف امتداداته التنظيمة بعد، كما حدثت صدامات مسلحة بين موالين للسيسي و بن زايد (قوات حفتر) و قوى اسلامية مسلحة في أنحاء متفرقة في ليبيا.

و أبرز إشكاليات هذا المشروع أنه كي يبلغ مداه فلابد له من أن يتصادم مع البنى الاجتماعية الأصلية في مواطن تمدده بما في ذلك أكبر دولة عربية سكانيا و هي مصر بجانب دول قبلية كاليمن و ليبيا و هي دول تدعم قبائل مهمة فيها تيارات اسلامية متعددة ، و كيف سيتصرف هذا المشروع مع بنى اجتماعية راسخة تؤمن بالخطاب الديني الذي يصمه بالارهاب مثل المؤسسة الدينية السعودية و قواعدها الاجتماعية التي تكاد تشمل كل قبائل و عائلات المملكة.

و من هنا فهذا المشروع يتصادم ليس مع كافة المشاريع الاسلامية (الاخوان ، الجهاد العالمي ، الجهاد المحلي) بالإضافة الى المشروع التركي و لكنه يسير إن عاجلا أو أجلا للصدام مع المشروع السعودي أيضا و لا يوجد من هو أقرب اليه الا المشروع الايراني المدعوم روسيا إلا انه حتى مع هذا المشروع سيكون مهددا لأن هذا المشروع لا يقبل الا التبعية المطلقة و هذا سيفتح عليه أبواب ضغوط أخرى تتعلق بخريطة التمدد المسموح به لايران أمريكيا و اسرائيليا كي لا تتطغى على النفوذ الاسرائيلي بالمنطقة.

و فضلا عن هذا كله فإن المحور الامارتي المصري لا يقوى وحده على تمويل مشروعه السياسي و الاستراتيجي اقتصاديا.

-مشروع إيران

مشروع ماكر جدا و يعمل بدهاء كبير جدا في العالم الإسلامي بكامله بل في العالم كله من أجل نشر التشيع بين جميع المسلمين السُنَّة و السيطرة على العالم العربي سياسيا.

و قد تمكنت إيران في الفترة الأخيرة من قطف كثير من ثمار ما زرعته منذ نحو أربعين عاما من العمل في المنطقة العربية من تمكين لحزب الله في لبنان و تمكين للحوثيين في اليمن و قبلها كان تمكين الشيعة في العراق و كادت تأخذ البحرين لولا تدخل القوات السعودية و الإماراتية كما نجحت إيران مع تابعها بشار في سوريا من تحجيم الثورة السورية بدرجة ما أو على الأقل عرقلة نجاحها الذي كان وشيكا في فترة ما.

و إذا كان أردوغان يعمل على خداع أمريكا و أوروبا ليفلت بمشروعه -بالتحول إلى دولة عظمى- إلى بر الأمان دون الاصطدام بأمريكا عبر إيهامها بأنه صديقها و انه معتدل و يحارب التطرف و الإرهاب الإسلامي فإن إيران تفعل نفس الشئ لكن عبر تصوير كل الحركات الإسلامية السنية بأنها إرهابية بل و تصوير أردوغان نفسه بأنه إرهابي و بأن إيران نفسها هي دولة معتدلة و متعاونة مع أميركا و أوروبا ضد الإرهاب الإسلامي.. و فرصة الثقة بين أميركا و إيران في هذا المجال أكبر من فرصة أردوغان.

و تأتي فرص إيران الأوفر لأسباب عديدة و منها على سبيل المثال التالي:

1-إيران عاونت أميركا كثيرا جدا في ضرب الإسلاميين في أفغانستان و باكستان بينما أردوغان رفض التعاون هناك.

2-نفس الشئ فعلته إيران في العراق بينما رفض أردوغان معاونة أميركا هناك بل و بعد ذلك ظل يساند التركمان و السنة العرب ضد شيعة العراق بدرجة ما كما وثق علاقاته الاقتصادية و السياسية و الأمنية مع أكراد العراق ضد شيعة العراق و ضد إرادة إيران.

3-إيران تضرب السنة من القبائل الحاضنة لأنصار الشريعة الآن في اليمن عبر الحوثيين و تجعلهم يعلنون أنهم بذلك يحاربون الإرهاب و تساندهم أميركا بطائراتها و عملائها اليمنيين.

و أهم شئ في العلاقة بين إيران و أمريكا من وجهة نظري هو ان أميركا تنخدع لإيران في كل هذه الأمور و غيرها لهدف أكبر من ذلك كله و هو هدف استراتيجي يتمثل في أن أميركا تريد لإيران أن تقوى بدرجة معينة و تتمدد في المنطقة لما هو “آتي” و هو أن أميركا تعلم جيدا أن خلافة أو دولة إسلامية سنية واعية و ناضجة و مدركة لطبيعة العصر الذي نعيشه سوف تنشأ خلال السنوات القادمة و بالتالي فهي تعد إيران من طرف خفي للتصدي لهذه الدولة عسكريا و سياسيا لتجهضها أو على الأقل تستنزفها.

و هذا نوع من اعادة ما جرى في التاريخ العثماني عندما أمدت ممالك أوروبا المملكة الصفوية بالمال ممولة لحروبها ضد العثمانيين مما أوقف الزحف و الفتوحات العثمانية في أوروبا بعد أن كانت القوات العثمانية قد حاصرت فيينا و قضمت نصف أوروبا الشرقي.. و نجحت بذلك أوروبا -وقتها- في إيقاف الزحف العثماني في اتجاه أوروبا لأن العثمانيين اضطروا لنقل مجهودهم الحربي كله الى الشرق للتصدي للهجمات الصفوية في المشرق العربي.

و تريد إيران توطيد نفوذ ذيولها في العراق و لبنان و اليمن و القضاء على معارضيهم هناك كما تسعى إلى تصعيد نشاط شيعة البحرين وصولا للاستحواذ على الحكم إذا سنحت الفرصة كما تريد أن تهزم الثورة السورية لتوطد حكم العلويين و تلجأ إيران لحيل عديدة في سوريا من أجل تحقيق هذا، فبجانب مجهودها العسكري فإنها قد تلجأ لحل سياسي ما بالتوافق مع المحور الخليجي و الولايات المتحدة .

و يضاف لذلك نشاطها الكبير عبر الشيعة داخل الكويت و السعودية و مصر و أفغانستان و باكستان و غيرها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

و نواصل التحليل في الحلقة التالية غدا إن شاء الله.

و إقرأ الحلقة الأولى هنا

و إقرأ الحلقة الثانية هنا

و إقرأ الحلقة الرابعة هنا

و إقرأ الحلقة الخامسة و الأخيرة هنا

اعتصام رابعة - صورة أرشيفية

مستقبل الصراع السياسي و العسكري في المنطقة العربية و أفريقيا و أفغانستان (2 من 5)

ذكرنا في الحلقة الأولى أننا نسعى للإجابة عن سؤال: ما هو مستقبل الصراع السياسي والعسكري في المنطقة العربية و أفريقيا و أفغانستان ؟

وقلنا أنه كي نتمكن من الاجابة على هذا السؤال فلابد أولاً أن نعيد توصيف هذه القوى وأهدافها لنعبرعنها بجوهر وصفها بدلاً من الوقوف عند حد توصيفها بأسمائها فقط، وشرحنا في الحلقة الأولى توصيف كل من المشروع التركي ومشاريع الجهاد العالمي والجهاد المحلي وتنظيم الدولة الاسلامية ونواصل في هذه الحلقة توصيف بقية المشاريع بالمنطقة على النحو التالي:

  • المشروع السعودي :

السعودية ترجع تركيبة نظامها السياسي أنه تحالف بين الوهابية وقيادة آل سعود كقيادة سياسية ثم حدث الصدام بين عبد العزيز آل سعود وجناح ما في الوهابية وهو الجناح الذي كان يريد أن يصطدم بالنظام الدولي عبر مواصلة فتوحات الدولة السعودية بالإقليم العربي مما يتصادم مع النظام الدولي الذي كانت تقوده انجلترا وفرنسا وقتها.

ورغم هذا الصدام فإن عبد العزيز لم يستغل هذا الحدث كي يقصي الحركة الاسلامية بشكل كامل لكنه أقصى فقط الجناح الذي يرغب في الصدام الدولي بينما أقر وجود ونفوذ الجناح الذي يترك الشؤون الدولية للملك ويركز على الشأن الداخلي.

ظلت السعودية كنظام حكم هي نظام حكم إسلامي يتماشى مع النظام الدولي ولا يصطدم به إلا في إطار المسموح به ولكنه نظام إسلامي سني تقليدي وليس ثورياً وتنبئنا خبرة التاريخ أنه يصعب (ولا يستحيل) على النظام السعودي التوافق مع القوى الإقليمية إذا كانت تعاند ثوابت الإسلام الكبرى فقد تعكرت الأجواء دائماً بينهم وبين قوى الحداثة اليسارية واليمينية حتى أواخر السبعينات (نماذج بورقيبة وناصر والبعث والقذافي).

