مجلس الشعب المصري صورة أرشيفية

تأميم الفتوى لصالح رئيس الجمهورية في مصر

وافقت لجنة الاقتراحات بمجلس الشعب المصري على مشروع بقانون يعاقب من يفتي بدون أن يحمل ترخيصا رسميا خاصا و قد أثار ذلك جدلا واسعا ، فأيد البعض هذا القانون المقترح و طالبوا بحتمية قصر الإفتاء على الأزهريين فقط معتبرين أنهم المؤهلون دون غيرهم لتلك العملية، بينما عارض آخرون القانون المقترح؛ و رأوا أنه مجرد وسيلة قمعية لتكميم الأفواه.

مشروع القانون الجديد تقدم به النائب عن الحزب الوطني د. مصطفي الجندي، وتضمن حبس من يفتي في الشئون الدينية عبر وسائل الإعلام بدون رخصة رسمية من سنة إلى ثلاث سنوات.وفي تصريحات صحفية أوضح الجندي أنه سيتم إضافة مادة لقانون العقوبات في جرائم اختلاس الألقاب والوظائف والاتصاف بها دون حق، وتنص المادة المقترحة على أن: “كل من أفتى فتوى في أمور دينية عبر أي وسيلة من وسائل الإعلام سواء المسموعة أو المقروءة أو المرئية، بدون أن تكون له صفة رسمية كجهة اختصاص، يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد عن ثلاث”.وأشار إلى أن “عقوبة الحبس تكون وجوبا على كل من يدلي بفتوى عبر أي وسيلة إعلامية، أو أي طريق آخر دون أن يكون حاصلا على شهادة معتمدة من دار الإفتاء، وموقعة من فضيلة المفتي نفسه بالترخيص لحاملها بالفتوى”.وكان د.مصطفى الجندي قد ذكر دوافعه للتقدم بمشروع ذلك القانون في تصريحات صحفية فقال: إن تحريض حسن نصر الله للمصريين أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة، ضد قيادتهم السياسية وحكومتهم، وتحريضه للجيش، متسترا بخطاب ديني ومدعوما بدعاة فضائيات موالين لفكره بحماس، أطلق موجة من الفتاوى الدينية التي لم تجد من يتصدى لها ويقوم بتفنيدها.و أضاف: إن “من أهم أسباب مشروع القانون الذي تقدمت به لمنع فوضى الفتاوى في الفضائيات الدينية، هو مقاومة مد الفتاوى الشيعية الذي استشرى خلال الحرب الإسرائيلية على غزة وجعل شعوبنا فريسة للخطب الشيعية الحمساوية”و إعتبر أن “حزب الله حاول خلال حرب إسرائيل على غزة تحت ستار فتاوى الجهاد، أن يشعل الثورة في مصر بدعوى مساندة حماس في حربها ضد إسرائيل”.و قد ذكر الدكتور مصطفى الجندي آلية ضبط من يفتي بدون ترخيص، فقال إن لجنة الاقتراحات والشكاوى بمجلس الشعب حددت لجنة لاختبار كل من يريد الإفتاء، يتكون أعضاؤها من مفتى الجمهورية وشيخ الأزهر ورئيس مجمع البحوث الإسلامية ورئيس محكمة النقض”.وأشار إلى أن : ” مهمة هذه اللجنة ستكون اختبار كل من يريد الإفتاء للناس في الفضائيات وتقدير مدى صلاحيته للإفتاء”جدير بالذكر أن كل من مفتي الجمهورية و رئيس مجمع البحوث الاسلامية و شيخ الأزهر و رئيس محكمة النقض الذين تتكون منهم اللجنة كلهم يتم تعينهم بقرار منفرد من رئيس الجمهورية دون أي قيد أو شرط, و بالتالي فنحن أمام لجنة معينة من رئيس الجمهورية شخصيا تملك منع أو منح المواطن حق الإعلان عن رأيه بدعوى أنه مؤهل أو غير مؤهل, إذن نحن أمام لجنة تشبه لجنة الأحزاب تلك اللجنة التي منعت نشوء أي حزب جديد بدعاوى عدم أهلية البرامج الحزبية المقدمة فلم تسمح بنشوء أي حزب جديد, أو أننا أمام تصاريح جديدة تصدر ظاهريا من مؤسسة دينية بينما أن قرارها الأساسي يصدر من مباحث أمن الدولة كما يحدث في تصريحات الخطابة بالمساجد التي منعت أي أحد لا ترضى عنه أمن الدولة من القاء أي كلمة في مسجد حتى لو كان من كبار الفقهاء الأكاديميين خريجي الأزهر.و قد اعتبر البعض أن المشروع الحالي هو امتداد لمطالبة سابقة من الدكتور علي جمعة مفتي مصر بأن يتم إنشاء مجلس أعلى للإفتاء؛ لمراقبة فتاوى الفضائيات، والدعوة إلى استبعاد غير المؤهلين.و قد رددت مصادر صحفية أن الدافع لتحريك هذا القانون الآن هو مواقف الدعاة المستقلين في الفضائيات أيام أزمة غزة تلك المواقف التي كانت معارضة للموقف الحكومي من الأزمة.وانقسم الأزهريون أنفسهم إزاء القانون المقترح فأيده بعضهم و من أشهر المؤيدين مفتي الجمهورية الدكتور على جمعة ووزير الأوقاف الدكتور محمود زقزوق الذي قال: “كل من هب ودب أصبح يصدر فتوى، ومنهم علماء الفضائيات، ولابد من سرعة إصدار ذلك القانون لردع هؤلاء الذين يصدرون فتاوى تصرف المسلمين عن قضاياهم الأساسية، وتأخذهم للانشغال بقضايا تافهة وفرعية”و في نفس الوقت رفض القانون المقترح العديد من الأزهرين و على رأسهم الدكتور سيد طنطاوي شيخ الأزهر الذي قال في تصريحات صحفية: “لا أستطيع أن أكمم الأفواه، وكل من يريد كلمة حق من فتواه يتحمل حسنتها أو وزرها، ومن يقل فتوى سليمة أشكره ومن يخطئ أنصحه، ولا يمكننى أن أصدر قانوناً يحرم شخصاً من إبداء رأيه، وكل عالم من حقه الاجتهاد، ولكن علينا كمؤسسات دينية، وكعلماء، أن نقدم النصح لمن يصدر الفتوى وأن نرده إلى الدين الصحيح”, كما رفضه الشيخ “السيّد عسكر” عضو مجلس الشعب والأمين العام المساعد السابق لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر مؤكداً أنه وزملاءه أعضاء الكتلة البرلمانية للإخوان، والنواب المستقلين سيقومون بالطعن في دستورية ما وصفه بـ”القانون المشبوه”.وشكّك “عسكر” في نوايا الحكومة من وراء تمرير مشروع القانون، وقال في تصريحات صحفية: “إنها تسعى من وراء إقراره إلى تحقيق أهداف سياسية، وإنه لا يهمها ولا يشغلها على الإطلاق حماية الدين أو الدفاع عنه”.وأضاف: “إن الهدف من ذلك هو تأميم الفتوى، وحصرها في مشايخ السلطة والعلماء الذين يدورون في فلكها ويتقرّبون إليها، بعدما ضاق صدر الحكومة من آراء الفقهاء أو الفتاوى التي تخالف سياستها”.و يثير القانون المقترح العديد من الاشكاليات الواقعية و القانونية و السياسية و الفقهية. فعلى صعيد الإشكاليات الواقعية كانت أبرز الفتاوى التي أثارت استياء الرأي العام في العامين الآخيرين هي:1- “فتوى تحريم الخروج في المظاهرات” و التي أفتت بها الدكتورة سعاد صالح عميدة إحدي كليات جامعة الازهر. 2- “فتوي ارضاع المرأة زميلها في العمل” أفتى بها الدكتور عزت عطية رئيس قسم الحديث بجامعة الأزهر.3- “فتوي التبرك ببول النبي صلى الله عليه و آله و سلم” أفتى بها مفتي الجمهورية الدكتور على جمعة.4- “فتوي جواز افتتاح الفنادق لحمامات سباحة تخصص لاستحمام المرأة باللبن” أفتى بها مفتي الجمهورية الدكتور على جمعة أيضا.و كلها مصدرها علماء من كبار الأكاديميين في الأزهر الشريف و ليس دعاة الفضائيات الذين يسن القانون الجديد لإسكاتهم.أما على صعيد الإشكاليات القانونية فإن القانون المقترح يخالف الدستور المصري, فالدستور المصري يؤكد على حرية التعبير عن الرأي وعدم جواز تقييد هذه الحرية مهما كانت الأسباب؛ حيث تنص المادة 47 من الباب الثالث من الدستور تحت عنوان “الحريات والحقوق والواجبات العامة” على أن “حرية الرأي مكفولة، ولكل إنسان التعبير عن رأيه ونشره بالأقوال أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير في حدود القانون؛ لأن النقد الذاتي والنقد البناء ضمانة لسلامة البناء الوطني”.كما يخالف هذا القانون المواثيق الدولية لحقوق الانسان و هي مواثيق ملزمة لكل دول العالم بما فيها مصر, حيث تنص المادة 18 من الميثاق العالمي لحقوق الإنسان على أن لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنها بالتعليم أو الممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها، سواء أكان ذلك سرا أو مع جماعة.أكما تنص المادة 19 منه على أن لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق آراء دون أي تدخل واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأي وسيلة كانت، ودون تقيد بالحدود الجغرافية”.و بناء على ذلك فيمكن لأي متضرر من هذا القانون أن يطعن بعدم دستوريته أمام المحكمة الدستورية العليا في حال صدوره لمخالفته للدستور و للمواثيق الدولية لحقوق الانسان التي وقعت عليها مصر فصارت في قوة الدستور.أما الإشكاليات السياسية التي يثيرها القانون فهي كثيرة فمنها أن كل المعارضين للقانون سينظرون له على أنه تكميم للأفواه لمصلحة الحكومة مما سيعني معارضة شديدة للقانون على أرض الواقع عبر كسر الدعاة و العلماء الذين يستهدفهم القانون للحظر الذي تريد الحكومة فرضه, فهذا القانون في حال السعي لتطبيقه سيصطدم بواقع مستقر على نطاق واسع جدا واقع إجتماعي و سياسي و ديني, ففئات إجتماعية واسعة ترتبط بمئات الدعاة و العلماء من غير الأزهريين و تتواصل معهم عبر الإنترنت و الفضائيات و شرائط الكاسيت بعدما أغلقت أجهزة الأمن المساجد في وجوههم بدعوى عدم الحصول على تصريح وزارة الأوقاف, و هذه الفئات تصم آذانها إزاء كل ما هو حكومي في مجال الفتوى و شئون الدين و لن تستسلم لأي حظر حكومي إزاء من يثقون فيهم من الدعاة, فماذا ستفعل الحكومة لو أصدرت القانون؟؟من المرجح أن هذا القانون ستصدره الحكومة و من المرجح أيضا أنها لن تطبقه حرفيا خاصة في البداية بل سينضم إلى ترسانة القوانين سيئة السمعة كقانون الإشتباه و قانون العيب و غيرهما, و تظل الحكومة محتفظة به في غمده مع سائر القوانين القمعية لتشهره من حين لآخر بشكل انتقائي ضد الحالات الأخطر بالنسبة لها من الدعاة المعارضين لها, و من ثم يتحسس بقية الدعاة رقابهم أثناء إصدارهم الفتاوى خشية أن تطالها صولة هذا القانون, فيتم تدجينهم (لا قدر الله) بالتدريج فينحسر بالتالي الواقع الاجتماعي الحالي المرتبط بالدعاة و يضعف فتتمكن الحكومة حينئذ من السيطرة عليه, و هكذا ستلتف الحكومة على فورة حماس المعارضين حاليا للقانون و الذين هدد بعضهم بالإعتصام أمام مجلس الشعب بينما هدد أكثرهم بكسر الحظر الذي سيفرضه هذا القانون و لو أدى بهم ذلك إلى السجن.أما الإشكاليات الفقهية أمام هذا القانون فهي كثيرة جدا و جوهرية, و منها أن الاسلام دين فيه قدر كبير من الحرية الدينية و التسامح مع الخلاف الديني و الفقهي فلم يحدد جهة واحدة تحتكر هي الكلام في الدين و الفقه و تحجر على غيرها ذلك, صحيح أن هناك مقومات و شروط للفتوى و المفتي لكن هذه الشروط و المقومات ليست بالضيق و الحجر الإحتكار الذي تهدف إليه الحكومة من سن هذا القانون.و لابد أولا أن نفرق بين الفتوى و بين مطلق الكلام في الدين أو في الشئون العامة انطلاقا من الدين, فالفتوى هي رأي فقهي في واقعة جديدة ليس لها مثيل في نصوص القرآن أو نصوص السنة, و هذا ما يسمى إجتهادا في الفقه أو في الدين و هو له شروطه و مقوماته العلمية الي ينبغي توافرها في المجتهد أو الفقيه الذي يقوم بعملية الإفتاء هذه و سنأتي لتفصيل ذلك فيما بعد.أما لو أن للواقعة مثيل في القرآن أو في الحديث فإن المتكلم أو المبلغ لحكم الدين فيها لا يعتبر مفتيا لأنه مجرد ناقل لآية قرآنية أو حديث نبوي, و هذا ليس له شروط ذات بال لأن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال “بلغوا عني و لو آية” و قال صلى الله عليه و آله و سلم أيضا: “نَضَّرَ اللَّهُ امْرَءًا ، سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا ، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لاَ فِقْهَ لَهُ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ”, فتبليغ شئون الدين الثابتة في الكتاب و السنة لا شروط لها إلا جودة الذاكرة أي القدرة على الحفظ فقط, فهل يحتاج أحد لتصريح ليعمل بهذين الحديثين اللذين يأمران بتبليغ تعاليم الاسلام؟؟و كذلك الكلام في الشئون العامة كأزمة غزة و فلسطين أو حقوق الإنسان و الحريات وغيرها من القضايا العامة السياسية, و كذلك القضايا الاقتصادية كأزمة إحتكار رجال الأعمال للعديد من السلع, أو القضايا الثقافية كهبوط مستوى العديد من الأعمال الفنية و إسفافها أو تدني مستوى التعليم و غير ذلك من القضايا العامة لا يمكن القول أن على من يتعرض للكلام بشأنها من منطلق ديني لابد أن يكون مستجمعا شروط المفتي و حاصلا على إجازة الإفتاء أو تصريح وزارة الأوقاف الذي هو تصريح مباحث أمن الدولة, فهذا شئ لم يحدث أبدا عبر التاريخ الاسلامي بكل عصوره سواء منها العصور المزدهرة أو العصور المظلمة على حد سواء. وحتى الإفتاء في الأمور التي لم يرد فيها نص من قرآن أو سنة فهذا فيه نوع من النقل أيضا, ذلك أن كتب الفقه القديمة و الحديثة فيها ملايين الفاتوى الجاهزة بشأن العديد من الأمور التي حدثت منذ موت النبي صلى الله عليه و آله و سلم و حتى الآن, و كل الفقهاء مجمعين منذ القدم و حتى الآن (بما في ذلك الدكتور على جمعة مفتي الجمهورية) على أنه يجوز لكل أحد عنده القدرة على قراءة هذه الفتاوى و نقلها أن يقرأها و ينقلها لمن سأل عن حكم أمر تتعلق به هذه الفتوى الموجودة في كتاب, و لا يشترط في هذا الذي ينقل أن يكون مفتيا مستجمعا شروط المفتي و لا مقومات المجتهد.و بذا تنحصر الفتيا التي تستلزم شخصا ذا سمات معينة و شروط محددة في مجالات ضيقة, و لا تستلزم إصدار قانون قمعي بوليسي لحصرها, ليس فقط لأنها مجالات محدودة و لكن أيضا لأن الحكام في العالم الاسلامي منذ عصر الخلفاء الراشدين و مرورا بعصور الأمويين و العباسيين و المماليك و العثمانيين و الطوائف و الأيوبيين و جميع الملوك و الأمراء و الحكام الذين حكموا العالم الإسلامي على مر العصور لم يجرؤ أحد منهم على العصف بحرية التعبير الفقهي و الديني عبر آلية محكمة مثل هذا القانون المزمع إصداره.و لابد أن نلاحظ أن التسامح مع التنوع و الحرية الفقهية التي تمثل الفتوى أبرز صورها لا تعني الفوضى, و إصدار الفتوى من قبل كل من هب و دب, و لكن الضابط الذي حدده أكثر الفقهاء لضبط إيقاع الفتوى هو ضابط الرأي العام …. الرأي العام لدى الفقهاء الذين يلفظون بأرائهم كل من أفتى بغير علم أو كثر خطأه أو غفلته و سوء تقديره للأمور….. و الرأي العام للمجتمع ككل الذي يترقب رأى الفقهاء العام و يتلقفه ليتمكن من تمييز الطيب من الخبيث من بين المتكلمين في الفقه و الدين.أما الآلية التي يريد أن يحددها القانون المزمع إصداره فهي آلية لا تتفق مع جوهر و و مقصد الفقهاء من إطلاق حرية التعبير و البحث الفقهي, لأن الفقهاء عندما ذكروا ضابط الرأي العام ذكروا أن هناك طريق آخر لتحديد الفقيه الذي تتوفر فيه شروط الإفتاء و هو طريق إمتحان المفتي و إجازته من قبل العلماء الأقدم منه, و لكنهم مع ذلك حددوا طريق الرأي العام بين مجتمع العلماء كطريق أخر, فلو قال أنصار القانون المزمع أن العصر تقدم و لابد من الإمتحان و الإجازة فيقال لهم لقد كان الإمتحان و الإجازة موجودان في الماضي و مع ذلك أباح الفقهاء ظهور المفتي عبر قبول الرأي العام لمجتمع العلماء له و ذلك حفاظا على حرية البحث الفقهي و حرية التعبير عن الرأي الفقهي لئلا يصبح الفقه فقه حاكم أو صاحب سطوة. صحيح أن بعض الفقهاء الأحناف قد نصوا قديما على جواز منع إفتاء من أسموه بالفقيه الماجن أي الذي يفتي بغير علم, و لكن هذا رأي فريق محدود أولا, و ثانيا ما هي الضمانات التي تكفل سلامة التطبيق في ظل الإتجاه القمعي البوليسي الذي يسير وفقه نظامنا الحاكم و الكثير من النظم الحاكمة في العالم الاسلامي و التي تريد عبره مصادرة الدين و احتكاره لصالحها و تكميم أفواه كل معارضيها بدعاوى متعددة.ثم إذا حجر نظامنا الحاكم على الفقيه الماجن فمن يحجر على مجون نظامنا الحاكم الذي ولى نفسه هذا الحكم بالقمع و التزوير؟؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر في العدد الأسبوعي من جريدة الدستور بالقاهرة 18 فبراير 2009 .

إسرائيل تقصف غزة - صورة أرشيفية

إسرائيل أغرقت العرب فى بحر من نار و ذل و دم .. فما هو الحل؟

(1)

إسرائيل تحرق غزة و العالم كله يتفرج بلا حراك.. شئ طبيعي فإسرائيل لها نفوذ بالغ على العالم كله بما يمنع أي حكومة في العالم من أن تفتح فمها بكلمة لوم واحدة على الإجرام الإسرائيلي.

إذن فما الذي يجعل العالم الاسلامي ساكتا كغيره؟

الاجابة بسيطة فحكوماته رهينة أيضا لتأثير النفوذ الاسرائيلي، فلا أمل فيها.

أما شعوب الأمة الاسلامية فهي الأمل الوحيد و هي موضوعنا الذي سنتكلم فيه، و لكن قبل أن نتكلم عن الأمة لا بد من الاشارة لأمر هام جدا و هو أن المذابح و المحارق الاسرائيلية للعرب عامة و الفلسطينيين بصفة خاصة بلاء مزمن بدأ منذ 1948م و حتى الآن، و لم تنجح كل الطرق و الأساليب العربية منذئذ و حتى الآن في التصدي للمشروع الصهيوني و منعه من تحقيق أهدافه، و من هنا كانت أهمية رفض كل الوسائل التي سلكها كل من تصدي لاسرائيل من القادة العرب منذئذ و حتى الآن، من مثل الاعتماد على الأمم المتحدة أو مجلس الأمن أو الدول الكبرى أو المجتمع الدولي أو المنظمات الدولية أو الاقليمية بما في ذلك جامعة الدول العربية و القمم العربية و مبادرات السلام، و القرارات الدولية و …الخ، فكل ذلك لم يجد نفعا طوال ستين عاما أغرقت فيها اسرائيل العرب في بحر من نار و ذل و دم.

و هذا لا يعني أن نقبل فقط ما طرحته و تطرحه القوى الشعبية العربية من تحركات معتادة كالمظاهرات و الهتافات و الخطب و الشجب والتنديد و نحو ذلك، لأن ذلك كله جربناه أيضا طوال ستين عاما دون جدوى اللهم الا مزيدا من الذل و القهر نترجعهما صباح مساء بطعم العلقم.

اذن فما الحل؟

الحل بيد الشعوب العربية و الاسلامية لكنه حل مختلف عن كل ماسبق، اذ يجب أن تسفعنا النار التي تصلاها غزة لنستيقظ و ننخلع من نمطيتنا التي اعتادت العجز، فننطلق في آفاق التغيير و الاصلاح و من ثَمَ إيقاف المحرقة و المقصود ليس المحرقة الدائرة منذ أيام بل الدائرة منذ 60 عاما ليس في غزة وحدها بل في كل أنحاء العالم الاسلامي.

(2)

الأمة الاسلامية ليست فقيرة في مقومات القوة بل بالعكس هي ثرية في هذه المقومات، لكنها تعيش عصر تدهور سياسي كالذي عاشته أيام الحقبة الصليبية، فعندما هاجم الصليبيون المشرق العربي لم تكن الأمة فقيرة لكنها كانت مبتلاة بحكام مبددين و مستبدين و فاشلين، فهم مبددون بددوا ثروات الأمة و نهبوها، و هم مستبدون انفردوا بالحكم بعيدا عن إرادة الأمة و اختيارها، و هم فاشلون لأنهم فشلوا في كل شئ عدا قمعهم شعوبهم.

كانت الأمة الاسلامية في عصر الهجمة الصليبية وافرة العدد و العدة تملك المال و الرجال و السلاح و الحصون لكنها لم تملك القيادة التي يمكنها أن توظف هذا كله في أي شئ مفيد لأمتها، لقد اقتصرت مهاراتهم فقط على قهر شعوبهم و قمعها و الاستئثار بالحكم دونها.

نفس الشئ نجده اليوم.. الأمة الاسلامية غنية بمقومات القوة لكنها ابتليت بحكام يجثمون على صدورها و لا وظيفة لهم الا قمع شعوبهم و الاستئثار بثروات بلادهم و حراسة المشروع الصهيوني و الغربي في المنطقة بل في العالم، فحكامنا حائط الصد الأول ضد الشعوب الاسلامية المناهضة للمشروع الصهيوني و الغربي.

حكامنا المتشددون

و من لا يصدق هذا فليتفحص مواقف حكامنا المتشددين و ليس المتهمين بالتواطؤ مع اسرائيل، سنجد أن متشددي حكامنا اليوم جل جهدهم الآن هو الدعوة لعقد قمة عربية طارئة، و دعوة مجلس الأمن الدولي لادانة العدوان الاسرائيلي على غزة، و دعوة الدول العربية المطبعة مع اسرائيل لقطع علاقتها معها أو سحب سفيرها منها!!

بل إن حاكم سوريا زعيم التشدد العربي المزعوم منذ 35 عاما لم تطلق قواته طلقة واحدة تجاه اسرائيل، رغم عربدة قوات اسرائيل مرارا في أرضه و سمائه حتى أن الطائرات الحربية الاسرائيلية اعتادت التنزه فوق القصر الجمهوري السوري من حين لآخر دون أن يطلق عليها طلقة واحدة!!

هذا هو حال حكامنا المتشددين و منه تتبين حال غيرهم من المتنازلين أو المعتدلين أو الموالسين أو ….الخ.

و من هنا يظهر جانب من الأزمة و هي أزمة القيادة، و لكن ليس الأزمة كلها أزمة قيادة، فهناك أزمة في الشعوب نفسها، كما أن حل أزمة القيادة هو مسئولية الشعوب نفسها، فلا بد أن تخرج من الشعوب قيادة جديدة.

(3)

أزمة القيادة في العالم العربي

إذا كنا تبينا أننا نعيش أزمة قيادة، فلابد أن نلاحظ أنها ليست أزمة قيادة في النظام الحاكم فقط بل هي أيضا أزمة قيادة بين علماء الإسلام ، و أزمة قيادة داخل الحركة الإسلامية الواسعة بكل تياراتها، و أزمة قيادة داخل تيارات المعارضة بكل أطيافها فالقيادة في هذه التجمعات كلها عاجزة عن التعامل بشكل ناجح مع التحديات المفروضة، هم يحاولون و يجتهدون، لكن حتى الآن لم تظهر القيادة المبدعة التي تستطيع أن تتغلب على العقبات و التحديات المفروضة على امتنا العربية و الإسلامية، نعم هناك تآمر دولي و إقليمي و محلي لمنع هذه الأمة من أن تنهض من جديد و لكن هذا التآمر هو أحد التحديات الكبرى التي يتوجب على القيادة الفذة أن تواجهها و تتغلب عليها.

و إذا كنا نتكلم عن أزمة القيادة و القيادات فينبغي أن نلاحظ أيضا أزمة الأمة أو الشعب أو الجنود، فالله تعالى سيحاسب كل شخص بمفرده عن عمله الشخصي، صحيح أن الحساب يكون بقدر الامكانات و القدرات فحساب العالم ليس كحساب الجاهل و حساب الصحيح ليس كحساب المريض، و لكن في النهاية فالكل سيحاسب عن العمل الشخصي و عن العمل العام، و هناك واجبات عامة على كل مسلم ينبغي أن يقوم بها في الفضاء العام و ذلك من شعب الإيمان التي ذكر النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله و أدناها إماطة الأذى عن الطريق، ومن العمل العام رفع الظلم و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بما في ذلك المنكر السياسي و الاقتصادي و المعروف السياسي و الاقتصادي، لا سيما أن المسلم مفروض عليه حفظ مقاصد الإسلام الضرورية الستة و هي بالترتيب:

الدين.

و النفس.

و العقل.

و العرض.

و المال.

والنسل.

و من هنا يمكننا أن ندرك حجم الأزمة في صفوف الشعب المتمثلة في السلبية العامة و عدم السعي للاشتغال بالعمل العام خاصة ما كان منه مختص بالعمل الديني أو السياسي الإصلاحي.

و لكن حتى لا نغالي في تحديد حجم خطيئة الشعب في سلوكه مسلك السلبية تجاه الشأن العام لابد أن نشير لحجم القمع السياسي الذي تعرض له الشعب عبر سنوات طويلة، و من هنا نعود مرة أخرى لدور النخبة (أي القيادة و الناشطين البارزين) التي ينبغي عليها تجاوز هذا التحدي.

(4)

كيف نوقف محرقة غزة؟

الحاصل فيما يتعلق بموضوعنا الراهن و هو محرقة غزة أننا نحتاج لعمل ذي أهداف بعيدة المدى بجانب الأعمال قريبة المدى، لأن الأعمال قصيرة المدى أثبت الواقع و التاريخ أنها غير مؤئرة فالمحارق و المصائب مازالت تحيق بالمسلمين منذ مئات السنين و لم تجد المواقف و الأعمال قصيرة المدى شيئا، و ما أكثر الاحتجاجات الجماهيرية المناصرة لقضايا المسلمين الدولية و الاقليمية و المحلية و مع ذلك يسير أعداء الأمة بخطى ثابته و يحققون أهدافهم باطراد يحسدون عليه.

أما نحن فنصيبنا الهزيمة و الصياح… نعم لابد من العمل العام و لا بد من الاحتجاج و لابد من السعي للضغط من أجل مناصرة اخواننا المسلمين في كل مكان، و لكن يتحتم ألا يشغلنا ذلك عن العمل طويل المدى بخطى راسخة من أجل النهوض بالأمة نهضة حضارية كبرى تستعيد بها أمجادها التليدة، و لن يتم ذلك الا بأن نجهز اجهازا تاما على أمراضنا الحضارية و الدينية، فنتخلص من قابليتنا للاستعمار و قابليتنا للاستبداد و قابليتنا للظلم و قابليتنا للجهل.

و ذلك لأن أحد أمراضنا الكبرى أن العمل اليومي يستغرقنا و يعوقنا عن العمل بعيد المدى أو العمل الاستراتيجي، و بذا يستنزفنا أعداؤنا باطراد.

و لنتذكر جميعا ما يحدث لنا مع كل حادث أليم تصاب به أمتنا فنجد منا الغضب و الصياح و التظاهر و بعد قليل من أيام أو شهور نمرض بمرض التعود على الألم و التعايش معه و نهدأ و ينتهي صياحنا و مظاهرتنا و في نفس الوقت يترسخ الألم و تتعمق المصيبة و تصبح جزءا من كياننا، فالأراضي المحتلة محتلة و الحكام المستبدون يزدادون استبدادا و قمعا لشعوبهم، فلنحطم التعود و التعايش مع المشاكل و المصائب كي نوجد لها حلولا جذرية و حقيقية و لا نكتفي بالمحاولات الاحتجاجية و الاصلاحية قصيرة المدى قصيرة النفس كيلا تحترق غزة و فسطين و العراق و أفغانستان و كل بلاد الاسلام مرات أخرى في الأعوام القادمة.

العالم الاسلامي

في آفاق التفكير الاستراتيجي و السياسى الإسلامى

يعتبر التفكير الاستراتيجي من أصعب أنواع التفكير ليس لكثرة قوانينه و قواعده وتشعبها و تشابكها مع العديد من العلوم الإجتماعية الأخرى و لكن بسبب أنه يحتاج قدرة كبيرة على التخيل الواقعي لمدى زمني و جغرافي كبير، بجانب استلهامه دروس التاريخ على مدى زمني كبير يشمل كل الزمن و على مدى جغرافي كبير يشمل كل العالم.

و السياسة و فكرها تلي التفكير الاستراتيجي في الصعوبة فهي رغم صعوبتها تمثل صعوبة أقل قليلا من التفكير الاستراتيجي، و هذا الفرق البسيط يتلاشى لأنه كثيرا ما تندمج السياسة بالاستراتيجية.

التأمل السياسي والاستراتيجي

على كل حال فهذه كانت مقدمة لابد منها للدخول لموضوعنا الذي هو عدد من الأفكار هدفها الدفع للتأمل السياسي والاستراتيجي من منطلق المعايير الفقهية المستقرة في مجال السياسة الشرعية، إنها دعوة لإطلاق الفكر للتأمل في آفاق السياسة و الاستراتيجية الإسلامية بأسلوب سهل يستفيد منه الجميع و يدركه و يتفاعل معه غير المتخصص ان شاء الله.

و مما يسهل عملية التفكير الاستراتيجي أن يتخيل المتفكر ما هي أهدافه و تصوراته النهائية التي يريد أن يصل اليها، و في حالة الحركة الاسلامية بكافة فصائلها الحيوية فالهدف هو إعادة الخلافة على منهاج النبوة، و التصور النهائي هو دولة إسلامية واحدة تضم كافة الأراضي الاسلامية التي يمثل فيها المسلمون أغلبية الآن.

و هذا التصور سيفرض عليك تخيل شكل هذه الدولة، و الذي سنتعرض له في هذا المقال جانب من الشكل السياسي و ليس كل الجوانب السياسية و نقصد به البناء السكاني للدولة إن جاز التعبير.

و المتأمل للرقعة الإسلامية المرجو توحيدها تحت راية خلافة راشدة على منهاج النبوة يجد أنها تضم أجناسا و أعراقا شتى و أديانا شتى و مذاهب فقهية متعددة و عقائد ومذاهب متنوعة داخل الدين الواحد.