وأيا كانت التفسيرات فإن النظام السعودي تأقلم مع التدين إقليميًا والعكس بالعكس ولكن كان لسان حاله أن الذنب جهة العرب مغفور لكنه تجاه ملوك الروم غير مغفور. أذكر الأثر في ذلك موجة السفاهة والحمق الأخيرة ضد كل ما هو اسلامي التي قادها وغذاها الإمارات وعلماني مصر تحالف معها عبدالله بن عبد العزيز وطاقمه الملكي وكان من الممكن أن يؤدي ذلك إلى تغير تاريخي في التوجهات السعودية إلا أنه سرعان ما عاد الملك سلمان بالدفة السعودية إلى توجهاتها المعتادة لكن الضغط الإماراتي والمصري المدعوم من الغرب (أمريكا وأوروبا) وإيران متواصل للدفع بالسعودية في اتجاه معاداة التيار الإسلامي وهو أمر يستحيل أن تسير عليه السعودية لأن البناء الاجتماعي وأغلبية هياكل القوة الاجتماعية (العائلات والقبائل) والاقتصادية (أصحاب المال) لا تقبل إقصاء كل ما هو إسلامي كما يريد غلاة العلمانية فضلاً عن أننا في زمن صعود سياسي وعسكري بالمنطقة للتيار الإسلامي وهو ما تريد أن تستفيد منه المملكة لمواجهة القوة الإيرانية الكاسحة بالمنطقة والمدعومة عسكريًا وسياسيًا من قبل روسيا والصين ومدعومة بغض طرف من أوروبا والولايات المتحدة، وقد وصل الملك سلمان وطاقمه إلى حقيقة مؤداها أنه لابد للمملكة أن تبرز أنيابها لحماية أمنها القومي.

ومن هنا فالسعودية تسعى لمواجهة النفوذ الايراني بقدراتها الذاتية وعبر التحالف مع المحور التركي القطري وكذلك التحالف مع الكثير من القوى الإسلامية خاصة الأقل خطورة مثل الإخوان المسلمون وتيار الجهاد المحلي، ولا تريد السعودية من ذلك السيطرة على المنطقة (بعكس إيران وتنظيم الدولة والقاعدة) وإنما يكفيها تأمين مناطق أمنها القومي التقليدية مثل الخليج وجنوب الجزيرة العربية (اليمن وبحر العرب وباب المندب) والبحر الأحمر والشام وجنوب العراق عبر وجود قوى صديقة مسيطرة على هذه المناطق وبعيدة عن نفوذ ايران.

  • مشروع الإخوان المسلمين :

وجوهره الإرتقاء بدوله اقتصاديًا واجتماعيًا مع تطبيق تدريجي على مدى بعيد للغاية للشريعة الإسلامية في الحكم بما لا يغضب النظام الدولي وقواه المتحكمة فيه ولا يسبب صدامًا معها (خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) وهم يفترقون مع أردوغان من حيث أنه يشد أحيانًا ويرخي أحياناً أخرى مع النظام  الدولي (بما في ذلك مع أمريكا والاتحاد الأوروبي وإسرائيل) لأنهم مهادنين دائمًا للنظام الدولي.

كما أن محور الإخوان المسلمون يختلف مع التيار الجهادي الدولي وداعش حيث تقوم استراتيجياتهما الدولية والإقليمية على الصدام مع النظام الدولي والإقليمي.

ويختلف الإخوان المسلمون مع التيار الجهادي المحلي لأنه يقوم على مخالفة النظامين الإقليمي والدولي لإيمانه أنهما لا يخدمانه ولا يسمحان له بالعمل وإن كان يبتعد قدر إمكانه عن الصدام معهما إلا إذا فرض عليه الصدام فهو حينئذ لا يتردد في الصدام معهما بينما يتهرب الإخوان من أي صدام كهذا بل ويتبرئون منه فضلاً عن كون تيار الإخوان لا يظهر أي خلاف مع النظامين الإقليمي والدولي بل ويسعى دائمًا للاندماج فيهما، كما أن تيار الإخوان يعمل وفق الآليات التي يتيحها النظام الدولي والإقليمي له للعمل ولا يتخطاها ورغم أن معارضة هذا التيار لانقلاب السيسي تخرج عن هذه القاعدة وكانت سابقة هي الأولى من نوعها لتيار الإخوان وكان من الممكن أن تؤسس لتطور جديد لدى جماعة الاخوان (وبلغت المعارضة ذروتها في اعتصام رابعة العدوية وميدان النهضة) إلا أن هذه المعارضة لم تأخذ مداها في التكتيكات الاحتجاجية لتكون كافية لتحقيق نتيجة مهمة أو على الاقل التأسيس لتطور ما جديد في سياسات الإخوان المسلمون.. لذلك ليس لمعارضتهم للسيسي تأثير في تغير قواعد التحرك لدى الجماعة حتى الآن بل هم في معارضته يتوسلون بالنظم الإقليمية والدولية لإزاحته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ونواصل التحليل في الحلقة التالية غدًا إن شاء الله.

و إقرأ الحلقة الأولى هنا.

و إقرأ الحلقة الثالثة هنا.

و إقرأ الحلقة الرابعة هنا.

و إقرأالحلقة الخامسة و الأخيرة هنا

الحرب في سوريا - صورة أرشيفية

التقليد هو الأوجب الآن قبل الهجرة الى ساحات الجهاد

نشر العلم مع تقليد الأكفاء الثقات كلا في تخصصه في الأمور الدقيقة التي يصعب فهمها هو الحل و الأوجب الآن للقضاء على فتن الغلو و الانحلال و الكفر و محاربة الدين جميعا، بمعنى أن نمتنع عن الهجرة الفردية للساحات المنتشرة الآن، و يبحث كل أهل بلد أو مدينة عن من يعرفونه من أهل الدين و الصلاح و العلم و الثقة في بلدهم أو مدينتهم فيقلدونه في مجال تخصصه في الأمور التي يصعب عليهم فهمها ، لأن كل أهل مدينة يصعب عليهم الانخداع بأي من مواطنيهم لطول المعايشة و معرفة تاريخ و سلوك بعضهم البعض، و لعل مما يلمح لتأييد هذه الفكرة قول جعفر بن أبي طالب رضى الله عنه للنجاشي : “جعفر بن أبي طالب فقال له : أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار يأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله” ..الخ الحديث (رواه أحمد و صحح أحمد شاكر و الألباني سنده)  و الشاهد فيه قوله ” منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه”.

أما الهجرة للساحات الآن فرديا فتفتح باب الافتتان لأن الشخص يدخل على من لا يعرفهم و يتوجب عليه أن يسمع لهم و يطيع في أمور يصعب عليه هو نفسه تقييمها و تقديرها لقلة العلم العميق بين المسلمين في هذا الزمان في مجالات الفقه و السياسة الشرعية و الاستراتيجية و الاقتصاد و الادارة العامة فضلا عن العلم بالواقع الجديد الذي انتقل اليه و جغرافيته السياسية و العسكرية و الاسلامية، إن اكتساب العلم في هذه الأشياء بدرجة عميقة و راسخة قد يأخذ من 3 سنوات الى 10 في التخصص الواحد اذا توافرت المناهج و المراجع و المعلمين، فالحل العاجل هو تقليد من هو معروف و موثوق في علمه و صلاحه و هذه الموثوقية يعرفها كل أهل بلد عن بعضهم البعض.

استخدام عالمية العمل الإسلامي بشكل فردي الآن تتيح لأهل الجهل و الغلو أن يقودوا الشباب الى المهالك و يستنزفوا موارد الأمة البشرية و الاقتصادية ليس فقط في عبث بل و في تمزيق الأمة نفسها و نشر الفتن فيها، فينبغي أن تكون “عالمية العمل الإسلامي” الآن عملية لها معايير و ضوابط محددة و محدودة الى أن تنصلح الأمور و يصير للمسلمين مرجعية عالمية متفق عليها و لا يختلف عليها أي من أهل الصلاح.

و بجانب هذا يجب نشر العلم بين الشباب و بين جميع الناس لأنه من المؤسف أن أبجديات الاسلام في الفقه و العقيدة شبه منعدمة الآن فضلا عن انعدام العلم في أدوات التفكير العلمي الاسلامي المتمثل في أصول الفقه و القواعد الفقهية و علوم الحديث… و هذا بين نشطاء الاسلاميين و الحركيين المهتمين منهم (الا من رحم الله) فما بالنا بغير ذلك.

هامش

تعريف التقليد لدى علماء أصول الفقه هو : اتباع قول الغير بغير حجة ، و انما قالوا به لأن العوام أو من هم من غير أهل العلم يصعب أو أحيانا يستحيل عليهم فهم الدليل أو فهم دلالته على الحكم ، و رغم اختلاف العلماء سلفا و خلفا على حكم التقليد بين من يجيزه و من يحرمه و من يوجبه إلا أنهم أجمعوا على أشياء فيه منها تقليد المستفتي للمفتي في حادثة نزلت به ، و منها من تحقق عجزه عن إدراك دلالة الدليل على الحكم فإنه يقلد المجتهد فيه و حتى من حرموا التقليد كالشوكاني اتفقوا على جواز التقليد في هذه الحالة ، و نحن نرى أن التقليد الذي اعتبرناه حلا الآن هو من هذا النوع الآخير.

صورة أرشيفية لقوات داعش

الإطار العام للنظر في الظاهرة السياسية أو الإستراتيجية

هذا المقال يوضح الإطار العام الذي أحلل به ظاهرة سياسة او إستراتيجية ما لأن بعض من لم يعرفوني لا يظهر لهم هذا الإطار بوضوح..

أول قاعدة عندي هي النظرة الكلية الشاملة للموضوع و الى مآلاته فمثلا عندما انتقدت داعش .. البعض هاجمني إذ كيف أهاجم نكايتهم للرافضة ..الخ، و في الواقع أنا لم أحكم على معركة أو اثنتين أو عشرة انتصرت فيها داعش على هذا أو ذلك و إنما أنظر و أقيم ما سيؤل إليه الوضع بعد عدة سنوات..و نفس الشئ ينطبق على نقدي لأداء الاخوان في الحكم بمصر مع الشهر الأول لحكم مرسي و وقتها شتمني البعض على صفحتي على الفيس بوك..

و ثاني قاعدة تحكم نظرتي عند التحليل هو المقارنة بالقوى المناظرة او المشابهة أو المرجو الوصول لمستواها في جانب ما .. فمثلا عندما تبث داعش أو القاعدة فيديو يظهر عشرات من مقاتليها يحملون أسلحة متوسطة (مدفع 14 بوصة مثلا أو جرينوف ثقيل أو بيكا أو غيره أيا كانت الأسماء) و يمتطون سيارات دفع رباعي فأنا لا أنتشي كما ينتشي الكثيرون.. لماذا؟؟

 لأن طموحي و تطلعاتي هي أن تكون دار الإسلام الحقيقية تمتلك تسليحا متقدما و رادعا استراتيجيا في مستوى فرنسا أو الصين أو بريطانيا (الدول الثالثة و الرابعة و الخامسة في الردع الاستراتيجي حول العالم)، فلا أنتشي لمدفع 14 بوصة لا لطموحي في 24 بوصة، و لكن في صاروخ بالستي أو طائرة بدون طيار تصل لأي نقطة في العالم متى تشاء دار الإسلام، و لا أنتشي لسيارة دفع رباعي لطموحي في سرب قاذفات إستراتيجية مثل البي 52 تمتلكها دار الإسلام..

 و أيضا من ضمن المقارنات المقارنة الجزئية أي المقارنة بجزئية واحدة ما عند جهة ما أنت تنتقدها في جزئيات أخرى لكن ترى انها ناجحة في هذا الجانب الذي تقارن به أو تستشهد ب،ه و هذه قاعدة علمية و موضوعية و مشروعة في هدي النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقد قال عن الغيلة “لو ضرت لضرت فارس و الروم” رغم أنه يكفر و يعادي و ينتقد فارس و الروم، في جوانب أخرى كما قال للصحابة عن الرمي “لكنهم أرمى منكم” يقصد فارس.

فعندما أستشهد أحيانا بأن القاعدة أو داعش تمكنت من انجاز أشياء معينة رغم معاداة العالم كله لها لا يعني أني أنتقدهم بمزاجي، و أستشهد بهم بمزاجي، و لكن يعني أني أنتقدهم في جوانب و أمدحهم و أستشهد بهم في جوانب أخرى غير الأولي، و نفس الشئ فعندما استشهد بشئ فعلته إيران او الحوثيون أو حزب الله أو أمريكا ، فهذا كله ليس هوى و لكنه موضوعية قال تعالى ” وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ” المائدة 8، لكن الهوى أن أنتقدهم في شئ ثم استدل بنفس الشئ الذي انتقدتهم فيه.

و النظر الشامل و النظر الى المآلات و المقارنة بين الظاهرة ومثيلاتها أو شبيهاتها هذه الثلاثة ونحوها تمثل الفرق بين نظرة المتفرج العادي و نظرة التحليل العلمي للظاهرة.

و هناك أمر آخر و هو خاص بكتابتي في الفيسبوك أو أي مقالة قصيرة و هو أنه من المستحيل أنني سأناقش و أقوم كافة جوانب ظاهرة ما (خاصة ان كانت كبيرة مثل الإخوان او داعش أو القاعدة أو ايران أو الحوثيون) في مقال قصير، فعادة تكون أغلب جوانبها في ذهني و لكن تسطيرها كاملة يحتاج وقت و كتابة كتاب، و لكن أسطر جانب واحد منها باختصار لمناسبة هذا للمقال القصير، فمن يرد تفتيش ذهني و الحكم على شخصي الضعيف بشأن كافة جوانب الظاهرة عليه أن يتابع كافة ما اكتبه حتى يتمكن من وضع يده على رؤيتي الكاملة بشأنها.

و الله المستعان.

اسباب النصر

ما هي أسباب نصر و هزيمة المسلمين؟ رد على مقال مهم

كتبت المقال التالي تعليقا على مقال لأحد الاخوة يبرز دور القيادة و الأسباب المادية في النصر و ينتقد التعويل على اعمال البر و الطاعات و الدعاء فقط لتحصيل النصر، و هو بوست طويل جدا لا يمكنني اعادته هنا، و حفل بأمثلة تاريخية من الفتوحات و حروب الردة.. فإلى نص تعليقي عليه:
 
لقد كتبت كثيرا من قبل عن أن الأخذ بالأسباب الدنيوية هو سنة الله القدرية بشأن حركة التاريخ فبها النصر أو الهزيمة بحسب مقاييس الواقع الذي نعيشه، و انتقدت ما أسميته بالدراسة الملحمية للتاريخ الاسلامي التي تجعل النصر رهين الدعاء و اخلاص القلب فقط، و لا تلقي الضوء على أسباب النصر المادية العملية الواقعية في تاريخنا.
(أخر مقال لي عن هذا هنا)
 
و لكن رغم هذا كله فانني اخالف الكاتب في مقاله هذا في أمرين:
 
الأمر الأول- أنه أناط النصر بالقائد في جزء كبير من مقاله، وذلك رغم أن الدراسة الدقيقة في حالة خالد بن الوليد التي استشهد بها و غيرها تقول ان النصر كان بسبب استراتيجية الاقتراب غير المباشر، و هي ما استخدمها خالد دائما منذ كان كافرا (في غزوة أحد ضد المسلمين)، و استخدمها أغلب قادة الفتوحات الاسلامية بسبب أنها الأنسب لقلة عدد جيوش المسلمين، و ضعف أو قلة معداتهم.
 
كما ان نجاح محمد الفاتح في فتح القسطنطينية (الذي استدل به على فيصلية القيادة في تحقيق النصر) لم يكن لبراعة القيادة بقدر ما كان لتحصيله لتقدم تكنولوجي غير مسبوق، و غير موجود عند أحد آخر في عصره في مجال المدفعية، فضلا عن حيلة تقريب المدفعية من سور القسطنطينية.
 
و احراز النصر بسبب سبق صناعي في مجال السلاح متكرر في حروب كبرى كثيرة، مثلما نجح ليو الاسيوري في صد هجوم بحري خطير للمسلمين كاد يفتح القسطنطينية قبل محمد الفاتح بمئات السنين بسبب اختراع النار الاغريقية.
 
و الشاهد انني لا أوافق على اختزال الأمر في القائد كشخصية ستحل مشاكلنا، و إن كنت لا أنكر أهميتها في مجال الأخذ بالاسباب، لكنها ليست السبب الوحيد بل هي أحد الأسباب، فينبغي التعمق في فهم تفاصيل اسباب النصر الواقعية العملية المادية كي نعيد النسج على منوالها و نطور و نبتكر منطلقين من خبراتها.
 
اما خلافي الثاني مع المقال فهو: تقليله من التأثير السلبي لسيئات الشهوات على تحصيل النصر، فأنا أرى أن لها تأثيرا سلبيا بالغا، ليس بدليل ذكر آيات الربا قريبة من آيات أسباب هزيمة أحد في سورة ال عمران فقط، و لا فقط لمقولة عمر بن الخطاب لو استويتم مع عدوكم في الذنوب لغلبوكم لأنهم أكثر منكم عددا و عدة، و لكن أيضا لأن الكفار لهم نسق سلوكي و أخلاقي متعايش مع الشهوات و ذنوبها، فيقل تأثيرها السلبي على مجال اسبابهم الدنيوية للنصر، وذلك بعكس المسلمين، فنسق المسلمين السلوكي و الأخلاقي غير متوافق مع الشهوات و ذنوبها، فاذا انغمسوا فيها اضطربت منظومتهم السلوكية و الأخلاقية بقدر درجة ومستوى هذا الانغماس، فيضطرب انتفاعهم بالأسباب المادية للنصر، و على كل حال فالله ربط النصر و التمكين بالاستقامة الايمانية بقوله تعالى ” الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ”، فيكون الأدق أن نقول أن كلاهما مهم السبب المادي و السبب الايماني و الاخلاقي و لكن إن نقص احدهما كان هناك خلل. 
 