أجناس و أعراق المسلمين

فمن حيث الأجناس و الأعراق سنجد تمثيل لمعظم الأجناس و الأعراق الاثنية المختلفة الموجودة في العالم، نعم سنجدها كلها موجودة و ممثلة في العالم الاسلامي (الدولة الاسلامية الواحدة)، كما سنجد الأديان السماوية كاليهودية و النصرانية موجودة بنسب كبيرة من عدد السكان بجانب الأغلبية المسلمة، و سنجد الأديان غير السماوية كالمجوسية و الصابئة (و ان كان لبعض الفقهاء رأي بأنهم من أصول سماوية محرفة)، كما سنجد الوثنيات المختلفة كما في جنوب السودان و في أجزاء اخرى من أفريقيا و أسيا (عباد البقر و البوذية و التاوية و غيرها).

مذاهب المسلمين

اما المسلمون فسنجد جميع مذاهبهم الفقهية كالشافعية و الأحناف و الحنابلة و المالكية و الظاهرية و غيرهم، كما سنجد جميع فرقهم العقيدية كالسنة و الشيعة و الخوارج و الصوفية و المعتزلة و الاشاعرة، سنجد هذه المذاهب و الفرق الاسلامية بكثرة و بنسب كبيرة جدا من عدد السكان.

و سنجد الكثيرين من المسلمين المخلصين الذين تلوثت عقولهم بأفكار غريبة عن الاسلام بسبب الغزو الفكري الغربي السابق.

فكيف تكون علاقة كل هذه الأعراق و الملل و النحل و المذاهب ببعضهم البعض من ناحية و بالدولة التي تحكمهم من ناحية أخرى (دولة الخلافة النبوية)؟؟

الخبرة الإسلامية التاريخية

من يرد تصور هذا المشهد بطوله و عرضه و عمقه سيحتاج استدعاء الخبرة الإسلامية التاريخية حول ذلك في عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم و عصر الخلفاء الراشدين الأربعة رضي الله عنهم أجمعين، كما أنه سيمر مرورا سريعا بقدر قليل من التريث على الخبرة الاسلامية في العصر الأموي و العصر العباسي الأول لكن مروره على هذين العصرين سيكون مرورا حذرا باستثناء عصر عمر بن عبدالعزيز الذي يشبه عصر الراشدين في التزامه بالأسس و المعايير الإسلامية.

و في هذا التأمل سنلاحظ التسامح الإسلامي مع التنوع الديني و العرقي و المذهبي في إطار من الحزم و الوحدة، و سيتأمل حرية الرأي و حرية الفكر و حرية التعبير الكبيرة، سيجد وحدة مقترنة بالتنوع و حزما مقترنا بالتسامح و حرية منضبطة بالثوابت الإسلامية.

زيارة الى المستقبل

و لسنا بصدد تفصيل هذا الآن و لكن نريد فقط أن نتحرك بأفكارنا في رحلة الى المستقبل يصحبها عبق الماضي التليد بأمجاده الموضوعية العملية و ليست فقط أمجاده الوجدانية و الحماسية كي يمكننا أن نتغلب على الفكر القاصر الذي يبتعد كثيرا عن أدنى أبجديات التفكير الاستراتيجي و السياسي المنضبط بضوابط الشرع الاسلامي.

لابد في هذه الرحلة أو الزيارة الى المستقبل أن نتخيل متطلبات الدولة الإسلامية الناجحة من تجانس و تعايش اجتماعي و شعبي و من استقرار سياسي و اقتصادي و من تكاتف و تكافل اجتماعي و اقتصادي شامل ومن تقدم و تنمية و تطور مستمر في كافة المجالات.

و بعدما نتخيل كل هذا و نحدد معالمه الرئيسة لابد أن نعود إلى واقعنا المعاش و نرتب خططا و تصورات و مناهج و مواقف تنبني على مقتضيات التفكير المستقبلي الذي حددناه بزيارتنا للمستقبل بعقولنا على النحو المذكور آنفا، و مجموع هذا كله سيمثل البناء المتكامل لفكرنا السياسي و الاستراتيجي.

الضوابط و القواعد الفقهية

و عندما نتم ذلك كله في إطار من الضوابط و القواعد الفقهية، سنتمكن من الوصول الى مستوى ناضج من التفكير السياسي و الاستراتيجي الإسلامي، كما سنستطيع أن نرتقي بوجداننا الى مواكبة هذا النضج السياسي والاستراتيجي مما يساهم في جعل أعمالنا في نفس مستوى تفكيرنا من النضج و العمق، لأنه أحيانا يكون تفكيرنا منضبطا شرعيا و إستراتيجيا و لكن وجداننا و مشاعرنا تكون على حالة مختلفة، لذلك لابد من التوحد بين التفكير و الوجدان.

 و هذا المستوى من الفكر و الوجدان سيغير من طبيعة أعمالنا و أنشطتنا المعاصرة لأنه سيكون منطلقا جديدا من أرض جديدة عقليا و وجدانيا، ليست جديدة فقط في صلابتها و لكن أيضا جديدة في طبيعة و أنواع مكوناتها.

و اذا كنا فيما مضى من سطور قد بسطنا سبيلا للتفكير السياسي و الاستراتيجي، فان سؤالا يطرح نفسه بشكل طبيعي بعد كل هذا الكلام و هو:

كيف يتمكن المرء من ممارسة هذا النوع من التفكير أو بتعبير أدق ما هي الأدوات العلمية التي تساعد المرء على سلوك هذا المسلك من التفكير؟

أول هذه الأدوات هو فقه السياسة الشرعية فهو القاعدة الأساسية في ضبط التفكير بالمعايير الشرعية في السياسة و الإستراتيجية خاصة فيما يتعلق بالقواعد و الضوابط الفقهية في مجال السياسة و الاقتصاد و الإستراتيجية، و ينبغي الاهتمام بأصول الفقه لأنه منهج الفهم و الاستنباط لكل ما ذكرناه من موضوعات شرعية كما أن التركيز على باب مقاصد الشريعة أمر هام جدا في مجال الاستفادة بعلم أصول الفقه كأداة من أدوات التفكير السياسي و الاستراتيجي.

 و يلزم الذي يبحث في السياسة و الإستراتيجية أن يلم الماما مناسبا بفهم صحيح لعلوم العقيدة و الملل و النحل، و التاريخ الاسلامي و التاريخ بعامة، بالاضافة لعلوم الاقتصاد السياسي والاجتماع و جانب من الجغرافيا البشرية.

هذا كله فضلا عن علمي السياسة و الإستراتيجة الذين هما لب تخصصه.

لكن هذا كله لا يشغلنا عن أمر مهم و هو القدرة العالية على التخيل و التوقع من خلال الأطر العلمية المذكورة.

التناقضات الدولية

المسلمون و التناقضات الدولية المقبلة

خلال السنوات القليلة القادمة سوف يتبلور نظام دولي جديد، وسيكون متعدد الأقطاب، و تعدد أقطاب القوى الدولية يعكس في حقيقة الأمر شكلا من أشكال الاختلاف أو التناقض الدولي، فماذا يفعل المسلمون ازاء هذا الوضع الجديد في السياسة الدولية؟؟

تعدد الأقطاب في النظام الدولي

إن تعدد الأقطاب في النظام الدولي بما يصحبه من تناقضات و اختلافات دولية يحمل بين طياته العديد من الفرص و المخاطر، و لندع المخاطر جانبا في هذا المقال و لنركز على الفرص.الفرص تتمثل في امكانيات تبديد قوى العدو و استنزافها بل تحجيمها باستغلال مساندة قوة قطب آخر متناقض مع العدو، كما تتمثل في الحصول على فوائد من أحد الأقطاب بحجة التحالف معه ضد قطب أخر أو بحجة نبذ التحالف مع عدوه من الأقطاب الأخرى.و رغم أن النظام الدولي متعدد الأقطاب يتيح فرصا أكبر من النظام ثنائي القطبية الا أن العديد من القوى الدولية الصاعدة الآن و التي من المنتظر أن تلعب دورا كبيرا كأقطاب دولية في النظام الدولي الذي نقف على أعتابه استفادت من الثنائية القطبية بين الاتحاد السوفيتي السابق و الولايات المتحدة في بناء قوتها الذاتية الاستراتيجية و الاقتصادية و التكنولوجية و من هذه الدول: الهند و الصين و الكوريتين و تايوان و اليابان و ودول الاتحاد الأوروبي و البرازيل و جنوب أفريقيا.

الهند و كوريا الشمالية

فالهند و كوريا الشمالية استفادتا من علاقاتهما بالاتحاد السوفيتي السابق في بناء قوتهما العسكرية الذاتية القائمة على تصنيع محلي الى حد كبير لا سيما في مجال الأسلحة الاستراتيجية كالصواريخ متوسطة و بعيدة المدى و الأسلحة النووية و الكيميائية و جانب من قطع الغيار المهمة و أسلحة ثقيلة اخرى، و كذلك فعلت الصين في سنوات نشأتها الأربع الأولى و التي حازت فيها ركيزتها الصناعية العسكرية الرئيسة و الأولى في الصواريخ و الطائرات و الدبابات و الأسلحة النووية عبر علاقاتها السوفيتية فصنعت نسخا صينية بحتة من الطائرات و الدبابات و الصواريخ السوفيتية في هذا الوقت، هذا بجانب استفادتهم جميعا في مجال دعم قواهم الاقتصادية و التكنولوجية بعامة.

اليابان و دول الاتحاد الأوروبي و البرازيل و جنوب أفريقيا 

كوريا الجنوبية و تايوان و اليابان و دول الاتحاد الأوروبي و البرازيل و جنوب أفريقيا استفادوا جميعا من علاقاتهم بشكل أو بأخر بالولايات المتحدة الأمريكية القطب المناوئ و المنافس للإتحاد السوفيتي السابق فانتفعوا في تطوير اقتصادياتهم و تصنيعهم و تعليمهم و تسليحهم مما أهلهم الآن للعب دور محوري في نظام دولي جديد متعدد الاقطاب.الهند التي كانت حليفة للاتحاد السوفيتي السابق سرعان ما استوعبت حقيقة انهياره فنقلت صداقتها الى السيد الأوحد (الولايات المتحدة) لتواصل تطوير اقتصادها و تصنيعها وتسليحها كما استفادت من مرحلة الانهيار السوفيتي بأن اشترت منه سلاحا و تكنولجيا متقدمة جدا بأثمان زهيدة.

الصين

الصين عندما قاطعها الاتحاد السوفيتي في منتصف الخمسينات تقريبا ظلت محاصرة نسبيا من القوتين العظميين الى أن نجحت في اقامة علاقات مع الولايات المتحدة مطلع السبعينات لتستفيد اقتصاديا و سياسيا و بدرجة كبيرة تكنولوجيا.هكذا تستفيد الدول و القوى من السياسة الدولة و تعدد الأقطاب فيها.

أما في عالمنا العربي و الاسلامي فلا تكاد تجد نموذجا يشبه هذه النماذج التي بنت مستقبلها بتخطيط و تنفيذ استراتيجي دقيق، ففي حالة مصر التي بدأت عهدا جديدا بانقلاب 23 يوليو 1952 م بفارق ثلاث سنوات فقط عن نشأة دولة الصين الشعبية التي نشأت بالثورة الشيوعية عام 1949م و في طور نشأة دولة الهند (استقلت عن التاج البريطاني عام1947م و أعلنت الجمهورية 1950م) مع ذلك فالمقارن لحال الهند و الصين اليوم من جهة و حال مصر من جهة أخرى لا يجد وجها للمقارنة لا اقتصاديا و لا تكنولوجيا و لا استراتيجيا.

الثنائية القطبية

و هكذا استفادت العديد من القوى الدولية بالثنائية القطبية سابقا مما يشير الى استفادة قوى دولية عديدة في المستقبل القريب بالتعددية القطبية المنتظرة في النظام الدولي الجديد، لكن ذلك يشير ايضا لعدم استفادة القوى العربية و الاسلامية بهذه التعددية القطبية المنتظرة بالضبط كما لم يستفيدوا بالثنائية القطبية السابقة.

أما الحركة الاسلامية بكافة أطيافها الفكرية فهى لا تكاد تلقي بالا لهذه الأمور رغم اهميتها.

استفادة النبي صلى الله عليه و آله و سلم من التناقضات الدولية

و لعل من المفيد هنا ان نشير في عجالة ليس فقط الى استفادة النبي صلى الله عليه و آله و سلم من التناقضات الدولية بل و سعيه الى خلق هذه التناقضات كي يستفيد منها:

فمن أمثلة استفادته بالتناقضات الدولية القائمة اقامته صلى الله عليه و آله و سلم للتحالفات مع القبائل المحيطة بقريش من عدة جوانب مما سهل له عملية حصار قريش اقتصاديا مما أدى بعد عدة سنوات لعقد هدنة صلح الحديبية مع قريش بعدما عضتها الحرب و الحصار الاقتصادي النبوي.

أما من أمثلة خلقه للتناقضات الدولية كي يستفيد منها في عمله السياسي و الاستراتيجي فهو ما فعله أيام غزوة الأحزاب من تسريبه معلومات حددها بدقة زرعت بذور التناقض و الشقاق بين يهود خيبر و قريش مما فصم عرى التحالف بينهما، ذلك التحالف الذي كان قادرا بأن يهدد دولة المدينة استراتيجيا لو أنه استمر قائما.

كذلك فإن من أمثلة سعي النبي صلى الله عليه و آله و سلم لخلق التناقضات الدولية بين اعدائه ما حاوله من بذل جزء من ثمار المدينة لثقيف مقابل تخليهم عن تحالفهم مع قريش و تركها و الرجوع عن غزو المدينة أيام غزوة الخندق.

و لعل الاشارة الأقوى في هذا المجال تأتي من ان النبي صلى الله عليه و آله و سلم عندما أملى نص وثيقة صلح الحديبية، فنص فيها على بند غاية في الأهمية فيما يتعلق بموضوعنا، و هذا البند هو الذي يقول أن من أراد أن يدخل في حلف مع قريش فليدخل و يصير بذلك ملتزما بموقف قريش في الاتفاقية، و من أراد أن يدخل في حلف مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم فليدخل و يصير بذلك ملتزما بموقف النبي صلى الله عليه و آله و سلم في الاتفاقية، ليعزز بهذا النص حالة الاستقطاب بين القبائل ما بين محالف للنبي صلى الله عليه و آله و سلم، و ما بين محالف لقريش تمهيدا لساعة الحسم التى حانت فيما بعد يوم فتح مكة، عندما سار النبي صلى الله عليه و آله و سلم اليها بعشرة آلاف مقاتل كثير منهم كانوا من القبائل التي دخلت في جانب النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أسلمت و اطاعته.

الفتنة الطائفية فى مصر - صورة أرشيفية

مصر و الفتنة الطائفية .. إلى أين؟

تصاعدت حدة التوتر الطائفي في مصر في الأونة الأخيرة بين المسلمين و الأقباط، فلا يكاد يمر أسبوع في مصر الا و يحدث فتنة طائفية ما في قرية أو مدينة ما من قرى او مدن مصر، و يسهل على أي مراقب أن يتابع التوترات الطائفية بشكل يكاد يكون يومي عبر وسائل الاعلام المتعددة التي باتت تتناول هذا الشأن بصراحة كبيرة.

و تعتبر المعارك الكلامية من أخطر هذه التوترات، اذ أصبحت القضايا الطائفية يجري طرحها بصراحة و حدة كبيرة فخرج المشهد عن الصياغات الدبلوماسية و تعبيرات المجاملة التى كانت سائدة في الماضي إلى المطالب الطائفية الصريحة من قبل المسيحيين، و الاتهامات الطائفية الخطيرة جدا من جانب المسلمين.

فنجد من الأقباط من يعلن صراحة رفض تطبيق الشريعة و رفض النشاط السياسي للاخوان و يبرر تكتل الطائفة القبطية وراء زعامة بطريرك الأقباط شنودة الثالث بسبب شعار “الاسلام هو الحل” و بسبب نشاط الاخوان المسلمين السياسي و دخولهم مجلس الشعب.

و نجد من المسلمين من يهاجم الأقباط و يتهمهم بالسعي لحكم مصر عنوة كما يتهمهم بالتدريب على السلاح و تخزينه ليوم حرب أهلية طائفية منتظرة بسبب رغبة الأقباط في اطلاق شرارتها بمساندة الولايات المتحدة و الغرب.

و تعتبرشبكة الانترنت ميدانا هاما من ميادين التوتر و الصراع الطائفي المتأجج بين المصريين من مسلمين و أقباط ليس فقط على المدونات و موقع الفيس بوك و المنتديات و البالتوك والمجموعات البريدية و لكن أيضا في مجال التعليق على الكتابات المختلفة في سائر المواقع الالكترونية لسائر وسائل الاعلام.

و تأتي خطورة هذه المعارك الكلامية من أن أطرافا ليبرالية ذات شأن لم تكن محسوبة في يوم من الأيام على الحركة الاسلامية باتت تنتقد زعامة الأقباط و ممارستهم السياسية، و من أبرز هذه الأطراف في الأونة الأخيرة طارق البشري و فهمي هويدي و مصطفى بكري و ابراهيم عيسى، و كان الأخير قد دعا شنودة الثالث لفتح باب الكنيسة ليخرج منها الأقباط إلى الوطن بدل من ان يخرجوا من الوطن ليدخلوا الكنيسة.

و قد أصابت انتقادات هذه الرموز الفكرية و السياسية الليبرالية الأقباط بتوتر شديد جدا لأن الليبرالين مازالوا ورقة التوت التي يخفي بها كثير من الأقباط مطالبهم الطائفية.

تطبيق الشريعة الاسلامية

تحكيم الشريعة الإسلامية في مصر… رد على ماجد عطية

وصلنا من الأستاذ ماجد عطية (رئيس تحرير جريدة وطني سابقا) تعليقا على موضوع “63% من المسيحيين يؤيدون تطبيق الشريعة الاسلامية”، فوجدنا أنه من حق القارئ علينا أن نعلق على التعليق في نقاط حتى تزداد الأفكار وضوحا على النحو التالي:

أولاً: ركز الأستاذ ماجد في تعليقه على أن استطلاع الرأى الذي ذكرناه في الموضوع قديم جدا و يرجع لعصر الرئيس السادات و يرتكز على أهوائه في اظهار الدولة على أنها اسلامية، و الحقيقة أن استطلاع الرأي لم يبدأ العمل في اعداده أيام السادات بل بدأ تحديدا عام 1982م و تم الانتهاء منه عام 1984م ثم جرى نشره عام 1985م، فهو ليس بالقدم الذى ذكره أ/ ماجد، كما أنه في عصر الرئيس مبارك، وقد سقط سهوا تاريخ الاصدار (1985م) أثناء تحرير الموضوع، و لم نعتمد على هذا الاستطلاع وحده بل اعتمدنا على استطلاع حديث جدا أجراه معهد جالوب الأمريكي وهو قد أجرى فى صيف 2007 وأعلن عنه هذا الصيف 2008م في كثير من وسائل الاعلام فلو أن علة الرفض عند أ/ ماجد القدم فها هو الحديث يؤيد القديم.

ثانياً: من مرتكزات ماجد عطية في الطعن على تقرير المركز القومي للبحوث كون الذى أشرف على البحث «صلاح عبد المتعال» و هو من الاخوان المسلمين حسب قوله، لكن حقيقة الأمر أن الذي أشرف على البحث الدكتور “أحمد المجدوب” و ليس “صلاح عبد المتعال” و يمكن للأستاذ ماجد أن يرجع لسجلات المركز ليطمئن قلبه. ثالثا: استدل ماجد عطية على صحة طعنه في البحث أن جريدة الدعوة الناطقة بلسان الاخوان قد احتفت بالبحث، و رغم أن هذا خطأ واضح في الاستدلال، إلا أنه فاته أن جريدة الدعوة كان قد صادرها الرئيس السادات في 5 سبتمبر 1981م أي قبل صدور البحث بأكثر من أربع سنوات، فكيف تحتفي بالبحث و هي موقوفة؟!

ثالثا: إذا كان الأستاذ قد ذكرنا مشكورا بأصول العلمية والمهنية فقد كان عليه أن يرفق برده صورة من غلاف وصفحة مجلة الدعوة التى قال أنها رحبت بالتقرير (رغم تأكيدنا الجازم أن هذا العدد غير موجود أصلا) فضلاً عن أن ترحيب أى وسيلة إعلام بخبر ما لا يعنى نفيه أو تكذيبه بل العبرة بالواقع الحقيقى وليس بمن أيد أو رفض.

رابعاً: ألمح أ/ ماجد بما يشبه التصريح فى رابعاً إلى فبركة الاستطلاع ولم يذكر لنا دليلاً واحداً على ذلك.

وطبعاً ليس من المفيد أن ننفى بغير دليل واقعة ثابتة فالاستطلاع صدر باسم المركز وطبعه ووزعه المركز فلابد لمن يريد أن يطعن فيه أن يأتى بدلائل تفوق ذلك قوة مثل استطلاع آخر أجراه مركز أخر بنفس قيمة وموضوعية مركز البحوث و تكون نتيجته مختلفة.

خامساً: تطرق أ/ ماجد لما أسماه بعربدة التطرف فى طول البلاد وعرضها، ورغم خلافنا مع ما طرحه من كون سلاح المتطرفين قد وجه فقط للمسيحيين بينما الحقيقة أن أغلب من تم قتلهم هم من المسلمين سواء الشرطة أو الإداريين أو أبناء الجماعات الاسلامية نفسها أو حتى المارة فى الشارع ولم يكن هذا السلاح يستهدف بالأساس المسيحيين بعكس ما قاله أ/ ماجد وبعيداً عن الدخول فى مناقشة هذه القضية فنحن نسأل أ/ ماجد ما علاقة ذلك باستطلاع رأى جميع الشعب (مسلمين و مسيحيين) عن تطبيق الشريعة و كلامنا لا علاقة له لا بتطرف ولا بفتنة طائفية نحن نتكلم عن رأى الشعب ولو كان رأى الشعب غير هذا لذكرناه فنحن لم نوجه الشعب لرأى بل ذكرنا رأيه بكل تجرد.

سادساً: وهذا يدفعنا لأن نوجه لـ أ/ ماجد سؤالاً مشروعاً مشوباً بريبة مشروعة أيضاً وهو أننا اعتمدنا فى ذكر رأى الشعب على تقريرين الأول للمركز القومى للبحوث الاجتماعية «وهو مركز أكاديمى تابع للحكومة المصرية» والثانى تقرير مركز جالوب الأمريكى ذى الشهرة والثقة العالمية الواسعة فلماذا ركز فى رده على المصرى ولم يرد بكلمة على تقرير مركز جالوب الذى أتى بنفس النتائج هل لأن مركز جالوب أمريكانى ولا يمكن همزه ولمزه بالولاء للإخوان المسلمين أو غيرهم؟!

على العموم نحن نعتبر أن عدم رده على تقرير جالوب يعني أنه موافق عليه وهذا التقرير رأى أن 91% من المصريين يؤيدون تطبيق الشريعة واعتبر 85% من المؤيدين هؤلاء أن الشريعة تحمى حقوق الأقليات ورأى 97% منهم أنها تحمى حقوق الإنسان، فهل معهد جالوب أيضاً يشرف عليه واحد من الإخوان المسلمين يا أستاذ ماجد؟!!

سابعاً: أما واقعة الحوارات التى أجراها مع المستشار مأمون الهضيبى رحمه الله وممثلى الإخوان المسلمين فهذه رغم أهميتها التاريخية ليست لها علاقة بما نشرناه عن رأى الشعب وتوجهاته إزاء تطبيق الشريعة فكون الإخوان استشهدوا بتقرير فهو أمر لا يقدح فيه كما أنه لا دخل له بما نشرناه لأن هذا الحوار كله يرجع تاريخه لما بعد التقرير ربما بعشر سنوات كما أن حوار فريق من الإخوان مع فريق من الأقباط لا يقدح فى تقرير شبه رسمى وتقرير أخر دولى عن اتجاهات عامة الشعب وهذا أشرنا له فى الثلث الأخير من موضوعنا إذ قلنا أن النخبة من الإسلاميين والعلمانيين يتحاورون ويتجادلون فكرياً حول تطبيق الشريعة الإسلامية دون أن يلتفتوا أو يضعوا فى حسبانهم رأى الشعب واتجاهاته ورأى الشعب هو صميم الديمقراطية.

ومع ذلك وقع أ/ ماجد فى نفس الخطأ عندما حاول أن يجرنا لجدالات فكرية بين أقباط وإخوان مسلمون، و هؤلاء مهما كانت مكانتهم فهم جميعاً يمثلون نخبة فكرية من الأقباط والإسلاميين ولا يجوز لأي نخبة (مسلمة أو قبطية) أن تحجر على رأى أغلبية الشعب مسلمين وأقباط واتجاهات هذه الأغلبية المسلمة والمسيحية على حد سواء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

كتبته فى الأصل للعدد الأسبوعى من جريدة الدستور المصرية ونشر بها كما نشرته في مدونتى القديمة.

حسنى مبارك

مستقبل العمل السياسى للحركات الإسلامية في مصر

قاطع الإخوان المسلمون انتخابات اتحاد طلاب الجامعات بسبب الضغوط الأمنية، و قبل ذلك قاطعوا انتخابات المحليات.

و من قبل ومن بعد فإن كثيرا من النقابات المهنية المصرية تقبع منذ سنوات تحت ما يسمى بالحراسة القضائية ومن ثم السيطرة الحكومية عليها، وهي النقابات التي يمارس الإخوان المسلمون العمل السياسي من خلال خوض انتخابات مجالس إدارتها والتحرك من خلالها.

هذا عن الإخوان، أما السلفيون، فإن غالبية مجموعاتهم لا تمارس العمل السياسي، و المجموعات القليلة التي كانت تمارس شيئا من العمل السياسي عبر انتخابات اتحادات الطلبة وكذا النقابات المهنية تراجعت تماما عن المحاولة في هذا المجال بعد أن رأت انسداد الأفق السياسي بالدرجة التي دفعت الإخوان – وهم الأقوى والأكثر خبرة- للانسحاب من هذه العملية.

و لم يبق لهذه المجموعات السلفية المسيسة من العمل السياسي سوى الكلام في شئون سياسية عامة من منظورها الإسلامي عبر دروسهم المسجدية المحدودة، ومواقعهم على شبكة الانترنت وشرائط الكاسيت، لاسيما و أن هذه المجموعات السلفية المسيسة ليس لها موضع قدم على الفضائيات الإسلامية المصنفة على أنها سلفية.

بقى التيار الجهادي و الذي خرج من الساحة السياسية في مصر منذ سنوات لعدة أسباب، فتنظيم الجهاد المصري ابتعد منذ سنوات طويلة عن أي ممارسة للعمل السياسي السلمي و التصق أكثر فأكثر بالعمل المسلح، و صاحب ذلك تدهور قوته تنظيميا وانحسار ما كان قد تمتع به من شعبية وجماهيرية إثر نجاحه في اغتيال السادات، ومن ثم انزوى تنظيم الجهاد ولم يعد له أي وجود حقيقي في الساحة السياسية أو الإسلامية المصرية.

تنظيم القاعدة الذي ربما صار له موضع قدم في مصر – على حساب تنظيم الجهاد المصري- ليس لديه رغبة و لا إمكانات لخوض غمار العمل السياسي في مصر ولا غيرها حتى الآن.

أما تنظيم الجماعة الإسلامية فقد حزم أمره بعدما طرح ما أسماه مبادرة وقف العنف منذ أكثر من عشر سنوات بالبعد عن العمل السياسي، بل أجهز على كل التكهنات والظنون مؤخرا بإصداره بيانا في أول أيام العيد الفائت طالب فيه كل فصائل الحركة الإسلامية بترك العمل في المجال السياسي للحكومة فقط، وطالب الحكومة في مقابل ذلك أن تطلق للحركات الإسلامية فرصة العمل الدعوي الديني.

صحيح أن الإخوان وعددا من الإسلاميين المستقلين قد رفضوا دعوة الجماعة الإسلامية، و صحيح أن الكثيرين قد اعتبروا أن ما تفعله الجماعة الإسلامية هذا هو من صميم العمل السياسي لكنه يصب لصالح الحكومة أو على الأقل لا ينطلق من خندق المعارضة، وأيا كان الأمر فإن ذلك كله يشير لانزواء الجماعة الإسلامية بعيدا عن العمل السياسي المعارض أو المنافس للحكومة.

و استقراء خريطة موقف القوى الإسلامية من العمل السياسي الإسلامي على هذا النحو يطرح علينا سؤالا هاما بقوة وهو: ما هو مستقبل العمل السياسي الإسلامي في مصر؟

الواقع أن توقع هذا المستقبل لا يتوقف على واقع الحركات الإسلامية فقط لأن الحركة الإسلامية ليست هي اللاعب الوحيد بل هناك لاعبون آخرون.

منهم المحليون: مثل الحكومة بأجنحتها المختلفة، ومثل القوى العلمانية المعارضة (رغم ضعفها البين و أفول نجمها)، ومثل الإسلاميين المستقلين لاسيما الأجيال الشابة التي تنشط على شبكة الإنترنت.

كما أنه يوجد اللاعبون الدوليون وهم: الغرب (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) و إسرائيل وإيران والمنظمات الغربية غير الحكومية.

و يمكن استشراف مستقبل العمل السياسي الإسلامي من خلال تفحص مواقف كل لاعب من هؤلاء اللاعبين على حدة:

أولا- اللاعبون الدوليون:

1- الغرب: من المنتظر أن تؤدي نتائج الأزمة المالية العالمية و نتائج الهزائم الأمريكية و الغربية وهزائم حلفائهم في أفغانستان والعراق والصومال إلى تغير النظام الدولي بدرجة ستؤدي لتخفيف الضغط عن الحركات الإسلامية بعامة والحركات الإسلامية غير المسلحة بشكل خاص وهذا سيصب في مصلحة حركة هذه التيارات سياسيا كل في محيطه، كما أن هزائم الغرب وحلفائهم ستستخدم دعويا لضم مزيد من الأنصار للحركات الإسلامية بكافة اتجاهاتها.

2- إسرائيل: بعد الهزائم و الأزمات المذكورة التي مني بها الغرب و حلفاؤه ستتعلم إسرائيل أنها يجب أن تتعامل مع الحركات الإسلامية و بالتالي ستفضل التعامل مع التيارات ذات الطبيعة السلمية، كما أنها ستتعامل مع التيارات المسلحة التي لن تجد بدا من التعامل معها كحماس، كما أنها لن تمانع من التفاهم و التعاون مع جهات لديها نمط من البرجماتية يدفعها للتفاهم مع إسرائيل و أبرز مثال على ذلك هو إيران وحزب الله والقوى الشيعية العراقية ونحوها، ولن تتفاهم إسرائيل (و لا الغرب بطبيعة الحال) مع القاعدة أو الجهاد المصري أو السلفية الجهادية في أي مكان لأنها غير مضطرة لذلك لا الآن و لا في المدى المنظور، لكنها (هي و الغرب) قد تضطر للتفاهم مع طالبان و شباب المجاهدين في الصومال إذا انتصرتا و سيطرتا، لاسيما و أن طالبان و شباب المجاهدين أكثر عقلانية ورغبة في التفاهم.

3- إيران: ستستمر إيران في غض الطرف عن الحركات الجهادية السنية ما دامت تستنزف الغرب وحلفاءه في المنطقة بما لا يهدد مصالح إيران ولا أتباعها و لا مناطق نفوذها، كما ستستمر إيران بنجاح في السعي لتقسيم المصالح ومناطق النفوذ في المنطقة بينها وبين الولايات المتحدة والغرب وإسرائيل، ولن تألوا إيران وأتباعها جهدا في التضحية بالحركات الإسلامية السنية التي تساعد التضحية بها على تحقيق الأهداف الإيرانية.