التجربة الناصرية

الإخوان المسلمون و خيارات جماعة مسجونة في تجربتها الناصرية

كتب- عبد المنعم منيب

تعرض الاخوان المسلمون لحملة اعتقالات كبيرة في الأونة الأخيرة من حيث حجم و وزن الأشخاص الذين تم اعتقالهم إذ شملت الاعتقالات ثلاثة من أعضاء مكتب الارشاد البارزين لا سيما الدكتور محمود عزت الأمين العام للجماعة سابقا و الرجل القوي في الجماعة و الدكتور عصام العريان المتحدث الاعلامي البارز في الجماعة و بينما كان الاخوان المسلمون يلملمون أطرافهم و يضمدون جراحهم من تأثير هذه الحملة أعلن بعض رموز جماعة الاخوان المسلمين في صبر و جلد -اعتاده الشارع السياسي منهم- أنهم لا يستبعدون تحويل عدد من رموزهم المعتقلين إلى محاكمة عسكرية, كما أعلنوا أن هذا لن يفت في عضدهم و لن يوقف شيئا من نشاطهم, و لم يكد الاخوان المسلمون يلتقطون أنفاسهم من جراء هذه الاعتقالات حتى داهمتهم أجهزة الأمن باعتقالات ثانية ثم ثالثة ثم تسارعت وتيرة الاعتقالات ضد أعضاء و قادة جماعة الاخوان المسلمين في عدد كبير من محافظات مصر فقوات الأمن استهدفت زعماء الجماعة فى القاهرة والجيزة، منذ شهر فبراير الماضي وحتى اليوم، وكذلك زعماء المحافظات الأخرى، مثل الإسكندرية، وأسيوط، والشرقية، والغربية، و احتجزت رموزا إخوانية بارزة و هامة, و كان دائما هناك كثير من الزخم الذي صاحب أحداث الاعتقالات فمن تأييد الاخوان المسلمين للبرادعي إلى مظاهراتهم احتجاجا على التهويد الجاري حاليا لمدينة القدس المحتلة و المسجد الأقصى الأسير, لكن على كل حال كانت الاعتقالات متسارعة و منتظمة بشكل دائم في الشهور الأخيرة, و رغم أن اعتقالات الأجهزة الأمنية للاخوان المسلمين صارت شيئا معتادا و منتظما و مستمرا منذ منتصف التسعينات من القرن الماضي, كما أنها اتسعت جدا منذ عام 2005 , لكن لاشك أن الحملة الأخيرة اتسمت بقدر جديد من الفجاجة و القسوة و اللامعقول, فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن أجهزة الأمن اجتاحت الجمعة الماضى ست محافظات، وألقت القبض على العديد من أعضاء الجماعة، مضاعفة بذلك أعداد الذين احتجزتهم في الشهور الماضية فقط، كي يبلغ عدد معتقلي الاخوان المسلمين في السجون المصرية حتى الآن نحو 350 معتقلا, و من هنا جاءت تعليقات الكثير من المراقبين التي ترددت بين الاستهجان و التعجب تارة و بين اعتبار هذه الاعتقالات بلا جدوى و لا معنى تارة أخرى.

وقد انتقدت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية فى تقرير لمراسلها فى القاهرة حملة الاعتقالات المستمرة التى شنتها الحكومة المصرية ضد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، و اعتبرت أن هذه الاعتقالات بدأت مبكرة هذا العام، لأن الانتخابات البرلمانية لن تجرى قبل عدة أشهر.

و رأى الكاتب الصحفي سلامة أحمد سلامة أن حملة الاعتقالات هذه هي نفس الحملة المستمرة التى تحاول منع الجماعة من الانخراط في الساحة السياسية قبل الانتخابات لمنعهم من ترشيح أعضائهم بكثافة في الانتخابات القادمة.

كما تعجب الدكتور ضياء رشوان الخبير في مركز الأهرام للدراسات السياسية و الاستراتيجية من هذه الاعتقالات و اعتبر أنه أمر نادر أن تحدث حملة اعتقالات كهذه بعد تعيين المرشد العام الجديد مباشرة، و الغرض منها على ما يبدو، هو تعطيل القيادة الجديدة قبل أن يتسنى لها الوقت حتى لتتنفس.

و أيا كانت الأهداف الحكومية من هذه الحملة فإن هناك آلافا من الأشخاص من مختلف الأنحاء في طول البلاد و عرضها صوتوا للإخوان المسلمين وساعدوهم في الانتخابات، وهناك آلاف آخرون من المؤيدين و المتعاطفين، و لا شك أن عملية التأييد و التعاطف هذه مع جماعة الاخوان المسلمين مستمرة و من الصعب جدا أن تتوقف الآن بسبب هذه الاعتقالات.

الاعتقالات المكثفة وردود الأفعال عليها

و في سياق متصل أثارت الاعتقالات المكثفة التي تعرض لها قادة و أعضاء الاخوان المسلمين في الشهور و الأيام الأخيرة العديد من التعليقات و ردود الأفعال فمن قائل إنها هجمة حكومية تستبق معركة الانتخابات البرلمانية القادمة و التي لم يتبق عليها إلا عدة شهور و من قائل أنها رسالة تحذير شديدة اللهجة ترسلها الحكومة عبر أجهزتها الأمنية الباطشة لتوقف الاندفاع الاخواني في اتجاه مساندة الدكتور محمد البرادعي في مساعيه لتعديل الدستور و تغيير وجه الحياة السياسية المصرية, و أيا كانت التحليلات و التعليقات فإن جماعة الاخوان المسلمين نفسها لم تسلم من الانتقادات في الفترة الأخيرة إن على مستوى موقفهم و رد فعلهم على هذه الاعتقالات و إن على مستوى موقفهم السياسي بصفة عامة في خضم الأحداث السياسية الهامة التي تشهدها الساحة السياسية المصرية حكومة و معارضة على حد سواء, الكثيرون اعتبروا موقف الاخوان من هذه الاعتقالات سلبيا هذا الموقف الذي اكتفى بتنظيم مجموعة من محامي جماعة الاخوان ليشكلوا هيئة الدفاع عن الاخوان المسلمين المعتقلين, بجانب تسهيل امداد معتقليهم بمستلزمات المعيشة في السجن من الطعام و الملابس و البطاطين, هذا الموقف الذي يعد هزيلا جدا إذا تمت مقارنته بموقف أنصار الدكتور أيمن نور عندما كان مسجونا, فعلى سبيل المثال كثيرا ما قام أنصار الدكتور أيمن نور بمظاهرات تأييد له و احتجاج على حبسه في مناسبات كثيرة و عديدة تزامن كثير منها مع عرض الدكتور أيمن على النيابة أو الطب الشرعي و نحو ذلك, هذا في الوقت الذي لا يمكن فيه مقارنة أنصار الدكتور نور بأنصار الاخوان المسلمين لا في العدد و لا في الانضباط التنظيمي و القدرات على التعبئة و نحو ذلك, فهل تخاذلت جماعة الاخوان المسلمون عن مناصرة أعضائها الذين ضحوا من أجلها و اعتقلوا بسببها؟ و هذا الموقف الذي اعتبره العديدون سلبيا أو على الأقل غير مناسب و غير كاف هل يؤثر على الانضباط التنظيمي لأعضاء الاخوان المسلمين أو على الأقل هل يؤثر على معنوياتهم؟ و ما هو وزن ذلك كله و تأثيره في معادلة الصراع السياسي على الساحة السياسية المصرية؟ هل تضعف هذه الاعتقالات و تلك الحملات الأمنية المكثفة جماعة الاخوان المسلمين أو على الأقل هل تدفع الكثير من أنصارها إلى الانفضاض عنها؟ أم هل يؤدي البطش الأمني إلى ارتعاش اليد أو الأيدي التي تمسك بزمام الأمور داخل جماعة الاخوان المسلمين فتكف عن التنافس السياسي مع الحزب الحاكم أو الأقل تخفف من حدة و ضراوة هذا التنافس؟

الحراك السياسي الجديد

أسئلة كثيرة لا مناص من الاجابة عليها في ظل الحراك السياسي الجديد الذي طرأ على الشارع السياسي المصري الآن مع دخول الدكتور محمد البرادعي بقوة لحلبة الصراع السياسي المصري و قلبه للعديد من معادلات هذا الصراع التي استمرت راسخة منذ عقود.

بداية لابد من التذكير بتصريحات قادة و رموز الاخوان المسلمين التي أكدت على استمرار الإخوان المسلمين في ممارسة السياسة من خلال معارضة النظام الحاكم مثل قول د.محمد البلتاجي “نحن ليس لدينا طريق آخر سوى النضال السياسى والدستورى، فنحن نريد الإصلاح السياسى، لذا لا أستطيع أن أتخيل عدم المشاركة فى الحياة السياسية” و كذلك التصريحات التي أشارت إلى ما يشبه ترحيب الجماعة بالاعتقالات مثل تصريح المهندس سعد الحسيني عضو الكتلة البرلمانية للاخوان المسلمين الذي اعتبر فيه أن هذه الاعتقالات بمثابة وسام على صدر جماعة الاخوان المسلمين.

طبيعة المعادلات السياسية التي تحكم العمل السياسي 

و بعد ذلك لابد لنا من تفحص طبيعة المعادلات السياسية الدقيقة و الصارمة التي تحكم العمل السياسي في ظل نظام الحكم الحالي منذ عقود حتى نعرف موقع هذه الاعتقالات منها و نعرف موضع الاخوان المسلمين و مواقفهم في هذه المعادلات. لقد نجحت الديكتاتورية القائمة في مصر منذ الاحتلال البريطاني 1882م في ترسيخ توازن قُوَىَ مجتمعي قائم على وجود نسبة محدودة من المتدينين (الذين بات يطلق علي نشطائهم اسم “الاسلاميون”) لا تملك القيام بتأثير فعال في مجريات الأمور العامة مهما كان نشاطها و ارتفاع صوتها, مع وجود نخبة محدودة من العلمانيين المرتبطين بقوى غربية (صورة الاستعمار الجديد) و يملكون مقاليد السلطة و القوة, مع وجود كتل اخرى من القوميين و الليبرالين و الماركسيين كلها تعارض الحكم لكنها معزولة لسبب أو لأخر و بدعم مباشر من النظام لهذا العزل عن أمرين:

الأول- الامساك بزمام القوة السياسية في الدولة.

و الأمر الثاني- امكانيات تعبئة و تنظيم عامة الجماهير في البلاد.

أما بقية المجتمع فقد حافظ نظام الحكم على جعله كتلة صامتة و سلبية إزاء الشئون العامة خاصة شئون الحكم و السياسة.

التوازن داخل التيارات السياسية

و لقد أقام النظام الحاكم عدة توازنات أخرى داخل كل كيان أو تكتل سياسي فالاسلاميون بين جماعاتهم المختلفة توازن, فهناك توازن بين السلفيين و الاخوان و بعضهما البعض و بين الاثنين من جهة و بين الجهاديين من جهة اخرى توازن آخر و هناك توازن بين هؤلاء جميعا من جهة و بين جماعات التكفيريين, و نفس الشئ نجده داخل القوى السياسية العلمانية المعارضة فهناك توازن بين فصائل الناصريين و القوميين المتعددة و المختلفة و جميعهم من جهة يحكمهم توازن ما مع الماركسيين بكافة مجموعاتهم و الكل يتوازن بشكل أو بآخر مع المعارضة الليبرالية و جميع المعارضة غير الاسلامية يحكمها توازن مع كل الاسلاميين……. و هكذا سلسلة لا تكاد تنتهي من التوازنات يأكل بعضها بعضا لصالح النظام الحاكم إذ لا يمسك بمفاتيح هذه السلسلة من التوازنات غير النظام الحاكم و أجهزته الأمنية و السياسية وحدها, و كلما لاح في الأفق نذير اختلال لهذا التوازن فإن قوى الحكم الداخلية و كذلك القوى الخارجية المساندة لنظام الحكم و الساهرة علي سلامة هذا التوازن تقوم بإعادة التوازن إلى سابق عهده بالحيلة حينا و بالقوة و القمع في أغلب الأحيان, مع ملاحظة أن هذا القمع قد يتستر بغطاء من القوانين و القرارات الرسمية.

معادلات اللعبة السياسية الدولية

و هناك عملية سياسية اخرى تستخدم ورقة وجود هذه القوى المختلفة في معادلات اللعبة السياسية الدولية و الاقليمية, حيث يستخدم النظام وجود الاسلاميين السياسي و الدعوى للضغط على الغرب لكسب تأييد الأخير المطلق للنظام الحاكم تحت تهديد أن البديل هم الاسلاميون, و كذلك التذرع بالوجود القوي للاسلاميين بالشارع السياسي المصري لرفض العديد من الاملاءات الغربية في مجالات كبعض الحقوق الاجتماعية و الاقتصادية المخالفة لثوابت المجتمع الشرقي أو الاسلامي, و من هنا فالنسبة التي حصل عليها الاخوان المسلمون في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة لم تكن مفاجأة للنظام بل مقصودة لتحقيق اهداف عديدة, و نفس الشئ بالنسبة لوجود المعارضة الليبرالية أو القومية أو اليسارية فهى موظفة من قبل النظام لمخاطبة الغرب بأن هناك حريات و ممارسات ديمقراطية و تقدم مطرد في الاصلاح السياسي.

الاخوان المسلمون في مصر طوال القرن الأخير

الاخوان المسلمون في مصر طوال القرن الأخير تحركوا في أغلب الأوقات في إطار لم يهدد هذا التوازن القائم و هذه المعادلات السياسية المكرسة, فعمل الاخوان المسلمين لم ينجح في إختراق المنظومة المسيطرة على مقدرات القوة السياسية في البلاد اللهم الا في حالات نادرة و حتى في الحالات النادرة التي نجح الاخوان المسلمون في ذلك فإنهم لم يستعملوا هذه القوة السياسية بالشكل المناسب, حتى أطلق البعض على جماعة الاخوان المسلمين جماعة الفرص الضائعة.

و كذلك فجماعة الاخوان المسلمين لم تنجح في تحقيق اختراق واسع و فعال للكتلة الصامتة من أغلبية الشعب, و ربما كاد هذا الاختراق أن يحدث مرة واحدة في تاريخنا المعاصر في نهاية السبعينات من القرن الميلادي الماضي بفعل الحركة الدعوية التي قامت بها كل من “جماعة التبليغ و الدعوة” و مجموعات اسلامية عديدة استخدمت التكتيكات الدعوية لـ “جماعة التبليغ و الدعوة”, لكن سرعان ما أدت أحداث صدام الجهاديين مع النظام الحاكم بجانب عوامل عديدة إلى ترسيخ سياسات حكومية تقيد حركة الدعوة بصفة عامة و تمنع هذه التكتيكات بصفة خاصة, و ذلك كله في إطار استراتيجية حكومية ضد الحركة الاسلامية مستمرة بشكل واضح منذ عام 1986 و حتى الآن و هي أشبه ما تكون بمزيج من استراتيجيتي “الاحتواء” و “الردع المرن” المعروفتان في الصراع الدولي.

هل الاخوان المسلمون جماعة كبيرة ذات عقل صغير؟

و بسبب التزام الاخوان المسلمين اختيارا أو اكراها بمقتضيات هذه المعادلات السياسية التي رسخها النظام الحاكم فإنهم لا يستطيعون دفع صراعهم مع الحكم إلى أبعد من هذه المعادلات بانشاء معادلات جديدة أو الاخلال بتوازن القُوَىَ القائم, و هذه الحالة من التفكير السياسي و الاستراتيجي لدى الاخوان المسلمين دفع البعض لاعتبار جماعة الاخوان المسلمين جماعة كبيرة ذات عقل صغير رغم ما في هذا التعبير من مبالغة.

و مما لا شك فيه أيضا أن هذا الالتزام الاخواني بالمعادلات السياسية التي كرسها و يكرسها النظام لا يأتي فقط خوفا من زيادة جرعة البطش من قبل النظام بقدر ما هو تعبير عن طبيعة التفكير السياسي و الاستراتيجي داخل المطبخ السياسي لجماعة الاخوان المسلمين فالعقليات التي تحكم هؤلاء القادة اعتادت على عدم الاكتراث بآثار القمع الحكومي فقد اعتادوا ادارة الجماعة تحت القصف القمعي للنظام بكل درجات هذا القصف الذي شهدوه منذ نهاية الثمانينات من القرن الماضي كما أن القسوة التي تم قمع جماعة الاخوان المسلمين بها منذ ثورة يوليو 1952 و حتى عهد الرئيس السادات خلقت لدى قادة الجماعة السياسيين حذرا ربما نراه زائدا عن الحد المناسب لمثل هذا العمل السياسي الذي يتصدى له الاخوان المسلمون الآن و في مثل هذه الظروف من الحراك السياسي و فرص التغيير و الفشل و التردي الذريع الذي وصل له النظام السياسي المصري, فهل مازالت عقول قادة جماعة الاخوان المسلمين مسجونة في التجربة المريرة للجماعة مع عبدالناصر أم أن الجماعة تعايشت مع القصف الحكومي بقدر تعايشها مع وجود نظام الحكم نفسه و استمراره؟

هذا السؤال يحتاج اجابة واضحة من قيادة الاخوان المسلمين ليس بالقول و لكن بالفعل, فلا أحد يطالبهم بما وراء الممكن لكن الجميع يطالبونهم باستغلال أقصى ما يمكن لا سيما و أن السياسة هي فن الممكن.

و تبقى أسئلة تتعلق بتأثير هذه الاعتقالات على جماعة الاخوان المسلمين من قبيل هل يتفلت الأعضاء تاركين كيان الاخوان المسلمين بسبب القمع؟ و من قبيل هل تتمكن الجماعة من القيام بنفس أدوارها التي كانت تقوم بها قبل الاعتقالات؟ و هل تتصاعد الاعتقالات أم تنحسر؟

في الواقع ربما يتفلت القليل من أعضاء الجماعة الحديثي عهد بها و لكن الجماعة سرعان ما ستعوض هذه التفلت بمزيد من الأعضاء الجدد الأكثر التزاما و انضباطا تنظيميا .