4- المنظمات الغربية غير الحكومية: ستستمر هذه المنظمات في دعم قضايا الحريات و حقوق الإنسان والحفاظ على البيئة ومكافحة العولمة بما يخدم أهدافها التي قامت من أجلها و التي تؤمن بها، وسيستمر وجود هذه المنظمات في إتاحة ميادين للعمل السياسي الإسلامي دفعا لقدر من المظالم التي تتعرض لها الحركات الإسلامية في شتى بقاع الأرض.

ثانيا- اللاعبون المحليون:

1- الحكومة المصرية: من الطبيعي أن تزداد استقلالية الحكومة المصرية في القرار بعدما يترسخ النظام الدولي الجديد والذي ستتوزع فيه القوة بين عواصم دول عدة كروسيا والصين والهند والاتحاد الأوروبي بجانب الولايات المتحدة بعدما كانت محصورة في الولايات المتحدة فقط طوال الـ 18 عاما الماضية، وتعطي هذه الاستقلالية للحكومة قدرات أكبر قي البطش بمعارضيها، لكن هناك عامل آخر مضاد و لكنه أقل تأثيرا وهو انتعاش الاتجاهات الدولية المدافعة عن الحريات و حقوق الإنسان لا سيما في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية لكن توزع القوة الدولية على عدد من العواصم سيعطي للحكومة مزيدا من القدرات في مجال مقاومة الضغوط الدولية الداعية للحفاظ على حقوق الإنسان، و لكن نظرا لأن كل واقع جديد غالبا ما يحمل قدرا من الفرص بنفس القدر الذي يحمله من المخاطر فإن توزع القوة الدولية بين عدد من الأقطاب الدولية و الإقليمية يحمل بين طياته العديد من الفرص للحركة الإسلامية بنفس القدر الذي يحمله من المخاطر.

2- القوى العلمانية المعارضة: و هي رغم ضعفها البين و أفول نجمها إلا أن صوتها العالي بسبب ما تتمتع به من نفوذ في وسائل الإعلام غالبا ما يؤدى لأضرار جسيمة منها التشويش على الدعوة الإسلامية من الناحية الفكرية بسبب عدم اهتمام الحركة الإسلامية بوسائل الإعلام، و بسبب السيطرة العلمانية شبه الكاملة على وسائل الإعلام، كما أن هذا النفوذ الإعلامي العلماني كثيرا ما هيأ الأجواء السياسية لتوجيه ضربات أمنية خطيرة لفصائل الحركة الإسلامية، كما لعب دور المحرض على مثل هذه الضربات، ولعل من أبرز الأمثلة القريبة على ذلك ما فعلته جريدة المصري اليوم القاهرية اليومية منذ عامين تقريبا عبر حملتها الصحفية على ما أسمته بالعرض العسكري لطلبة الإخوان المسلمين في جامعة الأزهر، وسوف يستمر العلمانيون على هذا النمط في المستقبل.

لكن هناك علمانيين متعاطفين مع الحركة الإسلامية أو على الأقل منصفون معها وهؤلاء يحسن بالحركة الإسلامية مد جسور التفاهم معهم والاستفادة من خبراتهم ونفوذهم لخدمة العمل الإسلامي.

3- الإسلاميون المستقلون: و نقصد بهم الذين لا ينتمون لأي من الجماعات الإسلامية المشهورة لاسيما الأجيال الشابة التي تنشط على شبكة الانترنت بشكل كبير، وهؤلاء سيكون لهم دور كبير ومؤثر في مستقبل الحركة الإسلامية بعامة وفي مجال العمل السياسي الإسلامي بخاصة، لأن هذه الأجيال يغلب عليها الاهتمام بالسياسة كما أنهم نشيطون جدا ولديهم حماس كبير كما أن شبكة الانترنت تمثل مؤثرًا كبيرًا في مستقبل العالم الإسلامي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني والثقافي، وهؤلاء الشباب هم الأكثر قدرة على استعمال الإنترنت حتى الآن ولا شك أن قدراتهم و خبراتهم سوف تتطور جدا بمرور الوقت و سيصبحون أكثر تأثيرًا مع ملاحظة أنهم متمردون في كثير من الأحيان على الجماعات الإسلامية التقليدية القائمة.

و في ضوء كل ما سبق يمكننا أن نستشرف مستقبل السلوك السياسي للحركات الإسلامية المصرية بسهولة في ضوء التفاعل بين ذلك كله.

الشريعة الاسلامية - صورة تعبيرية

أغلبية الأقباط يؤيدون تطبيق الشريعة الاسلامية في مصر

يؤيد 96.2% من المصريين تطبيق الشريعة الاسلامية في الحكم خاصة الحدود بينما يعارض تطبيقها 3.2%، و يطالب 64% من المصريين أن تكون الشريعة الاسلامية المصدر الوحيد للتشريع.

هذا ما أكده استطلاعان للرأي أجريا على عينة متنوعة من الشعب المصري.

استطلاع المركز القومي للبحوث الإجتماعية و الجنائية بالقاهرة 

ففي استطلاع للرأي أجراه المركز القومي للبحوث الإجتماعية و الجنائية بالقاهرة، واعتمد على عينة تم انتقائها بدقة كي تكون ممثلة لكافة فئات و طبقات الشعب المصري، حول موقف الشعب المصري من تطبيق الشريعة الإسلامية و تحديدا الموقف من “الحدود”.

و قد بلغ حجم العينة التي أجريت عليها عملية استطلاع الرأي 2427 شخصا، منهم %93.3من المسلمين و6.3 % من الأقباط ، على اعتبار أن هذه هي نسبة الأقباط في اجمالي تعداد السكان الذي أجري عام 1976م، و قد تنوعت العينة لتشمل كافة الفئات من حيث الطبقة و العمر و التعليم و المهنة و الحالة الإجتماعية و محال الإقامة التي شملت القاهرة و الإسكندرية و بور سعيد و عواصم حضر بحري و عواصم حضر قبلي إلى جانب مواطن النشأة التي شملت ما سبق، بالإضافة إلى ريف بحري و ريف قبلي.

و رغم وجود جوانب عديدة للشريعة الإسلامية غير عقوبات الحدود، إلا أن هيئة البحث اختارت لسبب ما أن يدور بحثها حول الرأي في عقوبات الحدود الشرعية التي تتمثل في:

1- الزنا

2- القذف

3- شرب الخمر

4- السرقة

5- قطع الطريق

6- الردة (أي خروج المسلم من الدين الإسلامي).

 و قد طبع المركز القومي للبحوث نتيجة الإستطلاع في كتاب مكون من نحو 400 صفحة، و لكننا هنا لن نطيل على القارئ بذكر المؤشرات و الأرقام الكثيرة التي احتوتها هذه الدراسة القيمة، بل سنقتصر على ذكر أهم المؤشرات و الإتجاهات التي حوتها الدراسة و ما يدعمها من أرقام.

 ما هوالموقف من تطبيق الشريعة الإسلامية؟

وافقت أغلبية العينة الكلية على تطبيق الحدود و ذلك بنسبة 96.2% و عارض تطبيقها 3.2%، و في عينة المسلمين على حدة ترتفع نسبة الموافقين إلى 98% في مقابل 1.3% معارضون و 0.3% محايدون، أما عينة المسيحيين على حدة فإن نسبة الموافقة فيها تنخفض إلى 63% و ترتفع نسبة المعارضين إلى 31% و كذلك المحايدين حيث بلغت نسبتهم 6%.هل نطبق الشريعة فوريا أم تدريجيا؟

31% من العينة الإجمالية تقف مع التطبيق الفوري، بينما رأى 69% أن التطبيق يجب أن يكون تدريجيا.أما عينة المسلمين منفردة فنسبة المؤيديين للتدرج 69%، و نفس الشئ في عينة المسيحيين منفردة حيث أيد 68% منهم التدرج، لكن عينة المسلمين رأى 75% منهم أن هذا التدرج لا ينبغي أن يتجاوز 5 سنوات كحد أقصى للمرحلة الإنتقالية بينما أيد فكرة الخمس سنوات 69% فقط من العينة المسيحية.

الطبقة الإجتماعية و تطبيق الشريعة

 أيدت أغلبية الطبقة العاملة تطبيق الحدود بنسبة 90% أما أغلبية الكتابيين و الطلاب فايدت بنسبة 83% أما الإداريين و المهنيين فنزلت النسبة إلى 77%.لكن لماذا تطبيق الشريعة ؟ رأى البحث أن دوافع الموافقة لدى كل من المسحيين و المسلمين مختلفة فعلى سبيل المثال رأى 43% من المسلمين وجوب تطبيقها لأنها شريعة الله بينما رأى 23% من المسيحيين أنها شريعة الله.

هل يتم تطبيق الشريعة الإسلامية وحدها أم مع غيرها من القوانين؟

رأى 65% من المسلمين تطبيق الشريعة الإسلامية وحدها بينما رأى الباقون (35%) تطبيقها مع بعض القوانين الحالية بينما رأى 27% من المسيحين تطبيقها وحدها و إختار 73% من عينة المسيحيين تطبيقها مع بعض القوانين الحالية.

أما مبررات تطبيق الشريعة مع بعض القوانين الحالية فإن المسيحيين كانوا أميل لتقديم مبررات ذات طبيعة علمانية فكان ترتيب المبررات لديه كالآتي:

1- لأن بعض أفراد من الديانات الأخرى سيرفضون هذا التطبيق

2- لأن بعض القوانين الحالية تتفق مع الشريعة الإسلامية

3- لأنه من الصعب التخلي عن بعض القوانين المطبقة حاليا

4- حتى التمهيد لتقبل الناس للتطبيق الكامل للشريعة

5- حتى تتم معالجة أوجه القصور.و نذكر القارئ ان هذه هي آراء المسيحيين و ليس المسلمين.

كما يرصد البحث أن أول المبررات لدى المسيحيين كان يمثل أخرها لدى المسلمين، بينما كان أول المبررات لدى المسلمين (و هو: حتى يتم التمهيد لتقبل الناس للتطبيق الكامل) هو رابع المبررات لدى المسيحيين.لكن هل تطبيق الشريعة على كل جرائم الحدود أم على بعضها فقط؟؟

أيد 92.4% من المسلمين تطبيقها على كل الجرائم بينما انخفضت نسبة هذا التأييد لدى المسيحيين إلى 72%. وإذا طبقنا الشريعة فهل يتم تطبيقها على الجميع مسلمين و مسيحيين أم على المسلمين فقط؟

رأى 69% من المسلمين تطبيقها على الجميع، بينما رأى 31% تطبيقها على المسلمين فقط.كان هذا رأى الشعب المصري وفق استطلاع المركز القومي للبحوث الاجتماعية في مصر.

استطلاع مؤسسة غالوب الأمريكية

أما مؤسسة غالوب الأمريكية فقد أجرت هي الأخرى استطلاعا أخر خلال لقاءات مباشرة مع عينة ضمت أكثر من 1800 من المصريين البالغين، وذلك خلال شهري مايو ويوليو 2007، كما شملت أكثر من 1000 تركي، خلال شهري مايو ويوليو 2007 أيضاً.

و أظهر الإستطلاع أن أكثر من 90% من الشعب المصري يؤيد تحكيم الشريعة الإسلامية، بينما يطالب ثُلثا المصريين تقريباً بجعلها المصدر الوحيد للتشريع.وبحسب الاستطلاع الواسع الذي أُجري في مصر وتركيا ومناطق أخرى، فقد جاء الشعب المصري في المقدمة من حيث المطالبة بتحكيم الشريعة الإسلامية، حيث قال 91% من المصريين: إن الشريعة ينبغي أن يكون لها دور في تشريع القوانين، وهو رأي وافقهم فيه 90% من الأتراك.

وبحسب الاستطلاع الذي نشرت نتائجه وكالة أنباء “أمريكا إن أرابيك” فإن حوالي ثلثي المصريين (64 %) يعتقدون أن الشريعة الإسلامية يجب أن تكون المصدر الوحيد للتشريع، وهو الرأي الذي عبّر عنه 7% فقط من الأتراك.لكن حوالي ثلث الأتراك (32 % فقط) رأوا أن الشريعة ينبغي أن تكون “أحد” مصادر التشريع، وهو ما أشار إليه أكثر من ثلث المصريين (35%).

كما أظهر الاستطلاع أن أغلبية المشاركين في الاستطلاع في هاتين الدولتين لديهم أفكار إيجابية عن الشريعة.

ومن بين المطالبين بأن تكون الشريعة أحد مصادر التشريع، رأى 97% من المصريين أن الشريعة توفر العدالة للمرأة، في مقابل 69% من الأتراك.

كما قال 85 % من المصريين المطالبين بأن تكون الشريعة مصدرًا من مصادر التشريع: إنها تحمي الأقليات، وهو ما دعمه 51% من الأتراك.

واعتبر 96% من المصريين من هذه الشريحة أن الشريعة الإسلامية تعزز من وجود نظام قضائي عادل، في مقابل 63% من الأتراك.وعبّر 97% من المصريين في هذه الفئة عن اعتقادهم بأن الشريعة تحمي حقوق الإنسان، وهو ما أشار إليه 62% من الأتراك.

كما قال 94% من المصريين المؤيدين للشريعة كأحد مصادر التشريع: إنها تعزز العدالة الاقتصادية، في حين انخفضت هذه النسبة إلى 55% بين الأتراك.

واعتبر 94% من المصريين في هذه المجموعة أن الشريعة من شأنها أن تقلل الجريمة في المجتمع، وهو نفس الرأي الذي عبر عنه 68% من الأتراك.

وأظهر الاستطلاع أن هؤلاء الذين يؤيدون تطبيق الشريعة كمصدر من مصادر التشريع لا يميلون إلى ربط الشريعة بأفكار سلبية.هذه هي ارادة أغلبية الشعب المصري و فق استطلاعات الرأي.

وهي ارادة ينبغي الإذعان لها إن كنا نتحدث عن أسلوب حكم ديمقراطي، و لكن دائما نجد من يزعم انه يتكلم باسم الشعب مدعيا تحقيقه لإرادة الأغلبية، لكنه في حقيقة الأمر لا يتحدث الا بلسان نفسه فقط.

إن رأي الشعب في تطبيق الشريعة قضية مغيبة عن النقاش الدائر حول تطبيق الشريعة، بل في بعض الأحيان زعم علمانيون أن الشعب لا يريد الشريعة.

النقاش حول تطبيق الشريعة في مصر والعالم الإسلامي

و في هذا الإطار نتابع دائما في مصر و في سائر أنحاء العالم الإسلامي نقاشا لا ينتهي و جدالا لا ينقطع بشأن تطبيق الشريعة الإسلامية كمصدر وحيد للتشريع في الدول الإسلامية.

و إن كان الإسلاميون و العلمانيون هما طرفا النقاش فإن كلا الطرفين يدعي أنه يبتغي تحقيق مصلحة الشعوب العربية و الإسلامية و حمايتها من الديكتاتورية و حكم الإستبداد.الإسلاميون ألصقوا كل الشرور بالعلمانين بصفتهم استلموا الحكم في العالم الإسلامي منذ أتم تحرره من الإحتلال العسكري الغربي، و بالتالي فهم مسئولون عما آل إليه أمر الأمة منذئذ و حتى الآن.أما العلمانيون فظلوا يحذرون الأمة العربية و الإسلامية من شرور ما أسموه بالحكم الديني و الديكتاتورية و الإستبداد باسم الدين و الحكم الإلهي، لكن الاسلاميين ردوا عليهم بأن الحكم بالحق الالهي و الحكم الكهنوتي المرتكز على رجال الدين منافي لتعاليم الدين الاسلامي في نظام الحكم بل الحاكم في الاسلام مسئول أمام الشعب حتى قال قائل من الشعب لأفضل رجل في الأمة الاسلامية بعد رسول الله و هو أبو بكر الصديق “لو اعوججت لقومناك بسيوفنا” فامتدحه أبو بكر، كما لم يوجد أبدا في التاريخ الاسلامي نظام حكم قائم على الحق الالهي أو رجال الدين باستثناء نظرية المذهب الشيعي في الحكم و أتباعه أقل من 10% من تعداد كل مسلمي العالم، كما أنه لم يطبق في أرض الواقع الا في حالات قليلة.

كما أعلن الإخوان المسلمون أن الشريعة الإسلامية لا تتنافى مع الديمقراطية و أكدوا أنهم عندما يصلون للحكم بالإنتخاب فإنهم سيحكمون وفق قواعد الديمقراطية في اطار المرجعية الإسلامية.لكن العلمانيين قالوا أن الإسلاميين غير صادقين في توجههم الديموقراطي، و أن طرحهم للديمقراطية كأسلوب حكم مجرد ذريعة للإستيلاء على الحكم و بعدها سيمارسون الديكتاتورية الدينية و ينقلبوا على الديمقراطية.

و اعتبر العلمانيون أن معارضتهم لتطبيق الشريعة الإسلامية هو دفاع عن الديمقراطية و حقوق الشعب، و قالوا أيضا أنه دفاع عن العقل و العلم و حقوق الإنسان و حقوق الأقباط.وطالب الإسلاميون بالإحتكام لرأي الشعب في تحديد من يحكم البلاد و ذلك عبر صناديق الإقتراع في انتحابات حرة.

و رد العلمانيون بأنه من غير المنطقي أن نعطي فرصة لأعداء الديمقراطية للوصول للحكم عبر الديمقراطية لينقلبوا عليها بعد ذلك.

فكرة الإحتكام إلى صناديق الإنتخابات

قلة نادرة من العلمانيين وافقوا على فكرة الإحتكام إلى صناديق الإنتخابات، مثل نجيب محفوظ الذي أيد انشاء حزب اسلامي و رأى أن السماح بحزب للإسلاميين لا يمثل خطرا لأنهم لن يصلوا عبره للحكم لأن كل الأحزاب الأخرى ستتوحد في جبهة واحدة دفاعا عن العلمانية (عدم تطبيق الشريعة) لمنع وصول الإسلاميين للحكم و منع تطبيق الشريعة، و سينجح العلمانيون في منع تطبيق الشريعة، بينما سيفشل الإسلاميون في الإنتخابات حسب رأيه.و من العلمانيين من صرح بأن الشريعة غير مناسبة للعصر الحديث لأنها حسب رأيهم خاصة بزمان محدد و هو زمن النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم و مكان محدد هو شبه الجزيرة العربية و بيئتها القبلية و الصحراوية، و رد عليهم الاسلاميون بأن الاسلام صالح لكل زمان و مكان حسب نص القرآن {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }الأنبياء107، و قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }سبأ28، فكافة للناس تشمل جميع البشر في كل زمان ومكان، و كذلك رحمة للعالمين، فالعالمين تشمل كل البشر في كل زمان و مكان.كما كان بعض العلمانيين أكثر صراحة عندما انتقدوا أحكام الحدود في الشريعة الاسلامية و اعتبروها مهينة وغير انسانية، لكنهم لم يصغوا لردود الاسلاميين على هذا الاتهام، رغم أن الردود الاسلامية كانت واضحة و قوية حيث رأى الاسلاميون أن الحدود ليست هي كل الشريعة بل هي مجرد جزء من منظومة كبيرة ومتكاملة، و هذه المنظومة تعتمد على التربية النفسية و التنشئة الاجتماعية أكثر من اعتمادها على الحدود، بدليل أن الحدود لم تطبق في عصر النبي صلى الله عليه و آله وسلم الا نادرا، كما أن تطبيق كل حد له شروط تكاد تكون مستحيلة التحقيق في كثير من الأحيان، هذا كله فضلا عن القاعدة العامة و الأساسية في تطبيق الحدود و هو قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم “ادرأوا الحدود بالشبهات” بمعنى أن أي ظن يرد ببراءة المتهم في حد ما فانه يفسر لصالح براءته، و هذا كله يعزز فكرة أن الحدود هي أحد أدوات الشريعة لتقويم المجتمع و ليست هي الوسيلة الوحيدة، بل إن الوسائل الأخرى تحتل مكانة أكبر و أوسع من وسيلة اقامة الحدود، و ان كان هذا لا يقلل من اهمية الحدود كعقاب رادع يتم التلويح به وإن لم يطبق إلا قليلا، كما اعتبر الاسلاميون أن اتهام الحدود بأنها مهينة و غير انسانية هو طعن في ثوابت الدين الاسلامي الثابتة في القرآن الكريم، بل طعن في الدين نفسه لأن الله هو الذي شرعها والله نعالى يقول: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} الملك14، و يقول {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} فاطر31، فالله هو خبير بصير بعباده يعلم ما يصلحهم و قد أنزل شريعته وفق ما يصلحهم لا ما يهينهم أو ينتهك انسانيتهم، فما دام الأمر كذلك فالحدود لابد أنها غير مهينة و غير منافية لحقوق الانسان، لاسيما و أن الذين يعتبرونها مهينة انما ينظرون لمصلحة الشخص الذي سيقام عليه الحد و يهملون مصلحة المجتمع التي تضررت من جريمة هذا الجاني، خاصة أن إقامة الحد هي أخر المطاف في تقويم الجاني و ليس أوله.

الشريعة و استقلال القضاء

و ركز الاسلاميون في شرحهم لمنظومة الشريعة على جوانب متعددة مغايرة للحدود مثل استقلال القضاء و عدالته، و مثل العدالة الاجتماعية، و مثل الاقتصاد الاسلامي، و مثل التربية الاسلامية، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و مكافحة ظلم الحكام و الجهر بالحق في وجوههم، و قد اهتم الاسلاميون بذلك كثيرا حتى ان الدكتور على جريشة خصص جزءا من رسالته للدكتوراه لذلك تحت عنوان “شريعة الله حاكمة ليس بالحدود وحدها”، فضلا عن كتب كثيرة عامة في ذلك مثل “بينات الحل الاسلامي” للقرضاوي، و كتب اخرى كثيرة خاصة بأحد هذه الجزئيات مثل العدالة الاجتماعية أو الاقتصاد الاسلامي أو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و غيرها كثير.

لكن يبدو أن العلمانيين وجدوا أنهم سيخسرون لو أنهم استمروا في مناقشة أمر تطبيق الشريعة على هذا النحو فلجأوا لأسلوبين آخرين لمنازلة دعاة تطبيق الشريعة:

الأسلوب الأول- و قد تبناه العلمانيون ذوو الثقافة الدينية، و يتلخص هذا الأسلوب في التشكيك في العديد من مصادر الأحاديث النبوية و أقوال الصحابة لا سيما التي تفسر القرآن، و لم يكن غريبا أن ينصب الطعن على صحيح البخاري الذي يعتبر أهم و أصح كتاب لدى المسلمين بعد كتاب الله، لأنه لو انهدم أقوى كتاب سنة فلن يصمد أي كتاب سنة غيره، و لم ينزعج الاسلاميون و علماء الدين من رد حديث هنا أو هناك حتى لو كان صحيحا، لأن هذا الأمر رغم عدم موافقته للمعايير العلمية و الأسس الموضوعية للبحث في الدراسات الاسلامية فإنه ليس طريقا لهدم سائر الشريعة، لكن مكمن الخطورة الذي لاحظوه يرجع إلى أن هؤلاء الطاعنين يطعنون بلا قواعد و لا منهج محدد سوى موافقة الأمر لعقولهم كل حسب منطقه العقلي الخاص به، و من ثم فلو انتشر هذا المسلك فسيحكم كل شخص عقله في نصوص الشرع بلا مناهج بحث و بلا قواعد علمية موضوعية.. فقط وفق رأي الشخص الخاص و الذي يسميه العقلانية، و طبعا هذا الكلام غير موجود في أي علم في العالم فكل علم له قواعده و مناهج بحثه المتكاملة.. فكيف يكون الأمر في دين يتمتع بأرقى و أقوى مناهج بحث شهدها التاريخ.

ومن هنا فان الاسلاميين قالوا ان هؤلاء يريدون تقييم و نقد الاسلام وفق معايير لادينية، و الأجدر بهم بدل هذا التخفي بعباءة العقلانية أن يعلنوا أنهم يريدون تطويع الاسلام للعلمانية أو اللادينية.

الأسلوب الثاني- يقوم على المقارنة بين أقوال و برامج دعاة تطبيق الشريعة و بين المواثيق الدولية لحقوق الانسان و المعايير الديمقراطية الغربية، و الخروج من هذه المقارنة بالقول أن الدعوة لتطبيق الشريعة تقود إلى مخالفة للديمقراطية و حقوق الانسان بالمعايير الغربية و من ثم فينبغي رفض دعوة تطبيق الشريعة هذه.

و قد اهتم الاسلاميون بالرد على أهل الأسلوب الأول بينما أهملوا الرد على أهل الأسلوب الثاني.

و على كل حال فهذا الجدل المحتدم وصل لحد التراشق اللفظي الحاد بل وصل أحيانا لحد التكفير و القتل أو محاولة القتل (كما حدث مع فرج فودة الكاتب العلماني المشهور و مكرم محمد أحمد الكاتب الصحفي المعروف)، و لكن رغم سخونة هذا الجدل فإن رأي الشعب المصري بمسلميه و أقباطه ظل غائبا أو مغيبا عن ساحة الصراع الفكري حول هذه القضية خاصة من قبل العلمانيين الذين زعموا دائما حرصهم على المصلحة العامة و حقوق الإنسان و مع ذلك لم يسعوا يوما للإستماع إلى صوت الشعب الذي يزعمون الدفاع عنه.

ــــــــــــــــــــــــــــ

الموضوع نشرته في جريدة الدستور المصرية (العدد الأسبوعى) ثم فى موقع لواء الشريعة و مدونتي القديمة.

انور السادات

هل كان أنور السادات ديمقراطيا ؟؟

عندما شعر جمال عبد الناصر أن الاتحاد السوفيتي يماطل في اعطائه أسلحة هجومية من النوع الذي يمكنه من تحرير الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل في 5 يونيو1967م، راوده الأمل في أن يتمكن من الحصول على أسلحة غربية متقدمة بطريقة ما، و حرض عددا من حكام الدول العربية و على رأسهم القذافي للحصول على أسلحة غربية متقدمة، و من ثم حصل القذافي على الميراج من فرنسا، كما حصلت السعودية و العراق على مقاتلات غربية أصبح لها دور فيما بعد في حرب أكتوبر 1973م، لكن الأمر لم يقتصر لدى جمال عبد الناصر على مرارات و عقبات السلاح السوفيتي أو الغربي بل إن جمال عبد الناصر عانى من مرارات الحصار الإقتصادي الغربي على مصر، و ربما يظن البعض أن هذه المرارات قاصرة على الضعف الإقتصادي الذي عانى منه الإتحاد السوفيتي و كتلته الشرقية، و الذي انعكس تدهورا و ضعفا في قدرته على تقديم المساعدات و الإستثمارات لمصر، لكن المرارات الأبرز كانت من شعور جمال عبد الناصر من أنه صار مقيدا و ممنوعا من أن يلعب لعبته السياسية المفضلة.

تلك اللعبة التي اعتاد أن يلعبها منذ أن كان رئيسا لمجلس قيادة تنظيم الضباط الأحرار، حتى من قبل أن ينجح في القيام بثورة يوليو 1952م، بل ربما كانت هذه اللعبة المفضلة هي السبب الرئيسي في نجاح هذه الثورة، تلك اللعبة تتمثل في فتحه قنوات اتصال و اقامة علاقات مع كل القوى الدولية، و استغلاله لتعدد هذه القوى و خلافاتها من أجل تحقيق أهدافه السياسية و الإقتصادية، و كان يضم ضمن تنظيم الضباط الأحرار ضباطا من مختلف التوجهات السياسية و الأيدولوجية لتحقيق هذا الغرض، فمن الضباط الإخوان إلى الضباط الشيوعيين إلى الضباط ذوي التوجه الغربي ممن يميلون للتعاون مع انجلترا أو أمريكا أو حتى الملك فاروق، لكن الحصار الغربي على مصر منذ ستينات القرن العشرين منع جمال عبد الناصر من ممارسة اللعبة الدولية التي يفضلها للفوز على حساب الخلافات بين القوى الدولية المتعددة.

فماذا فعل جمال عبد الناصر؟؟

يحكي البعض أن جمال عبد الناصر في إحدى لحظات الغضب من السوفيت قال: “أنا سأجيب لهم اللي يعرف يتعامل مع الغرب”، و هكذا صعد أنور السادات إلى واجهة المشهد السياسي في مصر بعدما وضعه جمال عبد الناصر في صدارة المرشحين لخلافته.

لكن هل كان لأنور لسادات نفس رأي جمال عبدالناصر أم كان له رأي آخر؟؟

الإجابة تأتي واضحة في المشهد التالي: بعد توليه لرئاسة مصر بفترة وجيزة جدا سأل السادات ابراهيم سعد الدين قائلا: “كم قوة دولية كبرى في العالم يا ابراهيم؟؟

فرد ابراهيم: ما سيادتك عارف يا ريس.

قال له السادات: لكن أنا أريد أن أسمع الإجابة منك.

قال ابراهيم: اثنتان يا ريس الإتحاد السوفيتي و الولايات المتحدة.

فرد السادات مستنكرا: خطأ يا ابراهيم، هناك قوة دولية واحدة هي الولايات المتحدة فقط”.

و قد يستغرب البعض من هذا التقدير السياسي لسبب أو لأخر لكن من يقرأ مذكرات الدكتور مراد راغب الذي ظل سفيرا لمصر في الاتحاد السوفيتي لفترة طويلة حتى صار من أكبر الخبراء في شئونه يدرك نفاذ بصيرة أنور السادات السياسية في هذه المسألة لا سيما و أن عددا من قادة السوفيت كانوا منذ الستينات قلقين على مستقبل الإتحاد السوفيتي بسبب تأخره التكنولوجي و الإقتصادي.

وهكذا بدأ أنور السادات حقبة رئاسته لمصر انطلاقا من هذه القناعة.

أنور السادات في الحكم

عندما تولى أنور السادات الحكم كان أمامه عقبات عديدة لكنه تغلب عليها واحدة تلو الأخرى وكانت مواجهة كل من هذه العقبات تقوده لطريق واحد سنراه بعد قليل.

في البداية كان علي أنور السادات أن يحل مشكلة الأراضي المصرية و العربية المحتلة إن سلما أو حربا، وفتح أنور السادات قناة اتصال سرية مع الولايات المتحدة محاولا حل المشكلة سلما لكن محاولاته باءت بالفشل، فلم يجد بدا من العزم على خوض الحرب ثم خاضها فعلا في أكتوبر 1973م.

السادات و الصراع على السلطة

كان على أنور السادات مواجهة مشكلة الصراع على السلطة بعيد توليه الحكم مباشرة، و فعلا حسمه لصالحه بمساعدة العديدين و منهم الفريق صادق و الذي عينه وزيرا للدفاع بعد حسم الصراع، لكنه لم ينس أن هؤلاء الذين واجهوه هم من اليسار الناصري و قريب منهم اليسار الماركسي، ولم يكد أنور السادات يقضي على خصومه داخل هيكل السلطة نفسه حتى بدأت الحركة اليسارية (بشقيها الناصري و الماركسي على حد سواء) تتحرك بفاعلية في الجامعات و التجمعات، و كان على أنور السادات الذي يعد البلاد للحرب أن يواجه هذا المد اليساري لكن باسلوب سياسي أكثر منه بوليسي فشجع الحركة الإسلامية التي كان نشاطها يتصاعد هي الأخرى كي يوازن المد اليساري المتصاعد، البعض يبالغ في تصوير هذا الإستغلال و يزعم أن أنور السادات هو الذي أنشأ هذه الجماعات الإسلامية أصلا لكن المصادر الموثوقة تؤكد أنه حاول أن يستغل الحركتين الصاعدتين باشغالهما ببعضهما البعض لا أكثر و لا أقل.