و ستظل جماعة الاخوان المسلمين تقوم بأدوارها المحصورة في المعادلات السياسية الراسخة و المكرسة في مصر منذ عقود.

أما تصاعد الاعتقالات أو انحسارها فهو محصور في القرار الحكومي الملتزم بحفظ توازن القُوَىَ القائم على ألا تخرج كل قوة سياسية في مصر عن الدور المرسوم لها بعناية داخل أروقة الحكم المصري.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا الموضوع نشر في موقع الاسلام اليوم و في جريدة الدستور المصرية اليومية الورقية.

النقاب

هل النقاب أو الحجاب كفر بالإسلام؟؟

شهد النقاش حول النقاب تشددا ضده في العديد من المناسبات، فمن قائل إن النقاب يهدد الامن العام لأن المجرمين من الممكن أن يتخفوا وراءه ليرتكبوا الجرائم، و من قائل أنه ليس من الدين في شئ فلا يجوز لبسه، و من قائل أنه يعرقل عملية التحقق من الشخصية، إلى غير ذلك من الحجج التي نرى انها مجرد تشدد ضد قضية خلافية لكل شخص الحرية في تبني ما يشاء بشأنها.

النقاب مندوب أم واجب؟

النقاب في الشرع و حسب أراء العلماء هو من الاسلام لكنهم اختلفوا فمنهم من قال أنه مندوب أي من تفعله تأخذ ثواب و من لا تفعله فليس عليها وزر، او كما يقال باللغة الدارجة هو سنة فقط، و من العلماء من قال هو فرض، و منهم من قال هو مندوب لكنه يصير فرضا إذا خيفت الفتنة بسبب عدم ارتدائه، فهذه هي أراء العلماء السابقين عندما كان العلماء لا يتأثرون بشئ سوى حكم الشرع، و لا يهمنا هنا آراء بعض العلماء الذين يتأثرون في فتاواهم و آرائهم بمناصبهم الحكومية أو علاقاتهم بمراكز القوة أو يتأثرون بحبهم للظهور في صورة من لا تتعارض آراؤهم مع مفاهيم الحضارة الغربية الحديثة أو حتى القديمة بغض النظر عن توافق ذلك كله مع الحكم الشرعي الحقيقي أم لا.

التشدد ضد النقاب لا بد أن يكون سمة هذه الأيام مادام السيد الأوروبي غير راض عن هذا المظهر الاسلامي، و كيف لا و الهجوم على الحجاب الحقيقي نفسه لا يكل و لا يمل لا هنا و لا في أوروبا، تعرية الأنثى لجسمها سواء بكشفه و تحريره من الملابس الساترة أو بلبس الضيق أو الشفاف الذي يظهر الجسم اللابس و كأنه عاري تماما إذا جرى الكلام عنه فنحن هنا نتكلم عن الحرية و تحرير المرأة و تقدمها، أما إذا لبست الأنثى النقاب بمحض إرادتها فالحديث هنا يكون عن التشدد و الغلو في الدين و قهر المرأة و جهلها و تخلفها، الحديث عن التعري المذكور يقرنه المتحدثون بأن الإيمان في القلب و ناقص ثانية واحدة و يقولوا أن المتعرية قديسة من القديسات أو أحد أولياء الله الصالحين لأن ايمان قلبها قوي جدا، أما الحديث عن النقاب (أو حتى الحجاب الحقيقي) فيقترن بالقول بأن صاحبته ترائي بلبسها و تجهل حقيقة الإيمان و ناقص ثانية و يقولوا أنها كافرة و بنت ستين في سبعين لأنها لبست النقاب، و كأن أحد أركان الايمان أن يتخفى هذا الايمان في القلب فلا يظهر له أي أثر على الجوارح فإن ظهر له أي أثر كان ايمانا كاذبا!!!

و نفس الذين يتشددون ضد النقاب (و أحيانا ضد الحجاب) يتكلمون عن التدين المنقوص، و هنا يطرح السؤال نفسه: أنتم في كلامكم عن التدين المنقوص تطرحون أن التدين لم ينعكس في سلوك أصحابه و هذا حق إذ لابد أن ينعكس التدين (أي الايمان) و يظهر في سلوك أصحابه، أفلا ترون أن النقاب (و مثله الحجاب الحقيقي) هو سلوك شخصي لابد أن يكون انعكاسا للتدين غير المنقوص؟

هل يجب أن نفتش في ضمير المنتقبة ؟؟

و في الواقع فإن أي محتوى لابد ان ينعكس على مظاهر الشئ الذي يحتويه إلا في حالات نادرة و لأسباب محددة، و القول بأن بعض المنتقبات غير ملتزمات دينيا فهذا أمر لابد أن نتركه لله تعالي لأن القانون المصري لا يحاسب أي أحد على مدى التزامه الديني فلماذا المنتقبة بالذات سوف نفتش في ضميرها و نراقب مدى التزامها؟

تبقى الحجج السطحية التي تساق لتبرير التشدد ضد النقاب، و هي أضعف من أن تحتاج إلى رد عليها، فالقول بأنه يمكن للمجرمين التخفي في النقاب يرد عليه بأن أي عمليات تجميل ممكن للمجرمين أن يستعملوها في التخفي فامنعوها تماما لا سيما ان صاحبة النقاب يحق لأي جهة أمنية أن تتحقق من شخصيتها عبر الاطلاع على بطاقة اثبات شخصيتها في أي وقت و مطابقتها بوجهها و ممكن تقنين ذلك عبر شرطة نسائية، بينما من يعمل عملية تجميل يتغير شكله تماما، و كذلك امنعوا تداول أدوات المكياج لأنها ممكن أن تستعمل في التنكر من قبل المجرمين، و امنعوا ملابس رجال الدين الاسلامي و المسيحي على حد سواء لأنه ممكن للمجرمين أن يلبسوها لتسهل عليهم التحرك أثناء ارتكاب الجرائم.

أما القول بأن النقاب يعوق التحقق من الشخصية في كافة الاجراءات الرسمية من عقود و بيع و شراء و غير ذلك فكله كلام سطحي لأن الشرع نفسه الذي شرع النقاب شرع ازالته في حالة التعاقد أو غير ذلك من الاجراءات التي تحتاج التحقق من الشخصية ثم تعيده الأنثى المعنية لوجهها بعد إتمام الاجراء المطلوب.

و إذا ظهرت سطحية كل هذه الحجج حق لنا ان نتسائل عن سبب التشدد مع النقاب مع انه في أقل احواله هو حرية شخصية بينما يتم التساهل مع كل مظاهر الخراب و الفساد التي يعج بهما المجتمع.

ـــــــــــــــــــــــــــ

نشرت هذا المقال بمدونتي القديمة.

الأزمة المالية العالمية

المسلمون و الأزمة المالية العالمية

عصفت الأزمة المالية العالمية بالنظام المالي الدولي الراهن و لن يخرج العالم من الأزمة الا و قد تغيرت الخريطة المالية الدولية بما يسستتبعه ذلك من تغيير خريطة النظام السياسي الدولي بدرجة ما.

النظام الدولي الجديد

و تشير ملامح الأزمة المالية الحالية و متغيرات الواقع السياسي الدولي إلى أن النظام الدولي الجديد سيكون متعدد الأقطاب حيث ستتوزع القوة الدولية بين عدة أقطاب بعدما كانت مركزة في قطب واحد هو الولايات المتحدة الأمريكية, صحيح أن التغيرات الاقتصادية و التطورات في عالم الاتصال لن تجعل الصراع او التنافس الدولي بالشكل الذي ألفه العالم على مر تاريخه, بسبب تداخل و تشابك المصالح الاقتصادية و المالية و بسبب ثورة وسائل الاتصال التي يصعب على أي أحد أن يوقفها, و لكن لا شك أن عناصر القوة و التأثير لن تظل رهنا لارادة الولايات المتحدة الأمريكية وحدها بل ستتوزع فيه بين عواصم دول عدة كروسيا و الصين و الهند و اليابان و الاتحاد الأوروبي بجانب الولايات المتحدة, و من الطبيعي أن تزداد استقلالية حكومات العالم الاسلامي في صنع القرار خاصة فيما يخص سياستها مع شعوبها بعدما يترسخ النظام الدولي الجديد, و تعطي هذه الاستقلاالية لهذه الحكومات قدرات أكبر في البطش بمعارضيها.

و ان كان هناك عامل أخر مضاد و لكنه أقل تأثيرا و هو انتعاش الاتجاهات الدولية المدافعة عن الحريات و حقوق الانسان.و هذه الاستقلالية سوف تؤدي إلى مزيد من الضغط على الحركات الاسلامية عبر التدابير الحكومية القمعية و السياسية على حد سواء, لكن ستظل هذه الحكومات معرضة لضغوط المنظمات غير الحكومية المدافعة عن حقوق الانسان مما يخفف قليلا من قمعها و لكنها قد تقل حساسيتها لهذه الضغوط بسبب أنه لا توجد حكومات من الأقطاب الدولية ممكن أن تدعم هذه المنظمات سوى الاتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة, بينما يمكن لحكومات الدول الاسلامية أن تلجأ لأقطاب دولية أخرى لا يهمها منظمات حقوق الانسان من قريب و لا من بعيد مثل الصين و روسيا و الهند أو حتى ايران أو اسرائيل (فكلتاهما قوة اقليمية عظمى) كى تستند إليها في مواجهة الغرب المساند (و لو شكليا) لقضايا الديمقراطية و حقوق الانسان.

قدرة الحكومات على القمع و الاستبداد

و رغم ذلك كله فلابد من رصد العديد من المتغيرات السياسية و الاقتصادية و تأثيرها على النحو التالي:

كما أن التعددية القطبية في النظام الدولي ستتيح لحكومات العالم الاسلامي منفذا تقاوم به الضغوط الغربية بشأن تقليل القمع و الاستبداد تجاه شعوبها, فإن الأزمة المالية و ما يتبعها من خلل اقتصادي مؤثر سيضعف قدرة هذه الحكومات على القمع و الاستبداد كل بقدر درجة أزمته لأنه من المتفق عليه أن ضعف حكومة ما اقتصاديا يتبعه ضعفها سياسيا, كما أنه كلما قلت انجازات حكومة ما الاقتصادية و السياسية كلما تآكلت شرعيتها السياسية أمام شعبها, و هذا الضعف طبعا إذا أصاب المستبدين فإنه يخدم قضية الحريات و تخفيف قبضة الاستبداد و تقليل القمع.

سيخف الضغط الدولي بدرجة ما عن الحركات الاسلامية بصفة عامة و السلمية منها بصفة خاصة كجزء من نتائج الهزائم الأمريكية و الغربية و هزائم حلفائهم في أفغانستان و العراق و الصومال, و كذلك بسبب نتائج الأزمة المالية العالمية و ما يتبعها من مشاكل اقتصادية, و هذا سيصب في مصلحة حركة هذه التيارات سياسيا كل في محيطه, كما أن هزائم الغرب و حلفائهم ستستخدم دعويا اسلاميا لضم مزيد من الأنصار للحركات الاسلامية بكافة اتجاهاتها.

بعد الهزائم و الأزمات التي مني بها الغرب و حلفاؤه ستتعلم “اسرائيل” أنها يجب أن تتعامل مع الحركات الاسلامية و بالتالي ستفضل التعامل مع التيارات ذات الطبيعة السلمية, كما أنها ستتعامل مع التيارات المسلحة التي لن تجد بدا من التعامل معها كـ”حماس”, كما أنها لن تمانع من التفاهم و التعاون مع جهات لديها نمط من البرجماتية يدفعها للتفاهم مع اسرائيل و أبرز مثال على ذلك هو ايران و حزب الله و القوى الشيعية العراقية و نحوها, و لن تتفاهم اسرائيل (و لا الغرب بطبيعة الحال) مع القاعدة أو الجهاد المصري أو السلفية الجهادية في أي مكان لأنها غير مضطرة لذلك لا الآن و لا في المدى المنظور, لكنها (هي و الغرب) قد تضطر للتفاهم مع طالبان في أفغانستان و شباب المجاهدين في الصومال إذا انتصرتا و سيطرتا على البلد, لاسيما و أن طالبان و شباب المجاهدين أكثر عقلانية و رغبة في التفاهم من القاعدة و من السلفية الجهادية.

الحركات الجهادية السنية

ستستمر ايران في غض الطرف عن الحركات الجهادية السنية ما دامت تستنزف الغرب و حلفائهم في المنطقة بما لا يهدد مصالح ايران و لا أتباعها و لا مناطق نفوذها, كما ستستمر ايران بنجاح في السعي لتقسيم المصالح و مناطق النفوذ في المنطقة بينها و بين الولايات المتحدة و الغرب , و عندما تستقر مناطق النفوذ الايرانية و تتراضى عليها مع الغرب و يتم ترسيم حدود نفوذ كل منهم بدقة فإن ايران ستحاول منع الحركات الاسلامية السنية من الحركة في مناطق نفوذها و حينئذ إما تتحول حراب الحركة الاسلامية السنية إلى ضرب ايران بدل الغرب داخل هذه المناطق أو تنسحب الحركة الاسلامية السنية من هذه المناطق تاركة لمتشددي الشيعة حرية تحويل جماهير السنة في هذه المناطق إلى التشيع كما حدث في العصر الصفوي, كما ستتعاون ايران (في حالة ترسيم خطوط مناطق النفوذ هكذا) مع الغرب لضرب الحركة الاسلامية السنية المسلحة.

هل يتغير جوهر الرأسمالية؟

سيضع العالم بقيادة الغرب تدابيرا مالية جديدة للتقليل من مخاطر تكرار الأزمات المالية المماثلة, و ستمثل هذه التعديلات تغييرا هيكليا في جوهر الرأسمالية, و رغم أنهم سيضعونها تحت مسمى “تطوير النظام الرأسمالي المعاصر” إلا أن بعضا من هذه التدابير ستقترب كثيرا من تعاليم و أحكام اقتصادية اسلامية موجودة في نص السنة النبوية المطهرة, و رغم أنهم وصلوا لها بالتجربة و الخطأ إلا أنه سيمكن للدعاة الاسلاميين الاستدلال بذلك على صلاحية أحكام الاسلام لكل زمان و مكان, و على كون الاسلام قد جاء بما فيه تحقيق مصالح البشر الدنيوية بجانب الأخروية على حد سواء, و انتهاز هذه الفرصة سيمكن دعاة الحركة الاسلامية من التوغل في فئات مجتمعية و مناطق جغرافية لم يكونوا متمكنين من الانتشار فيها من قبل, مما سيعطي الحركة الاسلامية مزيدا من القوة الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية.

سيؤدي تعدد أقطاب النظام الدولي الجديد إلى اتاحة الخيارات أمام الحركة الاسلامية سواء على المستوى الدعوي (الفضائيات و النت و نحوهما) أو على مستوى الحركة الإقتصادية و السياسية, مما يقلل (و لا يزيل) مخاطر الحصار الدولي على الأقل تجاه الحركات الاسلامية السلمية.

ستتضرر شعوب العالم الاسلامي (و أغلبها من الفقراء) من الأزمة المالية الدولية في بعض الميادين, و لكنها قد تكون أقل تضررا من الغرب, و كما أنها قد تعودت على شظف العيش, مما يعني أن انتفاع الشعوب الاسلامية من فوائد الأزمة المالية العالمية أكبر من ضررها و معظم الانتفاع سيكون سياسيا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كتبت هذا الموضوع لمجلة البيان الشهرية الصادرة في لندن و نشر بعدد جمادى الآخرة 1430هـ ، كما نشرته في مدونتى القديمة.

المسلمون يدعون الله -صورة أرشيفية

المسلمون و إبادة غزة … بين العجز و الدعاء والجهاد

عندما تسلط الجيش الإسرائيلي بآلته الحربية الطاغية على أهالي غزة بالقتل و الحرق و الدمار انقسم العالم الاسلامي إلى معسكرين معسكر الحكام و معسكر الشعوب, و تخاذل الحكام و وقفوا موقفا متواطئا مع إسرائيل و من تعاطف منهم مع الفلسطينين تعاطف بالقول فقط, و نظرا لأن الشعوب لا تملك شيئا في صنع قرار بلادها ولا تملك أن تعمل أي عمل حقيقي يمثل مساندة إيجابية فعالة لأهالي غزة كتحريك الجيوش أو قطع البترول عن الدول التي تساند إسرائيل أو إمداد المقاومة بالسلاح, فإن ذلك كان حافزا لأن يجتهد المسلمون بالمساجد في الدعاء على إسرائيل.

و الدعاء على الأعداء و المعتدين أمر مشروع في الإسلام و فعله النبي صلى الله عليه و آله و سلم كما فعله الأنبياء من قبله. فنبي الله نوح عليه السلام أخبر عنه القرآن أنه دعا على الكافرين من قومه فقال تعالى ” وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً{26} إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً{27}” (سورة نوح)و دعا موسى على فرعون و قومه قال تعالى ” وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ” (يونس88) كما دعا النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم على أعدائه في العديد من المواقف ففي مرة دعا على قريش بأن تحيق بها ازمة إقتصادية كالتي حاقت بأهل مصر في عصر يوسف عليه السلام فقد روى البخاري عن عبدالله بن مسعود قال: ” إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى مِنْ النَّاسِ إِدْبَارًا قَالَ اللَّهُمَّ سَبْعٌ كَسَبْعِ يُوسُفَ فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْمَيْتَةَ وَالْجِيَفَ وَيَنْظُرَ أَحَدُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى الدُّخَانَ مِنْ الْجُوعِ فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ”.