السادات والإخوان المسلمين

كان أنور السادات رغم مشاركته في عضوية محكمة الثورة التي قمعت الإخوان المسلمين و أعدمت بعضهم قد ذاق مرارة السجن السياسي، كما كان أنور السادات لصيقا بالسياسة أكثر منه بالعسكرية فهو لم يمكث في الجيش إلا حتى رتبة رائد و بعدها تمرس في مناصب سياسية و صحفية لنحو عشرين عاما حتى صار رئيسا لمصر، و حتى الفترة القصيرة نسبيا التي قضاها في الجيش كان يمارس خلالها السياسة من خلال عضويته في عدد من التنظيمات السياسية و منها تنظيم الإخوان المسلمين كما تخللتها فترة هروب من الجيش بل و رفد منه.

كان عزم أنور السادات على التوجه للتحالف مع الكتلة الغربية من أجل تحقيق أهداف مصر السياسية و الإقتصادية يقتضي أن يرتب الأوضاع الداخلية سياسيا و اقتصاديا بالشكل الذي يتفهمه المجتمع الغربي و مؤسساته و حكوماته الليبرالية، كما كان الشعب المصري قد مل الحكم البوليسي و القمع و التعذيب وبدأ يتململ ومن ثم عبر الطلبة و العمال عن نبض الشعب في مظاهرات فيراير 1966م ثم في تحركات طلابية أخرى في يناير 1972م انتهت بمصادمات بين الشرطة و الطلبة و اعتقل على اثرها عدد كبير من الطلبة و حينئذ تضامنت نقابات المهندسين و الأطباء و الصحفيين مع الطلبة المعتقلين، كما طالب العديد من المفكرين اليساريين والليبرالين بالحريات و التعددية السياسية في العديد من المواقف و المناسبات، و كان أنور السادات بحكم تكوينه و خبراته السياسية قادرا على قيادة الدولة للتحول نحو مزيد من الإنفتاح السياسي و حرية التعبير و التعددية السياسية الشكلية أو الديكورية، لا سيما و أن أنور السادات كان مطلعا على الأزمات التي كانت تعصف بالبلاد منذ نهايات حكم جمال عبد الناصر من أول الأزمة الاقتصادية التي بدأت بوادرها منذ عام 1966م وحتى أزمة المشاركة السياسية التي تبلورت بوضوح، و مرورا طبعا بأزمة الهزيمة العسكرية في يونيو 1967م فضلا عن حرب اليمن.

و هكذا بدأ أنور السادات حكمه باخراج الإخوان المسلمين من السجن و اتاحة الفرصة لهم للتحرك بشكل عملي دون أي اعتراف رسمي أو وجود قانوني، و كان ذلك كله في اطار شئ من الترتيبات السياسية مع قيادة الإخوان المسلمين.

شرعية نظام أنور السادات

لكن كان على أنور السادات أن يضع الأطر القانونية لحكمه و يؤسس لشرعيته الجديدة و من هنا كان اصداره للدستور الدائم عام 1971م و طرح شعاري سيادة القانون و دولة المؤسسات، لكن ظلت الصلاحيات الواسعة لرئيس الجمهورية و من خلفه السلطة التنفيذية من سمات دستور 1971م أسوة بحال الحقبة الناصرية.

و في ابريل 1974م أصدر أنور السادات ورقة أكتوبر و التي و إن أقرت التنظيم الواحد فإنها أشارت إلى ضرورة أن تعبر كل قوى تحالف الشعب العامل عن مصالحها المشروعة و آرائها بحيث تتضح الإتجاهات التي تحظى بتأييد الأغلبية و التي يجب أن تتبناها الدولة (و كان وقتها الإتحاد الإشتراكي العربي هو التنظيم السياسي الوحيد المسموح له بالوجود و العمل و كان بمثابة الحزب الواحد الحاكم و منه تاتي الحكومة).

و بعدها بأربعة شهور أصدر أنور السادات ورقة تطوير الإتحاد الإشتراكي و دعا فيها إلى اعادة النظر في شكل التنظيم السياسي و حدد هدفه من التطوير في أن يكون الإتحاد الإشتراكي بوتقة حوار تنصهر فيها الأفكار المتعارضة و تتبلور فيها الإتجاهات.

و استطرد أنور السادات قائلا في هذه الوثيقة: ان طبيعة الأشياء أن يختلف الناس حول القضايا السياسية و الاجتماعية، و ان الاتحاد الإشتراكي الذي يمثل قوى الشعب العامل أولى به أن يأخذ بأسلوب تمثيل الاتجاهات المختلفة في قيادته حتى لا يحس اتجاه له تأييد بين القواعد أنه مبعد تماما عن المشاركة في قيادة التنظيم فيفقد شعوره بالإنتماء إليه.

و إذا كانت ورقة أكتوبر قد مهدت للتعددية السياسية التي كان أنور السادات عازما عليها فإن ورفة تطوير الإتحاد الإشتراكي كانت بمثابة الشرارة التي أطلقت العنان لعملية التحول نحو التعددية السياسية الشكلية التي شهدتها مصر لأول مرة منذ ثورة يوليو 1952م.

في البداية استغرق البحث و التقصي في لجان خاصة بالإتحاد الإشتراكي نحو السنة لتخرج في النهاية اللجنة بعدة توصيات كان أغلبها يميل لعدم التعددية الحزبية فقد كانت أغلب الأراء تميل إلى عمل منابر للرأي داخل الإتحاد الإشتراكي.

 و بعدها بنحو العام أي في مارس عام 1976م قرر أنور السادات اقامة ثلاثة منابر في الإتحاد الإشتراكي العربي لتمثل اليمين و الوسط و اليسار، فاليمين باسم “تنظيم الأحرار الإشتراكيين” و الوسط باسم “تنظيم مصر العربي الإشتراكي” و اليسار باسم “التجمع الوطني التقدمي الوحدوي” و دخلت هذه المنابر انتخابات مجلس الشعب في صيف نفس العام، و في أول اجتماع لمجلس الشعب بعد هذه الإنتخابات “11 نوفمبر 1976م” أعلن أنور السادات تحويل التنظيمات السياسية الثلاثة إلى أحزاب، ثم صدر قانون الأحزاب السياسية في يونيو 1977م.

تعدد الأحزاب

و كانت الفكرة السائدة وقتها أن أنور السادات سار بهذا التدرج الطويل ليصل بعد سبع سنوات من حكمه لنظام حزبي تعددي يحل محل الإتحاد الإشتراكي العربي بسبب المعارضة الشديدة لذلك الإجراء من قبل قادة الإتحاد الإشتراكي و النقابات العمالية حينذاك.

وعلى كل حال فقد كان تعددا حزبيا شكليا فلم يحدث أبدا أن وصل حزب معارض لأغلبية الثلثين في مجلس الشعب، و ظلت هذه الأغلبية دائما من نصيب حزب الرئيس حتى أن السادات لما أنشأ حزبا جديدا و تخلى عن عضويته لحزب مصر العربي الإشتراكي في 1978م هرول جميع أعضاء الحزب الحاكم من حزبهم “حزب مصر العربي الإشتراكي” و تركوه وانضموا للحزب الجديد الذي أنشأه الرئيس تحت “اسم الحزب الوطني الديمقراطي” وصارت للحزب الذي نشأ للتو أغلبية الثلثين بمجلس الشعب بقدرة قادر تلك الأغلبية التي كانت من دقائق هي أغلبية حزب مصر العربي الإشتراكي كما تحولت جميع المقرات التي يمتلكها حزب مصر إلى مقرات للحزب الوطني الديمقراطي و التي مازال يمتلكها حتى اليوم.

وهكذا تكون النظام الحزبي التعددي على يد رئيس مصر السابق محمد أنور السادات لكن بشكله المقيد و الديكوري، فمنذ البداية كان السادات يميل لتقييد هذه التجربة الحزبية، فتم حل مجلس الشعب الذي أفرزته انتخابات 1976م و قد كانت هذه الانتخابات بها حد كبير من النزاهة فضاق أنور السادات ذرعا بهذا المجلس و حله في عام 1979م وأجرى انتخابات أخرى لم يسمح فيها بنجاح أحد من المعارضة باستثناء ممتاز نصار الذي أفلت من مقصلة التزوير بأعجوبة.

ديمقراطية لها أنياب

و مع مرور الوقت بدأ أنور السادات يضيق بالديمقراطية التي أقامها و بدأ يتكلم عن ديمقراطية لها أنياب، و أصدر العديد من القوانين التي أطلقت عليها المعارضة “ترسانة القوانين سيئة السمعة” و منها قانون الإشتباه و قانون حماية الجبهة الداخلية و غيرها من القوانين المقيدة للحريات كما ألغى اللائحة الطلابية الصادرة عام 1976م و وضع بدلا منها لائحة عرفت بلائحة 1979م لتقييد النشاط الطلابي و منع الطلبة من خوض غمار العمل السياسي.

وأدخل تعديلات على قانون الصحافة ليقيد من حرية الصحافة التي كانت شهدت قدرا من الإزدهار بدءا من 1978م، و لم يكتف أنور السادات بذلك بل حل مجلس نقابة المحامين و اصدر قرارا بتحويل نقلبة الصحفيين إلى نادي.

و ظل التدهور هو سيد الموقف في العلاقة بين أنور السادات و بين حركات المعارضة السياسية العلمانية من يمين كالوفد و يسار كحزبي العمل و التجمع و كذلك حركات المعارضة الدينية الإسلامية و المسيحية على حد سواء مما أدى لصدور قرارات 5 سبتمبر 1981م و التي بموجبها اعتقل السادات 1500 من قادة كافة أطياف المعارضة المصرية و صادر صحف المعارضة الحزبية بالإضافة لعدد من الصحف المستقلة الناصرية و الإسلامية و المسيحية.

لحظة الغليان

و سرعان ما وصلت درجة حرارة الشارع السياسي المصري إلى درجة الغليان مما فجر الأوضاع في حادث المنصة الشهير ذلك الحادث الذي وضع نهاية لعصر الرئيس أنور السادات.

لكن أيا كانت حسنات أو سيئات رئيس مصر السابق محمد أنور السادات فيظل التاريخ يذكر له أنه الوحيد الذي عاشت مصر في عهده (في أخر سنة من عهده تحديدا) بلا قانون الطوارئ منذ ثورة يوليو 1952م، كما أدخل نوعا من التعددية الحزبية المقيدة و أطلق عنان الحرية لصحف المعارضة والصحف المستقلة في أحد مراحل حكمه كما تمتع المعارضون بقدر واسع من حرية التعبير و الحركة في أواخر عهده و حتى قرارات 5 سبتمبر 1981م بل إن المعتقلين الذين اعتقلهم ضمن هذه القرارات لم يلقوا أي تعذيب حتى مقتله بعدها بشهر و حينئذ خرج من خرج و تعرض للتعذيب من بقي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا الموضوع نشرته في جريدة الدستور المصرية بعددها الأسبوعى وفي مدونتى القديمة.

جمال عبد الناصر في الحج

جمال عبد الناصر و الإسلام

هل كان جمال عبد الناصر متدينا أم علمانيا؟؟
و إذا كان متدينا فلماذا حارب الإخوان المسلمين و قتلهم و سجنهم عبر محاكم عسكرية قاسية و ضيق على العديد من الدعاة الإسلاميين و لماذا ألغى المحاكم الشرعية؟؟
و إذا كان علمانيا فلماذا سجن و عذب الشيوعيين و الليبراليين و لماذا قام بدعم أنشطة إسلامية من قبيل تأسيس إذاعة القرآن الكريم و إنشاء جامعة الأزهر و دعم دور الأزهر الخارجي بل و لماذا استخدم الإسلام كثيرا في خطابه السياسي؟؟
و إذا كان لنا أن نناقش موقف جمال عبدالناصر من الإسلام فلابد أن نتعرض لموقفه إزاء عدد من المؤسسات و القضايا.
و أول هذه المؤسسات هي جماعة الإخوان المسلمين الذين وثق جمال عبد الناصر علاقاته و تحالفاته معهم عشية الثورة ثم سرعان ما دخل معهم في صراع على الحكم و النفوذ, و بدأ هذا الصراع في الظهور عندما طلب الإخوان المسلمون من جمال عبدالناصر تطبيق استحقاقات هذا التحالف و المتمثلة في تطبيق الشريعة و إقامة الحكم الإسلامي, و رفض جمال عبدالناصر و تنكر لأي إتفاقات مع الإخوان تلزمه بذلك, و بدلا من ذلك طلب منهم أن يرشحوا له اثنين ليشاركو في الوزارة واحد للتعليم و آخر للأوقاف, لكن الإخوان قرروا عدم التعاون مطلقا مع عبدالناصر, كما قرروا مقاطعته من منطلق أنهم يرون أنه خانهم بإعتبار أنه تنكر لهم, و عندما خالف أحد قادة الجماعة قرار الجماعة في هذا المجال و هو الشيخ الباقوري ووافق على تولي وزارة الأوقاف قامت الجماعة بفصله من عضويتها.
و منذ ذلك الحين اشتعل الصراع بين الإخوان و عبدالناصر.
لكن على ماذا كان الصراع؟؟
من جانب عبدالناصر كان الصراع مع الإخوان المسلمين جزءا من صراع واسع على السلطة خاضه جمال عبدالناصر على عدة أصعدة مع حلفاء و زملاء الأمس مثل الشيوعيين و عدد من قادة تنظيم الضباط الأحرار مثل محمد نجيب و خالد محي الدين و يوسف صديق و عبدالمنعم عبدالرؤف و غيرهم من قادة الجيش وتنظيم الضباط الأحرار, و في هذا الإطار أحبط العديد من محاولات الإنقلاب التي قام بها ضباط في الجيش يميلون للإخوان أو الشيوعيين أو الليبرالية, و في هذا الإطار أيضا جاء صراع عبدالناصر مع الإخوان كي يستحوذ على السلطة وحده على النحو الذي آل إليه الأمر فيما بعد عندما أمكنه التخلص من أخر زملائه الأقوياء و هو عبدالحكيم عامر غداة هزيمة 1967م بعد أن كان قد تخلص من الإخوان و الشيوعيين و الليبرالين و سائر قادة الضباط الأحرار.
و هكذا كان عبدالناصر واضحا في أهدافه كما حدد وسائله بدقة و دون تردد.

الإخوان المسلمون و عبد الناصر

أما الإخوان المسلمون فقد ترددوا ما بين داعيين للرضى بما يعرضه عليهم عبدالناصر و الإستمرار في التحالف معه, و ما بين معارضين له داعيين لمقاطعته و ممارسة النضال ضده حتى إسقاطه.
و هؤلاء المعارضون لعبد الناصر من الإخوان المسلمين انقسموا أيضا إلى قسمين قسم رأى أنه يمكن معارضته و إسقاطه عبر العمل السياسي السلمي كالإضرابات و المظاهرات و نحو ذلك, بينما رأى القسم الثاني أن الأفضل هو عمل إنقلاب عسكري على عبدالناصر.
كما رأى فريق أخر من الإخوان المسلمين أن على الإخوان ترك العمل السياسي إلى حين بما في ذلك عدم اتخاذ أي مواقف مؤيدة أو معارضة تجاه جمال عبدالناصر, و ذلك بهدف التفرغ لإصلاح جماعة الإخوان المسلمين و ترتيب أوضاعها الداخلية التي كانت تعصف بها الخلافات و التناحرات لاسيما و أن عبدالناصر قد بدأ يؤجج هذه الصراعات الداخلية و يشجع فريق على حساب أخر.
و على كل حال فقد أدى تردد الإخوان و اختلافهم حول ماهية و طبيعة علاقتهم بكل من جمال عبدالناصر و الثورة, و حول الوسائل و الأساليب الواجب اتباعها في إدارة هذه العلاقة إلى ضعف و تفكك أصابا أجهزة جماعة الإخوان المسلمين مما مكن عبدالناصر من هزيمة تنظيم الإخوان المسلمين الضخم و تفكيكه ووضعه في السجن عام 1954م, و ذلك لأن جمال عبدالناصر حدد ما يريده بدقة و حزم, و نفذه عبر أجهزة الدولة السياسية و الإعلامية و الأمنية التي أجاد السيطرة عليها و تطويرها لا سيما و أنه حرص على أن يحتفظ لنفسه بمنصب وزير الداخلية بجانب منصبه الأساسي كرئيس وزراء في بداية سنوات حكم الثورة, بجانب سيطرته على الجيش و المخابرات عبر صديقه الحميم في ذلك الحين عبدالحكيم عامر.
لكن هل وجه جمال عبد الناصر ضربته للأجهزة السياسية و الأمنية للإخوان المسلمين فقط وترك الأجهزة الإعلامية و الدعوية؟؟!
في الواقع فإن جمال عبدالناصر قد وجه للإخوان ضربة شاملة ساحقة و قاسية شملت حتى الذين لم يكونوا يميلون لخوض أي مواجهة سياسية أو عسكرية مع جمال عبدالناصر و الثورة, بل إن الذين كانوا على صلة بعبدالناصر و استغلهم لتأجيج الصراع داخل أجهزة وتنظيمات الإخوان المسلمين قبيل هذه الضربة لم يسمح لهم جمال عبدالناصر بعد الضربة بأي نشاط دعوي اللهم إلا دور الشيخ الباقوري الذي كان في إطار الحكم الناصري و لصالحه.