كما دعا النبي صلى الله عليه و آله و سلم على قبائل عربية أخرى حاربته أو ناصبته العداء و قتلت أصحابه و دعا على قبائل يهودية لنفس الأسباب, لكن العلماء حددوا إطارا و ادابا للدعاء و ذلك جمعا بين ألفاظ و مناسبات الأحاديث الخاصة بأمور الدعاء فقال إبن حجر في تعليقه على الحديث المذكور في الدعاء بالقحط و الأزمة الإقتصادية على قريش: ” الدُّعَاء عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِالْقَحْطِ يَنْبَغِي أَنْ يُخَصّ بِمَنْ كَانَ مُحَارِبًا دُون مَنْ كَانَ مُسَالِمًا” (فتح الباري شرح صحيح البخاري جـ3 ص 439).

و ذلك لأن هناك روايات في دعاء النبي صلى الله عليه و آله و سلم على قبائل مضر دعا فيها لبعض قبائلها مثل حديث أبي هريرة : “أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ يَقُولُ اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ قَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ هَذَا كُلُّهُ فِي الصُّبْحِ” (البخاري حديث 951)، و لذلك اورده البخاري في نفس الباب ليضع الدعاء على الأعداء في إطاره الصحيح, فالدعاء هنا ليس على كل الكفار لكفرهم و إنما هو دعاء على الكفار المحاربين اما المسالم منهم فهذا ليس مجال الدعاء عليه.

و من هنا فقد ثارت بعض المشكلات في صيغ الدعاء في بعض المساجد, فالمعتاد ان يدعو الإمام بالهلاك على ما يسميهم بـ “اليهود المعتدين” أو “اليهود المغتصبين”, و لكن في قليل من الحالات ربما يقول الإمام “اللهم عليك باليهود الضالين أعداءك اعداء الدين” مثلا و في الواقع فهو لا يقصد في قلبه أن يدعو على كل يهودي في الأرض و إنما يقصد هؤلاء الذين يعتدون على الفلسطينين لكنه سبقه لسانه دون تركيز منه في مرامي اللفظ, و لكن بعض المصلين ذوي الثقافة السياسية ربما طمحوا أن يدعوا أئمة المساجد على الصهاينة فقط بإعتبار أن الصهيونية هي سبب ذلك العدوان و الإحتلال و ليس مجرد اليهودية و ان هناك يهود غير صهاينة, و لكن من الصعب أن يلم كل أئمة المساجد بهذا التفصيل لكن أكثرهم إن لم يكن جميعهم يدركون و يقصدون بدعائهم “اليهود المحتلين و من ساندهم في أي مكان في العالم” و لذلك يكثر على لسانهم لفظ “اليهود المعتدين” أو “اليهود المغتصبين”, احترازا من اليهود المسالمين إن وجدوا.

و المسلمون هم دعاة بناء و ليسوا دعاة هدم لذلك فهم يأملون في هداية الخلائق جميعا و لذلك لما كان للنبي صلى الله عليه و آله و سلم راجعا من الطائف حزينا من سوء موقفهم من الإسلام و قبلها كان حزينا من موقف قريش المعاند “أرسل إليه ربه ملك الجبال فسأله أن يطبق على قومه الأخشبين فقال : بل استأني لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده” (رواه الطبراني عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب), فالمسلمون يميلون للتعاون و الحوار أملا في أن يفضي ذلك للإيمان أكثر من ميلهم للقتل و الصراع و الدعاء بهلاك الأعداء, لكن في أزمة غزة هذه وجد المسلمون أنفسهم بين نارين.. نار الحكم المستبد في بلادهم الذي يمنعهم من نصرة أهل غزة و نار الإسرائيلين الذين يصلون أهل غزة نار الفسفور الأبيض و لا يملكون لها دفعا و لا دفاعا فلجأوا إلى الله يضجون إليه بالدعاء في المساجد كل صلاة، و هذا ليس عيبا إلا إذا ظنوا أنهم بمجرد قيامهم بهذا الدعاء قد فعلوا ما عليهم و تحللوا مما يجب عليهم من نصرة إخوانهم و نجدتهم من نار الإحتلال.

فالنبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن يركن للدعاء فقط، بل كان يتخذ تدابير عديدة من أجل تحقيق أهداف الدعوة فهو كان يتحرك بين الناس في مكة يدعوهم للإسلام، و كان يعرض نفسه على قبائل العرب و سافر للطائف ليعرض على قادتها الإسلام، و لما لم يأت ذلك كله بالنتيجة المرجوة هاجر للمدينة المنورة و أحدث فيها تنمية إقتصادية، و بنى بها جيشه و أعاد تأسيس قواعد التكتيك القتالي بما لم يكن قد عرفه العرب في المدينة أو حتى في كل الجزيرة العربية، وحتى في غزوة بدر الذي إشتهر دعاؤه و إلحاحه في الدعاء فيها لم يقم بهذا الدعاء إلا بعد ان رتب الجيش و حدد لكل شخص موقعه و عمله في القتال، و حدد خطة القتال و قطع الماء عن قريش و حصرهم في ارض غير مناسبة و بعد ذلك كله جلس يدعو الله أن ينصر جنوده.

و في غزوة الخندق حفر الخندق و حصن المدينة و وضع أهالي المدينة من النساء و الأطفال في قلاع و حصون المدينة، و رتب لهم السلاح و الحراسات و حشد كل القادرين على حمل السلاح لحماية المدينة، و حماية الخندق الذي يحميها ومع و بعد ذلك أخذ يدعو.

فالدعاء ليس وسيلة وحيدة و لا هو يخرج صاحبه من دائرة المسئولية العملية بمجرد أن دعا بل الدعاء وسيلة من الوسائل.

و النبي صلى الله عليه و آله و سلم هو خير من دعا، و هو أفضل من دعا، و هو الأقرب إلى الله، و مع ذلك لم يمت إلا و قد تحرك كثيرا، و أوذي كثيرا بسبب حركته في الدعوة إلى الله، و حوصر في شعب ابي طالب وفي المدينة إبان غزوة الخندق، و كاد يقتل بسبب عمله لله، كما حرك هجرتين للحبشة، و هاجر إلى المدينة، و عاد و فتح مكة، و غزا و أرسل عشرات الغزوات في كل أنحاء الجزيرة العربية، بل و غزا الروم.

و من المشهور (كما جاء في البخاري و غيره) أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم رد عسكريا بسرعة على نقض قريش لمعاهدة الحديبية عندما ساندوا قبيلة بكر الكافرة في قتل اعدادا من قبيلة خزاعة المسلمة و لقد جاء عمرو بن سالم سيد خزاعة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم بالمسجد النبوي فقال له:

يَا رَبّ إِنِّي نَاشِـد مُحَمَّـدًا حِلْـف أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا

*****فَانْصُرْ هَدَاك اللَّه نَصْرًا أَيَّـدَا وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدًا

إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِـدَا وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُـؤَكَّـدَا

*****هُمْ بَيَّتُونَا بَالْوَتِيرِ هُجَّـدًا وَقَـتَلُونَـا رُكَّـعًا وَ سُـجَّـدًا

وَزَعَمُوا أَنْ لَسْت أَدْعُوأَحَدًا وَهُـمْ أَذَلُّ وَأَقَـلُّ عَـدَدًا

فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ردا على هذه الإستغاثة كلمة و احدة: “نُصِرَتْ يَا عَمْرو بْن سَالِم “، و جهز الحيش من عشرة آلاف مقاتل و فتح مكة، فكان نصره لقتلى مسلمي خزاعة بيد حلفاء قريش هو سحق قريش نفسها هي و حلفائها، و لم يكتف بالدعاء لخزاعة أو التبرع لها بالمال و الغذاء أو حتى السلاح.

و عندما صعدت روحه صلى الله عليه و آله و سلم إلى بارئها كان جيشا مجهزا مستعدا يقف على أطراف المدينة ينتظر أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم لينطلق ليغزو الروم، إنتقاما لخسائر المسلمين في معركة مؤته مع الروم, فحتى و هو صلى الله عليه و آله و سلم في نزع الموت الأخير كانت جيوشه جاهزة للتحرك، و لم يكتف بالدعاء و هو على فراش الموت، بل كان مصمما و هو على فراش الموت على الإنتقام لقتلى المسلمين، و كان كلما أفاق من سكرة من سكرات الموت يقول أنفذوا بعث أسامة، و لكن الصحابة لم يطاوعهم قلبهم بأن يغادروا المدينة و النبي  صلى الله عليه و آله و سلم في مرض شديد، فتأخروا في حركتهم، و كان الصديق رضي الله عنه واعيا بهدي النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فأصر على إنفاذ أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بإرسال الجيش ليغزو الروم بعيد موت النبي صلى الله عليه و آله وسلم، وذلك رغم ردة كل الجزيرة العربية و تآمرها على دولة الإسلام و قال الصديق قولته المشهورة: “و الله لو لعبت الكلاب بخلاخيل أمهات المؤمنين بالمدينة ما حللت لواء عقده النبي صلى الله عليه و آله وسلم “.

فهكذا لم يكتف النبي صلى الله عليه و آله و سلم و خلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم بالدعاء في مواطن الجهاد، بل كان جهادهم قتالا بجانب الدعاء حتى و هم على فراش الموت.