جمال عبد الناصر و الأزهر الشريف

أما الأزهر الشريف الذي يعد أهم مؤسسة إسلامية على الإطلاق في مصر و العالم الإسلامي، فقد كان لجمال عبدالناصر معه شأن أخر ممكن أن نعتبره إستمرارا للنهج الثابت الذي بدأ الحكام في مصر ينهجونه منذ نابليون بونابرت و حتى الآن و هو نهج الإحتواء و السيطرة تحت ستار التطوير و التجديد, و في هذا الإطار نتذكر ما فعله محمد علي و من بعده خلفائه مع الأزهر الشريف و ذلك النهج تلخصه كلمة الخديو عباس حلمي التي قال فيها محددا دور الأزهر: “أول شئ أطلبه أنا و حكومتي أن يكون الهدوء سائدا في الأزهر و الشغب بعيدا عنه فلا يشتغل علماؤه وطلبته إلا بتلقي العلوم الدينية النافعة البعيدة عن زيغ العقائد و شغب الأفكار لأنه مدرسة دينية قبل كل شئ.إن كل ما يهم الحكومة من الأزهر استتباب الأمن فيه. و أطلب منكم أيها العلماء أن تكونوا دائما بعيدين عن الشغب و أن تحثوا إخوانكم العلماء و كذلك الطلبة على ذلك.و من يحاول بث الشغب بالأقوال أو بواسطة الجرائد و الأخذ و الرد فيها فيكون بعيدا عن الأزهر” (يقصد أن من يفعل ذلك عليه أن يبتعد عن الإنتماء للأزهر)
فالحكام منذ نابليون حتى الآن حرصوا على منع الأزهر من العمل السياسي, كما حرصوا في نفس الوقت على توظيف الإسلام و علماء الإسلام لتحقيق أهداف الحاكم السياسية كلما أمكن ذلك.
ولم يشذ جمال عبد الناصرعن ذلك النهج فاتخذ العديد من الخطوات للسيطرة على الأزهر و توظيفه لصالح أهداف نظام ثورة يوليو1952م.
و نجد عبدالناصر يحدد دور العلماء في “ارشاد المواطنين إلى حقيقة و أهداف الثورة” و “تعبئة الرأي العام في كل البلاد الإسلامية و كافة دول العالم على اعتبار أن الجهد الذي يبذله علماء المسلمين في العالم الإسلامي أو الأمة العربية في مجال مواجهة إسرائيل مازال جهدا متواضعا”.
و قد دعى جمال عبد الناصر في اطار ذلك إلى “عمل لجان في كل بلد اسلامي من أجل متابعة العمل لنصرة القضايا العربية و ذلك في إطار مواجهة إسرائيل و الإستعمار العالمي الذي يقف خلفها”.
ولكن كيف وظف جمال عبدالناصر الأزهر لتحقيق أهدافه هذه؟؟
تضمن المرسوم بقانون رقم 180 لعام 1952م أي في أول خمس شهور من حكم الثورة إلغاء الوقف الأهلي، كما كانت هناك اجراءات صحبت ذلك كله و أخرى تتابعت في السنوات التالية، أدت فيما أدت إلى وضع الدولة يدها بشكل كامل على الأوقاف، وذلك عبر وزارة الأوقاف التي سلمت هذه الأوقاف بشكل أو بأخر إلى الهيئة العامة للإصلاح الزراعي, حتى أن الهيئة تسلمت 137 ألف فدان من أراضي الأوقاف بسعر 17.5 مثلا لضريبة الأطيان المربوطة عليها أي أن قيمة الفدان بلغت خمسين جنيها في حين زادت قيمته الحقيقية بسعر السوق في ذلك الحين على ألف جنيه, و لذلك عجزت وزارة الأوقاف عن تأدية رسالتها لأن هذه الأراضي كانت تدر على الأزهر في السنة الواحدة 8 ملايين جنيه، و بتطبيق هذه القوانين إنخفضت الإيرادات إلى 800 ألف جنيه إذ أن الريع تم تحديده بـ3% و 4% من قيمة سندات سلمت لها كبديل للأرض، فضلا عن امتناع الهيئة العامة للإصلاح الزراعي عن سداد الريع المستحق، الأمر الذي جعلها مدينة لوزارة الأوقاف بمبالغ مالية هائلة.

هذا فضلا عن تبديد الهيئة لأغلب هذه الأوقاف لا سيما أوقاف الخيرات الموقوفة على المساجد, و بهذا ضربت ثورة 23 يوليو الركيزة الإقتصادية لعلماء الأزهر الشريف، تلك الركيزة التي كانت تجعلهم في غنى عن أموال الحكومة، الأمر الذي كان يكفل لهم الإستقلال عن الحكومة، و يتيح لهم معارضتها دون الخوف من قطع مرتباتهم أو تشريد أسرهم من بعدهم. وعلى حين عوملت اوقاف المسلمين هذه المعاملة استثنيت أوقاف غير المسلمين من أحكام هذه القوانين، حيث وضعت لها قوانين خاصة و تركت لكل كنيسة أوقافها في حدود مائتي فدان، و ما زاد عن هذا كانت الدولة تأخذه و تدفع ثمنه بسعر السوق، و هو ما ادى في أواخر السبعينات إلى مناداة عدد من الأصوات في مجلس الشعب بمساواة أوقاف المسلمين بأوقاف المسيحيين.

إلغاء المحاكم الشرعية في مصر

ثم كان إلغاء المحاكم الشرعية في مصر خطوة بارزة قامت بها ثورة يوليو لتقليص دور الأزهر الشريف في الحياة العملية للمصريين خارج توجيه الحكومة إذ أن ممارستها لنشاطها كانت تتمتع بقدر كبير من الإستقلالية عن الحكومة خاصة في مجال المنطلقات الأيدولوجية, و عبدالناصر و ثورة يوليو كانا يهدفان لتأميم الدين لصالح نظام الحكم فكان لزاما القضاء على هذه المحاكم التي كان يستحيل تأميمها لصالح النظام الحاكم, و كانت ثورة يوليو واعية بذلك منذ البداية إذ ألغيت هذه المحاكم بقانون رقم 462 لعام 1955م, وبذا بدأت هيمنة ثورة 23 يوليو على القوة الإسلامية الأكبر في مصر و في العالم الإسلامي و هي الأزهر الشريف و علماؤه, حيث شكل إلغاء المحاكم الشرعية تحديا لنظام الشريعة الإسلامية نفسه في دولة اسلامية يعلن دستورها أن دينها الرسمي هو الإسلام.
وبإلغاء المحاكم الشرعية و بالهيمنة على إدارة الأوقاف نجح الرئيس جمال عبد الناصر فيما فشل فيه الإحتلال الغربي من الهيمنة على أبرز مؤسسة لعلماء الإسلام في العالم كله.
و قد شنت أجهزة إعلام الدولة-الثورة حملة إعلامية صاحبت ذلك كله, ووصفته بأنه ثورة جديدة تجري داخل الأزهر و تقودها الدولة من أجل التجديد و التقدم لخدمة الأزهر و الإسلام, و بلغ الأمر أن هاجم د. محمد البهي في جلسات مجلس الشعب (1961م) ما وصفه بأنه جو العداوة و الجمود الذي يسود الأزهر وقال: “إن الثورة أعطت الإصلاح للأزهر لأن الشيوخ لم يريدوه”, و كان محمد البهي أحد المواليين لعبد الناصر داخل الأزهر.
و بعد أن هيمن عبدالناصر على الأزهر و موارده الإقتصادية كان عليه ان يكرس هذه الهيمنة بقانون رسمي محدد المعالم فتم اصدار قانون تنظيم الأزهر (103 لسنة 1961م). و كي يتضح المدى الذي كبلت به الحكومة مؤسسة الأزهر قبل هذا القانون لابد أن نعود لأحداث جلسة مجلس الأمة (البرلمان) التي أقرت قانون تنظيم الأزهر, يقول فتحي رضوان: “لإجبار المجلس على الموافقة حضر رجال الثورة و جلسوا أمامنا على المنصة, و تحديدا كان على المنصة أنور السادات و كمال حسين و كمال رفعت, و هدد أنور السادات المجلس عندما علت أصوات تعارض مشروع القانون قائلا: كانت ثورة في 23 يوليو 1952م و الذين حاولوا الوقوف أمامها ديسوا بالأقدام و اليوم ثورة جديدة و سيصاب الذين يقفون أمامها بنفس المصير”.
و وفقا للوثائق الرسمية فإنه تغيب عن جلسة إقرار القانون بمجلس الأمة 179 عضوا أي ما يعادل 49% من إجمالي أعضاء المجلس, ووفقا لنفس الوثائق الرسمية فإنه لم يعترض من الأعضاء الحاضرين سوى النائب صلاح سعده, بينما ذكر فتحي رضوان أن أكثر من نصف الحاضرين عارضوا القانون.
وهذا القانون و إن كان أعاد تنظيم الأزهر فعلا و قسمه إلى هيكل تنظيمي جديد لكنه ربط هذا التنظيم كله بجهاز الدولة و خاصة رئاسة الجمهورية بشكل مباشر, فشيخ الأزهر ووكيل الأزهر و رئيس جامعة الأزهر يعينهم رئيس الجمهورية, كما أن كافة أجهزة الأزهر الرئيسية كالمجلس الأعلى للأزهر و جامعة الأزهر و مجمع البحوث الإسلامية ينفرد رئيس الجمهورية بتعيين القيادات العليا فيها, فمجمع البحوث يرأسه شيخ الأزهر وأعضاء المجمع يعينهم رئيس الجمهورية, أما جامعة الأزهر فبالإضافة لإنفراد رئيس الجمهورية بتعيين رئيس جامعة الأزهر فعمداء الكليات يعينهم أيضا رئيس الجمهورية, و بصفة عامة فالهيكل العام الإداري و المالي للأزهر أصبح وفقا لقانون تنظيم الأزهر جزءا من الهيكل المالي و الإداري للحكومة (أي السلطة التنفيذية).

مواقف الأزهر الشريف بعد هيمنة جمال عبد الناصر عليه

و بعد كل هذا فكيف للأزهر الشريف أن يعصي لرئيس الجمهورية أمرا فضلا عن أن يعارضه؟؟
و لكن ما النتيجة العملية لهيمنة نظام ثورة يوليو على الأزهر؟؟

النتيجة أن الأزهر الشريف لم تصدر من داخله أي مواقف أو تصريحات تعارض النظام الحاكم لا من قريب ولا بعيد, بل بالعكس وقف إلى جانب جمال عبد الناصر في كل مواقفه، و من ذلك على سبيل المثال لا الحصر الفتوى التي أصدرها شيخ الأزهر يساند بها جمال عبدالناصر في صراعه مع محمد نجيب (الأهرام 17 فبراير 1954م), و أيضا التأييد الذي قدمه الأزهر لنظام حكم جمال عبدالناصر فيما يتعلق باتفاقية الجلاء (الأهرام 26 فبراير 1954م), و كذلك المساندة التي قدمها الأزهر لنظام حكم جمال عبد الناصر إثر الأزمة مع اسرائيل التي سبقت هزيمة يونيو1967م بإعلان تأييده لجمال عبدالناصر و مباركته لخطواته في صد عدوان الصهيونية و الإستعمار(الأهرام 25 مايو 1967م).

جمال عبد الناصر و الطرق الصوفية

أما الطرق الصوفية التي كانت تمثل وقتها نحو 3 ملايين منتسب ينتظمون في 60 طريقة فكان لها شأن أخر مع جمال عبد الناصر, إذ أيدته بوضوح في القضايا السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية الداخلية و الخارجية من البداية فعلى سبيل المثال وقفت مشيخة الطرق الصوفية مع عبدالناصر في صراعه ضد الإخوان و أصدر شيخ مشايخ الطرق الصوفية محمد علوان بيانا في مولد الرفاعي عام 1965م أبرز فيه هذا الموقف, كما أصدر المجلس الأعلى للطرق الصوفية بيانا استنكر فيه ما أسماه المؤامرات الرجعية التي يدبرها الملك فيصل (ملك السعودية) و شاه إيران و الملك حسين (ملك الأردن) و رئيس تونس الحبيب بورقيبة (الأهرام 12ابريل 1967م), وكذلك أصدر شيخ مشايخ الطرق الصوفية بيانا يبرر فيه و يؤيد قرارات عبدالناصر بسحب قوات الطوارئ الدولية من سيناء في مايو 1967م (الأهرام 27مايو 1967م), و في ديسمبر 1967م سار أكبر موكب صوفي رسمي في مصر تأييدا لعبدالناصر في أعقاب هزيمة يونيو.

جمال عبد الناصر و أنصار السنة و الجمعية الشرعية و غيرها

أما الجمعيات الإسلامية المستقلة كأنصار السنة و الجمعية الشرعية و غيرها من الجمعيات المسجلة وفقا لقانون الجمعيات فقد وضعها جمال عبدالناصر تحت وصاية الدولة و عين أحد ضباط الجيش للإشراف عليها جميعا, و تندر الكثيرون من أن ضابط جيش ليس متخصصا في الدين أصبح يشرف على الجمعيات الدينية, كما كانت بعض هذه الجمعيات متعارضة في أهدافها و مناهجها مثل أنصار السنة و الجمعية الشرعية من جهة و الجمعيات الصوفية من جهة أخرى و مع ذلك أشرف هذا الضابط على هذه الجمعيات المتعارضة في آن واحد, و قد شغل هذا المنصب لبعض الوقت كمال الدين رفعت أحد الضباط الأحرار.
و هكذا نجد أن جمال عبد الناصر كما أمم الإقتصاد لصالح رأسمالية الدولة (أو ما أسماه بالإشتراكية العربية) أمم علماء الإسلام لصالح نظام حكمه, و كما أدارت ديكتاتورية دولة جمال عبدالناصر الإقتصاد و السياسة أدارت مؤسسات علماء الإسلام, و العجيب أنه منذ عصر الإنفتاح و حتى الآن تراجع الرئيسان السادات و حسني مبارك عن أغلب إجراءات الحقبة الناصرية إلا أنهما استمرا في ترسيخ تأميم الإسلام و علماء الإسلام و مساجد و جمعيات الإسلام.
و لكن ماذا عن الأنشطة و الجهود التي بذلها جمال عبدالناصر في المجال الإسلامي مثل إنشاء إذاعة القرآن الكريم (1964م) و جامعة الأزهر (1961م) و توسع المعاهد الأزهرية و إنشاء المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بوزارة الأوقاف (1960م) و في الخارج إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي (1954م)؟؟
 لقد فعل الرئيس جمال عبد الناصر ذلك كله في إطار استثماره للرأسمال الديني الذي امتلكه بالتأميم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا الموضوع نشرته في جريدة الدستور الورقية بعددها الأسبوعى، و أيضا في مدونتي القديمة